قصة خاخا المبشر

بعد أن اعتنق خاخا الإيمان المسيحي وتجدد وهجر كردستان كان عليه أن يجد عملاً مستديماً في بيته الجديد في حمدان. وكان أول عمل قام به هو أن يكون سائساً لأحد المرسلين. وفي تلك الأيام لم تكن هناك عربات، ولا طرق ممهدة للعربات في حمدان، بل كان السفر بين مدينة وأخرى يتم عن طريق القوافل. وكان على من يرغب السفر من مدينة إلى أخرى أن يمتطي ظهر دابة ويسير مع القافلة، أو يمشي إذا أراد المسافرون أن يمشوا على الأقدام. ولذلك اعتاد المرسلون أن يحتفظوا ببعض الخيول، وصار خاخا سائساً لها، إلى جانب قيامه بواجبات أخرى كما يقوم الخدَم. وعندما نرى هذا المُلاّ يقوم بخدمةٍ كهذه يخطر حالاً ببالنا ذاك الذي اتّضع «آخذاً صورة عبد» (فيلبي ٢: ٧).
من هذا العمل الوضيع ارتقى خاخا إلى مشرف على مساكن الطلبة، فقد افتتح القس هوكز مدرسة للبنين كان يأتي إليها أولاد الأرمن من مسافة بعيدة، والتزم الأمر فتح قسم داخلي لهم. ولأنها كانت مدرسة صغيرة، وطلابها قليلين لم يكن عمل المشرف مرهقاً.
وبعد بضع سنوات أُقفلت المدرسة، وتعين خاخا مبشراً. فجال في شوارع المدينة وأسواقها يوزع الكتب والنبذ المسيحية. وكان يجلس في غرفة الانتظار في المستوصف، يتكلم مع المرضى وهم ينتظرون دورهم للدخول إلى الطبيب. وكان يقوم بمثل هذا العمل في المستشفى. ولما كان يمشي في الشوارع كان يسمع كلمات قاسية ولعنات وشتائم من المتعصبين المسلمين، ومرة هجم عليه كردي متوحش حسبه أخاه سعيداً، ولكنه استطاع أن يدافع عن نفسه، وتقدَّم آخرون لمساعدته.
على أن ألذّ عملٍ عند خاخا كان القيام برحلات تبشيرية في القرى المجاورة لحمدان، وكان يرافقه مبشر آخر في بعض الأحيان. وفي أوقات أخرى كانت تذهب معه مبشرة وسيدة مرسلة أيضاً. ولما لم تكن توجد طرق بين قرية وأخرى كان السفر يتم بالركوب على الحمير. وكان الفريق يبدأ عادة في الصباح ويصل غالباً بعد ساعة أو ساعتين إلى قرية أخرى، حيث يجدون بيتاً يمكن أن يقيموا فيه. وفي الشتاء يجلسون حول الموقد. وإن كانت معهم سيدات كانوا بالطبع يحتاجون إلى غرفتين. وإذا جاء صاحب البيت أو آخرون من القرى المجاورة كانوا يتكلمون معهم أو يقرأون من الكتاب المقدس. وإن لم يجدوا أحداً في البيت كانوا يذهبون إلى الشوارع أو إلى الحقول حيث يجدون أناساً يتكلمون معهم. وعندما يحل الليل كان غالباً يأتي بعض الناس إلى البيت الذي يوجدون فيه فيتكلمون معهم، وعادة كان الناس يقابلونهم بشيء من المودّة، ويُصغون إليهم باهتمام، وإنما كان يحدث أحياناً أن يأتي شخص متعصب يحب الجدل ويدافع عن إيمانه، وقد يهدد. وإذا كانت القرية صغيرة كانوا يقضون ليلة واحدة، ثم يتركونها باكراً في صباح اليوم التالي. ولما تكررت الزيارات صار الناس يعرفون خاخا ويرحبون بحضوره.
وفي تجوُّل خاخا في هذه القرى كانت له اختبارات كثيرة طريفة. روى أحد الذين رافقوه كثيراً في هذه الرحلات أنه يوماً ما رأى شخصٌ جماعة الكارزين راكبين في الحقول فنادى: «خاخا! خاخا!» فتوقّفت القافلة حتى جاء الرجل، ودار بينه وبين خاخا حديث قصير. ولما مضى الرجل أفاد خاخا زملاءه أن الرجل سيأتي لمقابلته متأخراً ذلك اليوم ليسمع منه، لأنه آمن بالإنجيل. وقال خاخا لزملائه إن هذا الرجل نفسه، قبل هذا الوقت بسنتين، قد حرم خاخا من النوم ليلة كاملة وهو يهدده بالقتل لأنه مرتد، رغم أن الرجل وقتها كان مندهشاً من عمق معرفة خاخا بالكتاب المقدس والقرآن. لكن خاخا لم يغضب منه بل أخبره أنه يحبه وأن الله أيضاً يحبه، ولكن إن كان مع ذلك يرى نفسه مضطراً أن يقتله فليفعل ذلك. وختم خاخا بقوله: «هذا الرجل الآن واحدٌ من أعزّ أصدقائي».
وفي رحلة أخرى، بعد أن انتهى خاخا من قراءة أصحاح من العهد الجديد وتفسيره لبعض المجتمعين حوله، سأل شاباً كان جالساً بجواره: هل تستطيع أن تقرأ؟ ولما أجاب بالإيجاب سلمه خاخا العهد الجديد. وأخذ الشاب الكتاب، جاعلاً أعلاه إلى أسفل وبدأ يحرك شفتيه دون أن يفوه بكلمة. فظن خاخا أنه أميّ لا يعرف القراءة، يتظاهر بأنه يقرأ. فقال له: اقرأ بصوت عال، فقرأ. عند ذلك سأله: «لماذا تمسك الكتاب مقلوباً؟» فأجاب: «في القرية التي نشأت فيها، لم يكن هناك أحد متعلماً إلا شخص واحد هو المُلاّ، وكان يجمع حوله عدداً منا نحن الأولاد في نصف دائرة ويعلمنا القراءة. ولم يكن معه سوى كتاب واحد، كان المُلاّ يضعه في حِجره، وكان مكاني قدامه مباشرة، فلم أرَ الكتاب إلا مقلوباً، ولذلك تعلمت أن أقرأ بالمقلوب».
في صيف عام ١٩٣٥ لما كان عمر خاخا ثمانين سنة تقريباً جلس هو وسعيد يوماً يستعيدان الذكريات. وقادهما الحديث إلى اختباراتهما السالفة في كردستان. وقال سعيد إنه يريد أن يذهب مرة أخرى إلى سناج، فسأله خاخا: «وماذا تقول عني؟ إني لم أرَ المدينة منذ أكثر من خمسين سنة». في اليوم التالي جاءت مخابرة هاتفية (تليفونية) مستعجلة إلى سعيد، وكان طبيباً في ذلك الوقت، تدعوه أن يذهب إلى سناج للكشف على زوجة الحاكم، وكان قد ذهب لعلاجها منذ أكثر من عشرين عاماً خلت، وكان ميالاً في بادئ الأمر أن يعتذر لأن ذهابه إلى هناك يعني أنه لا يفحص مريضاً واحداً بل مرضى كثيرين يستغرقون طول اليوم، ويشعر أن صحته لا تساعده على ذلك. وأخيراً قبل على شرط أن يذهب مع زوج ابنته الدكتور تتفون، فأرسل إلى أخيه خاخا أن يتأهب للذهاب معهما. وقد فرح خاخا جداً بذلك.
وكم كان سروره عظيماً وهو يزور مدينة صباه ويرى الأماكن الملأى بالذكريات: البيت القديم وقد أصبح خراباً. قبر والديه. المسجد الذي كان يصلي فيه. في أثناء الثمانية الأيام التي قضوها هناك كان سعيد مشغولاً برؤية المرضى، أما خاخا فأُتيحت له فرصة كافية ليتجول ويرى ما يريد، وقد أضافه أهل مدينته وأكرموا وفادته ليلاً ونهاراً. وحيثما ذهب كان يشهد لهم بمنتهى الحرية عن إيمانه المسيحي ويوزع النبذ.
وفي يوم عودتهما إلى حمدان اجتمع عدد كبير من أعيان المدينة في بيت الحاكم لتوديعهما. وأراد أحدهم أن يغيظ خاخا ويسخر منه أمام الحاضرين فسأله: «لماذا تريد أن تعود إلى حمدان؟ امكث هنا معنا وعُد إلى الإسلام فنزوّجك بامرأة فاضلة ونقدّم لك كل ما تريد من المال». فأجاب خاخا: «عندي هِبة الحياة الأبدية. فلماذا أريد غِنى العالم؟ لو ملأتَ أكبر قصر بالذهب وقدمته لي فهذا لا يغريني».
- «لماذا إذاً اضطهدتَ أخاك وطاردته ببندقية لتقتله؟».
- «ذلك كان في أيام جهلي، كما يحدث لك الآن وأنت لا تفهم هبة الحياة الأبدية في المسيح».
هذه كانت كلمات خاخا الوداعية لأهل سناج، وهي اعتراف صريح بإيمانه أمام الذين سبق أن شاهدوه يسعى لقتل أخيه.
بعد عودة خاخا إلى حمدان بوقت قصير أُصيب بشلل استدعى دخوله إلى المستشفى. وبعد عدة شهور شُفي بطريقة عجيبة، ولكنه ظل أصم لا يسمع ولا يستطيع أن يتفاهم مع الناس. لكنه استطاع أن يمشي في الشوارع حوالي ساعتين كل يوم ويوزع النبذ على الناس.
وفي أحد الأيام وهو يمشي كالعادة صدمته عربة وسارت فوقه، وحاول ضابط المرور وبعض الشهود الذين رأوا الحادث أن يقبضوا على السائق. ورأى خاخا علامات الذعر على وجه السائق، فقال للضابط: «اتركه حراً، فهذه غلطتي لأني أصم ولم أسمع العربة». ونتيجة لهذا الحادث ظل يلازم الفراش، ولم تستطع زوجته الطاعنة في السن أن تعتني به في هذه الحالة، فأخذه ابنه الدكتور سعيد إلى مدينة عراق، حيث كان يمارس مهنة الطب واعتنى به حتى توفي في ٧ آذار (مارس) سنة ١٩٤٠ في الخامسة والثمانين من عمره.
كان صمم خاخا عائقاً كبيراً له خصوصاً في أعوامه الأخيرة، ولكنه عمل لنفسه سماعة بسيطة على شكل جرس تتصل بأنبوبة من المطاط يبلغ طولها حوالي قدم، كان يعطيها للشخص الذي يكلمه. وقد ساعده هذا قليلاً. وحدث أن جاءت سيدة أمريكية لزيارة مرسل هناك وجاء خاخا إلى حيث كانا يجلسان. ولم تكن السيدة تعرف شيئاً من اللغة الفارسية، وظنت أن خاخا يعرف الإنكليزية، فبدأت تحدثه بها وخاخا لم يستطع أن يسمع أية كلمة قالتها، لكنه ظن أنها تتكلم بالفارسية فكان يتحدث معها بالفارسية كما بحوار الطرشان! ولم يسجل أحدٌ ما جرى بينهما من حديث، لكن يبدو أنه تم بسرور وفائدة. وقال خاخا فيما بعد: «غريب جداً أن بعض المرسلين يأتون من أمريكا وينفقون سنتين أو ثلاثاً يتعلمون الفارسية، بينما هذه السيدة العجوز لم تقضِ في إيران أكثر من بضعة أسابيع وتتكلم الفارسية بطلاقة».
ربما منحه صَممه بركة خفيَّة، إذ حجب عنه سماع الإهانات والشتائم واللعنات التي كانت تُوجَّه إليه. ولا شك أنه منعه أيضاً من الاشتباك في مجادلات لا طائل تحتها، لكنه كان عقبة متزايدة في حرمانه من الحديث الديني ومن ممارسة عمله الحقيقي، لكنه على أي حال لم يمنعه عن تقديم الرسالة المسيحية للذين كانوا يريدون أن يسمعوا.
وقصة حياة خاخا لا تكمل بدون إشارة إلى حياته العائلية، فإنه لم يتزوج إلا بعد أن استقر في حمدان. وقد تزوج فتاة اسمها «حياة» كان أبواها مسلمَين، وكان عمرها نحو ١٥ أو ١٦ سنة في ذلك الوقت وكانت طالبة بمدرسة الأمريكان للبنات في تلك المدينة. وأثار زواجها من شخصٍ مسيحي بعض المسلمين المتعصبين في حمدان، فاحتجوا للحاكم فوضع أباها في السجن، لكنه أطلق سراحه بعد قليل. وقد برهنت السيدة «حياة» أنها زوجة صالحة وربّة بيت ممتازة.
ومن الصعب أن نجزم متى قبلت «حياة» الإيمان المسيحي. ربما حدث ذلك تدريجياً. ولقد شهد أحد أبنائها أنها كانت على درجة كبيرة من الإيمان قبل أن تعرف المسيحية، وأنه يدين لها بـ ٨٠ في المائة من إيمانه. ولم تعترف قط بإيمانها علناً وهي في حمدان، وربما كان ذلك بسبب المسلمين المتعصبين. ومن الناحية الأخرى كانت تقرأ الكتاب المقدس منفردة، ومع أولادها، وكانت تؤمن إيماناً عظيماً بالصلاة، وتحثّ أولادها على أن يصلّوا. ولما كانوا صغاراً كان اثنان منهم يذهبان إلى المدرسة مع أولاد آخرين من القسم الداخلي في حارة ضيقة بين البيت والمدرسة أربع مرات في اليوم. وكان في تلك الحارة حائط قديم مشروخ مبني من الطين ومعرَّض للسقوط في أي وقت. وكانت «حياة» تخاف لئلا يقع الحائط على أولادها. لذلك جمعتهم ذات ليلة وطلبت منهم أن يصلوا بحرارة حتى يقع الحائط في نصف الليل لما لا يكون أحد ماراً بالحارة. وفي اليوم التالي وجدوا الحائط قد انهار. فاجتمعت الأم مع أولادها ورفعوا صلاة شكر لله.
في أيام «حياة» الأخيرة اضطرت لملازمة فراشها في بيت ابنها دكتور إبراهيم الذي كان قد انتقل إلى طهران بعد موت والده. وكثيراً ما كان الاثنان يتحدثان في الأمور الروحية. ويوماً ما اقترح عليها أنها تحسن صنعاً إذا اعتمدت قبل أن تذهب إلى بيتها السماوي، ووافقت على ذلك. فأسرع يبلغ هذا الخبر لقسيس صديق حتى يرتب أمر عمادها، وقال له: «أرجو أن تسرع في المجيء إلى البيت لأني ظللت أصلي مدة خمسين عاماً طالباً أن تعتمد والدتي، وها هي أخيراً مستعدة للمعمودية». وقد أُجريت المعمودية في اليوم التالي، وهي في التسعين من العمر، وكانت ابنة حفيدتها في الرابعة! وماتت بعد عدة سنين، في سنة ١٩٦٥ في سلام، يملأ قلبها إيمان نقي بمخلّصها.
كان لخاخا وحياة ثمانية أولاد، ستة صبيان وبنتان، وكانت الأم هي التي تولّت تربيتهم، ولكن كان والدهم متشدداً جداً في عدة أمور. مثلاً كان لعب الورق محرماً قطعياً، إذ كان يعتبره لعبة خطرة جداً، والخطوة الأولى في طريق القمار. وكان من الصعب أن يحصل أحد الأبناء على نقود يشتري بها أوراقاً للعب (الكوتشينة) ولو للتسلية، وإذا حدث أن وجدها والدهم مرة، كانت الأوراق تختفي ولا تعود للظهور مرة أخرى. ومرة حاولوا أن يخدعوه بمهارة فصنعوا بأنفسهم أوراقاً للعب (كوتشينة) من ورق مقوى، ولكن حالما عرف عنها، اختفت كما اختفى غيرها من قبل.
بعد الحرب العالمية الأولى، بدأت الروايات الأوروبية تُترجَم إلى اللغة الفارسية، ووجدت سبيلها إلى الأسواق الإيرانية، وصار أبناء خاخا مثل غيرهم من أصدقائهم يستعيرون هذه الكتب وتعرَّفوا إلى مؤلفات دوماس، وفيكتور هيجو وجورج ساند، ودستوفسكي وغيرهم. فلما رأى خاخا أبناءه يقرأون هذه الكتب ارتاب في الأمر، وإذ لاحظهم يلتهمون كتاباً بعد آخر هاله الأمر وتعجب ساخراً قائلاً «يا للعيب!» وحاول أبناؤه أن يخفوا الكتب بين غيرها وسط الرفوف، ولكن سرعان ما كان يكتشفها، ولكن بما أنها مستعارة من مكتبة، لم يستطع خاخا أن يدمرها. ولأنه لم يكن يعرف محتوياتها أراد أن يقرأها خلسة، ولكن حدث مرة أو مرتين أن جاء الأولاد فجأة وضبطوه يقرأ أحد هذه الكتب الخطرة، وكان ينظر إليهم بابتسامة تنمّ عن خجله. وهم بدورهم كرروا كلمته المشهورة «يا للعيب!» وأضافوا «قراءة حقيرة لعقلية كبيرة». وبعد أن اكتشف ما في هذه الكتب صار يقرأ بعضها بصوت عال للعائلة في سهرات المساء.
صار ثلاثة من أبنائه أطباء واثنان معلمَين، ذهب أحدهما فيما بعد إلى أمريكا وانضم إلى أسرة «صوت أمريكا» عدة سنين. وزاول أحد الأطباء مهنته في الولايات المتحدة، وكتب سيرة عمه «الدكتور سعيد» والتي تُرجمت إلى خمس لغات من لغات الشرقين الأوسط والأقصى، وأحد أحفاده عمود من أعمدة الكنيسة الإنجليكانية في أصفهان.
لقد صار خاخا المُلاّ المتكبر على جانب كبير من التواضع. عندما كان يتكلم عن نفسه كان يتكلم بإنكار ذات فجسَّد في حياته تعليم المسيح الذي حضّ أتباعه أن يصيروا مثل الأولاد. لقد نال الطوبى الأولى بكل تأكيد لأنه كان «مسكيناً بالروح». ومع تواضعه كان يتميز بما للأطفال من ثقة. كان مخلّصاً لا غش فيه، وكان لا يشك في الآخرين. قبِل الناس على ما كانوا يظهرون به، ولم يهتم بفحص بواعثهم. وقال أحد أولاده إنه لا يذكر أنه سمع أباه يوماً ما يتكلم كلمة قاسية عن أحد.
صفة أخرى تميَّز بها خاخا هي تصميمه بالنسبة لمن يحبهم وعناده بالنسبة لمن لا يحبهم. عندما كان يضع خطةً لأسفاره كان يتمّمها بدقّة تامة، وصفتها إحدى المرسَلات بقولها: «قلت له: هذه الطريق توصّلنا إلى مدينة كذا، بها سيدتان يهمّني أن أزورهما. فقال: لا يمكن أن نذهب إلى هناك في هذه الرحلة. فقلت: ولكني وعدتُهما بزيارة في مثل هذا الوقت! فقال: لكننا اليوم ذاهبون إلى بلد أخرى». وهكذا كان ينفّذ برنامجه بدون أي تغيير. وكان غالباً يفعل ذلك لشعوره أن الروح القدس يقوده عند وضع خطته. وعندما اتَّخذ قراره بقبول المسيح لم يتحوَّل ولم يتبدل في قراره، بل ظل متمسكاً به إلى النهاية دون تردد، رغم كل ما قابله من اضطهادات.
وكان إيمانه مصحوباً بالغيرة الشديدة للكرازة، فبعد أن قبل الإيمان بالمسيح شعر أن واجبه الأول هو نشره، لأنه رأى ضرورة مشاركة الآخرين في أهم شيء عنده. وكان يسعده أن يروي قصة تجديده واهتدائه واهتداء أخيه، وكان للقصتين تأثير عميق. وحالما أُخلي سبيله من كل الواجبات الأخرى وتعيَّن كارزاً يحمل البشارة ويذيع الأخبار السارة، كرس نفسه تماماً لهذا العمل. ولم تثبط همّته اللعنات ولا التهديدات عن توزيع النبذ في الشوارع. وكانت الرحلات التبشيرية نبعَ فرحٍ لحياته، وكان يتطلع إليها بشوق. وعندما كان يسمع برحلة تبشيرية كان يبادر بطلب الانضمام إليها حتى بعد أن أصابه الصمم والمرض. ولما كان المسؤولون يرفضون سفره (شفقةً عليه) كان يشعر بخيبة أمل شديدة. لقد كان في أعماق نفسه مبشراً بكل معنى الكلمة.
أما حياة خاخا التعبدية فكانت لها مميزاتها الخاصة. كان معتاداً أن ينفرد كل صباح في ركن من الغرفة، كان بمثابة مذبحه الخاص. وكان أحياناً ينفرد في غرفة خاصة ويقضي وقتاً هادئاً في خلوة مع الله. واعتاد في المساء أن يصلي همساً بعد أن تُطفأ الأنوار. وقد شهد أحد أبنائه أنهم وإن كانوا لم يتعوّدوا على ما يُسمّى بالعبادة العائلية في البيت، إلا أن والدهم لم يهمل قط عادة التعبُّد الهادئ الذي كان مصدر إلهام له في سنواته الأخيرة. كان خاخا رجل صلاة، وكثيراً ما كان يقول لأبنائه: لا يمكن لأحد أن يحمل أثقال الحياة أو يواجه مسؤولياتها بغير صلاة. والذين اعتادوا مرافقته في رحلاته التبشيرية كثيراً ما كانوا يرونه جالساً على سريره في منتصف الليل ويسمعونه يصلي. ولما أصابه الصمم لم يدرك أن صوته كان مسموعاً بل كان يحسبه همساً. كان الصوت مسموعاً لكن الكلمات لم تكن واضحة، وكانت صلواته الجمهورية تعرف بنبرتها ولفظها الكردي، ولكنها كانت قوية التأثير، وواضح للجميع أنها نابعة من القلب.
كان خاخا يصرف وقتاً طويلاً في درس الكتاب المقدس، إذ كان الكتاب رفيقه الخاص. ولا يعرف أحدٌ كم مرةٍ قرأ الكتاب كله من الغلاف للغلاف. كتب أحد أولاده عن ذلك قائلا: «كتاب والدي المقدس من أثمن كنوزي. لقد كادت صفحاته تبلى من كثرة الاستعمال. وكلما أرى الملاحظات المكتوبة على الهامش أو الآيات الموضوع تحتها سطور يتهلل قلبي».
كان خاخا مسيحياً مكرساً بالتمام. ومع أنه لم يحصل على التعليم أو الشهرة التي كانت لأخيه الطبيب الدكتور سعيد، إلا أن شهادته لإيمانه كانت مخلصة كشهادة أخيه. إن التغيير الذي حدث في حياته حوَّله من مسلم متعصب متأهب لقتل أخيه، إلى تابع متواضع محب للمسيح، يقدم شهادة مقنعة قاطعة على حق الإيمان المسيحي وقوته. وكل حياته يمكن أن تُلخَّص في عبارة واحدة قصيرة اعتاد أن يوقع بها على رسائله وهي «خاخا، عبد يسوع المسيح»

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.