قصة أخوان من كردستان
في شمال غرب إيران يقع إقليم في الطرف الشرقي من هلال يُدعى
«كردستان» يجاور
شمال العراق وجنوب شرق تركيا، يسكنه شعب الأكراد، وهم من سلالة الآريين
الذين احتفظوا إلى حدٍ كبير بصلات القبيلة واللغة والعادات. وهم سلالة صلبة
قوية، اشتهروا في الماضي بكرم الضيافة والتعصّب الديني والخصال الحربية.
والجزء الخاص من كردستان الواقع في إيران هو أحد الأقاليم الأربعة عشر
الرئيسية التي تتكوّن منها إيران. وهو يقع في قلب سلسلة جبال الزغروف التي
تجاور العراق. وهي أرض رائعة الجمال تكسو الثلوج قممها، وتجري فيها روافد
وأنهار تعجّ بالمياه، وتتخلّلها أوديةٌ خضراء تكلّلها أزهار ونباتات
الربيع. والمدينة الرئيسية في كردستان هي
«سناج» (أو سنّة كما يلفظها العامة) وهي عاصمة الإقليم، ومركز التجارة للقرى المجاورة، يلتقي فيها علماء الإسلام وأساتذة الفقه.
في هذه المدينة المتعصِّبة، في القرن التاسع عشر، سكن رجلٌ اسمه «رسول» مع عائلته في بيت صغير يتكوَّن من ثلاث غرف. وكان هو السابع في عائلةٍ اشتهرت بولائها للإسلام، ولذلك كانوا يدعونه «رسول المُلاّ» (ومعناه الإمام رسول). وكان مصدر رزقه هو وعائلته كتابة صلوات للمرضى، كما كان يعالج كل أنواع المرض، ويلقِّن المشرفين على الموت كيف يجيبون الملاكين عندما يحضران لاستجوابهم حسب تعاليم الإسلام، ويعلّم أهل بلده أصول دينهم ومعتقداتهم. وكان يدير مدرسة تضم نحو عشرين أو ثلاثين صبياً يعلّمهم الفارسية والعربية. وكان يؤمُّ الصلاة يومياً في مسجد القرية، ويذهب بين حينٍ وآخر لزيارة مستعمرة للبُرص خارج المدينة غير خائف من العدوى، كما كان يعزي البؤساء في محنِهم.
كان للمُلاّ رسول وزوجته ثمانية أولاد، مات أحدهم بعد الآخر ولم يبقَ منهم سوى اثنين: أكبرهما محمد، والثاني سعيد الذي يصغر محمداً بثمانية أعوام. وحسب التقاليد والعادات الكردية كان سعيد الأصغر لا يخاطب أخاه محمد بالاسم، بل يدعوه «خاخا» أو «الأخ» باللغة الكردية. وتبعاً لذلك عندما انتقلا إلى منطقة أخرى لا يعرف أهلها اللغة الكردية، وكانوا يسمعون سعيداً يدعو أخاه «خاخا» حذوا حذوه، فكان كل واحد يعرفه باسم «خاخا». ولهذا السبب سنُطلق عليه هذا الاسم. ومع أنهما أخَوان شقيقان، إلا أننا نرى فرقاً كبيراً في اسميهما، لأنه في تلك الأيام الخالية كان لكل إنسان اسمٌ واحد. ولكن عندما تقدم الأخَوان في العمر، طلبت الحكومة من كل رعاياها أن يختاروا اسماً للعائلة، فاختار خاخا اسم والده، بينما اختار سعيد اسم الإقليم الذي يسكنه، وأضاف كل واحد ياء النسب للدلالة على الأصل، فأصبح اسم الأخوين: محمد رسولي وسعيد كردستاني.
وفي عام ١٨٧٦ مات المُلاّ رسول تاركاً ابنه «خاخا» البالغ الحادية والعشرين من العمر رئيساً للعائلة. وكان عمر سعيد ١٣ سنة وقتئذ، لكنه كان قد اكتسب إلماماً مدهشاً باللغتين الفارسية والعربية، كما كان يعرف القرآن معرفة جيدة، حتى أن الناس الذين اجتمعوا في حفل تأبين المُلاّ رسول خلعوا على سعيد لقب «المُلاّ» واختاروه خلَفاً لأبيه للتدريس في المدرسة. وإذ صار خاخا رئيساً للعائلة أصبح مسؤولاً عن إعالتها، لذلك ترك مواصلة دراساته، وصار يكتسب قوته وقوت العائلة من تلاوة القرآن علَناً في الأضرحة وعند القبور.
كان خاخا وسعيد من المسلمين الغيورين في معقل التعصب حيث كانا يسكنان، فكانا يواظبان بكل أمانة واجتهاد على الصلاة في المساجد، وعلى ممارسة فروض الصلوات الخمس يومياً، وفي الصوم قطعياً عن الطعام والشراب من الفجر إلى الغروب مدة شهر رمضان، كما تتطلب الشريعة الإسلامية.
وفي عام ١٨٣٤ كان قد جاء إلى إيران مرسَلون بروتستانت للعمل بين الأشوريين في مدينة يروميا (اسمها الحالي رصيخ) الواقعة في الركن الشمالي الغربي من البلاد. وفي خلال أربعين عاماً من العمل المرسلي رسَّخت الحركة البروتستانتية أقدامها في يروميا ومجاوراتها بكنائس ومدارس في المدينة والقرى المجاورة. وتدرَّب قسوسٌ ومعلّمون، وصاروا يرسلون مبشرين وموزعي كتب مقدسة إلى المدن الأخرى.
وفي عام ١٨٧٩ (لما كان عمر خاخا ٢٤ وعمر سعيد ١٦) وصل إلى مدينة «سناج» القس يوحنا مع اثنين من موزعي الكتاب المقدس لتوزيع الكتب المقدسة وليشهدوا للإيمان المسيحي. وكان الموزِّعان ينويان قضاء فرصة قصيرة للزيارة، أما القس يوحنا فكان قد عزم على البقاء مدة طويلة، لأنه كان يريد أن يحسِّن معرفته باللغة الفارسية. فأخذ يبحث عن معلّم، فقدَّموا له «سعيداً». وبعد أن أخذ سعيد أذناً من خاخا بوصفه رئيس العائلة قبِل المهمة، وكان الكتاب المقرر للدراسة هو الكتاب المقدس.
ومنذ البداءة صار سعيد يلاحظ أخلاق هؤلاء الرجال الثلاثة، لأنه سمع كثيراً من الأوصاف المحقِّرة للمسيحيين، بدرجة جعلته يسيء الظن فيهم ويسخط عليهم بشدة. لكنه وجد أن التُّهم التي سمعها لا تنطبق مطلقاً على هؤلاء الثلاثة، فهم لا يشربون الخمر، ويعيشون بأمانة، ويصلّون حتى لأجل أعدائهم. لذلك رأى أنه يتحتَّم عليه أن يغيّر فكره عنهم.
وفي أوقات معيَّنة كان الموزعان يسافران لتوزيع الكتب المقدسة، ويتركان «سعيداً» مع القس يوحنا يدرسان الكتاب المقدس ويبحثان في الدين. كان سعيد يسأل أسئلة كثيرة، وبدأ يدرس اللغة السريانية، لغة الأشوريين لمقارنة ترجمات الكتاب المقدس. وأعطاه القس يوحنا نسخة من العهد الجديد باللغة السريانية، أراها سعيد لأخيه، فغضب خاخا وحذّره من قراءة هذا الكتاب لئلا يقوده إلى الضلال. لكن هذا لم يمنع سعيداً، بل بالعكس أشعره بضرورة مداومة البحث، ولكن في الخفاء. وقد درس سعيد بنوع خاص نبوات العهد القديم (التوراة) عن المسيا، ولم يستطع أن يرى إتمام النبوات في محمد. وأخيراً أخذ الكتاب المقدس معه للبيت وأراه لخاخا وتوسَّل إليه أن يسمح له بالمداومة على درسه حتى يستطيع أن يكتب ما يدحض المسيحية، فسُرّ خاخا بذلك وأعطاه إذناً بالدرس. فاستطاع سعيد أن يدرس الكتاب المقدس علناً.
وكان كلما زادت دراسة سعيد، وزادت معرفته بالقس يوحنا، ولاحظ أخلاق المسيحيين، أخذت الشكوك تثور في فكره عن إيمانه الإسلامي. وذات يوم وهو ذاهب لصلاة العِشاء في المسجد، خطر بباله خاطر مريع «ماذا لو كان محمدٌ ليس النبي الحقيقي؟». وهزَّه هذا الخاطر التجديفي الشنيع بعنف، فشعر أنه نجسٌ حلَّت عليه اللعنة، فأسرع إلى المسجد راجياً أن يغسل نجاسة فكره بالوضوء، لكن قلبه لم يجد سلاماً. وعاد إلى البيت، وآوى إلى فراشه مبكراً، لكن النوم لم يواته، فقام أخيراً مصمماً أن يضع حداً نهائياً للأمر، فأشعل ناراً وأخذ بملقط قطعتي جمر من الفحم، ووضع جمرة على أحد ساقيه ثم على الأخرى. وكان الألم شديداً مبرحاً، لكنه لم يكفّ حتى تتعمق الجروح. ولما شُفيت جروحه نهائياً ظلت آثارها باقية. وكان قد أحرق أحد ساقيه ليذكر العهد الذي قطعه على نفسه أن لا يتكلم مطلقاً مع أي مسيحي في الدين المسيحي، وأحرق الساق الأخرى ليذكر تصرُّفه المشين في شكه في إيمانه الإسلامي. وأحرقهما كليهما ليتجنَّب ارتكاب مثل هذا الذنب الفظيع في المستقبل. وهذا يتفق مع العادات والتقاليد الكردية التي تقضي أنه عندما يقطع الإنسان عهداً عليه أن يترك أثراً في جسمه يذكّره بحفظ ذلك العهد.
أما وقد صمَّم على عزمه وختمه بجروحه فقد أرسل إلى القس يوحنا يخبره أن ضغط الأعمال عليه لا يسمح له بمواصلة إلقاء الدروس عليه. لكن ذلك لم يُرح بال سعيد، فقد ظلت شكوكه تشتدّ. لقد شُفيت جروحه لكن قلبه لم يُشفَ. وذات ليلة وهو راجع من المسجد خرّ بوجهه على الأرض في زاوية مظلمة وتوسل إلى الله بدموع أن ينقذه من تعاسته ويهديه إلى الطريق المستقيم. وإذ كان يصلي بدأ الثقل يرتفع عن قلبه وصمم أن يدرس الكتاب المقدس والقرآن معاً، ويستأنف دراساته مع القس يوحنا. وواظب على هذا عدة شهور، كان فيها يدرس الكتاب المقدس بإرشاد القس يوحنا، ويدرس القرآن مستعيناً بالتفاسير. ولكنه لم يجد في القرآن ما يروي ظمأه.
وإذ كان سعيد يصرف وقتاً أطول مع القس يوحنا صار خاخا يشك في الأمر، فوبَّخ سعيداً بكلام قاس. كان يفاخر بنبيِّه محمد ويتكلم بسخرية على المسيحيين. ويوماً ما ضرب خاخا سعيداً وكسر عليه الكثير من العصي، حتى وقع سعيد على الأرض من شدة الألم، وقبّل التراب تحت قدمي خاخا.
لكن لم يمض وقت طويل حتى عاد سعيد يجلس مع القسيس حزيناً لسماعه بقُرب موعد رحيل القسيس. وفجأة رنّ في قلبه كلام إشعياء النبي «قُومِي ٱسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ» (إشعياء ٦٠: ١). ظلت هذه الكلمات تتردد في داخله حتى ملأت السعادة كل كيانه. ولما سأله القس يوحنا عن سبب فرحه أخبره سعيد بالأمر، وبعد تقديم صلوات شكر قال القسيس: «افرح وتهلل لأنك قد وجدت نعمةً عند الله».
وبعد أيام قليلة رحل القس يوحنا، بعد أن حثَّ صديقه على المواظبة على الصلاة باجتهاد حتى لا يُجرَّب بالارتداد عن إيمانه الجديد الذي وجده، فإنه عندئذ يكون خيراً له لو لم يقبل المسيحية قط. ولم ينس سعيد مطلقاً هذا الإنذار.
وجد سعيدٌ نفسه وحيداً ووقع في حيرة مربكة. هل يعترف بإيمانه الجديد؟ ربما يؤدي هذا به إلى الموت. هل يلجأ إلى الهروب؟ من الصعب عليه أن يفعل ذلك. وأخيراً قرّر أن يحل مشكلته بالرياء والمواربة، فكان يصعد إلى المئذنة ويؤذّن للصلاة، وبعد أن ينادي «أشهد أن محمداً رسول الله» يصلي بصوت منخفض «اللهم سامحني». ثم ينزل إلى المسجد ويشترك في الصلاة مع المصلين، وإنما عوضاً عن تلاوة العبارات المفروضة في الصلوات عند الركعات كان يتلو بصوت هامس الصلاة الربانية وقانون الإيمان الرسولي. لكن هذه الحياة المزدوجة حطمت قلبه المخلص.
عند ذلك لم يستطع أن يحتمل الأمر. وكان له صديق حميم اسمه فيض الله. وفي يوم جمعة بعد انتهاء الصلوات جلس سعيد وفيض الله معاً، وأخبر سعيدٌ صديقه بإيمانه الجديد، وظلا يتحدثان معاً يوماً بعد يوم، وظل فيض الله يحاول أن يُعيد صديقه إلى الإسلام. ولما لم يجد جدوى في ذلك، حاول أن يبهجه بتحويل أفكاره إلى أمور أخرى، فدعاه مع عدد قليل من الأصدقاء إلى حديقة والده. وبينما كانوا يُعِدّون الشاي بدأ الشباب يُطرِبون أنفسهم بالأغاني، لكن سعيداً لم يطرب بشيء منها. وأخذ خبزاً وخرج إلى بستان الكرم ومضى يصلي، ثم أكل الخبز وقطف بعض حبات العنب وتأمل في موت المسيح، وكان هذا أول عشاء رباني يتناوله.
وصار يبوح بسره شيئاً فشيئاً لأصدقائه الآخرين. ولم يكن يواجه خطراً خاصاً في هذا لأنهم لم يريدوا أن يفضحوه. إنما جاءه الخطر من ناحية أخرى، فقد سأله طبيب يهودي عما إذا كان يريد أن يتعلم اللغة العِبرية كما يتعلم السريانية، فأجاب بالإيجاب. وبذلك تمَّ الاتفاق على أن يقوم بتعليم أولاد الطبيب اللغة الفارسية ويقوم الطبيب بتعليمه اللغة العبرية. وكان للطبيب أصدقاء كثيرون من اليهود كان لسعيد حديث ديني متواصل معهم. ولما لم يستطيعوا أن يُفحموه بإجاباتهم غضبوا وأذاعوا أن سعيداً أصبح مسيحياً. وسرعان ما انتشرت الإشاعة وبدأ الناس يشتمونه في الشارع ويقولون عنه «هذا هو الملعون». ولم يبق أحد يرثي لحاله في المدينة سوى عدد قليل من أصدقائه المقرَّبين وبعض الكاثوليك.
في تلك الأيام عاد تاجر كاثوليكي تقي من رحلة له إلى روسيا، فذهب سعيد لزيارته، لأن التاجر كان صديقاً للقس يوحنا. وأخبره سعيد بإيمانه الجديد. فسأل التاجر سعيداً إن كان مستعداً أن يواجه الأخطار التي ينطوي عليها أمر اهتدائه، فأجابه سعيد أنه لا شيء يمكن أن يجعله يترك المسيح، ولو أدى الأمر به أن يموت شهيداً. عند ذلك أهداه التاجر بعض الكتب، ومن بينها كتاب الدكتور فاندر «ميزان الحق» الذي كُتب لدحض الإسلام وتُرجم إلى اللغة الفارسية. وكان عليه أن يقرأ هذه الكتب خُفية لئلا يجدها خاخا.
ولم يكن سعيد إلى ذلك الوقت قد أخبر أخاه بأنه غيّر إيمانه ودينه، ولكن بما أنه لم يعُد يتلو الصلوات أو يقرأ القرآن، أدرك خاخا أن تغييراً هاماً قد حدث. وبالتغني والتباهي عن محمد والكلام عن «المسيحيين الكلاب» والتهديد والضرب أجبر خاخا وأصدقاؤه سعيداً على العودة إلى ممارساته السابقة. ومرة حاول سعيد أن يهرب من المدينة، ولكن الأمر عُلم وفشلت خطته.
وذات يوم أرسل رئيس المُلاّ في المدينة إلى سعيد يطلب إليه أن يحضر لمقابلته ومعه الكتاب المقدس ليريه بعض الفصول التي له إلمام بها. وبعد فحص الكتاب المقدس صرّح أنه لا يجد فيه شيئاً يجعل المسلمين أن يكرهوا المسيحيين. وقد سُرّ سعيد بذلك جداً لكنه ارتكب غلطة فظيعة إذ سلمه كتاب «ميزان الحق». وأثار الكتاب غضب المُلاّ وغيّر موقفه فوراً، فكتب تكذيباً قُرئ في المسجد الرئيسي يعلن فيه أن الشاه طلب منه أن يفعل ذلك. لكن رئيس المُلاّ كان رجلاً لطيفاً فعمل على حماية سعيد من المتعصّبين المحليين.
حلّ فصل الشتاء وواجه سعيد في بلده كل ما يستطيع أن يحتمله. وذات يوم حينما كان خاخا وسعيد وأحد الجيران جالسين حول المدفأة بدأ سعيد يقرأ من كتاب إسلامي عن ميلاد محمد والمعجزات التي صاحبته. ولما أخذ خاخا يذكر بالإطراء والمديح هذا النبي العجيب تجاسر سعيد وقال: «إذا كانت هذه القصص حقيقية، فلا بدّ أن تكون قد أنبأت بها نبوات سابقة. ولهذا يجدر بنا أن نفحص الكتاب المقدس لنرى إذا كانت فيه نبوات عن مجيء محمد». ووافق الجار على ذلك، لكن خاخا استشاط غضباً، وأخذ البندقية المحشوة المعلقة على الحائط وصوَّبها نحو أخيه. لكن الجار تدخّل في الأمر وأخذ البندقية، وانتحى بسعيد جانباً وحذره ورجاه أن يكون أشد حرصاً من ذلك فيما يقوله.
أدرك سعيد الخطر الذي كان يحدق به. ترى ماذا يفعل؟ فكر أن يهرب مرة أخرى، لكنه كان قد حاول الهروب مرتين قبل ذلك وباءت محاولتاه بالفشل. وقد لاحظ عليه خاخا أنه صار حزيناً مغموماً وألحَّ عليه أن يخبره بالسبب. وأخيراً قرر أن يعترف بالأمر، لكن ليس بكلام اللسان، لئلا يهيج أخاه بل بكتابة خطاب، فكتب لأخيه يقول إنه صار مسيحياً منذ وقت طويل وإنه مستعد أن يموت في سبيل إيمانه، ولكن إذا كان خاخا يعفو عنه فهو مستعد أن يكون خادمه بقية حياته. وقد احتفظ بالخطاب في جيبه متردداً أن يسلمه لأخيه.
أخيراً في إحدى الليالي، بيما كان الأخوان وضيف آخر معاً جالسين حول المدفأة بدأوا يتحدثون عن الدين. وتفوه خاخا والضيف بملاحظات لم يستطع سعيد أن يحتملها، فخرج إلى خارج وركع يصلي طالباً معونة الله. وعند عودته أخرج الخطاب من جيبه وسلّمه لأخيه، فقرأه خاخا ثم ألقى به في النار. ورأى الضيف ملامح الغضب على وجه خاخا ففهم مضمون الخطاب وخرج من البيت مسرعاً.
بعد أن أحرق خاخا الخطاب اضطجع الأخوان للنوم، لكن لم يستطع أي منهما أن ينام. أخيراً بدأ خاخا بالكلام وكان كلامه يشتد غضباً مع كل عبارة إلى أن صاح أخيراً:
- «لا يمكن لكلب وإنسان أن يعيشا معاً، فاخرج فوراً!».
فتوسل سعيد: «أين يمكن أن أذهب في ليلة كهذه؟».
- «لا يهمّني».
- «أرجوك أن تسمح لي بالبقاء الليلة، وسأذهب غداً».
صاح خاخا وقد أخذ البندقية: «اخرج أيها الكلب الملعون».
أسرع سعيد ولبس ثيابه وخرج يواجه البرد القارس. طرق على أبواب بيوت أصدقائه الكاثوليك لكنهم خافوا أن يقبلوه. أخيراً قبلته امرأة عجوز كان قد كتب لها عدة خطابات. ولكن لكي لا يسبّب لها المشاكل ترك بيتها في الصباح الباكر وذهب إلى مدرسته منتظراً ما يحدث له.
أما خاخا فقضى ليلته يصرخ إلى الله: «أنت قد أخذت أبي وأمي، والآن قد تركني أخي». واستيقظ مبكراً مثل سعيد، وأخذ بندقيته وذهب إلى حانوتٍ مقابل الكنيسة الكاثوليكية، حيث ظن أن أخاه قضى ليلته فيها. ولما سأله الناس لماذا جاء يحمل بندقيته، أجابهم أن أخاه سعيداً قد ارتدّ، وأنه ينتظره ليقتله. ولما سمعوا ذلك أرادوا أن يقتلوه بأنفسهم. وعلم خاخا أن ثلاثين شخصاً منهم قد تعهّدوا بقتل سعيد. ومع أن خاخا كان متأهباً لقتل سعيد بنفسه، إلا أنه لم يرضَ أن يجعل أخاه يقع فريسة في يد رعاعٍ هائجين.
ذهب خاخا ليتشاور مع امرأة من العائلة كانت معروفة بالحكمة ورقة القلب، فذهبت معه إلى المدرسة حيث أمكنها أن توجِد بينهما نوعاً من التفاهم والمصالحة، فقبل خاخا أخاه في البيت، وهو يعلم أنه قد صار مسيحياً. وكان هذا انتصاراً لسعيد. وذهب خاخا إلى رئيس المُلاّ في المدينة، كما فعل سعيد من قبل، وأخبره بما حدث وطلب نصيحته فيما يفعل، فأجابه المُلاّ: «لا تفعل شيئاً، بل اترك الأمر لي، وأنا أعيده إلى حظيرة الإسلام ببراهين من القرآن».
فلمّا علم المسلمون أن خاخا صار يحمي أخاه أرادوا أن يقتلوا الأخوين. في ذلك الوقت تلقَّى سعيد خطاباً من القس جيمس هوكز المرسَل في مدينة حمدان (وهي تبعد ثمانين ميلاً إلى الجنوب الشرقي) يقول فيه إنه علم في زيارته مؤخراً لمدينة سناج بالخطر الذي كان يواجه المتجدد حديثاً، وطلب منه أن يذهب إليه ليعلّمه اللغة. وتوسل سعيد إلى خاخا أن يسمح له بذلك. وبعد تردد كثير سمح له أخيراً بالذهاب. ورسما خطة أن يسافر سعيد مع القافلة المتوجهة إلى حمدان، والتي ستبدأ رحلتها من خارج المدينة في منتصف الليل. واتفقا أن يحمل خاخا حاجيات أخيه إلى مكان معين خارج المدينة ليسلّمها له. وحمل خاخا أمتعة سعيد القليلة والتقيا في المكان المتفق عليه. ولما وصلا إلى نهر صغير كانت قد ملأته أمطار الربيع سارا على شاطئه، فحمل خاخا أخاه على كتفيه وعبر به المخاضة. فكان هذا العمل وحده أشد أثراً في إعادة العلاقات بين الأخوين أكثر من كل شيء آخر. ولحقا بالقافلة عند الغروب وودع كل منهما الآخر بسلام.
بدأت القافلة مسيرها حوالي منتصف الليل، وواصلت سيرها إلى شروق الشمس، وكان سعيد قد بدأ يشعر بالأمان، وإذا بآماله تتحطم وتنهار عندما رأى خاخا ومعه اثنان من أصحابه، جاؤوا ليُرجِعوه. وقال خاخا إن المدينة قد انقلبت، والناس هائجون يطلبون عودة سعيد، ويهددونه بتدمير بيت العائلة. ولكن سعيد تصلب وقال: «اقتلوني هنا إذا شئتم، لكني لا يمكن أن أرجع إلى المدينة». ولما رأى خاخا أن كل جهوده في إقناع أخيه قد فشلت احتضنه وودعه ورجع. ومضى سعيد مع القافلة التي وصلت إلى حمدان بعد خمسة أيام. وكان ذلك عام ١٨٨١.
هناك بدأت حياة جديدة لسعيد. أصبح الآن حراً من المسلمين المتعصبين في بلده، وكان يسكن في مكان أمين في بيت المرسَل، وبدأ يتعرّف على عدد من المهتدين من الأرمن واليهود. وطلب أن يعتمد، ولكن القس هوكز والأرمن نصحوه بأن ذلك ليس للخير في الوقت الحاضر لئلا يثير المسلمين في تلك المنطقة. وفي تلك الفترة تعيّن شقيق الشاه حاكماً لحمدان، وكان دكتاتوراً قاسياً. وخاف الأرمن من أن اعتراف سعيد علناً بالمسيحية يثير عليهم المتاعب والقلاقل، فأشاروا عليه أن يتبع التقاليد والعادات الإسلامية، ويحلق رأسه، ويلبس العمامة مرة أخرى، وكان قد ترك هذه منذ هروبه.
في خريف أول سنة قضاها سعيد في حمدان، وصل من أمريكا طبيب مرسَل اسمه الدكتور «ي. و. ألكساندر» ومعه زوجته ليمارس مهنة الطب في تلك المدينة، وصار سعيد مترجِماً ومساعداً له بسبب إتقانه للّغة الإنكليزية. وكان اتصاله بالمرسلين وغيرهم من المسيحيين ودراساته مع القس هوكز وملازمته الاجتماعات المسيحية سبباً في نموه روحياً. وإنما أحزنه أن عدم تعميده حرمه من تناول العشاء الرباني، ولو أنه قاسى في سبيل إيمانه أكثر مما قاسى أي شخص آخر من المسيحيين.
وبعد أن قضى نحو سنتين ونصفاً في حمدان تهلل قلبه عندما حضر لزيارته خاخا الذي بدا وكأنه قد فقد روح التعصب، وصار ينظر إلى تجديد أخيه سعيد كأمرٍ نهائي لا يتغيّر. وكان للأخوين فرص كثيرة للحديث والبحث عن الدين بروح ودية قبل عودة خاخا إلى بلده.
بعد فترة أخرى من الزمن قرر خاخا أن يزور حمدان للمرة الثانية. باع بيته وأظهر أنه ذاهب ليأخذ سعيداً إلى مكانٍ يتوب فيه ويرجع إلى الإسلام. وقد شك بعض الناس في نياته، ولكي يعيقوه عن السفر قدموا له فرصة أن يكون إمام المصلين في المسجد الذي كان يذهب إليه. وبعد أن سافر قرر المُلاّ أن بيت خاخا مملوك لشخص مرتد، لا يحميه القانون، لذلك يكون بيع البيت باطلاً، ويحل البيت للمسجد. وتحت هذه الظروف أعاد خاخا الثمن للمشتري، فصارت صفقة البيع خسارة كلية للبيت والأثاث.
لما أقام خاخا في حمدان حاول المرسلون إقناعه بأن يقرأ الكتاب المقدس. ولكي يتوصّلوا إلى هذا الهدف كانوا يعطونه نبذة من فصول كتابية لينسخها مقابل أجرة، ولكن عندما كان يصادف عبارات لا يريدها كان يمزّق الأوراق أو يطعنها بالخنجر الكردي الذي كان دائماً في زناره. ولما كان يحدث هذا كان المرسلون يخبرونه أن لا يهتم بمعنى الفصل بل يكتفي بنقله وقبض أجرته. وكان الدكتور ألكساندر، يعيره كتباً ليقرأها من بينها كتاب «ميزان الحق». ولما قرأ الكتاب عرف عن دينونة الله للخطية ورسالة محبة المسيح، وبدأ ذلك يؤثر في نفسه. وكان يذهب إلى المسجد يوماً بعد آخر لكنه لم يجد راحةً في سماع الوعظ. وإنما الذي أثر فيه أكثر هو ما لاحظه من فرق بين تصرف المسلمين وحياة المرسلين والمعلمين المسيحيين. وبدأ يذهب إلى اجتماعات الكنيسة بشيء من الخوف والفزع.
وذات يوم كان أحد المرسلين عائداً إلى أمريكا، فطلب من خاخا أن يرافقه إلى الحدود الإيرانية. وفي الطريق وقع خاخا من على الحصان وكسر ركبته. وفي إثناء عودته إلى حمدان، وهو في دور النقاهة لم يكن يقدر على عمل شيء سوى القراءة، فصار يدرس الكتاب المقدس بغيرة وشوق، وأخيراً تمكن خاخا أن يعترف بإيمانه بالمسيح نهاراً جهاراً بطريقة مؤكدة. وذلك أبهج قلبه وأطربه. لقد أخذ ذلك منه وقتاً طويلاً وعناية دقيقة في الدرس، حتى رفض الإسلام وقبل المسيحية، ولكنه بعد أن اتّخذ قراره لم تكن به حاجةٌ للرجوع عنه.
من هذه النقطة فصاعداً اتخذت حياة الأخوين من كردستان طريقين مختلفين. كان لكل منهما بيته الخاص وعائلته الخاصة، وعمله الخاص، وجدير بنا أن نكتب عن كل واحد منهما فصلاً خاصاً.
في هذه المدينة المتعصِّبة، في القرن التاسع عشر، سكن رجلٌ اسمه «رسول» مع عائلته في بيت صغير يتكوَّن من ثلاث غرف. وكان هو السابع في عائلةٍ اشتهرت بولائها للإسلام، ولذلك كانوا يدعونه «رسول المُلاّ» (ومعناه الإمام رسول). وكان مصدر رزقه هو وعائلته كتابة صلوات للمرضى، كما كان يعالج كل أنواع المرض، ويلقِّن المشرفين على الموت كيف يجيبون الملاكين عندما يحضران لاستجوابهم حسب تعاليم الإسلام، ويعلّم أهل بلده أصول دينهم ومعتقداتهم. وكان يدير مدرسة تضم نحو عشرين أو ثلاثين صبياً يعلّمهم الفارسية والعربية. وكان يؤمُّ الصلاة يومياً في مسجد القرية، ويذهب بين حينٍ وآخر لزيارة مستعمرة للبُرص خارج المدينة غير خائف من العدوى، كما كان يعزي البؤساء في محنِهم.
كان للمُلاّ رسول وزوجته ثمانية أولاد، مات أحدهم بعد الآخر ولم يبقَ منهم سوى اثنين: أكبرهما محمد، والثاني سعيد الذي يصغر محمداً بثمانية أعوام. وحسب التقاليد والعادات الكردية كان سعيد الأصغر لا يخاطب أخاه محمد بالاسم، بل يدعوه «خاخا» أو «الأخ» باللغة الكردية. وتبعاً لذلك عندما انتقلا إلى منطقة أخرى لا يعرف أهلها اللغة الكردية، وكانوا يسمعون سعيداً يدعو أخاه «خاخا» حذوا حذوه، فكان كل واحد يعرفه باسم «خاخا». ولهذا السبب سنُطلق عليه هذا الاسم. ومع أنهما أخَوان شقيقان، إلا أننا نرى فرقاً كبيراً في اسميهما، لأنه في تلك الأيام الخالية كان لكل إنسان اسمٌ واحد. ولكن عندما تقدم الأخَوان في العمر، طلبت الحكومة من كل رعاياها أن يختاروا اسماً للعائلة، فاختار خاخا اسم والده، بينما اختار سعيد اسم الإقليم الذي يسكنه، وأضاف كل واحد ياء النسب للدلالة على الأصل، فأصبح اسم الأخوين: محمد رسولي وسعيد كردستاني.
وفي عام ١٨٧٦ مات المُلاّ رسول تاركاً ابنه «خاخا» البالغ الحادية والعشرين من العمر رئيساً للعائلة. وكان عمر سعيد ١٣ سنة وقتئذ، لكنه كان قد اكتسب إلماماً مدهشاً باللغتين الفارسية والعربية، كما كان يعرف القرآن معرفة جيدة، حتى أن الناس الذين اجتمعوا في حفل تأبين المُلاّ رسول خلعوا على سعيد لقب «المُلاّ» واختاروه خلَفاً لأبيه للتدريس في المدرسة. وإذ صار خاخا رئيساً للعائلة أصبح مسؤولاً عن إعالتها، لذلك ترك مواصلة دراساته، وصار يكتسب قوته وقوت العائلة من تلاوة القرآن علَناً في الأضرحة وعند القبور.
كان خاخا وسعيد من المسلمين الغيورين في معقل التعصب حيث كانا يسكنان، فكانا يواظبان بكل أمانة واجتهاد على الصلاة في المساجد، وعلى ممارسة فروض الصلوات الخمس يومياً، وفي الصوم قطعياً عن الطعام والشراب من الفجر إلى الغروب مدة شهر رمضان، كما تتطلب الشريعة الإسلامية.
وفي عام ١٨٣٤ كان قد جاء إلى إيران مرسَلون بروتستانت للعمل بين الأشوريين في مدينة يروميا (اسمها الحالي رصيخ) الواقعة في الركن الشمالي الغربي من البلاد. وفي خلال أربعين عاماً من العمل المرسلي رسَّخت الحركة البروتستانتية أقدامها في يروميا ومجاوراتها بكنائس ومدارس في المدينة والقرى المجاورة. وتدرَّب قسوسٌ ومعلّمون، وصاروا يرسلون مبشرين وموزعي كتب مقدسة إلى المدن الأخرى.
وفي عام ١٨٧٩ (لما كان عمر خاخا ٢٤ وعمر سعيد ١٦) وصل إلى مدينة «سناج» القس يوحنا مع اثنين من موزعي الكتاب المقدس لتوزيع الكتب المقدسة وليشهدوا للإيمان المسيحي. وكان الموزِّعان ينويان قضاء فرصة قصيرة للزيارة، أما القس يوحنا فكان قد عزم على البقاء مدة طويلة، لأنه كان يريد أن يحسِّن معرفته باللغة الفارسية. فأخذ يبحث عن معلّم، فقدَّموا له «سعيداً». وبعد أن أخذ سعيد أذناً من خاخا بوصفه رئيس العائلة قبِل المهمة، وكان الكتاب المقرر للدراسة هو الكتاب المقدس.
ومنذ البداءة صار سعيد يلاحظ أخلاق هؤلاء الرجال الثلاثة، لأنه سمع كثيراً من الأوصاف المحقِّرة للمسيحيين، بدرجة جعلته يسيء الظن فيهم ويسخط عليهم بشدة. لكنه وجد أن التُّهم التي سمعها لا تنطبق مطلقاً على هؤلاء الثلاثة، فهم لا يشربون الخمر، ويعيشون بأمانة، ويصلّون حتى لأجل أعدائهم. لذلك رأى أنه يتحتَّم عليه أن يغيّر فكره عنهم.
وفي أوقات معيَّنة كان الموزعان يسافران لتوزيع الكتب المقدسة، ويتركان «سعيداً» مع القس يوحنا يدرسان الكتاب المقدس ويبحثان في الدين. كان سعيد يسأل أسئلة كثيرة، وبدأ يدرس اللغة السريانية، لغة الأشوريين لمقارنة ترجمات الكتاب المقدس. وأعطاه القس يوحنا نسخة من العهد الجديد باللغة السريانية، أراها سعيد لأخيه، فغضب خاخا وحذّره من قراءة هذا الكتاب لئلا يقوده إلى الضلال. لكن هذا لم يمنع سعيداً، بل بالعكس أشعره بضرورة مداومة البحث، ولكن في الخفاء. وقد درس سعيد بنوع خاص نبوات العهد القديم (التوراة) عن المسيا، ولم يستطع أن يرى إتمام النبوات في محمد. وأخيراً أخذ الكتاب المقدس معه للبيت وأراه لخاخا وتوسَّل إليه أن يسمح له بالمداومة على درسه حتى يستطيع أن يكتب ما يدحض المسيحية، فسُرّ خاخا بذلك وأعطاه إذناً بالدرس. فاستطاع سعيد أن يدرس الكتاب المقدس علناً.
وكان كلما زادت دراسة سعيد، وزادت معرفته بالقس يوحنا، ولاحظ أخلاق المسيحيين، أخذت الشكوك تثور في فكره عن إيمانه الإسلامي. وذات يوم وهو ذاهب لصلاة العِشاء في المسجد، خطر بباله خاطر مريع «ماذا لو كان محمدٌ ليس النبي الحقيقي؟». وهزَّه هذا الخاطر التجديفي الشنيع بعنف، فشعر أنه نجسٌ حلَّت عليه اللعنة، فأسرع إلى المسجد راجياً أن يغسل نجاسة فكره بالوضوء، لكن قلبه لم يجد سلاماً. وعاد إلى البيت، وآوى إلى فراشه مبكراً، لكن النوم لم يواته، فقام أخيراً مصمماً أن يضع حداً نهائياً للأمر، فأشعل ناراً وأخذ بملقط قطعتي جمر من الفحم، ووضع جمرة على أحد ساقيه ثم على الأخرى. وكان الألم شديداً مبرحاً، لكنه لم يكفّ حتى تتعمق الجروح. ولما شُفيت جروحه نهائياً ظلت آثارها باقية. وكان قد أحرق أحد ساقيه ليذكر العهد الذي قطعه على نفسه أن لا يتكلم مطلقاً مع أي مسيحي في الدين المسيحي، وأحرق الساق الأخرى ليذكر تصرُّفه المشين في شكه في إيمانه الإسلامي. وأحرقهما كليهما ليتجنَّب ارتكاب مثل هذا الذنب الفظيع في المستقبل. وهذا يتفق مع العادات والتقاليد الكردية التي تقضي أنه عندما يقطع الإنسان عهداً عليه أن يترك أثراً في جسمه يذكّره بحفظ ذلك العهد.
أما وقد صمَّم على عزمه وختمه بجروحه فقد أرسل إلى القس يوحنا يخبره أن ضغط الأعمال عليه لا يسمح له بمواصلة إلقاء الدروس عليه. لكن ذلك لم يُرح بال سعيد، فقد ظلت شكوكه تشتدّ. لقد شُفيت جروحه لكن قلبه لم يُشفَ. وذات ليلة وهو راجع من المسجد خرّ بوجهه على الأرض في زاوية مظلمة وتوسل إلى الله بدموع أن ينقذه من تعاسته ويهديه إلى الطريق المستقيم. وإذ كان يصلي بدأ الثقل يرتفع عن قلبه وصمم أن يدرس الكتاب المقدس والقرآن معاً، ويستأنف دراساته مع القس يوحنا. وواظب على هذا عدة شهور، كان فيها يدرس الكتاب المقدس بإرشاد القس يوحنا، ويدرس القرآن مستعيناً بالتفاسير. ولكنه لم يجد في القرآن ما يروي ظمأه.
وإذ كان سعيد يصرف وقتاً أطول مع القس يوحنا صار خاخا يشك في الأمر، فوبَّخ سعيداً بكلام قاس. كان يفاخر بنبيِّه محمد ويتكلم بسخرية على المسيحيين. ويوماً ما ضرب خاخا سعيداً وكسر عليه الكثير من العصي، حتى وقع سعيد على الأرض من شدة الألم، وقبّل التراب تحت قدمي خاخا.
لكن لم يمض وقت طويل حتى عاد سعيد يجلس مع القسيس حزيناً لسماعه بقُرب موعد رحيل القسيس. وفجأة رنّ في قلبه كلام إشعياء النبي «قُومِي ٱسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ» (إشعياء ٦٠: ١). ظلت هذه الكلمات تتردد في داخله حتى ملأت السعادة كل كيانه. ولما سأله القس يوحنا عن سبب فرحه أخبره سعيد بالأمر، وبعد تقديم صلوات شكر قال القسيس: «افرح وتهلل لأنك قد وجدت نعمةً عند الله».
وبعد أيام قليلة رحل القس يوحنا، بعد أن حثَّ صديقه على المواظبة على الصلاة باجتهاد حتى لا يُجرَّب بالارتداد عن إيمانه الجديد الذي وجده، فإنه عندئذ يكون خيراً له لو لم يقبل المسيحية قط. ولم ينس سعيد مطلقاً هذا الإنذار.
وجد سعيدٌ نفسه وحيداً ووقع في حيرة مربكة. هل يعترف بإيمانه الجديد؟ ربما يؤدي هذا به إلى الموت. هل يلجأ إلى الهروب؟ من الصعب عليه أن يفعل ذلك. وأخيراً قرّر أن يحل مشكلته بالرياء والمواربة، فكان يصعد إلى المئذنة ويؤذّن للصلاة، وبعد أن ينادي «أشهد أن محمداً رسول الله» يصلي بصوت منخفض «اللهم سامحني». ثم ينزل إلى المسجد ويشترك في الصلاة مع المصلين، وإنما عوضاً عن تلاوة العبارات المفروضة في الصلوات عند الركعات كان يتلو بصوت هامس الصلاة الربانية وقانون الإيمان الرسولي. لكن هذه الحياة المزدوجة حطمت قلبه المخلص.
عند ذلك لم يستطع أن يحتمل الأمر. وكان له صديق حميم اسمه فيض الله. وفي يوم جمعة بعد انتهاء الصلوات جلس سعيد وفيض الله معاً، وأخبر سعيدٌ صديقه بإيمانه الجديد، وظلا يتحدثان معاً يوماً بعد يوم، وظل فيض الله يحاول أن يُعيد صديقه إلى الإسلام. ولما لم يجد جدوى في ذلك، حاول أن يبهجه بتحويل أفكاره إلى أمور أخرى، فدعاه مع عدد قليل من الأصدقاء إلى حديقة والده. وبينما كانوا يُعِدّون الشاي بدأ الشباب يُطرِبون أنفسهم بالأغاني، لكن سعيداً لم يطرب بشيء منها. وأخذ خبزاً وخرج إلى بستان الكرم ومضى يصلي، ثم أكل الخبز وقطف بعض حبات العنب وتأمل في موت المسيح، وكان هذا أول عشاء رباني يتناوله.
وصار يبوح بسره شيئاً فشيئاً لأصدقائه الآخرين. ولم يكن يواجه خطراً خاصاً في هذا لأنهم لم يريدوا أن يفضحوه. إنما جاءه الخطر من ناحية أخرى، فقد سأله طبيب يهودي عما إذا كان يريد أن يتعلم اللغة العِبرية كما يتعلم السريانية، فأجاب بالإيجاب. وبذلك تمَّ الاتفاق على أن يقوم بتعليم أولاد الطبيب اللغة الفارسية ويقوم الطبيب بتعليمه اللغة العبرية. وكان للطبيب أصدقاء كثيرون من اليهود كان لسعيد حديث ديني متواصل معهم. ولما لم يستطيعوا أن يُفحموه بإجاباتهم غضبوا وأذاعوا أن سعيداً أصبح مسيحياً. وسرعان ما انتشرت الإشاعة وبدأ الناس يشتمونه في الشارع ويقولون عنه «هذا هو الملعون». ولم يبق أحد يرثي لحاله في المدينة سوى عدد قليل من أصدقائه المقرَّبين وبعض الكاثوليك.
في تلك الأيام عاد تاجر كاثوليكي تقي من رحلة له إلى روسيا، فذهب سعيد لزيارته، لأن التاجر كان صديقاً للقس يوحنا. وأخبره سعيد بإيمانه الجديد. فسأل التاجر سعيداً إن كان مستعداً أن يواجه الأخطار التي ينطوي عليها أمر اهتدائه، فأجابه سعيد أنه لا شيء يمكن أن يجعله يترك المسيح، ولو أدى الأمر به أن يموت شهيداً. عند ذلك أهداه التاجر بعض الكتب، ومن بينها كتاب الدكتور فاندر «ميزان الحق» الذي كُتب لدحض الإسلام وتُرجم إلى اللغة الفارسية. وكان عليه أن يقرأ هذه الكتب خُفية لئلا يجدها خاخا.
ولم يكن سعيد إلى ذلك الوقت قد أخبر أخاه بأنه غيّر إيمانه ودينه، ولكن بما أنه لم يعُد يتلو الصلوات أو يقرأ القرآن، أدرك خاخا أن تغييراً هاماً قد حدث. وبالتغني والتباهي عن محمد والكلام عن «المسيحيين الكلاب» والتهديد والضرب أجبر خاخا وأصدقاؤه سعيداً على العودة إلى ممارساته السابقة. ومرة حاول سعيد أن يهرب من المدينة، ولكن الأمر عُلم وفشلت خطته.
وذات يوم أرسل رئيس المُلاّ في المدينة إلى سعيد يطلب إليه أن يحضر لمقابلته ومعه الكتاب المقدس ليريه بعض الفصول التي له إلمام بها. وبعد فحص الكتاب المقدس صرّح أنه لا يجد فيه شيئاً يجعل المسلمين أن يكرهوا المسيحيين. وقد سُرّ سعيد بذلك جداً لكنه ارتكب غلطة فظيعة إذ سلمه كتاب «ميزان الحق». وأثار الكتاب غضب المُلاّ وغيّر موقفه فوراً، فكتب تكذيباً قُرئ في المسجد الرئيسي يعلن فيه أن الشاه طلب منه أن يفعل ذلك. لكن رئيس المُلاّ كان رجلاً لطيفاً فعمل على حماية سعيد من المتعصّبين المحليين.
حلّ فصل الشتاء وواجه سعيد في بلده كل ما يستطيع أن يحتمله. وذات يوم حينما كان خاخا وسعيد وأحد الجيران جالسين حول المدفأة بدأ سعيد يقرأ من كتاب إسلامي عن ميلاد محمد والمعجزات التي صاحبته. ولما أخذ خاخا يذكر بالإطراء والمديح هذا النبي العجيب تجاسر سعيد وقال: «إذا كانت هذه القصص حقيقية، فلا بدّ أن تكون قد أنبأت بها نبوات سابقة. ولهذا يجدر بنا أن نفحص الكتاب المقدس لنرى إذا كانت فيه نبوات عن مجيء محمد». ووافق الجار على ذلك، لكن خاخا استشاط غضباً، وأخذ البندقية المحشوة المعلقة على الحائط وصوَّبها نحو أخيه. لكن الجار تدخّل في الأمر وأخذ البندقية، وانتحى بسعيد جانباً وحذره ورجاه أن يكون أشد حرصاً من ذلك فيما يقوله.
أدرك سعيد الخطر الذي كان يحدق به. ترى ماذا يفعل؟ فكر أن يهرب مرة أخرى، لكنه كان قد حاول الهروب مرتين قبل ذلك وباءت محاولتاه بالفشل. وقد لاحظ عليه خاخا أنه صار حزيناً مغموماً وألحَّ عليه أن يخبره بالسبب. وأخيراً قرر أن يعترف بالأمر، لكن ليس بكلام اللسان، لئلا يهيج أخاه بل بكتابة خطاب، فكتب لأخيه يقول إنه صار مسيحياً منذ وقت طويل وإنه مستعد أن يموت في سبيل إيمانه، ولكن إذا كان خاخا يعفو عنه فهو مستعد أن يكون خادمه بقية حياته. وقد احتفظ بالخطاب في جيبه متردداً أن يسلمه لأخيه.
أخيراً في إحدى الليالي، بيما كان الأخوان وضيف آخر معاً جالسين حول المدفأة بدأوا يتحدثون عن الدين. وتفوه خاخا والضيف بملاحظات لم يستطع سعيد أن يحتملها، فخرج إلى خارج وركع يصلي طالباً معونة الله. وعند عودته أخرج الخطاب من جيبه وسلّمه لأخيه، فقرأه خاخا ثم ألقى به في النار. ورأى الضيف ملامح الغضب على وجه خاخا ففهم مضمون الخطاب وخرج من البيت مسرعاً.
بعد أن أحرق خاخا الخطاب اضطجع الأخوان للنوم، لكن لم يستطع أي منهما أن ينام. أخيراً بدأ خاخا بالكلام وكان كلامه يشتد غضباً مع كل عبارة إلى أن صاح أخيراً:
- «لا يمكن لكلب وإنسان أن يعيشا معاً، فاخرج فوراً!».
فتوسل سعيد: «أين يمكن أن أذهب في ليلة كهذه؟».
- «لا يهمّني».
- «أرجوك أن تسمح لي بالبقاء الليلة، وسأذهب غداً».
صاح خاخا وقد أخذ البندقية: «اخرج أيها الكلب الملعون».
أسرع سعيد ولبس ثيابه وخرج يواجه البرد القارس. طرق على أبواب بيوت أصدقائه الكاثوليك لكنهم خافوا أن يقبلوه. أخيراً قبلته امرأة عجوز كان قد كتب لها عدة خطابات. ولكن لكي لا يسبّب لها المشاكل ترك بيتها في الصباح الباكر وذهب إلى مدرسته منتظراً ما يحدث له.
أما خاخا فقضى ليلته يصرخ إلى الله: «أنت قد أخذت أبي وأمي، والآن قد تركني أخي». واستيقظ مبكراً مثل سعيد، وأخذ بندقيته وذهب إلى حانوتٍ مقابل الكنيسة الكاثوليكية، حيث ظن أن أخاه قضى ليلته فيها. ولما سأله الناس لماذا جاء يحمل بندقيته، أجابهم أن أخاه سعيداً قد ارتدّ، وأنه ينتظره ليقتله. ولما سمعوا ذلك أرادوا أن يقتلوه بأنفسهم. وعلم خاخا أن ثلاثين شخصاً منهم قد تعهّدوا بقتل سعيد. ومع أن خاخا كان متأهباً لقتل سعيد بنفسه، إلا أنه لم يرضَ أن يجعل أخاه يقع فريسة في يد رعاعٍ هائجين.
ذهب خاخا ليتشاور مع امرأة من العائلة كانت معروفة بالحكمة ورقة القلب، فذهبت معه إلى المدرسة حيث أمكنها أن توجِد بينهما نوعاً من التفاهم والمصالحة، فقبل خاخا أخاه في البيت، وهو يعلم أنه قد صار مسيحياً. وكان هذا انتصاراً لسعيد. وذهب خاخا إلى رئيس المُلاّ في المدينة، كما فعل سعيد من قبل، وأخبره بما حدث وطلب نصيحته فيما يفعل، فأجابه المُلاّ: «لا تفعل شيئاً، بل اترك الأمر لي، وأنا أعيده إلى حظيرة الإسلام ببراهين من القرآن».
فلمّا علم المسلمون أن خاخا صار يحمي أخاه أرادوا أن يقتلوا الأخوين. في ذلك الوقت تلقَّى سعيد خطاباً من القس جيمس هوكز المرسَل في مدينة حمدان (وهي تبعد ثمانين ميلاً إلى الجنوب الشرقي) يقول فيه إنه علم في زيارته مؤخراً لمدينة سناج بالخطر الذي كان يواجه المتجدد حديثاً، وطلب منه أن يذهب إليه ليعلّمه اللغة. وتوسل سعيد إلى خاخا أن يسمح له بذلك. وبعد تردد كثير سمح له أخيراً بالذهاب. ورسما خطة أن يسافر سعيد مع القافلة المتوجهة إلى حمدان، والتي ستبدأ رحلتها من خارج المدينة في منتصف الليل. واتفقا أن يحمل خاخا حاجيات أخيه إلى مكان معين خارج المدينة ليسلّمها له. وحمل خاخا أمتعة سعيد القليلة والتقيا في المكان المتفق عليه. ولما وصلا إلى نهر صغير كانت قد ملأته أمطار الربيع سارا على شاطئه، فحمل خاخا أخاه على كتفيه وعبر به المخاضة. فكان هذا العمل وحده أشد أثراً في إعادة العلاقات بين الأخوين أكثر من كل شيء آخر. ولحقا بالقافلة عند الغروب وودع كل منهما الآخر بسلام.
بدأت القافلة مسيرها حوالي منتصف الليل، وواصلت سيرها إلى شروق الشمس، وكان سعيد قد بدأ يشعر بالأمان، وإذا بآماله تتحطم وتنهار عندما رأى خاخا ومعه اثنان من أصحابه، جاؤوا ليُرجِعوه. وقال خاخا إن المدينة قد انقلبت، والناس هائجون يطلبون عودة سعيد، ويهددونه بتدمير بيت العائلة. ولكن سعيد تصلب وقال: «اقتلوني هنا إذا شئتم، لكني لا يمكن أن أرجع إلى المدينة». ولما رأى خاخا أن كل جهوده في إقناع أخيه قد فشلت احتضنه وودعه ورجع. ومضى سعيد مع القافلة التي وصلت إلى حمدان بعد خمسة أيام. وكان ذلك عام ١٨٨١.
هناك بدأت حياة جديدة لسعيد. أصبح الآن حراً من المسلمين المتعصبين في بلده، وكان يسكن في مكان أمين في بيت المرسَل، وبدأ يتعرّف على عدد من المهتدين من الأرمن واليهود. وطلب أن يعتمد، ولكن القس هوكز والأرمن نصحوه بأن ذلك ليس للخير في الوقت الحاضر لئلا يثير المسلمين في تلك المنطقة. وفي تلك الفترة تعيّن شقيق الشاه حاكماً لحمدان، وكان دكتاتوراً قاسياً. وخاف الأرمن من أن اعتراف سعيد علناً بالمسيحية يثير عليهم المتاعب والقلاقل، فأشاروا عليه أن يتبع التقاليد والعادات الإسلامية، ويحلق رأسه، ويلبس العمامة مرة أخرى، وكان قد ترك هذه منذ هروبه.
في خريف أول سنة قضاها سعيد في حمدان، وصل من أمريكا طبيب مرسَل اسمه الدكتور «ي. و. ألكساندر» ومعه زوجته ليمارس مهنة الطب في تلك المدينة، وصار سعيد مترجِماً ومساعداً له بسبب إتقانه للّغة الإنكليزية. وكان اتصاله بالمرسلين وغيرهم من المسيحيين ودراساته مع القس هوكز وملازمته الاجتماعات المسيحية سبباً في نموه روحياً. وإنما أحزنه أن عدم تعميده حرمه من تناول العشاء الرباني، ولو أنه قاسى في سبيل إيمانه أكثر مما قاسى أي شخص آخر من المسيحيين.
وبعد أن قضى نحو سنتين ونصفاً في حمدان تهلل قلبه عندما حضر لزيارته خاخا الذي بدا وكأنه قد فقد روح التعصب، وصار ينظر إلى تجديد أخيه سعيد كأمرٍ نهائي لا يتغيّر. وكان للأخوين فرص كثيرة للحديث والبحث عن الدين بروح ودية قبل عودة خاخا إلى بلده.
بعد فترة أخرى من الزمن قرر خاخا أن يزور حمدان للمرة الثانية. باع بيته وأظهر أنه ذاهب ليأخذ سعيداً إلى مكانٍ يتوب فيه ويرجع إلى الإسلام. وقد شك بعض الناس في نياته، ولكي يعيقوه عن السفر قدموا له فرصة أن يكون إمام المصلين في المسجد الذي كان يذهب إليه. وبعد أن سافر قرر المُلاّ أن بيت خاخا مملوك لشخص مرتد، لا يحميه القانون، لذلك يكون بيع البيت باطلاً، ويحل البيت للمسجد. وتحت هذه الظروف أعاد خاخا الثمن للمشتري، فصارت صفقة البيع خسارة كلية للبيت والأثاث.
لما أقام خاخا في حمدان حاول المرسلون إقناعه بأن يقرأ الكتاب المقدس. ولكي يتوصّلوا إلى هذا الهدف كانوا يعطونه نبذة من فصول كتابية لينسخها مقابل أجرة، ولكن عندما كان يصادف عبارات لا يريدها كان يمزّق الأوراق أو يطعنها بالخنجر الكردي الذي كان دائماً في زناره. ولما كان يحدث هذا كان المرسلون يخبرونه أن لا يهتم بمعنى الفصل بل يكتفي بنقله وقبض أجرته. وكان الدكتور ألكساندر، يعيره كتباً ليقرأها من بينها كتاب «ميزان الحق». ولما قرأ الكتاب عرف عن دينونة الله للخطية ورسالة محبة المسيح، وبدأ ذلك يؤثر في نفسه. وكان يذهب إلى المسجد يوماً بعد آخر لكنه لم يجد راحةً في سماع الوعظ. وإنما الذي أثر فيه أكثر هو ما لاحظه من فرق بين تصرف المسلمين وحياة المرسلين والمعلمين المسيحيين. وبدأ يذهب إلى اجتماعات الكنيسة بشيء من الخوف والفزع.
وذات يوم كان أحد المرسلين عائداً إلى أمريكا، فطلب من خاخا أن يرافقه إلى الحدود الإيرانية. وفي الطريق وقع خاخا من على الحصان وكسر ركبته. وفي إثناء عودته إلى حمدان، وهو في دور النقاهة لم يكن يقدر على عمل شيء سوى القراءة، فصار يدرس الكتاب المقدس بغيرة وشوق، وأخيراً تمكن خاخا أن يعترف بإيمانه بالمسيح نهاراً جهاراً بطريقة مؤكدة. وذلك أبهج قلبه وأطربه. لقد أخذ ذلك منه وقتاً طويلاً وعناية دقيقة في الدرس، حتى رفض الإسلام وقبل المسيحية، ولكنه بعد أن اتّخذ قراره لم تكن به حاجةٌ للرجوع عنه.
من هذه النقطة فصاعداً اتخذت حياة الأخوين من كردستان طريقين مختلفين. كان لكل منهما بيته الخاص وعائلته الخاصة، وعمله الخاص، وجدير بنا أن نكتب عن كل واحد منهما فصلاً خاصاً.
ليست هناك تعليقات: