رواية الباكورة الشهية -1

الفصل الأول

كانت صداقة قديمة بين أحد مشايخ الإسلام في دمشق الشام يدعى الشيخ عبد الهادي وبين رجل مسيحي حلبي يدعى يوحنا الغيور، وكان كلاهما على جانب عظيم من التقوى وإخلاص الطوية. وقد جرت بينهما مباحث ومناقشات عديدة في أمر الدين، إلى أن ورد يوماً ما من ذلك المسيحي رسالة مستطيلة إلى الشيخ عبد الهادي عنوانها «في الحق الإلهي» غايتها بيان كون الكتاب المقدس المعروف الآن هو كتاب الله المنزل، وبناء عليه تكون الديانة المسيحية المعلنة فيه هي ديانة الله لا سواها. فبعد أن طالعها الشيخ مراراً أتى بها إلى أحد المشايخ المشهورين بالعلم والتقوى يدعى الشيخ علي عمر، وطلب إليه أن يرى ما فيها ويمده برأيه، هل يجاوب عليها أم لا، وكيف ينبغي أن يكون أسلوب الجواب - فأخذها من يده وبعد أن طالعها وأمعن في كل من قضاياها وعباراتهما أجابه: «إني أرى الرسالة قوية الحجة فلا أرى ذاتي قادراً على أن أمدك برأي صالح من جهتها قبل أن نطلع عليها بعض الإخوان والأصحاب العلماء ونأخذ رأيهم في ذلك، كي لا يفوتنا شيء من البراهين والحجج المقتضى تدوينها في الجواب، فنخسر ثمرة اجتهادنا، وفي الغالب رأي اثنين أفضل من رأي واحد، فكم بالحري رأي الجماعة من الأدباء، فماذا ترى؟». أجابه عبد الهادي: نعم الرأي يا سيدي. فأرسل للوقت الشيخ علي واستدعى بعض العلماء من ذوي الرزانة والتعقل، فحضروا بعد العشاء إلى منزل الشيخ علي، وبعد أن استقر بهم الجلوس في قاعة منفردة خاطبهم قائلاً: ورد إلى الشيخ أحمد عبد الهادي رسالة دينية غايتها إثبات صحة الديانة المسيحية وهي هذه:
أيها الشيخ العالم الفاضل الجزيل الوقار والاحترام
بعد تقديم الاحترامات اللائقة بشخصكم الكريم. أقول لا يخفى أن من شأن العقل السليم تمييز وإدراك وجود واجب الوجود تعالى، وقدرته وحكمته وكمال عزه ومطلق سلطانه من النظر إلى المبدعات الكونية، ولكنه يقصر دون إدراك مقاصده عز وجل من جهة الإنسان وطريقة العبادة المقبولة لديه تعالى، وذلك ظاهر من اختلاف الناس عليها مع إجماعهم إلا ما قل على وجوده وكماله الأزليين. لذلك قد شاء كرماً وإحساناً منه تعالى كشف ذلك للإنسان بالوحي والإعلان، فشرع يكلم آباءنا الأولين بالرؤى والأحلام، ثم أوعز إلى كليمه موسى أن يكتب في كتاب إعلان أزليته وأعمال قدرته وحكمته بخلقه السماوات والأرض وما فيهن، وكذا وصاياه وأحكامه وفرائضه ليكون دستوراً وقانوناً للإيمان والعمل لأوليائه كافة في الحال والاستقبال. ولما كان بنو إسرائيل دأبهم التقلب والحيدان عن سبيله تعالى كما هو دأب الإنسان في كل زمان، أقام سبحانه من وقت إلى آخر رجالاً أفاضل أوحى إليهم بكلامه وأرسلهم لإنذار شعبه وردهم إلى عبادته تعالى حسب الكتاب.
فتنبأ لهم هؤلاء الأنبياء واعظين ومنذرين ومحذرين لهم من سوء العاقبة إذا ارتدوا، ومنبئيهم بأمور مهمة وجليلة عتيدة أن تحدث في مستقبل الأيام. وإثباتاً لدعوة إرساليتهم من الله، وختماً لصحة أقوالهم كانوا بإذن الله يعملون عجائب وآيات متنوعة. وقد كتب هؤلاء الأنبياء المتوالون من موسى إلى ما قبل المسيح بنحو أربع مئة سنة نبواتهم في أسفار وكتب، اعتبرت عند بني إسرائيل أسفار الله الحي، وضموها في مجلد واحد قبل المسيح بنحو ثلاث مئة سنة. وبعنايته تعالى حفظت إلى يومنا هذا سالمة من التحريف والتغيير والتبديل، وما من عاقل يرتاب في ذلك بعد وقوفه على البينات الوطيدة والبراهين السديدة التي لهذا الكتاب الجليل دون بقية الكتب. وحباً بالاختصار أقتصر على ذكر اثنتين منها وهما:
الأولى: سلامته من أثر غايات الناس وأميالهم
لا يخفى أن هذا الكتاب الإلهي، الأقدم من كل ما كتب في العالم، موجود بأيدي اليهود باللغة التي أنزل فيها طبق ما هو بيد المسيحيين بلغات مختلفة إلا ما ندر، مما لا يؤثر البتة في غاية الكتاب وقصده. ومع كونه باعتبار نبواته يضاد اليهود في إنكارهم المسيح وكفرهم به، ويضاد كثيراً من فرائض وطقوس أكثر المذاهب المسيحية، مع ذلك لم يقدم هؤلاء ولا أولئك على تغيير أو تبديل شيء من نصوصه، بحيث يكون على نوع ما موافقاً لأرائهم واصطلاحات عباداتهم، فلا جرم أن ذلك من أقطع الأدلة على كونه محفوظاً بيد من أنزله من التلعب فيه رغماً عن كل مقاوميه ومضاديه.
الثانية: حدوث أمور كثيرة أنبأ عنها قبل حدوثها بقرون عديدة وحوادث مختلفة عتيدة أن تحدث في مستقبل الأيام على توالي الأزمنة إلى نهاية العالم. ولا يخفى أن جزءاً كبيراً من هذه النبوات قد تم على نوع مدهش جداً بحيث لم يستطع الملحدون أنفسهم إلا أن يشهدوا بأن تلك الحوادث قد حدثت تماماً كما سلف القول عنها في كتاب (التوراة). فهذه البينة أيضاً هي دليل قاطع كل ريب على سلامة كتاب الله من شائبة التحريف والتغيير، وباقية على مر الأجيال وتوالي الجهور شاهداً متيناً على صحة وصدق الكتاب المنبأ عنها فيه.
فتأمل سيدي هذين الدليلين الراهنين اللذين لا يحتاج الوقوف على صحتهما إلا لبحث قليل بترو وإخلاص - وعليه إذا أيقنتم بسلامة التوراة مما ذكر، لزمكم لا محالة الإذعان لها والإيقان بما فيها.
ثم ماذا ترون حضرتكم: هل لله سبل مختلفة وآراء متباينة؟ حاشا، إنما لله سبيل واحد. دين واحد. كما وهو واحد، فما قولكم والحالة هذه في الأديان المختلفة والعقائد المتباينة: هل كلها من الله مرضية له؟ لا بد تقولون كلا وحاشا. إذا ما الطريقة لمعرفة الدين الصحيح والحق القويم، وأبناء كل دين ومذهب يفتكرون أن دينهم هو الأحق ومذهبهم هو الأصح من غيره، ويحاجون مدافعين عنه ما أمكن، حال كونه من المحال صحة دعوة كل فريق منهم. لعمري أن هذه المسألة قد توقع أولي الأديان من ذوي العقول السليمة في مشكل عظيم محال تخلصهم منه إلا برجوعهم عقلاً وقلباً إلى الينبوع الأصلي، كتاب الله المقدس، ورفضهم كل رأي دون رأي الله فيه. ولنرجع في كلامنا إلى التوراة فأقول: أن الإيقان بسلامتها بناء على ما تقدم يستلزم لا محالة الإيمان والإقرار بالفادي مسيح الله المشهود له فيها حرّفاً ومعنى شهادات جلية صريحة لا رد عليها. وإن سألتني: ما تلك الشهادات؟ أجبتك: هي مما لا يسعني هنا إيرادها على سبيل التعداد والتفصيل لكثرتها واتساعها، فأجترئ أن أقول: لا يخفى أن التوراة تشهد له أولاً برموز وإشارات وكنايات متنوعة لا يمكن أن تصدق إلا عليه كفاد ومخلّص.
ثانياً بإعلانات ونبوات صريحة جلية بهذا المقدار حتى أنها تعين السبط والعشيرة اللاتين سيأتي منهما، وغرابة ولادته وزمانها ومكانها، وسمو طهارة حياته وأعماله، والمقاومة والاحتقار اللذين يصادفهما من أمة اليهود شعبه. ونوع موته وقيامته وصعوده إلى السماء، مع الظروف المختصة بتلك الأمور التي قد تمت فيه بنوع ما كما ترى ذلك مسطراً في الإنجيل وقد ختم الله على صحة أخبار تلك الحوادث الإنجيلية بالآيات والعجائب التي أجراها على أيدي رسله الكارزين بإنجيله، الذين برهنوا على خلوص نياتهم وحبهم لله بما احتملوا لأجل اسم المسيح من الاضطهادات والشدائد، حتى ختموا أخيراً شهادتهم بدمهم.
ولا صحة لزعم من يزعم أن الاعتقاد «بتجسد ابن الله الأقنوم الثاني وموته بالجسد فدى للبشر» لكونه فائق العقل والتصديق هو باطل. أقول أن صاحب هذا الزعم يحكم أن كل ما لا يدركه العقل ليس بصحيح وهو زعم فاسد كما لا يخفى - نعم أنه أمر يفوق العقل كيان الله الواحد بثلاثة أقانيم وتجسد الأقنوم الثاني لفداء الإنسان، ولكنه لا يضاده. وشأن أمور الله أن تفوق عقولنا - إلا أن «كل ما خطر على بالك فهو هالك، والله بخلاف ذلك» - ولنحذر النظر من التحدق في سمو ماهية الله الخالق الجليل إلى المخلوق، ولنرى هل من الممكن لعقولنا إدراك كيفيته - أي شيء من مخلوقاته تعالى يا ترى لا تفوق عقولنا كيفيته، فإذا أغضى الإنسان طرفه عن النظر إلى الكائنات العديدة البديعة، مقتصراً على التأمل فقط بذاته كيف وجد؟ كيف تكوّن هكذا؟ كيف يحيا ويتحرك وينطق؟ وكيف بعض أعضائه خاضعة لإرادته وبعضها لا بد أن تقوم بأعباء وظيفتها أراد أو لم يرد؟ يرى ذلك كله من الأمور الفائقة العقل.
وكما أن أعمال الوالد مثلاً تفوق جداً عقل ولده الطفل وتذهله، مع ذلك يسلم باقتدار أبيه على عملها، هكذا نحن الخليقة البشرية ذوو العقول الطفلية والدنية جداً بالنسبة إلى حكمة الباري جل شأنه، تقصر دون إدراك كيفية أعمال حكمته وقدرته الإلهيتين. فكيف ندرك إذا ذاته تعالى؟
ومن الأوليات المسلم بها أن عدم إدراك العقل أمراً ليس هو دليلاً على عجمه أو محاليته، فالإنسان يقدر أن يميز بواسطة الحواس والعقل الأشياء الموجودة لديه أو الواقعة تحت نظره، ويعلم خاصاتها ومنافعها أو اضرارها بواسطة الاختبار والامتحان، وإنما لا يمنكه إدراك كيفياتها. فكيف إذا يمكنه إدراك كيفية أمور ذي الجلال؟ إن ذلك من المحال. فما على العاقل الرزين إلا القبول بكل خضوع وخشوع ما أنعم عليه به باريه من الوحي عن ذاته تعالى وأمور قدرته وحكمته، مؤمناً بحقيقته لكونه من الله القدير الفائق الوصف والتصور. ومن المعلوم المقرر أن من شأن العقل الجيد عدم محاولة التخطي إلى ما هو خارج عن دائرة إمكانه.
أما عن الاعتراض المتضمن في نظم بعض الشعراء الذي أرسلتموه لي جنابكم مؤخراً الذي معناه «إن كان الإله قد تألم فما هذا الإله؟ وإن كان ابن الله، فلما صلب، أين كان أبوه؟» فأجيب على كل أن اعتراضاً كهذا منتظر ممن ليس له الروية الوافية في الكتاب، وليس له الحس والشعور الواجب بلزوم القيام بوفاء حق عدل الله والتبرير من الخطية. وحقيقة أن من لم يبحث عن المبادئ الأساسية للدين المسيحي ويتتبعها إلى غايتها، بل يقتصر على رؤية أعالي بنائه من بعد بعيد، يجد عليه ولا بد اعتراضات كثيرة لجهله أصوله العميقة وأسسه الوطيدة الراسخة، فيعجب بنفسه ظاناً أنه قد حاز الغلبة عليه، حال كونه مغلوباً.
جنابكم تعرفون جيداً ماهية المعتقد المسيحي في أمر التجسد، ومع ذلك أرى الضرورة تدعوني لأراجع على أذهانكم في هذا المكتوب بوجيز العبارة خلاصة الإيمان المسيحي بهذا الخصوص:
إننا معشر المسيحيين نؤمن حسب كتابه تعالى أن المسيح كلمة الله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، قد اتخذ لذاته الإلهية بقدرته الصمدانية جسداً ونفساً إنسانية، فصار ذا طبيعتين متحدتين متمايزتين غير ممزوجتين، إلهية وإنسانية. فالإلهية فيه غير قابلة كل ذلك. فيقال في الإنجيل «الكلمة صار جسداً» و «ابن الله صار من نسل داود من جهة الجسد» وتألم ومات بالجسد لا من جهة اللاهوت ولا به. فكما أن النار مثلاً تلاشي الثوب دون الذهب المنسوج عليه، وتأكل اللحم من على المذيح دون المذبح، هكذا نار آلام الموت أثرت في الطبيعة الإنسانية، ولم يمكنها البتة إيصال تأثيرها إلى الطبيعة الإلهية. وكيف للمخلوق أن يضر بالخالق؟ ومع أن اتحاد الطبيعة الإلهية بالإنسانية بحيث صارتا شخصاً واحداً يسمو جداً على إدراك العقل الإنساني ليس هو من الأمور المستحيلة، كما لا يخفى ولا يؤثر على كمال الباري سبحانه، فهو بالحري يزيد مجده لدى خلائقه بجوده الفائق على خليقته البشرية بابنه المحبوب، الذي به أعلن سمو قداسته وغاية كماله، إذ حافظ على حق عدله وأبدى عظيم حنوه وغزارة مراحمه وفضله.
وأما عن القول: «لما صلب أين كان أبوه؟» فأقول قد تقدم أنه لم يتألم من حيث اللاهوت أصلاً، بل من حيث الناسوت فقط، إذ من المحال أن يمس اللاهوت ألم، فالصلب واقع على الطبيعة الإنسانية لا الإلهية. ولم يكن ذلك بدون إرادة أبيه حتى يكون لاعتراض المعترض محل، بل كما يستفاد من نبوات الله في التوراة، وخصوصاً الأصحاح الثالث والخمسين من نبوة إشعياء أن قصد الله ومشيئته أن يفتدي البشر الخطاة بدم ابنه، لكي تبدو رحمته الفائقة وجوده غير المتناهي، نحو جبلته الساقطة. وإذ شاء سبحانه أن يتنازل بابنه الوحيد إلى هذه الدرجة حباً بخلقه، فهل من اعتراض عليه تعالى؟ وإذا كان الآب هكذا أرسل ابنه لهذا الأمر الذي عليه دون سواه يتعلق خلاص البشر، فكيف يدفع عنه ذلك؟
هذا وتقول أن الابن ذاته لما رأى أن لا سبيل لخلاص الإنسان من ورطة الهلاك التي قد تدهور فيها، حسب مقتضى العدل الإلهي، إلا بتجسده وموته عنه بالجسد، ارتضى بذاك حباً لنا ليعتقنا بموته من عبودية الخطية والموت، لذلك لما صُلب بالجسد لم ير أبوه الجواد أن يدفع عنه الألم ويعفيه من شرب كأس عليها دون سواها خلاص البشر، بل كما قدم إبراهيم ابنه امتثالاً لأمر الله، هكذا اللاهوت قدم نفسه المتحد به ذبيحة وقرباناً لله عن العالم، لكي يوفي به حق شريعة الله التي تعداها الإنسان وفاء تاماً حسب قصد الله ومقتضى عدله تعالى. نعم أن هذا الخبر بل هذه البشارة الكافلة أن تملأ قلب الإنسان سروراً وشكراً لله صعبة الفهم وعسرة الهضم على كثيرين، غير أن ما يرى فيها من صعوبة الفهم وتعذر الهضم لا ينفي وجوبها وحقيقتها.
ثم أرجو سيدي أن تتأملوا جيداً ببصيرتكم النيرة، وتزنوا بذكائكم الوافر، ما سأبديه لحضرتكم من الكلام عن هذا الموضوع الكلي الجلال والأهمية، لا يخفى أن الخالق الفائق الحكمة والجزيل الرأفة الذي يعرف ضعف الإنسان وقصوره عن إدراك ما لله سبحانه من المقاصد والغايات من جهة الإنسان، وصعوبة فهم ذلك الأمر السامي الذي قد أعده له (أي الفداء بابنه الوحيد) إعدادات متنوعة شغلت مدة قرون عديدة، تعليماً وتدريباً للبشر إلى الفادي الكريم، واستعداداً لقبوله إذ كان عتيد أن يولد منهم بالجسد ويفديهم بدمه، معاملاً إياهم بذلك على نسق تعليم الأولاد في المدارس، فكما أن المعلمين والأساتذة يبدأون بتعليم تلامذتهم من الأحرّف الهجائية، ويتقدمون بهم تدريجياً شيئاً فشيئاً نحو العلوم الرفيعة، وبذلك يتمكنون من إبلاغهم الحقائق السامية، هكذا فعل البارئ عز وجل في تربية وتدريب العقل الإنساني إلى المسيح مدة نحو أربعة آلاف سنة.
  • (أولاً) بالمواعيد التي كان أولها أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (إبليس)، ومنها قوله تعالى لكل من إبراهيم وإسحق ويعقوب: «وبنسلك تتبارك جميع أمم الأرض». وقس على ذلك مما لا يسعنا إيراده هنا.
  • (ثانيا) بالطقوس والفرائض التي كان أخصها وأشرفها تقديم الذبائح والمحرقات لله، التي هي بالحقيقة رموز وإشارت لائقة إلى ذبيحة المسيح، التي كانت عتيدة أن تقرب لله وفاء عن خطايا العالم التي لو جردت من هذا المعنى لكانت بلا داع وغير لائقة بالله. وهل من العدل أن يقاص الخروف عن الإنسان - البهيم عن العاقل - والبريء عن المذنب؟ كلا. وإنما إذ كان ذبح الخروف وتضحيته لله عن الخاطئ رمزاً وإشارة سرية إلى حمل الله يسوع المسيح فادي الخطاة، كان ذلك لا محالة أمراً شريفاً وتعليماً لذلك الخاطئ الذي يقدمه، إنه لا يتبرر أمام القدوس بذاته، ولا يمكنه إرضاؤه بصلاحه، بل يحتاج ولا بد إلى فداء شرعي يفي عنه ويبرره من مطلوب العدل لدى خالقه تعالى.
  • (ثالثاً) بالنبوات المتوالية حيناً بعد حين عن هذا الفادي الكريم التي تزداد كثرة ووضوحاً كلما قرب أكثر فأكثر مجيء المسيح وذلك تسهيلاً لمعرفته وقبوله متى جاء، ولكي تكون العقول مستعدة له والقلوب بانتظار قدومه، وعلى ذلك قالت المرأة السامرية للمسيح: «نحن نعلم أن مسيا يأتي ومتى جاء ذلك يخبرنا بكل شيء». ولكن لا يبقى محل لاعتذار الإنسان على آبائه تصديق الإنجيل وقبول المخلص بالإيمان بداعي صعوبة فهم الخبر، فلا ريب أن سياسة الله مع شعبه في القديم، وتدريبهم وإعدادهم قروناً عديدة بالوسائط والوسائل المذكورة تتكفل بحل هذه الصعوبة الموهومة.
هذا ولا يليق بي أن أهمل في خطابي هذا إليكم إلى الاعتراضات الكثيرة المتصدرة من ذوي الكفر ومن غير المسيحيين على صحة الكتاب المقدس، بناء على ما يرون فيه من تناقض ظاهري.
  • (فأولاً) أقول أن الكافرين يرومون ملاشات الاعتقاد بالوحي الإلهي وغير المسيحيين نظراً لما ورثوه من أسلافهم ونشأوا عليه من عقائد الدين الذي رضعوه كاللبن منذ الطفولية، يرغبون طبعاً في المحاماة عن دينهم والدفاع عن معتقدات آبائهم بكل حمية، بدون أن يمنحوا العقل الحرية الواجبة له في الفحص والامتحان القانوني في القضايا التي تعرض عليهم - بل غالباً بدون ترو وعلى الفور يكذبون ما لا يرونه موافقاً لديهم.
  • (ثانياً) لا يخفى على الذكي البصير أن وجود التناقض الظاهري في بعض كلمات وآيات الكتاب ليس من الدواعي الموجبة لسرعة إبراز الحكم الجازم بعدم صحته، بل هو بالأحرى من الأسباب التي ينبغي أن تقتاد القارئ إلى الفحص القانوني والتدقيق الوافي عن الأزمنة المتوالية التي فيها أنزلت هذه الأسفار الإلهية وظروف واختلاف العوائد مع الدواعي المختلفة لكتابتها هي السبب في تلك التناقضات الظاهرية.
  • (ثالثاً) لدى مطالعة الكتاب بإخلاص وتقوى يظهر جلياً أن هذه الاختلافات غير واقعة في القضايا الكلية الموجبة للوحي، حتى أن أهمها ليس هو بالحقيقة اختلافاً، وما بقي لا يؤثر البتة على غاية الكتاب وقصده.
  • (رابعاً) أن أهمية الكتاب المقدس لدى الله ظاهرة في كل سفر من أسفاره، إذ الغاية فيه أن يكشف لنا عن أصل فطرتنا وعلة شقائنا، التي هي تعدينا شريعة بارينا، وطريقة الخلاص من طائلة الخطية، وإرجاعنا إليه تعالى، الذي ليس لديه شيء آخر أكثر أهمية من جهتنا. فقل لي سيدي أي سفر من أسفار الكتاب يقاوم هذه الغاية ويضادها؟ ألا ترون أن كل سفر من أسفار الكتاب المقدس تشير كما لو كتبت بيد واحدة إلى أمر واحد وغاية واحدة وهو الأمر الخطير الذي نحن بصدده، نعم لأنها أجزاء كتاب واحد.
ثم أن ما يستحق جزيل الاعتبار هو أن ليس اليهود والمسيحيون فقط يعتبرون أهمية كتاب الله هذا للإنسان، بل القرآن نفسه أيضاً يعتبره هذا الأعتبار كما لا يخفى على حضرتكم. وتعلمون أنه قد نطق بالقرآن في أواخر القرن السادس للتاريخ المسيحي، الزمان الذي كانت فيه الدولة العظمى في العالم مسيحية، وكان المسيحيون إذ ذاك متمتعين بكمال الحرية والرفاهية التي تمكنهم أكثر فأكثر من إشهار ونشر ديانتهم المحبوبة، الزمان الذي فيه وجد عدة طوائف وفرق مسيحية مختلفة المذاهب والعقائد أضداد بعضهم لبعض، وكان الكتاب المقدس بيد كل فريق منهم في لغته الخاصة. فلاحظوا سيادتكم أنه في ذلك العصر قد شهد القرآن للمسيحيين أنهم أهل الكتاب بقوله «يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» (سورة المائدة ٥: ٦٨) وقوله أيضاً «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن» وقط لم يدّع أنهم حرّفوه، ولم يقل يا أهل الكتاب لماذا حرّفتموه بل «حَتَّى تُقِيمُوا». فعليه يتضح إذا من القرآن أن الكتاب (التوراة والإنجيل) كان عصرئذ موجوداً بأيدي المسيحيين تماماً بدون فساد. فإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن في ما بعد إفساده؟ إن انتشار الكتاب في أكثر الأقطار المتمدنة، ووجوده الطبيعي بيد كل فرقة وشيعة نصرانية بلغتها الخصوصية، فضلاً عن وجود التوراة اليهودية أعداء المسيحية عموماً يجعل إفساده وتحريفه فيما بعد محالاً. إذا الكتاب هو اليوم تماماً كما كان في عصر القرآن وقبله، كما أنزل من الله بدون أقل تغيير في الجوهر والغاية، وعدا ذلك أنه مؤكد وجود عدة نسخ بلغات مختلفة منذ ذلك العصر وما قبله بأيدي فرق مسيحية محفوظة بكل اعتناء في مكتباتهم وهي وما ترجم وكتب بعدها بحال الاتفاق العجيب الدال على حفظ هذا الكتاب بيد من هو قادر على كل شيء في كل القرون السالفة من الملاشاة والإفساد بين ألد الأعداء سياسياً وأدبياً الذين أفرغوا سدى كل إمكانهم على ملاشاته فهذه الأهمية والعناية الإلهية التي لم يحرزها كتاب آخر في العالم جديرة أن تربط قلوبنا به رباطاً لا تفكه أيدي المحاولة.
بناء عليه ترون حفظكم الله أن القول بتغيير وتحريف الكتاب هو لا محالة تكذيب لشهادة القرآن له، فلا يمكن لمسلم ما القول بتغيير وتحريف الكتاب إلا بثلم شهادة القرآن. ولا يمكن اعتبار شهادة القرآن هذه إلا بالقول بعدم تحريف الكتاب وعدم إفساده، ولا مناص من ذلك.
فيا أيها الصديق الفاضل، أن كتاب الله هذا الذي قد بانت سلامته لديكم من شوائب التغيير والتحريف أنزل إلينا من ربنا لمعشر البشر كافة، إذ نحن خليقته تعالى، وجميعنا خطاة أمامه محتاجون إلى الخلاص المعلن لنا فيه، فلا يحق إذا لإنسان عاقل من أية أمة كانت أن يستثني نفسه من وجوب اقتنائه ودرسه والتدرب بنصوصه وتعاليمه، فهو كتاب الله العزيز. وإذ كان لا كتاب في العالم له ما لهذا من البينات والدلائل الراهنة على كونه كتاب الله. فما بال حضرتكم تغضون الطرف عنه، وتأبون مطالعته بالرغبة والاعتبار الواجبين له؟ وما أسقم ادعاء البعض بالاستغناء عنه بزعمهم أن هذا الكتاب للأمة الفلانية لا لأمتنا؟ ما البرهان على ذلك؟ هل لله أديان متنوعة يوزعها على كل أمة من خلقه؟ كلا وحاشا، الله واحد وديانته واحدة.
أفليس هو خالق الجميع، يعتني بكل منهم؟ أما يشرق علينا جميعاً شمساً واحدة ويمطر علينا جميعنا ويعطينا أثماراً وخيرات في أوقاتها؟ فلماذا لا تكون إعلانات رحمته للجميع؟ بلى هي للجميع. المسيح شمس البر والحياة هو للجميع، مخلصاً لكل من يؤمن به، ولذلك أمر بحمل إنجيل نعمة خلاصه لجميع الأمم قائلاً: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها». فلا غنى إذا عن كتاب الله كما أنه لا غنى عن القوت والماء. هذا وليتأكد سيدي أن يقيني الدائم بفضل حبكم مع اختباري حسن طويتكم ووفرة تقواكم قد بعثاني على تقديم هذه الرسالة إليكم معتبراً إياها أجمل هدية، متوسلاً إليه تعالى أن يجعلها رائقة في أعينكم، مقبولة لديكم، ووسيلة لاتخاذكم الكتاب المقدس دليلاً ومرشداً في تيه ظلمات هذا العالم الباطل إلى السعادة الأبدية. ورجائي عدم المؤاخذة على هذه المجاسرة، مع تشريفي أن حسن بمراسيمكم البهية وبكل خدمة تلزم فإني رهين الإشارة والأمر وطال بقاؤكم.
في غرة أغسطس سنة ١٨٦١
الداعي
يوحنا الغيور
ثم جلس الشيخ أحمد عبد الهادي بعد انتهائه من القراءة وكان الجميع ساكتين يتأملون في ما سمعوه، ثم قال الشيخ علي: «قد سمعتم هذه الرسالة وفهمتم قضاياها، فما رأيكم فيها؟».
أجاب السيد إبراهيم مصطفى: «أما من جهتي فإني آراها عظيمة المباني قوية الحجة أن صدق الكاتب في مدعاه، وليس من السهل الرد عليها. فعندي أن نبحث في قضاياها ومدعياتها واحدة فواحدة، ومن ثم نرى ما ينبغي إجراءه».
عند ذلك وقف السيد عبد القادر الفصيح وقال:
«أيها السادة، إن حضرة السيد إبراهيم قد فاه بكلام في هذه الرسالة يوهم أنه الحق وإن لم تكن غايته هكذا. إنني أصغركم سناً ودونكم مقاماً وعلماً، ولكن حذار حذار يا إخوان من الإغواء بملق اللسان، والانجذاب بحكمة الكتاب، فلقد طالما نشأ كتّاب ملحدون ذوو حكمة في صناعة التأليف والتصنيف، أدهشوا العالم بمهارة أقلامهم وسحروا الألباب بحسن أساليب كتاباتهم، فكانت لذي جهل كالعسل العطري حال كونها سما. فعندي من الرأي إعدامها، ومجاوبة مرسلها بما يؤول إلى حسم المحاورة، إذ نحن مسلمون مؤمنون بالله وبما أنزل سبحانه في القرآن، فلا حاجة لنا إلى شيء آخر والسلام».
وبعد أن جلس وقف الشيخ عبد الحليم متوكئاً على عكازه لضعفه وكبر سنه وقال: «يا إخوتي وأحبائي، إن أخي السيد عبد القادر قد فاه بكلام لا يزدرى به، فنعم ما قال بشأن الملحدين وكتاباتهم الكفرية الردية. على أن ليس كل أسود عبداً، ولا كل حمراء جمرة، فكم من جواهر بين الرمال، فربما دسنا باحتقار تراباً كان فيه حجر كريم، فليس من العدل سرعة العزل، دعونا يا إخوان نتخذ المسألة بالحلم والأناة متبصرين جيداً في موضوع هذه المسألة وتفصيلها، لأنه ربما عثرنا على فائدة نحن نجهلها، إننا لم نر فيها ما تأباه المسامع وتنكره العقول، ولا شيء من الطعن بديننا، بل كلاماً لطيفاً محكماً ممزوجاً بإمارات الحب والإخلاص. فهل والحالة هذه يليق بنا كعلماء طرحها بدون اجتلاء معانيها وامتحان دعاويها؟ فمهلاً يا إخوان، ولتتخذ هذه الرسالة محلاً في ساحة تعقلكم حتى يرى فسادها فتنبذ أو صلاحها فتقبل».
ثم وقف عمر أفندي زكي وقال: «عندي من الرأي مراعاة ما قدمه سيدي الشيخ عبد الحليم وهو اتخاذ هذه المسألة بالأناة ليرى الملأ أننا لسنا دون أفضل علماء الأمم، ومن ثم نرى ما ينبغي من جهتها. وبما أنه الآن قد صار وقت مناسب لفض الاجتماع، فإن شئتم فلتكن كلماتي هذه خاتمة الحديث بهذا الاجتماع، ونتخذ لأنفسنا فرصة أسبوع كامل، ليتمكن كل منا من التأمل في ما سمع الآن. ثم أن حسن نجتمع أيضاً ونعيد المذاكرة بشأن هذه الرسالة، علّنا نتخلص منها بطريقة عادلة». فاستحسن الجميع هذا الرأي وعولوا عليه. ثم قدم لهم الشيخ علي شيئاً من الحلويات فأكلوا، وانصرف كل إلى محله.

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.