رواية الباكورة الشهية -2
الفصل الثاني
وفي أثناء الكلام كان الشيخ سليمان فاضل ساكتاً، وحين الانصراف ذهب إلى بيته لا يدري أماش هو أم جالس، حتى لطم رأسه عتبة باب دراه، فانتبه ودخل وأحيا كل ذلك الليل وهو يراجع جمل تلك الرسالة، ويردد قضاياها مندهشاً من قوة أدلتها وسداد حججها، فضاق به الأمر. وكان يجلس تارة ويتمشى أخرى وهو يناجي نفسه قائلاً: نعم نعم، القرآن يشهد للكتاب، التوراة والإنجيل، يشهد بصراحة لا مزيد عليها. أن اليهود والنصارى هم أهل الكتاب، ولم يقل قط أنهم حرّفوه أو بدلوه أو أفسدوه حال كونه قد مضى على التاريخ المسيحي مدة ستة قرون. إذا لا ريب هو الآن صحيح وسالم كما كان في عصر القرآن. وإن كان الأمر كذلك فيكون عيسى المسيح لا محالة إلهاً متجسداً مصلوباً فداء عن الخطاة حسب منطوق الكتاب، فكيف الأمر يا سليمان وأين لك المخرج من هذه الدائرة؟ هل دين الإسلام باطل؟ أليس القرآن من الله؟ بلى وإنما ما أعظم الخلاف بينه وبين الكتاب المشهود له منه. كيف يشهد له هكذا ويخالفه هذه المخالفة الكلية؟ إنني سأكشف أمري هذا للشيخ محمود الرافعي، لعله يرشدني إلى حل.وهكذا بقي على هذه الحال منزعج البال حتى مطلع الفجر. فأنهكه السهر والتعب مما قاسى من جهاد الأفكار، وانطرح على متكإه ورقد نحو ساعتين من الزمان، ثم نهض وحمد الله وصلى طالباً منه تعالى الإعانة والهداية. ثم أتى منزل الشيخ محمود فدخل عليه وسلم، وبعد أن جلس التفت إليه الشيخ محمود وقال له: «مالي أراك يا أخي متغير اللون؟» أجابه: «إنني لا أستطيع أن أخفي عن سيدي شيئاً، وأرغب أن أخبركم ما جرى لي الليلة. فإن حسن لديكم دعنا ندخل الجنينة ونتمشى قليلاً». فقال: «حباً وكرامة». وبعد أن دخلا وجلسا تحت إحدى الأشجار، قال الشيخ: «هات، أخبرني أمرك أجاب الشيخ سليمان: «أملي وطيد أن تحتمل مني بحلمك ما سأبديه لديك وتعاملني بالحب الذي أعهده لي عندك من خاصة». قال: «تكلم بحرية يا صديقي، فإني أبغي راحتك وخيرك». فأثنى عليه وقال:
«اعلم يا سيدي إني لم أذق الليلة طعم المنام حتى الصباح، بل صرفت ليلي بمراجعة قضايا تلك الرسالة التي وقفنا عليها أمس مذهولاً من قوة أدلتها ومتانة حججها، وقد اجتهدت نفسي عبثاً في إيجاد مخرج شرعي منها. وإذ قلقت نفسي من ذلك كل القلق رمت التخلص من التأمل والتفكر فيها، فلم أفز بذلك، بل خيل لي أن صوتاً غريب القوة يقرع أذني بدون انقطاع يدعوني للاقتناع بتلك القضايا المدونة فيها. وكأني أرى فيها حبالاً متينة جداً رابطة ذهني تجذبه ولم أرقد حتى الفجر. وبعد التفكر طويلاً قلت أقصد سيدي وسندي الشيخ محمود عله يفرج كربتي ويريح فكري».
فتوقف الشيخ محمود عن المجاوبة هنيهة، ثم التفت إلى الشيخ سليمان وقال: «يا أخي، إن المسألة التي جالت في خاطرك هكذا وأزعجتك هي أعظم المسائل وأهمها، وتستوجب التأمل. ولا ريب أن ما جرى لك بسببها من القلق والانحصار هو من عناية الرحمن، فكن براحة واصغ لمقالي. أن تعلم يا أخي انشغافي بكلام الله وانصبابي الزائد على تلاوة القرآن. فحدث إذ كنت أتلو بعض سوره بقلب خاشع متصدع. عثرت على آية في سورة الأنعام جعلتني مدهوشاً ساعة من الزمن، لأني قرأتها مئات من المرات ولم أنتبه إليها حتى الآن، وهي: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ» (سورة الأنعام ٦: ١٥٦) أي أنزل على طائفتي اليهود والنصارى، فقلت لنفسي: كيف يسوغ لنا إذا التغافل هكذا عن درس كتاب الله؟ ثم نبهتني هذه الآية إلى آيتين أخريين في سورة المائدة وهما: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ. قُلْ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» (سورة المائدة ٥: ٦٦ و٦٨) فخفق فؤادي لدى تأملي بهذه الآيات المهمة، والتهب قلبي شوقاً لذلك الكتاب الجليل والاطلاع عليه. ومن ثم قصدت يهودياً فاشتريت منه نسخة من التوراة، ولم أطلبها من مسيحي لفكري أن المسيحيين حرّفوها وفقاً لمعتقدهم بلاهوت عيسى وصلبه كما هو شائع بين المسلمين. واشتريت إنجيلاً من مخزن الكتب، وأخذت بمطالعتهما بكل رغبة ولذة وبالمقابلة بين التوراة والإنجيل مستعيناً في ذلك بمؤلف جليل يسمى «مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين» استعرته من بعض أصدقائي المسيحيين فوجدتهما بالحقيقة ينطبقان بعضهما على بعض انطباقاً يصيرهما كتاباً واحداً. ففهمت حينئذ سبب تسميتهما في القرآن «الكتاب» لا الكتابين لأن روحهما واحدة. ثم أخذت بمقابلتهما مع القرآن، فرأيت القرآن يوافق الكتاب من وجه ويخالفه من وجه آخر. أما وجه الموافقة فهي من جهة الحبل بالمسيح من دون رجل، وحياته الطاهرة، ومعجزاته البديعة، ونسبته على نوع ما لله أنه روح الله وكلمته لأن الإنجيل ينص هكذا، ولا خلاف بينهما إلا بنسبة لله خلاف جزئي، باعتبار آيات الكتابين، لأن القرآن يقول عنه روح الله والإنجيل ابن الله. وأما وجه الخلاف فهو في لاهوت المسيح وموته وكفارته.. الخ.
عند ذلك اضطربت نفسي وانزعجت روحي من هذا الخلاف العظيم، حتى انتحل جسمي وصرت كمن اعتراه مرض مزمن، إلى أن زارني يوماً استاذي المرحوم الشيخ رشيد الكيلاني، وبناء على ما أعهده من رقة أخلاقه وكرم طباعه رأيت أن أكشف له الأمر، إذا سنحت لي الفرصة. وبعد أن جلس قلت: «أرغب أن أستفيد من سيادتكم عن سؤال: أين التوراة والإنجيل اللذين يشهد لهما القرآن الشريف؟ أجاب: «اعلم يا ولدي أن خلاصة التوراة والإنجيل محوية في القرآن». قلت: «نعم إن القرآن يحوي جملاً برمتها من ذلك الكتاب، ولكن ذلك لا يروي غليلاً، فأحب الوقوف على الأصل». قال: «إن الأصل قد أفسده اليهود والنصارى بتحريفهم إياه، فقد اختلف علماء اليهود في الرأي والمعتقد، فحرّف كل منهم شيئاً من التوراة حسب هواه ومذهبه، والنصارى زعموا أن عيسى ابن مريم إله، وأن اليهود قد أماتوه صلباً، وأنه بموته هكذا قد محى خطايا أمّته، فحرّفوا الإنجيل تحريفاً يوافق زعمهم». قلت: «وهل يحرّف اليهود توراتهم تحريفاً يوافق زعم النصارى وإنجليهم المحرّف»؟ قال: «كلا». قلت: «إذا ما معنى تلك النبوات العديدة في توراتهم المنبئة عن عيسى المسيح إنباءات جلية توافق بالتمام زعم النصارى وإنجيلهم، وعلى الخصوص الأصحاح الثالث والخمسين من إشعياء حيث قيل «لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَاّزِيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ ٱلضُّغْطَةِ وَمِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْماً، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ» إلى أن يقول: «بَمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ ٱلأَعِّزَاءِ وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ». وقس على ذلك كثيراً من النبوات المشخصة عيسى بن مريم كإله وإنسان فادي الخطاة بدمه تشخيصاً يطابق الإنجيل ويوافقه من كل وجه. فإذا كان اليهود غير محرّفين توراتهم تحريفاً يوافق زعم النصارى وإنجيلهم المحرّف، كما قلتم سيادتكم، فكيف إذا يوجد فيها مثل هذه النبوات التي تنطبق هكذا على الإنجيل انطباقاً يصيرهما كتاباً واحداً؟ نعم كتاب واحد كما يشهد القرآن الشريف بقوله: «إن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا الآية». الذي يبين عدم تحريف النصارى إنجيلهم، وإن معتقدهم بالمسيح ابن مريم مبني على أسس راسخة ومتينة، فكيف التخلص يا مولاي من هذا المشكل والخروج من هذه الدائرة؟» فصمت الشيخ برهة، فنظرت إليه فإذا هو عابس مقطب الجبين، يلوح على وجهه لوائح الغيظ الشديد، ثم قال بصوت غاضب: «أراك يا محمود تميل جداً إلى دين النصارى السقيم، بل كأنك صرت نصرانياً. فهل تترك دين الله الإسلام؟ ويحك كن على حذر من ذلك. ولا تخسر نفسك دنيا وآخرة».فلما رأيت منه ذلك بخلاف المعهود من حلمه ورقة أخلاقه أخذتني الحيرة، فقلت بقلب قد خامره الخوف: «حاشا يا مولاي أن أترك الصراط المستقيم، إنما رغبتي في الإفادة من سيادتكم عن مثل هذه الأمور كي أقدر أن أدفع بعدل هجمات النصارى الدينية، وهل يليق بنا أن نكون أضعف من علماء النصارى وأقصر باعاً في ميدان البحث والمحاورة؟» قال: «كلا، بل كأبطال نثبت في ميدان المحاورة والمناظرة هجوماً ودفاعاً، محامين عن شرف ديننا حق المحاماة من وجهين. الوجه الأول هو أن النصارى يشركون بالله، إذ يجعلون له ابناً مساوياً له في الأزلية والقدرة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، الذي لم يلد ولم يولد ولم يلد ولم يكن له كفواً أحداً. والوجه الآخر المناقضات الكثيرة في كتابهم، فإنك ترى آية تناقض آية وقصة تناقض قصة. ألم تطلع على كتاب «إظهار الحق» لرحمة الله الهندي؟ طالعه وتأمله جيداً فترى ما أفسد الديانة النصرانية وما أحق وأبهى الإسلام. فأنت يا محمود بسيط القلب سريع الانخداع، فانتبه واحذر ولا تضل مع الضالين» . أما أنا فلما لحظت شدة انفعاله من حديثي أمسكت عن الكلام. ثم بعد برهة قام وخرج من عندي فشيتعه إلى خارج الباب وقبلت يديه مرتين متوسلاً إليه ألا يؤاخذني بما قد تجاسرت به، فأجابني بالإيجاب. ثم انفردت في مخدع وأخذت بالصلاة لله بدموع غزيرة طالباً منه تعالى أن يرشدني ويريحني، وانعكفت أكثر فأكثر على درس الكتاب، ولكن بقلق وخوف ليسا بقليلين. فكنت بالنظر إلى هذه الحال كفلك صغير تتقاذفه الأمواج لا أعرف ماذا أعمل، حتى جرى ما قد جرى من ورود هذه الرسالة واجتماعنا في منزل الشيخ علي، فلاح على قلبي فجر صباح مبارك. أسأل الله وهو أكرم مسئول أن يعقبه ببزوع شمس ساطعة النور. ثم سكت وكانت عيناه الحادتان مغرورقتين بالدموع، فأثر ذلك وأي تأثير في الشيخ سليمان الذي كان يسمع الحديث بكل إصغاء ووقار. ثم بعد أن لبثا برهة صامتين قال الشيخ سليمان: «الحقيقة أن أمرك هذا يا سيدي لأعظم مما أنا فيه، وإني لأحمد الله الذي قادني إلى كشف أمري إلى رجل قد حصل له فوق ما حصل لي. حقاً أن الملاحظات الجيدة التي لاحظتموها سيادتكم في الآيات القرآنية بخصوص المسيح والكتاب من النادر جداً أن يلاحظها مسلم من دون اشتباكه مع علماء المسيحية في حديث كهذا، أو من دون اطلاعه على بعض تأليفهم بهذا الشأن. فهلم الآن سيدي إن شئت نخوض قليلاً في حديث لا أرى ألذ ولا أهم منه. فقل لي: هل ظهور تلك الشبهات في الكتاب يوجب طرحه؟ قال: «كلا، ولكن يا ترى ما سبب ظهور هذه الشبهات؟ أهو عارض أم جوهري؟» أجاب الشيخ محمود: أرى أن بعضه عارض والآخر أصيل. وأرى أن الأصيلات ليست في الحقيقة مناقضات ولكنها تظهر هكذا لغير المتعمقين في الكتاب، وذلك ناشئ طبعاً من تباين أزمنة كتابة أسفاره، واختلاف عوائد تلك الأزمنة، وتباين عوائد كل من المكتوب إليهم تلك الأسفار من نساخ الكتب في القديم وهو ما لا يعتد به، ولا يؤثر البتة في صحة الكتاب وغايته. وأما القضايا ذات الأهمية فيه فلا يرى فيها شيء من التناقض، بل هي متفقة متحدة معاً كحلقات سلسلة واحدة من معدن واحد. وماذا تفتكر: ألا يوجد في القرآن مناقضات؟ بلى، يوجد شيء من ذلك، بل عدد وافر، بعضها في القضايا ذات الأهمية كما لا يخفى ومع ذلك لا ينبذه العلماء إذ ينسبون ظهور ذلك إلى عدم فهم الإنسان كنه الكتاب، فكم بالحري لا يسوغ نبذ الكتاب المقدس بناء على ظهور بعض الاختلافات في جزئياته، وله من الأدلة والبينات الراهنة ما يكفي للاقتناع بأنه كتاب الله؟
صدقت يا سيدي وشهادة القرآن للكتاب في القرن السادس للتاريخ المسيحي جديرة أن تقود الأمة المحمدية لاعتبار سلامة التوراة من التحريف والتغيير، إذ أن تحريف الكتاب في ما بعد بعيد الإمكان كما يزعم صاحب الرسالة هذا، والعقل لا يسلم أن الله القادر لا يحفظ كتابه العزيز من الخلط والإفساد، بل ما يرتاح إليه العقل هو إن كان الله جل شأنه أنزل كتاباً إلى خلقه لا بد أن يبقيه سالماً صحيحاً إلى نهاية العالم، شاهداً لكمال عظمته تعالى وجوده غير المتناهي. وأما الكتاب المنسوب لرحمة الله الهندي «إظهار الحق» الذي يتسلح به كثيرون ضد الكتاب فالأحرى به أن يوسم «بإخفاء الحق» لا إظهاره، لأنه عدا خلوه من روح الإخلاص والتقوى يرى بأقل تبصر أن غايته الهدم لا البناء: وهو لا يضرب قط على أركان الكتاب وأساسه بل على شرفاته كما يشير صاحب الرسالة، فيرغب في أن يقنعنا بكونه محرّفاً ومفسداً بناء على تباين شرفاته واختلاف ألوانها، ولكنه لا يوجد فيه البتة بينة على ذلك تقوم بإزاء الأدلة الراهنة والبينات القاطعة على صحة سلامته. ولا يخفى أن المبدأ الذي اتخذه هذا المؤلف لبيان فساد الكتاب إذا فرضنا صحته لزمنا الإقرار بتحريف القرآن أيضاً، فهو بذلك أشبه بمن يقصد هدم بيت إنسان لزعمه أنه سقط لا يصلح للسكن ولا يبني له آخر، بل إن سلم له يفعل ويتركه بدون مأوى. فلا أرى غاية هذا الكتاب إلا هدم المعابد ومحو آثار الدين عن وجه الأرض (وقى الله كتابه ودينه من كل آفة) وقد نوهت في ما تقدم أنه لم يتعرض قط لإفساد البراهين الراهنة التي بها يحامي أمة النصارى عن كتابهم التي منها:
- (أولاً) نجاح الإنجيل في العالم وتغلبه على عناصر قوية جداً بدون مداخلة القوة العالمية والحكمة الإنسانية.
- (ثانياً) وجوده بلغات عديدة بأيدي أمم مختلفة العوائد والمذاهب بدون فرق يعتبر في قضاياه الجوهرية وغايته.
- (ثالثاً) وجود نسخ خطية وافرة العدد قديمة العهد جداً طبق النسخ الحالية.
- (رابعاً) مطابقة التوراة والإنجيل مطابقة تعتبر كما ذكرتم سيادتكم حال كون كل منهما بيد طائفة عداوتها للأخرى أشهر من نار على علم. إذا هذا المؤلف إسم بلا مسمى، لا يستحق شيئاً من الاعتبار من أهل الدين على الإطلاق.
قال الشيخ محمود: «نعم إن المسيح في الكتابين فرد عجيب، والمستغرب كثيراً عدم ملاحظة علماء المسلمين ذلك في القرآن وهم يتلون سوره. فإني قرأته أكثر من خمسمائة مرة حتى استظهرت أكثره ولم أنتبه في أثناء ذلك إلى هذا الأمر الخطير، وقط لم أكن مغرماً بعيسى قدر عشر غرامي بمحمد، مع أنه هو الموضوع الجوهري في الكتابين، والمحور الوحيد الذي عليه تدور كل أقوال الله، بل هو كالمركز الشمسي تدور حوله الكواكب مستمدة النور منه. فلنتشجع يا صديقي ولنتكلم بحرية بشأنه في الجلسة القادمة، ولكن ليس على سبيل الخبر أولاً، بل على سبيل السؤال والمخابرة. وليبارك الله اجتماعنا وليشرق نور حقه على أذهان أصحابنا كافة وأرى الأنسب لنا أن ندعو السيد عمر الحارس ونطلعه على أفكارنا هذه، ونأخذ رأيه في ذلك، فإني أثق به جداً لأنه إنسان مستقيم عاقل حسن الطوية، وهو صديقي منذ حداثته وقد أطلعته قبلاً على بعض أفكاري بخصوص الكتاب، فسر بذلك كثيراً. وهو يتكلم باعتدال وإخلاص، ولا يتكلم بخلاف ما في قلبه، لعله يكون عضداً لنا في هذه الجلسة والخيط المثلوث لا ينفصم». قال الشيخ سليمان: «أحسنت». فأرسل للحال للسيد عمر فدعاه، وبعد السلام وترداد التحيات قصّا عليه ما كان بينهما من الحديث، وما عزما عليه. فبقي ربع ساعة لم يفه بكلمة وعلى وجهه لوائح الذهول والتحفظ، فقال له الشيخ محمود: «قد دعوناك لنبدي لك أمرنا لعلمنا بما عندك من الإخلاص والاستقامة، وإنك تحامي عما يبدو لك من الحق بكل أمانة ونشاط، فما تراه صواباً في قصتنا فاحكم به، وما تراه خطأ فأرنا إياه. وإن شئت كن معنا في الحق وعلينا في الباطل كما هو دأبك». أجاب: «حاشا لك يا سيدي من ارتكاب البطل، غير أن سكوتي ناشئ عن سببين: (الأول) هو تأملي في القضايا التي سمعتها قبل الحكم عليها (والثاني) تبصري في سوء المعاملة التي ينتظر أن تصادف من تمسك منا بهذا الأمر الذي قد تقرر في ذهنكما. وأما ما ذكرتماه فأرى أنه قرين الصواب من وجهين (الوجه الأول) هو الأدلة الراهنة على صحة الكتاب التي لا تترك البتة مخرجاً شرعياً لمنكري صحته (الوجه الثاني) المقاربة الكلية أو بالحري المطابقة المعنية غير المقصودة بين القرآن والكتاب من جهة لاهوت المسيح. أما أنا فإني رجل ضعيف على احتمال المقاومة فاسأل الله المساعدة». وبعد المحادثة ملياً بهذه الأمور وتشجيع بعضهم بعضاً انصرف كل إلى مكانه. وكانوا في كل يوم يخرجون نحو الساعة العاشرة إلى تل خارج المدينة متحدثين في تلك الأمور المهمة إلى أن انتهى الأسبوع.
ليست هناك تعليقات: