قصة الدكتور سعيد

والآن نستأنف قصة «سعيد» أصغر الأخوَين الكرديين: تركنا سعيد ساكناً في حمدان يعمل مترجماً ومساعداً للدكتور ألكساندر. وقد ذهب معه بهذه الصفة إلى طهران حيث أصابته «دوسنتاريا شديدة» ولازم الفراش، وكانت له فرصة كافية للتأمل. وقد أربكته ذكريات الأوقات التي كان له فيها أحاديث مع المسلمين وهو يخفي عليهم إيمانه. وقطع عهداً أنه إذا شُفي فلن يعود يتردد في الاعتراف بإيمانه علناً. وسرعان ما سنحت له الفرصة لإثبات إخلاصه في عهده، فإنه عند عودته سافر إلى مدينة كرمنشاه التي تبعد نحو ١١٥ ميلاً إلى الجنوب الغربي، في رحلة تبشيرية مع القس شمعون، من يروميا. وفي كرمنشاه قابل سعيد كثيرين من الأكراد وشهد لهم عن إيمانه الجديد. وفي العيادة بحمدان قابل أيضاً عدداً كبيراً من الأكراد من منطقته التي نشأ فيها وقرأ لهم من الكتاب المقدس وتحدث معهم.
من هذه الفرص التي شهد فيها سعيد بالأخبار السارة في العيادة أدرك ما للخدمة الطبية من تأثير في تحطيم التعصب وفتح الباب للبشارة المسيحية. ونتيجة لذلك قرر أن يكون طبيباً، ووافق الدكتور ألكساندر على ذلك وأخذه كطالب طب.
هنا نشأت مشكلة جديدة، إذ كان سعيد يعلّم أبناء القس شمعون في بيتهم. وبعد بضعة شهور وقع في حب رفقة ابنة القسيس. وكان الحب متبادلاً، فلما فاتح والدها في موضوع الزواج رفض الوالد رفضاً باتاً لسببين: الأول لتفاوت الفرق بين البيئتين، والثاني للأخطار التي تنشأ لعائلته والمجتمع المسيحي بسبب هذا القِران. ولما علم أهل المجتمع الأرمني بالموضوع انزعجوا واستشاطوا غضباً، إذ خافوا من هياج المسلمين في المدينة بزواجٍ لم يحدث له مثيل من قبل، فذهبوا إلى المرسلين وطلبوا منهم أن يُبعِدوا سعيداً عن حمدان. وتجنُّباً لكل اضطراب أرسلوه إلى طهران حيث عاوده المرض.
وفي ربيع عام ١٨٨٧ عاد الدكتور ألكساندر من إجازته بالولايات المتحدة إلى إيران، واحتاج إلى مساعدة سعيد له في العيادة، فعاد سعيد، وأزعج ذلك الأرمن. وعاد سعيد يطلب من القس شمعون أن يسمح له بالزواج من رفقة، وأخيراً وافق القسيس على ذلك بشرط واحد، وهو أن يعتمد سعيد علناً. وكانت فرحة سعيد طاغية، لأن هذا ما كان يتمناه. وفي ١٠ نيسان (أبريل) سنة ١٨٨٧ تمَّت فريضة المعمودية جهراً وقد حضرها المسلمون والمسيحيون. ووافق القس شمعون موافقة تامة على الزواج. ولكن نشأت عقبة أخرى، إذ رفض القس هوكز أن يقوم بمراسيم الزواج، لئلا يُقتل سعيد نتيجة لهذا الزواج ويظل القس شمعون يلقي اللوم على هوكز. ومضت سنة كاملة إلى أن حضر القس يوحنا في زيارة لحمدان ووافق أن يقوم بعقد الزواج في احتفال بسيط في بيت القسيس، يقتصر على حضور عدد قليل من الأصدقاء.
هنا بدأ الاضطراب، إذ أراد الأرمن أن يدافعوا عن أنفسهم، فأذاعوا أخبار الزواج، وأعلنوا أن العروس ليست أرمنية بل أشورية. ونتيجة لذلك عُلقت إعلانات حول المدينة في اليوم التالي تدعو المسلمين أن يثوروا وينتقموا من فظاعة هذا الزواج الدنس. وسرعان ما تجمع الرعاع وبدأوا يسيرون في الشوارع بالهتافات. وأدرك الدكتور ألكساندر الحاجة الملحة إلى عمل سريع، ولحُسن الحظ كان قد عالج اثنين من أشهر أعيان المدينة وأشدهم تأثيراً في الناس، وهما حاكم المدينة وواحد من المُلاّ. فألحَّ عليهما أن يمنعا أي حادث مؤسف. فلما وصل الجمهور المتظاهر أمام مقر الحاكم خرج إلى الشرفة وقال لهم إنه قد وصلته رسالة من سعيد ينكر فيها اعتناقه للمسيحية. وأخرج من جيبه خطاباً وزعم أنه يقرأ منه. ونجحت الحيلة وتفرَّق المتظاهرون. وكان فريق آخر من المتظاهرين قد ذهبوا إلى المسجد الرئيسي في المدينة فهدّأ المُلاّ روعهم وصرفهم. وتُرك العروسان يهنآن بزواج سعيد بدون اضطراب، ولو أن العروس عاشت مدة في خوف شديد على حياة زوجها.
في تلك الأيام كان سعيد يعمل بكل جد وكد في دراساته الطبية ويتقدم فيها تقدماً محسوساً. وكان من وقت إلى آخر يزور القرى المجاورة، وحيثما ذهب كان يشهد لإيمانه. وفي عام ١٨٩١ انتهى عقد اتفاقه مع المرسلية وقام برحلة إلى يروميا، ورافقته زوجته رفقة مع ابنتهما الصغيرة، وهي طفلتهما الأولى. ولما عاد سعيد إلى حمدان، طلبت منه المرسلية أن يجدد عقده معها فقبل بعد تردد، وذلك لمدة سنة واحدة، لأن المرسلية كانت مضطرة لإغلاق عيادتها بسبب استقالة الدكتور ألكساندر، وكانوا في انتظار من يخلفه. وكانت مسؤولياته ثقيلة وزادت واشتدت بسبب ظهور الكوليرا. وكان سعيد على وشك الانهيار، ولكنه ظل حتى فصل الربيع حين وصل الطبيب الجديد، وعندئذ قدم استقالته وذلك عام ١٨٩٣.
صمم سعيد في ذلك الوقت أن يقوم برحلة إلى أوروبا، إذ شعر أنه من المستحسن تغيير الجو لتقوية صحته، كما أنه أراد أن يحصل على تدريب طبي أكثر. فذهب أولاً إلى السويد، ثم إلى لندن حيث أُتيح له التعرف على الدكتور س.ي. ورن وزوجته، اللذين استضافاه في بيتهما مدة سنتين. وقد وجهه الدكتور ورن في اختيار منهاج دراساته الطبية وقدمه إلى الإخوة البليموث، وهم هيئة دينية لا تتقيد بنظام رسمي. وقد وجد في هذه الهيئة شركة دافئة روحية رافعة وأخيراً انضم إليها. أما عن دراساته الطبية فقد أخذ مناهج في التشريح وفي الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) والرمد، وأمراض المناطق الحارة. ولما عاد إلى وطنه كان قد قضى عامين ونصفاً في الخارج.
أصبح الدكتور سعيد يمارس مهنته مستقلاً ولحسابه الخاص في حمدان. واستطاع بمعونة أصدقائه في إنكلترا أن يشتري بيتاً لأسرته. وقد تطلب عمله أن يرى مرضاه في أية ساعة تناسبهم أثناء النهار.
كانت تلك الأيام مشحونة بالقلاقل والاضطرابات لكل شخص، فقد قُتل نصر الدين شاه في مايو أيار سنة ١٨٩٦. واضطربت حمدان بنزاع بين طائفتين من المُلاّ لخلاف بينهما على مسألة دينية. ودوى صفير الرصاص في الليل، وانتشر القتل والسلب والنهب. وكان من الصعب جداً خاصة على شخص مسلم تنصّر أن يشهد لإيمانه، لكن الدكتور سعيد ظل يمارس شهادته.
وفي سنة ١٩٠٠ استدعى زوجُ ابنة الشاه (وهو الحاكم على عدة أقاليم في جنوب غرب إيران) الدكتور سعيد ليعالج زوجته، فقضى الطبيب سنة كاملة يخدم الأمير وحاشيته المكوَّنة من خمسة آلاف شخص. وبعد أن تمم هذه المأمورية استُدعي لخدمة القصر الملكي. وقد قام بهذه الخدمة بنجاحٍ عظيم، فأراد مظفر الدين شاه الاحتفاظ به كطبيب البلاط الملكي، لكن الدكتور سعيد لم يرد أن يحصر مهارته ومواهبه في أشخاص قليلين ممتازين بل أن يستخدم طاقاته لخدمة جميع الذين يحتاجون إليها. وأظهر الشاه تقديره للدكتور سعيد بأن منحه لقباً، لم يستخدمه «سعيد» قط، ولم يعرف معظم الناس شيئاً عنه.
وفي شتاء عام ١٩٠١ قام سعيد برحلة أخرى إلى يروميا، لكن الزوابع كانت شديدة والثلوج كثيفة جداً حتى استغرقت الرحلة مع وقفات الاستراحة أثناء الطريق نحو ثلاثة شهور. وكان يضطر أحياناً للنزول في بيت في إحدى القرى، ولما كانوا يكتشفون أنه مسيحي كانوا يشعرون أن البيت تنجس، لكنهم لم يعترضوا قط على الأموال التي كان يدفعها لهم نظير ضيافته، ولا على الخدمات الطبية التي كان يقدمها لهم.
وكان يلقى ترحيباً في كل مكان في يروميا. وكان حموه القس شمعون مغتبطاً جداً بإضافته. وقضى هناك أربعة شهور مكرساً نفسه للعمل الفردي الكرازي أكثر مما كان للوعظ الجماهيري. وفي نهاية تلك المدة قرر أن يعود إلى حمدان بالرغم من الأخبار التي وصلته عما فيها من أخطار. وطلب منه واحد من المُلاّ نسخة من كتاب «مصادر الإسلام» فأعطاها له. وهو كتاب كتبه قسيس إنكليزي يبيّن فيه ما اقتبسه الإسلام من التوراة ومن المؤلفات المسيحية الهرطوقية ومن الدين الزوروستري وغيرها. وهذا يخالف اعتقاد المسلمين أن القرآن نزل من الله نفسه. وأثار هذا الكتاب عاصفة من الغضب والهياج، فقد ادَّعوا أن الدكتور سعيد هو الذي ألَّفه، فأصدر زعماء الإسلام الدينيون في حمدان قراراً بقتل سعيد. ولكن بالرغم من ذلك شعر سعيد أنه يجب أن يعود، وقد رافقه في جزء من الطريق شقيق زوجته الدكتور جسي يونان، وكان قد رجع لتوِّه من فترة تمرين بمستشفيات الولايات المتحدة، وكان يعتزم أن يذهب إلى كردستان في عمل طبي كرازي.
وقد بلغهما خبر يحذرهما من المرور في بلدة سوجابولا (واسمها الحالي محلاباد) لأن رجلين كانا قد وصلا إليها من سانادا بِنيَّة شريرة. وتباحث الطبيبان: تُرى أي طريق يتخذان. وأشار الدكتور سعيد أنهما كانا قد أُوصيا بإلحاح من الأشوريين على طول الطريق أن يضعا ثقتهما في الله. فلماذا يخافان من المرور في سوجابولا؟ لذلك ذهبا. وعندما اقتربا من المدينة قابلهما وفدٌ من قِبل حاكم الإقليم يطلب إليهما أن يكونا ضيفيه. فعبَّرا عن شكرهما للحاكم، وطلبا منه أن يقبل الاعتذار، ووعدا بقبول دعوته للغداء في اليوم التالي. وقد طلب جماعة من المُلا الحاضرين أن يخبرهم سعيد لماذا ترك الإسلام. ورُتِّب اجتماع يُعقد في الغد فيه يجاوب على أسئلتهم. وفي نهاية ذلك الاجتماع تقدم إلى الأمام الرجلان اللذان حُذر منهما الدكتور سعيد حتى لا يذهب إلى سوجابولا، وإذا هما زميلاه من أيام الدراسة وقد حضرا للسلام عليه والترحيب به بكل حرارة. فلما سافر الطبيبان (دكتور سعيد ودكتور جسي) في اليوم التالي، كان في توديعهما نحو مائتي شخص.
بعد أيام قليلة افترق الرجلان وذهب كل منهما في طريقه، فوصل سعيد إلى بيته بسلام دون أية حادثة، وتهلل للقاء عائلته مرة أخرى بعد غياب أكثر من ستة شهور.
وبالرغم من كل ما أثاره الناس من تعصب وحقد ضد الدكتور سعيد في غيابه عاد واستقر آمناً يزاول مهنته بنجاح مع أقل قدر من الانزعاج. وبعد ذلك بنحو سنة (أي في عام ١٩٠٢) قرر أن يقوم برحلة أخرى إلى انكلترا ليُدخل ابنه الأكبر صموئيل (رُزق ابناً آخر، ليونارد عام ١٨٦٩ فكملت عائلته بثلاثة أولاد) مدرسة هناك وليأخذ دراسات أخرى في علوم شرح الرموز الكتابية، والبكتريا، والرمد، وجراحة العين. ونتيجة لدراساته العليا، عندما عاد إلى حمدان في العام التالي، أجرى عمليات وأنواعاً من العلاج الناجع، جعل شهرته تطبق الآفاق، مما ضاعف حسد الأطباء المحليين له. وبين الذين نالوا الشفاء كان ابن حاكم الإقليم، وهو في الوقت نفسه شقيق الشاه.
وفي عام ١٩٠٤ انتشر وباء الكوليرا بشكل فظيع في حمدان، فهرب من المدينة متوسطو الحال. أما الحاكم وعائلته وحاشيته فأقاموا مخيَّماً على هضبة مرتفعة تعلو ستة آلاف قدم فوق المدينة، واستدعوا الدكتور سعيد ليكون طبيبهم الخاص. وكان هناك رجل غني يدعى أمير أفخام يغار من سلطة الحاكم ويحسده، وكان يسكن في قرية «شفارين» التي تبعد نحو ستة أميال عن المدينة. وحدث أن أُصيبت زوجته وابنته بمرض خطير وتطوَّر حالهما إلى الأسوأ، فاتضع وأذل نفسه وطلب من الحاكم أن يسمح للدكتور سعيد بمعالجة هاتين السيدتين. وقد نجح الدكتور سعيد في علاجهما وشفائهما مما أبهج قلب أمير أفخام.
ولما صار الجو بارداً خفَّت وطأة الوباء ثم زال، وعاد الناس الذين هربوا إلى بيوتهم. وهنا ثارت متاعب أخرى على سعيد. فإن بعض الأطباء اليهود الذين تركوا دينهم واعتنقوا البهائية غاروا من نجاحه، وسلموا نسخة من كتاب «مصادر الإسلام» لبعض المُلاّ المتعصبين وادّعوا أن سعيداً كتب ذلك الكتاب. وتمنى أمير أفخام أن ذلك يثير اضطراباً ويخلق مشاكل لا يستطيع الحاكم أن يحلها فيضطر للاستقالة. فاجتمع المُلاّ في المسجد الرئيسي، ووقعوا قراراً يأمر بقتل سعيد لكتابته كتاباً يحوي سباً وتجديفاً على النبي، ويدعو المسلمين إلى الارتداد. ولو قُرئ هذا القرار علناً أمام الجماهير لكان دعوة للمؤمنين أن يقوموا وينفذوا الحكم.
لم يستطع الحاكم أن يفعل شيئاً، فأرسل برقية لرئيس الوزراء يخبره بما يجري حوله. وحاول أمير أفخام أن يهدئ الحال، ولكن كان الأمر قد تطور وأفلت الزمام، لذلك أرسل الأمير وفداً أحضر سعيداً ليلاً إلى شفارين. ولما عُرف مقره استأجرت جماعة من المتعصبين عصابة مجرمين لاغتيال سعيد في تلك القرية. وقام اثنان من المُلا بترؤّس تلك العصابة، وأقسما لأفرادها بالنبي أن سعيداً قد ترك ذلك المكان.
بعد ذلك بقليل أخبر أمير أفخام الدكتور سعيد أنه لا يستطيع أن يحميه بعد، وأراه برقية من رئيس الوزراء يطلب فيها إرساله في الحال إلى طهران. فسافر سعيد إلى العاصمة. وهناك علم أن كل ما حدث كان حيلة دبرها الأمير لإبعاد الحاكم عن حمدان، ولم يكن المُلاّ إلا أداة في هذه المؤامرة التي كان سعيد ضحيتها.
وطلب سعيد من زوجته أن تبيع أملاكهم وتأتي إلى طهران، لكن رفقة كانت تفضّل حمدان. أخيراً اتفقا على حل وسط، هو أن تذهب رفقة إلى طهران، ولكنهم يحتفظون بأملاكهم في حمدان.
بعد أن قضى الدكتور سعيد نحو سبع سنين يزاول مهنة الطب في العاصمة، عاد في عام ١٩١٢ إلى حمدان للسكن والعمل. وما أن مضى وقت قصير حتى وصله طلب من صاحب أملاك في قرية على حدود كردستان كان مشهوراً ببراعة خط يده، وكان الطلب لأجل خدماته الطبية. فقبل الدكتور سعيد الدعوة، وصاحبه في ذهابه ستة من الحراس المسلحين أرسلهم الرجل لمرافقته. وقد وجد الطبيب أن المريض يقاسي من هبوط عقلي ناتج عن التهاب في المخ. واستطاع الدكتور سعيد أن يُحدث تحسناً كبيراً في وقت قصير، حتى قال أبناء المريض إن أباهم تمكن من أن يقرأ وأن يكتب كما كان يفعل منذ عشرين عاماً خلت.
ولما كان الدكتور سعيد في تلك القرية وصلته رسالة من سيد نجم الدين (أحد أنسال محمد) وهو شخصية هامة له أتباع من حوض بحر قزوين المجاور لإيران من الحدود الغربية. وكانت الرسالة تستدعيه للذهاب إلى قرية في كردستان لمعالجة أحد أقاربه. وقد ظن سعيد وأصدقاؤه أنه ليس من الحكمة أن يذهب إلى منطقة فيها هذا التعصب، فأرسل جواباً بالاعتذار. وسقط جواب الدكتور سعيد في النار التي أشعلها الرسول الذي يحمل الجواب. وبعد أسبوع وصلت رسالة أخرى من الرجل نفسه توضح أن المريض هو سلطان أورامان قرب الحدود التركية، والتي منها جاءت عائلة سعيد نفسه. ترى ماذا يفعل؟ لا يستطيع أن يرفض خدمة السلطان حاكم شعبه، وفي نفس الوقت كان ذهابه يعرض حياته للخطر. اقترح بعض أصحابه أن يطلب من السلطان أجراً باهظاً، وبذلك ينتهي الأمر. فطلب من السلطان أن يكون أجره نحو ٥٠ دولاراً في اليوم، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لذلك الوقت. وفي وقت قريب وصل سيد جلال الدين ابن سيد نجم الدين مع عدد كبير من الحاشية لمرافقته ووعد بدفع أي مبلغ يطلبه الدكتور.
وفي اليوم التالي جاءت رسالة من ساناجاز من حاكم الإقليم مع رسائل أخرى من بعض أعيان المدينة تطلب من الطبيب الذهاب لعلاج الحاكم. هذان طلبان من شخصين مهمين جداً، لكنهما يسكنان في مناطق شديدة التعصب. وبعد التأمل والصلاة قرر سعيد أن يحاول القيام بالمهمتين، بعد أن أخذ وعداً كتابياً من سيد جلال الدين أن يوصله ويرافقه كل الطريق في عودته.
وقرر الدكتور سعيد أن يذهب أولاً إلى ساناجاز، مع أن رجال السلطان قدموا له ٣٠٠ دولاراً حتى لا يذهب، فأجابهم أن كلمته كلمة شرف لا يرجع عنها لقاء أي مبلغ من المال. ونستطيع أن نتصور شعوره وهو يدخل المدينة التي تركها منذ ثلاثين سنة خلت، بكل مناطقها المألوفة وذكرياتها واختباراتها العديدة. وقد قوبل بهتافات الترحيب في كل الشوارع والطرقات التي مشى فيها، والتي صبت عليه اللعنات في الأيام السالفة.
وجد الطبيب أن الحاكم يقاسي من التهاب حصوة مزمن في الكلى وارتفاع في ضغط الدم. فأعطاه حقنة وأمره بأن يأخذ حماماً ساخناً. وفي اليوم التالي تحسن كثيراً. وفي الصباح بدأ كثيرون من المرضى يأتون إليه فعالجهم جميعاً مجاناً. وبعد خمسة أيام تحسنت صحة الحاكم جداً فشعر سعيد أنه يستطيع عندئذ أن يرحل.
لم يكن السفر إلى أورامان بعيداً أو طويلاً، لكنه كان صعباً جداً، فقد كان الطريق جبلياً ضيقاً، وإذا زلت قدم الدابة تعرّضت هي وراكبها للسقوط من حافة الجبل إلى مئات الأقدام للأسفل. وفي أحد الأماكن كان الطريق ضيقاً وخطراً جداً حتى اضطر سعيد أن يقطعه زحفاً على يديه وقدميه. أما مدخل قصر السلطان فقد فُرش بالبساط الملون، وعند نهايته بُسطت سجادة جميلة وقف عليها السلطان ينتظر ضيفه، وقد أخذ سعيداً بالأحضان وقبله على خديه وفقاً للعادات الإيرانية.
ولما فحص الدكتور سعيد عيني السلطان وجد حالته مؤسفة جداً، فقد أُصيبت عيناه كلتاهما بالتراكوما، وأجرى طبيب عيون غير كفء عملية له في عينه اليسرى، فقاسى من الجلوكوما مما سبَّب له صداعاً شديداً. فضلاً عن ذلك فقد كان يقاسي من مرض السكري. وفي الواقع فشلت العملية في إحراز أي تقدم. لذلك أرسل سعيد للسلطان يخبره أنه لا يجد أملاً في علاج حالته، ولهذا يطلب الإذن بالسفر. فتوسل إليه السلطان قائلاً: «إني مستعد أن أعطيك كل ما أملك، فقط ساعدني لكي أرى بعيني التي لم تُجر فيها عملية». لكن الطبيب أجاب بأن العملية خطيرة جداً، وقد تزيد آلام السلطان وصداعه، وفي نفس الوقت تدمر سمعة الطبيب. واضطر السلطان لقبول النتيجة ورتب الأمر أن يسافر سعيد صباح الغد.
في تلك الليلة كان فصل الكتاب المقدس الذي قرأه سعيد هو قصة لعازر. وهو يقرأ كان كأنه يسمع الله يقول له «يسوع يسمع أن صديقه مريض في حالة خطرة. لكن بالرغم من الخطر سيذهب ويخدمه، لأنه يعلم أن هذه هي إرادة الآب. ألم أكن مرشداً لك في كل خطوة في الطريق في هذه السَّفرة؟ لقد حفظتك من كل ضرر. لقد أرسلتك إلى هذا الرجل المتقدم في السن وهو يتوسل أربع سنوات متوالية قائلاً: أرَسلوا لي سعيداً ليشفي عيني، وها أنت الآن تتركه لأنك وضعت ثقتك في عِلمك وليس فيَّ. أنا الذي كل شيء ممكن لديه». وأجاب سعيد: «أنا أطيعك يا رب، وأترك النتيجة لك».
في الصباح أفاد الطبيب السلطان أنه غيّر قراره بالسفر، وسيبقى ليجري العملية، ويطلب رسولاً يحمل برقية إلى سناج تُرسل إلى حمدان لإحضار أدواته للعملية. وقد اغتبط السلطان غبطة لا توصف.
مع أن أدوات الطبيب لم يمكن أن تصل قبل انقضاء أسبوع فإنه بدأ يستعد للعملية. وضع مريضه تحت نظام غذائي دقيق لتحسين حالته العامة. وأمر بتغطية أرضية الغرفة التي تجري فيها العملية بالبساط حتى لا يثور غبار مشي الأقدام على ترابها. وفعل كذلك بالسقف حتى لا تنزل ذرات غبار من السقف. وفي ذلك الوقت كان يقضي كل يوم من الصباح الباكر في علاج المرضى بشتى أنواع المرض. علاوة على ذلك حضر كثيرون من أقاربه لزيارته.
أخيراً وصلت أدوات الطبيب من حمدان وتحدد يوم العملية. كان ذلك في شهر نوفمبر (تشرين أول) وهو شهر ساعات نهاره قليلة. وفي يوم العملية بدأوا متأخرين، كانت الملتحمة أو باطن الجفن قد تلفت، وأصبحت القرنية كتلة متحجرة حتى استطاع الدكتور ان يقطعها بكل صعوبة. وقد تمزقت قزحية العين إلى أجزاء. أخيراً قطع الطبيب العدسية وأرخاها وأزالها، لكنه تنفس الصعداء لما استطاع السلطان أن يعد أصابعه. أخيراً قفل العين وربطها وأوصى أن تحفظ مقفلة أربعة أيام. وقد شهد سعيد أنه لم يكن له إيمان ولا ثقة في مهارته بل في الله.
بعد أن انقضت أربعة أيام حلَّ الدكتور الأربطة، وسأل السلطان: هل يقدر أن يرى أي شيء؟ فأجاب: نعم. في تلك اللحظة دخلت ابنة السلطان بكل هدوء، وسأل سعيدٌ من هي، فأخبروه عنها. وقد اهتز ثلاثتهم طرباً وعجباً. وغطى الطبيب العين وصار يردد ترنيمة مشهورة في اللغة الإنكليزية، كتبها جوزف هارت عام ١٤٥٠ عن صلاح الله وأمانته وقدرته ومحبته التي ليس لها حدود، ولا تقيّدها قيود. ويمكن ترجمتها بتصرّفٍ كما يأتي:
يا ربنا المعبود، نبع الغنى والجود
صديقنا الودود، الدائم الوجود
يا حبك الرحيم، وعزك العظيم
ليس له حدود، كلا ولا قيود
تأثر السلطان جداً وطلب من سعيد أن يجري عملية لعيني زوجته. ولما أنهى عملية في إحدى عينيها استطاعت أن ترى جيداً حتى أنها قالت: لا داعي لأن يتعب في إجراء عملية في العين الأخرى.
جاء يوم سفر سعيد فأرسل السلطان معه خمسين شخصاً يرافقونه، منهم عشرون فارساً راكبين على الخيل وثلاثين من المشاة. أخيراً وصلوا إلى سناج، وكان الناس يهنئونه في كل مكان لأن كل أنواع الإشاعات كانت قد انتشرت في أثناء غيابه. وبعد أن استراح بضعة أيام تهيأ للسفر إلى حمدان، وحضر جلال الدين لتوديعه والدموع في عينيه. وقال: «كنتُ كل أيام هذه الرحلة أفكر حتى أعود إلى بلدي، والآن وقد حان الوقت أشعر بحزن. لقد وهبتَني البصر فأصبحتُ أرى النور. وأطلب من الله أن يباركك للمعونة التي قدمتها لي».
وصل سعيد إلى بيته قبل عيد الميلاد بيوم أو اثنين، فكان ذلك وقت سرور وبهجة له ولأسرته. وقد شكر الله لحفظه إياه من كل أخطار الرحلة، ولأنه استخدمه في شفاء كثيرين من المرضى، وأعطاه فرصة للشهادة في مسقط رأسه في كردستان.
في العام التالي، أي سنة ١٩١٣ قام برحلة ثالثة إلى انكلترا، حيث كان ابناه. كان صموئيل قد قضى هناك ١١ سنة، وكان وقتئذ يدرس الهندسة، وكان لموئيل قد قضى سبع سنوات ويحتاج إلى سنة أخرى لينهي تعليمه العام. كان سعيد مشتاقاً أن يرى ابنيه، كما كان يحتاج لشيء من الراحة والتغيير بعد سنوات كثيرة من العمل المضني. وقد جاءته فرصة السفر إلى أوروبا من مريض استدعاه لمرافقته. وهيأت له إقامته في لندن فرصة لتلقي دراسات مصحوبة بعمل أكثر تقدماً في مستشفيين درس فيهما من قبل، كما أنها أتاحت له مجالاً لزيارة السر وليم أوسلر الطبيب العالمي الذائع الصيت، الذي سبق أن تبادل معه مراسلات عن قبر ابن سينا الطبيب الفارسي الشهير الذي عاش في القرن الحادي عشر ودُفن في حمدان. وأبدى الدكتور أوسلر مزيداً من الاهتمام بتشييد قبر فخم جدير بأن يكون تذكاراً لهذا الطبيب والفيلسوف الفارسي الشهير. وقد اعتمد على معونة الدكتور سعيد في ذلك. ولكن قبل أن يُكلل هذا النداء بالنجاح نشبت الحرب العالمية الأولى وأخّرت كل شيء. ومات الدكتور أوسلر بعد انتهاء الحرب بقليل فتوقف المشروع. وأنفق المال الذي جُمع في تشييد بناية بها غرفة قراءة. وتبنّت وزارة التعليم الإيرانية المشروع فيما بعد ووضعت مخططات لضريح فخم ومكتبة، ودُشن البناء عام ١٩٥٤ بحضور الملك والملكة وعظماء المستشرقين الممتازين.
وعند عودة الدكتور سعيد من انكلترا استأنف مزاولة الطب في حمدان. وسرعان ما اندلعت نار الحرب العالمية الأولى. وفي صيف ١٩١٦ جاء الجيش التركي إلى حمدان من بغداد، وقبل وصوله تركت الجالية المسيحية (ومعظمها من الأرمن) مدينة حمدان، ومن بينهم الدكتور سعيد وأسرته. ولكن رفقة بما اشتهرت به من روح ونزعة استقلالية بقيت ومعها لموئيل، وكان قد عاد من انكلترا إلى طهران، فجاء ليمكث مع أمه في حمدان. ولما عجز الأتراك عن القبض على «المرتد» دمروا أشجار البلاد التي تُقدر بمئات الدولارات بحجة أن سعيداً قد عالج جنود الروس عندما احتلوا المدينة، وأن ابنه صموئيل كان لا يزال يخدم في الجيش البريطاني. وقد عرض عليه البريطانيون فيما بعد تعويضاً لكنه رفض ذلك.
أقام الدكتور سعيد في طهران بقية أيام حياته في عيشة هادئة يمارس خدماته الطبية المعتادة، وكان بيته وعيادته المتجاوران بقرب مركز المدينة عبر الشارع الذي تقع فيه وزارة الحربية ودار الإرسالية الأمريكية المشيخية. وكان نظامه أن يستيقظ مبكراً في الصباح ويقضي وقتاً منفرداً في التعبد والتأملات، ثم يتناول طعام الإفطار، ويذهب إلى عيادته حيث يقضي من الثامنة والنصف صباحاً إلى الظهر، ثم من الساعة الثانية بعد الظهر إلى أن يحل الظلام، لا يقطع عليه ذلك سوى زيارته لمرضاه في البيوت، وكانت عيادته عادة ممتلئة. وكان يفحص مرضاه فحصاً دقيقاً لكن لا يسجل تواريخ الحالات التي يعالجها فقد كان يعتمد على ذاكرته الممتازة. وكان يعقد اجتماعين في بيته أسبوعياً لدرس الكتاب المقدس: في أيام الآحاد للمسيحيين، وأيام الخميس للمسلمين وغيرهم ممن يريد الحضور. وقد رافقته زوجته رفقة وكانت تدير البيت بكل كفاءة.
وبمرور الزمن، وبعد أن جاوز سعيد سن السبعين بدأ يخفض عمله تدريجياً. ولما كان يصطاف في مصيفه في حمدان جاءته دعوة من سناج ليعالج زوجة الحاكم، فقام لذلك برحلة قصيرة رافقه فيها زوج ابنته الدكتور تتفون وخاخا كما أشرنا في الفصل الثاني.
بعد عامين حين كان يصطاف في حمدان، استدعاه مركز الشرطة، وقيل له إن ذلك لعلاج مريض، ولكن بما أنه كان مصحوباً باثنين من رجال الشرطة أدرك أنه للقبض عليه، ولم يستطع أن يتصور لماذا. وفي التحقيق وجد من أسئلة الضابط أن التهمة كانت بسبب رسالة كان قد كتبها إلى ابن رئيس قبيلة كردية كان بين مرضاه، وقد مات مؤخراً. وكان قد قُبض عليه مع آخرين كرهائن بأمر من رضا شاه، والد الشاه الذي خُلع حديثاً وغادر البلاد، وقد فعل ذلك ليُخضع القبائل تحت أمره. وقد وردت عبارة في رسالة الدكتور سعيد فيها يقول: «ويسركِ أنه مات في بيته تحيط به عائلته، وليس مثل صولت الدولة (لقب رئيس قبيلة كشغال) أو تمورتاش (وزير البلاط السابق) وغيرهما ممن جالوا بهم ساخرين وسط البلاد وماتوا في السجن». مع أن مصير هذين الرجلين كان معروفاً وشائعاً عند الجميع، إلا أن الضابط سأل الدكتور سعيد كيف عرف أن هذين الرجلين قد ماتا في السجن، واتهمه أنه كان على اتصال وثيق بهما. وعند ذلك استدعى الضابط أحد رجال الشرطة ليودع الدكتور سعيد غرفة في السجن. وكان لا يوجد في تلك الغرفة سوى سرير خشبي بسيط وفراش حقيرة، فلم ينم تلك الليلة إلا قليلاً. وفي اليوم التالي سُمح للدكتور تتفون أن يحضر له سريراً وطعاماً من البيت. وقضى شهرين ونصف شهر في هذه الحالة، والموظفون في حمدان ينتظرون الأوامر من طهران ... وسُمح لأفراد عائلته وأصدقائه بزيارته، ووصلته رسائل مؤاساة كثيرة من أعيان كردستان ووجهائها، بل من أئمة الدين. لكنهم كانوا يكتبون بتحفظ طبعاً، لكن رسائل المواساة الصادرة من أناس كانوا فيما سبق يطلبون قتله كانت أكبر مصدر لفرحه في تلك الأيام المظلمة.
بعد شهرين ونصف أُرسل الدكتور سعيد إلى طهران تحت الحراسة، وهناك سعى أصدقاؤه لإطلاق سراحه، ولكن باءت كل مساعيهم بالفشل، بل ذهب صموئيل بنفسه مرتين إلى رئيس الوزراء، الذي كان الدكتور قد عالجه في وقت ما ونجح في شفائه حين فشل كل الأطباء الآخرين، لكن رئيس الوزراء أخبره أنه لا يستطيع ذلك، لأن الأمر في يد الشاه نفسه. أخيراً كتب صموئيل برقية مطولة للشاه فيها يخبره أن الخطاب الذي كتبه والده قد فُهم خطأ ويطلب العفو عنه. وكان لهذه البرقية أثرها الفعال، فصدر الأمر بالإفراج عن الدكتور سعيد. وقد سبب ذلك اغتباطاً عظيماً لكل العائلة والأصدقاء، ووصلت رسائل التهنئة من كل أنحاء البلاد. وقد دام سجنه تسعة وتسعين يوماً قال عنها الدكتور سعيد إنها كانت أحسن وقت راحة قضاه في خمسين عاماً.
في العام التالي انتقل الدكتور سعيد إلى بيت جديد بناه له ابنه المهندس صموئيل، وهو مكوّن من ثلاثة طوابق، بدروم وطابقان صممه خصيصاً لإراحته. وترجى أن يكون لديه وقت أطول للقراءة والكتابة، والدرس. وقد رُفعت اللافتة التي كانت على واجهة العيادة، ورغم ذلك لم ينقطع بعض مرضاه عن الإتيان إليه، ولم يسمح له قلبه الرقيق بصدِّهم. لكنه وجد على أي حال وقتاً أطول للدراسة.
لم يكد يمضي عام على سكنهم في هذا البيت الجديد حتى مرضت رفقة وطال مرضها عدة شهور، وأخيراً انتقلت إلى السماء في نوفمبر (تشرين أول) سنة ١٩٣٩ ، وقد كسر موتها قلب زوجها وحزن حزناً عميقاً على شريكة حياته لمدة أكثر من خمسين عاماً، وقد توافد على خدمة جنازتها التي أُقيمت في كنيسة الإرسالية مئات من الناس من الوزراء إلى فقراء الشعب الذين كانت تساعدهم وتعطف عليهم.
وقبل انقضاء أربعة شهور على وفاتها جاءت الأخبار المحزنة عن وفاة خاخا، فزادت من آلام الدكتور سعيد. وقلب نشوب الحرب العالمية الثانية كل شيء ظلاماً. وكان صموئيل عازماً على التقاعد والإقامة في أمريكا مع زوجته وأولاده. وعقدت العائلة آخر اجتماع يربط كل أفراد الأسرة في أول يونيو (حزيران) سنة ١٩٤٢ في عيد ميلاد سعيد التاسع والسبعين. وبعد ثلاثة أيام سافر صموئيل إلى الولايات المتحدة وترك أباه في حمدان لنزهته السنوية هناك.
بعد انقضاء أقل من شهرين، في ٢٩ يوليو (تموز) أُصيب سعيد بنوبة قلبية في حديقته الهادئة ومات في نفس اليوم، وأُقيمت خدمة جنازة في قاعة الكنيسة الجميلة التي كان القس هوكز قد بناها تذكاراً لزوجته. وقد حضر حفل جنازه عدد كبير يمثلون بلاداً كثيرة. وأُنشد لحن من ألحانه، وهو مليء بالمديح لصفات وكمالات المسيح، ودُفن في المدافن البروتستانتية بجوار قبور أصدقاء العمر القس هوكز وزوجته، وقد نقشت على قبره هذه الكلمات: «لأني لا أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن» (رومية ١: ١٦).
والآن لنلقِ نظرة على الخصال والصفات الحميدة التي امتاز بها وجعلته خالد الذكرى:
أولاً بحثه عن الحق: في مستهل عمره وهو مسلم درس القرآن والشريعة الإسلامية وتعلم التقاليد الإسلامية. ولما جاء القس يوحنا إلى سناج بدأ يدرس الكتاب المقدس. ولم يكتف بأن يسأل الواعظ المسيحي عن معنى الآيات، بل درس اللغة الآرامية القديمة والحديثة، كما درس العبرية، حتى يستطيع أن يقارن الترجمات ويستخلّص أفضل المعاني. وفحص نبوات التوراة بكل دقة ليرى كيف تحققت في حياة المسيح. ولما كان في أشد حيرة وارتياب وهو يوازن بين الإسلام والمسيحية كان يصلي بلجاجة وحرارة قائلاً: «يا مرشد الضالين قُدني إلى الطريق الصواب حسب إرادتك. ارفع الحجاب عن نفسي وامنح قلبي راحة واطمئناناً». ولم يمض وقت طويل حتى استُجيبت صلاته. ولما جاء مار شمعون الأسقف الكاثوليكي إلى سناج، وكان متعمقاً في معرفة الكتاب المقدس، زاره سعيد مراراً في أثناء إقامته القصيرة واستفاد منه كثيراً في التعمق في معرفة الكتاب المقدس.
وكانت أول رحلة قام بها إلى أوروبا تهدف إلى غرض مزدوج: معرفة الحق الروحي والتبحر في البحث الطبي. وكان قد التقى قبل ذلك بمرسل سويدي في حمدان يدّعي أنه قد وصل إلى الكمال الروحي. وأراد سعيد أن يصل إلى ذلك إن كان ممكناً. وكانت إقامته في السويد تهدف إلى هذا الغرض، ولكن زيادة معرفته بذلك المرسل وزملائه لم تحقق له هذا الهدف. ولم يدرك حقيقة الأمر إلا عندما أشرق على عقله نور جديد، أضاء فكره وهو يدرس الكتاب في فرصة التعبد الصباحية من الآية التي تقول «وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ» (١يوحنا ٣: ٢).
بدأ شوقه المتزايد للتبحر في العلوم الطبية مبكراً في مستهل أيام إقامته في حمدان، حين كان يعمل مع الدكتور ألكساندر، وكان يظل ساهراً إلى ما بعد منتصف الليل يدرس بتعمق مؤلفات الفارابي وابن سينا الطبيبين الفارسيين الذائعي الصيت. وواصل دراساته في لندن باجتهاد مدة عامين للحصول على قسط أوفى من العلم والمعرفة. وفي رحلة أخرى بعد ذلك ظل يسعى في طلب العلم، فإن تعطشه للحق لم ينقطع قط.
ولم يكن بحثه عن الحق قاصراً على ميادين الطب والإيمان المسيحي. بل بما أنه من أصل كردي كان يهتم أعمق اهتمام لمعرفة «أهل الحق» أو «علي الإلهي» وهو مذهب يُعتبر بدعة في الإسلام، نشأ في كردستان، وقد قرأ مقالة ضليعة عن هذا الدين الغريب في المؤتمر المرسلي الذي عقد في طهران عام ١٩٢٦. وكان بعض البابيين الأوائل، ومنهم الباب نفسه بين مرضاه وأصدقائه، فأتاح ذلك له معرفة وثيقة قريبة بنشأة حركة بابي بهاء، وجمع قدراً كبيراً من المعلومات الثمينة النادرة والمخطوطات البابية المكتوبة باليد من مصادرها الأصلية. وكثير من هذه الكتب والمخطوطات الثمينة موجودة الآن في مكتبة جامعة برنستون. لكنه لم يجد في هذه الأديان جميعاً شيئاً يمكن أن يُقارن بالكنوز التي وجدها في المسيح.
ثانياً: كان الدكتور سعيد رجلاً روحياً عميقاً. لما كان مسلماً كان دائماً يطلب التقرب إلى الله. وإذ كان صبياً صغير السن قبل أن تُفرض عليه ممارسة الفروض الإسلامية بدأ يواظب على الصلاة في المسجد. وبعد ذلك لما تقدم في العمر قليلاً بدأ يصوم شهر رمضان ويمارس الفرائض التعبدية الخاصة به. وكان ينادي أو يؤذن بالصلوات الخاصة من فوق السطوح. وبينما كان غيره ينفق الليالي في الطعام والولائم، كان هو يكتفي بأكلة واحدة في المساء، ويشرب قليلاً من الماء عند الفجر قبل بدء الصوم. ولكي يكمل حياته الروحية طلب الانضمام إلى عضوية جماعة النقشبندية الصوفية، وهي مذهب واسع الانتشار بين الدراويش. لقد سمع أن بعض رجال هذه الجماعة صاموا أربعين يوماً وبعد ذلك حصلوا على رؤى عجيبة. فقُبل في عضوية هذه الجماعة وظل يمارس فروضها بأمانة كل ليلة مدة ثلاثة أعوام.
ولما صار مسيحياً كان طالباً غيوراً في ملازمة الكتاب المقدس. كان الكتاب أقرب صديق له. ولما هرب إلى حمدان ولحق به خاخا ليُرجعه إلى سناج، رفض سعيد أن يعود، فأخذ خاخا كيسه الذي كان يحوي أمتعته وكتبه المحبوبة زعماً منه أن ذلك يرغمه على العودة مع أخيه، لكن سعيد صاح قائلاً: «خذ كل شيء، إنما اترك لي الكتاب المقدس». وقد رافقه هذا الروح كل أيام حياته. لما كان يستيقظ في الصباح كان لا يبدأ عملاً قبل أن يقرأ الكتاب المقدس، وكان لا ينام في الليل إلا بنظرة أخيرة إليه. ولما كان يزور مرضاه كان يأخذ الكتاب معه، وكثيراً ما كان يقرأ لهم منه. كان الكتاب طعامه وشرابه، بل كان مرشده في الحياة اليومية، وتعزيته في المتاعب والضيقات.
ومع درسه للكتاب كان يواظب على الصلاة. وكانت صلاته شركة حقيقية مع الله. وكم كان يحزن على مواطنيه المسلمين الذين كانوا يتلون صلواتهم باللغة العربية وهم لا يفهمونها. كان يصلي لأجل عائلته ولأجل مرضاه. ولما كان يواجه ظرفاً صعباً كان يطلب إرشاد الله، وكثيراً ما حصل عليه وهو راكع على ركبتيه. ولما كان يواجه عملاً قاسياً أو مستحيلاً كان يطلب معونة الله، ولما كان العمل يكلل بالنجاح كان يسكب قلبه بالشكر لله الذي أعانه.
كانت حياة الدكتور سعيد الروحية مركزة في المسيح، فقد كان المسيح كل شيء له. وكتب ترانيم كثيرة يرنمونها في الكنائس، ولا سيما الترانيم التي تكشف عمق فكره وحقيقة قلبه. إليك إحداها، مترجمة كالآتي (ولو أنه لا يمكن ضبط وزن الشعر والسجع في الترجمة).
المسيح حياتي، المسيح نوري
المسيح قائدي في ظلام الليل
المسيح لي الكاهن المجيد والشفيع الوحيد
المسيح سيّدي، هو للحق مفتاحي الأكيد.
المسيح سيّدي، منحني السلام
المسيح مخلّصي ببره إلى التمام
المسيح نبيّي وكاهني وملكي الفريد
المسيح طريقي، قلبي يتمسّك بحقه الوطيد،
المسيح مجدي، المسيح إكليلي
المسيح يشاركني إذا اعترض الضيق سبيلي
المسيح كنزي ومجدي في السماء.
في حزني وغمّي حبّه هو العزاء
المسيح مخلّصي وقسمتي وربي
وكل مجدٍ يتغنى به قلبي
المسيح سلامي، المسيح طعامي
يا مسيحي يا هنائي يا صمد،
أنت عزي ورجائي للأبد.
يا مسيحي يا سروري والعزاء
لك شكري يا ميسِّر الفداء
إن مرضتُ أنت لي نبع الشفاء
كل عوزي أنت تبدل بالثراء
ثالثاً: صفة ثالثة من صفات الدكتور سعيد الممتازة هي الشهادة والكرازة. كم من مسلمين قبلوا الإيمان المسيحي في قلوبهم، ولكنهم خوفاً من الاضطهاد أو الضيق لم يعترفوا به. أما الدكتور سعيد فلم يكن فقط مستعداً أن يعترف بإيمانه، بل كان يطلب أية فرصة ليتحدث فيها عن إيمانه ويدعو الآخرين لقبوله. وكان يكلّم مرضاه عن إيمانه وعن قيمته عنده. لم يكن كافياً عنده أن يشفي الجسد، بل كان يطلب شفاء النفس أيضاً. ولما كان يُطلب للمثول أمام السلطات لم ينكر إيمانه قط لينقذ نفسه من الآلام. وسيّان عنده إن كان ينزل في بيت وضيع في إحدى القرى أو في بيت حاكم الإقليم، فقد كان دائماً يشهد عن إيمانه.
رابعاً: كانت الشجاعة ميزة أخرى من مميزات سعيد كما أظهرنا فيما سبق. حدث ذات يوم عام ١٩١٢ إن كان اثنان من المرسلين يتابحثان: هل حان الوقت الذي يُسمح فيه لمسلمٍ متنصّر أن يعظ في يوم أحد في كنيسة يكون بين الحاضرين فيها عدد من المسلمين. وفيما هما يتحدثان مرَّ الدكتور سعيد وسمع الدكتور صموئيل غوردن يقول لزميله: «نعم، لقد جاء الوقت، وها هو الواعظ!». وسُئل الدكتور سعيد فأجاب: يجب أن أستشير الرب أولاً. وفي اليوم التالي أجاب بالإيجاب. وكانت عظته عن تطهير نعمان السرياني من برصه، وهي العظة التي طبعها فيما بعد في شكل نبذة ووزعها على نطاق واسع. ولم تحدث نتائج خطيرة بالنسبة لشجاعته، ولكن هذا وضع سابقة حسنة لمتجددين آخرين شغلوا المنبر فيما بعد.
خامساً: من الصفات الأخرى التي امتاز بها الدكتور سعيد نذكر واحدة فقط هي معاملته لأعدائه بالمحبة. عندما كانت تُتاح له أية فرصة لعمل إحسان أو لطف أو تقديم عناية طبية لشخص أساء إليه أو حاول إيقاع ضرر به، كان دائماً مستعداً لتأدية تلك الخدمة. تأمل مثلاً في الشهادات التالية:
كان أحد زعماء المُلاّ في حمدان واحداً من الوجهاء الذين تآمروا على قتل الدكتور سعيد في عام ١٩٠٤ واضطره لترك ممارسة مهنته في تلك المدينة والهروب إلى طهران. ولما عاد دكتور سعيد إلى حمدان بعد بضعة سنين ليستريح قليلاً في أثناء الصيف، كان هذا المُلاّ مريضاً جداً بقرح في معدته. وأرسل يطلب من الدكتور سعيد علاجه، فعالجه بكل شفقة وحنان ومهارة دون أن يتقاضى أي أجر، وظل يعتني به حتى استعاد صحته تماماً. وكلما احتاج هو أو أحد أفراد أسرته إلى علاج طبي كان الدكتور دائماً يعاملهم نفس المعاملة بالعطف وبدون أجر. وفي مرة أخرى رافقه مُلاّ آخر إلى عيادة الطبيب، وقال المُلاّ لزميله المرافق: «إني أخجل من نفسي أمام هذا الطبيب. لقد أسأت إليه أشد الإساءات، لكنه كان دائماً يقابل إساءاتي بالإحسان. ومرة أنقذ حياتي». وفي مرة أخرى قال لطبيب مسيحي: «لقد فعلت كل ما أستطيع لأقضي على حياته، لكنه بالرغم من ذلك كان دائماً يقابلني باللطف والإحسان».
وفي عام ١٩١١ حين كانت الحكومة تحت حكم سلار الدولة شقيق الشاه المخلوع، جمع هذا النائب جيشاً من رجال القبائل بينهم عدد كبير من سناج ومجاوراتها، وسار بهم نحو العاصمة ليحتلها، لكنه هُزم. وأُخذ عدد كبير من رجال جيشه أسرى وسُجنوا في طهران. وكان بينهم من تعاهدوا على قتل سعيد. فلما عاد سعيد إلى العاصمة من إجازته الصيفية في حمدان، زار كثيرين من هؤلاء الأسرى المسجونين، وعالج الجرحى، وأعطى بعضهم مساعدة مالية، واستطاع أن يعمل على إطلاق سراح كثيرين منهم وأعادهم إلى كردستان. وهذه شهادة واحد منهم يعبر عن رأي الجميع «لقد كنتُ واحداً ممن أقسموا على قتل الدكتور سعيد لكنه شفى عيني، وأعطاني مساعدة مالية وأعادني إلى بلدي وأهلي».
بعد ذلك بسنين، حدث في عصر أحد الأيام أن كان الدكتور سعيد يقود اجتماعاً لدرس الكتاب المقدس في بيته، ودخل الغرفة ضابط بلباسه الرسمي. وواضح أنه كان يعاني من خُراج في رقبته، وطلب منه الطبيب أن ينتظر حتى ينتهي من درس الكتاب المقدس. وبعد الاجتماع ذهب سعيد إلى مستوصفه ليعقم الأربطة. وفي تلك الأثناء قال الضابط للجماعة: «أنتم لا تعرفونني. منذ سنين طويلة سعيت جهدي لقتل الدكتور، لكنه كان دائماً وأبداً يعالجني أنا وعائلتي بهذه الطريقة الممتازة». وبعد أن ذهب الضابط طلب الحاضرون من الدكتور أن يشرح لهم معنى كلام الضابط. أجاب الطبيب: «هذا الضابط الذي عالجته الآن هو محمد خان، وكان قبلاً لصاً مشهوراً من قطاع الطرق في كردستان. وفي طريق عودتي من أورمان إلى سناج، استأجروه ليعترض سبيل قافلتنا ويقتلني، لكن العناية غيّرت طريقي فنجوت. وظل محمد خان وخمسة وعشرون من أفراد عائلته تحت الإقامة الجبرية مدة سنة ونصف في طهران وكنت أتولى علاجهم كل تلك المدة مجاناً». لقد كان سعيد أميناً في حفظ تعليم سيده «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ» (لوقا ٦: ٢٧ و٢٨).
لأجل هذه الصفات الممتازة، وبسبب الخدمات التي قدمها الدكتور سعيد لأناس كثيرين بمهارة فائقة وكرم فياض، قال السر مورتيمر دوراند سفير بريطانيا في إيران: «لو كانت الإرسالية الأميريكية في كل سني خدمتها (في إيران) لم تفعل شيئاً سوى تجديد الدكتور سعيد، تكون جهودها قد كُللت بأكمل نجاح».

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.