رواية الباكورة الشهية -3
الفصل الثالث
ولما كان الوقت المعين للاجتماع اجتمع كل العلماء المتقدم ذكرهم في منزل الشيخ علي، وبعد أن استقر بهم الجلوس وحيا بعضهم بعضاً وقف الشيخ علي وافتتح الجلسة بما يأتي: «سادتي الأحباء، إني مسرور جداً باجتماعنا معاً بالمحبة مرة أخرى في محلكم هذا لغاية دينية صالحة، فأرى من الواجب نبذ روح الشقاق الأدبي، وتربية حاسات المحبة الأخوية في القلب لكل من بني آدم، وترك التعصب الديني والبحث بإخلاص وأمانة ونشاط عن الحق الإلهي، وطلب إرشاد المولى الكريم. فلنبحث في المسألة التي لأجلها اجتمعنا الآن، ولنبدي بكل حرية أفكارنا ونبث فيها أراءنا، وليبارك الله اجتماعنا ويلهمنا الخير والصواب لمجد اسمه الكريم آمين».ثم جلس، فطلب بعضهم أن تُتلى عليهم تلك الرسالة، فوقف الشيخ أحمد عبد الهادي وقرأها مرة أخرى بكل تأني ووضوح، وكان حينئذ كل من الحاضرين يستعمل قلمه بكتابة خلاصة قضاياها. وبعد الانتهاء من قراءتها كان الجميع سكوتاً يتأملون ويزنون تلك القضايا. ثم أخذوا في الحديث أخذاً ورداً سلباً وإيجاباً، إلى أن وقع الاتفاق على التأمل في قضايا الرسالة واحدة فواحدة إن أمكن، والمداولة فيها بالتي هي أحسن، وأول تلك القضايا صحة التوراة. واختاروا لذلك عمر أفندي زاكي والسيد إبراهيم مصطفى.
فوقف الأول وقال: «قد أوقع صاحب الرسالة نفسه في حفرة التناقض بادعائه أولاً سلامة التوراة من التحريف والتغيير، ثم باعترافه بذلك على نوع ما بقوله «لا ينكر وجود اختلاف في بعض كلمات الكتاب، لأن تباين الأزمنة وتنوع الأحوال واختلاف العوائد يجعل طبعاً ظهور تناقض في بعض الجمل» فما ذلك إلا لأنه لم يستطع إنكار الاختلاف والتناقض الموجودين في التوراة اللذين أتى بهما أهل الغايات وأرباب المفاسد» .
فقال حينئذ السيد إبراهيم: «لا أرى في هذه الجملة نقضاً لكلام صاحب الرسالة لأن القول بظهور تناقض ليس هو إقراراً بالتناقض، والاعتراف بوجود اختلاف في بعض كلمات الكتاب ليس هو اعترافاً بتحريفه وتغييره، ما دام الكاتب يعلق صيرورة ذلك على تباين الأزمنة التي كتبت فيها أسفار الكتاب وأحوال كاتبيها. واختلاف العوائد حيئنذ مع الدواعي المختلفة لكتابتها».
- عمر: «سيان عندي اعترف بذلك أو لم يعترف، لأن عدم اعترافه بتحريف الكتاب ليس ببرهان على عدم تحريفه، وما دام الاختلاف في الكتاب بادياً لذي عينين فلا حاجة لنا إلى بينة».
- إبراهيم: «إن حضرة عمر أفندي اعتبر بعض ما في كلمات الكتاب من الاختلاف دليلاً على تحريفه، فلزمني إن أمكن إفساد هذا الدليل لا يخفي أن كلمة تحريف أو تغيير تتضمن وجود غاية في نفس الفاعل ألجأته إلى الفعل، أليس الأمر كذا يا سادتي؟».
أجاب الحاضرون: «بلى ولا بد». فقال: «وإذا كان كذلك، فهل من غاية في ما يوجد من الاختلاف في بعض كلمات الكتاب؟» فتوقف عند ذلك عمر أفندي برهة عن الجواب لما رأى من قوة دفع مناظره، ثم قال: «لا أنكر أحكام دفع السيد إبراهيم، بيد أني أقول ربما في ذلك من غاية نحن نجهلها، وما أتى به كاتب الرسالة المشار إليه من بيان على اختلافات كهذه لا يروى غليلاً».
- إبراهيم: «هل من محل لكلمة «ربما» ما دامت الاختلافات تظهر عارية عن غاية ما؟ وإذا كان ما تقدم من ذلك الكاتب بهذا الخصوص لا يروى غليلاً لمناظري الكريم فنيابة عنه أزيده أن الله بما من شأنه أن يذهب بكل ريب عنده، فعلى الفرض أن في تلك الاختلافات غاية مجهولة عندنا فهل يا ترى يقدم إنسان ما على تحريف كتابه بدون غاية إما لخيره وإما لشر غيره؟» .
- عمر: «كلا ما لم يكن أبله أو معتوهاً».
- إبراهيم: «حسناً، وأية غاية من كلا النوعين تظهر للإسرائيليين في وجود هذه الاختلافات في توراتهم؟ وإلا يرى المخلص أنه لو شاء أولئك إيقاع تحريفهم في توراتهم لكانوا بالأولى أزالوا منها مثل هذه الاختلافات بحيث لا يبقى لأجنبي سبيل للتنكيت عليها بوجه ما، وذلك سهل لديهم كل السهولة».
- عمر: «نعم، لا يرى البتة لبني إسرائيل غاية في ذلك. على أني لا أقدر أن أحيد عن الفكر بكون تلك الاختلافات دليلاً على وقوع تحريف فيه إلا بإقامة دليل أقطع مما تقدم».
- إبراهيم: «إن ما تقدم هو كاف لإقناع أهل الذكاء نظير حضرتكم بعدم مس كتاب الله بأصابع التحريف والتغيير، فلا أرتاب بكون سيادتكم تبغون في طلبكم هذا غاية الإيضاح والجلاء. وعليه فالدليل الفاصل القاطع على سلامة التوراة من شائبة التحريف هو عدم موافقتها في أمور خطيرة لمن بيدهم، كما أشار إلى ذلك كاتب الرسالة المذكورة، فمعروف أن اليهود سقطوا مراراً في عبادة الأصنام المنهي عنها في توراتهم بأقوى تشديد وأعظم تهديد ووعيد، وأنكروا إرسالية عيسى المسيح من الله المنبأ عنه أوضح الأنباء وأعظمها، ومع ذلك لم يمدوا يداً إلى تغيير تلك الوصايا والنواهي عن اتخاذ الصور والتماثيل، ولا إلى شيء من تلك النبوات الشاهدة أبداً على سوء غلطهم وشر كفرهم برفضهم مسيحهم ابن مريم. فمن لا يرى أنهم لو رأوا تحريف توراتهم أو لو سمح الله لهم بمد يدهم لتحريفها لكانوا حرّفوها تحريفاً يوافق أهواءهم ويسند ضلالهم، ومع أن تعاليم أكثر المسيحية مغاير للتوراة لا سيما صورهم وتماثيلهم المالئة معابدهم ضد وصايا الله على خط مستقيم لم يقدموا على حذف أو تغيير أو تبديل وصية من وصاياه. هذا من أقطع الأدلة على حفظ الكتاب العزيز من شائبة التحريف والتغيير، مضبوطاً بيد الضابط الكل. ويبان أن الرسول (صلعم) قد أدرك الامر تماماً، ولذلك شهد بوحي الله شهادة مطلقة مستوفية بأن اليهود والنصارى هم أهل الكتاب، وأن التوراة نور وقط لم يقل كقول المسلمين في أيامنا أنهم حرّفوه أو غيّروه، وإلا لبكّتهم على ذلك. إنما عوضاً عن الدعوى منه بتحريفه وتقريعهم عليه حضهم على القيام بما فيه. ولعمري أن ذلك أمر يلزم المسلمين بالاعتقاد بعدم تحريف الكتاب ولا مناص من ذلك». ثم التفت إلى الحاضرين وقال: «ألا أن الأمر كذا هو يا سادتي، ماذا ترون؟». فأجاب أكثرهم: «لا نرى خطأ في ما قلتم، وإذا كان عند عمر أفندي دفع لذلك نرغب في أن نسمعه».
- عمر: «إن ادعاء كاتب الرسالة بمطابقة التوراة العبرانية لجميع النسخ الموجودة بأيدي طوائف المسيحيين بلغات متعددة ساقط لوجود فروقات عديدة واختلافات جمة بين العبرانية وباقي الترجمات، وكذا بين ترجمة وأخرى، حتى أن التراجم العربية لا تنطبق الواحدة على الأخرى. ومن لا يصدق ذلك فعليه بالمقابلة، فيرى من أول وهلة خطأه المذكور في مدعاه».
فصفق عبد القادر وقال: «طيب الله أنفاس عمر أفندي. الحمد لله قد بدا الحق واعتلى، وسقطت دعوى النصراني في ما زعم». فقال له الشيخ محمود: «مهلاً يا سيد عبد القادر، عل كل لقد أجاد في ما قال عمر أفندي، فدعنا نرى هل عند السيد إبراهيم من دفع لذلك».
- إبراهيم: «كان الأجدر بمناظري الكريم ألا يتعدى إلى مسألة أخرى قبل أن يسلم بالمسألة التي نحن بصددها أو يدحضها إن أمكن حسب حق المناظرة، وعليه أرجو من مكارم أخلاقه إمّا التسليم بسلامة التوراة مما ذكر أو نقض أدلتي المتقدمة بهذا الشأن، ثم أدفع إن شاء الله ما أمكن مقالته هذه».
- عمر: «بل أرجو إن أمكنك دفع مقالتي هذه، وفيما بعد ألتزم إمّا الاعتراف بسلامة التوراة من التحريف أو نقض أدلتكم إن أمكن بما هو أعظم منها».
قال الشيخ أحمد عبد الهادي همساً: «هيهات ذلك لعمري من المحال».
- إبراهيم: «أمركم سيدي. ادفع ذلك بدليلين (الدليل الأول) هو وجود أجل الترجمات المعول عليها قبل ظهور الرسول (صلعم) بزمان طويل كما لا يخفى، ومن المعلوم أن الترجمة السبعينية كانت أكثر شيوعاً في مصر والمغرب، والسريانية بين أهل سوريا، واللاتينية في أوروبا. فلو كان ما بهم من الاختلاف في بعض القراءات يعد تحريفاً أو تغييراً لما أغضى عنه الرسول (صلعم)، بل لا شك كان ذكره في القرآن وأقله ما كان جاء فيه تلك الشهادات المعتبرة القاطعة كل ريب بسلامتها.
(الدليل الثاني) عدم الاختلاف بينهن من جهة القضايا تاريخية كانت أو شرعية أو نبوية. أرني أية قضية من القضايا المشار إليها مختلف عليها اخلافاً جوهرياً في هذه الترجمات. أن التاريخ في قصة أبينا آدم إلى آخر تاريخ بني إسرائيل هو شيء واحد وكذا الناموس والأنبياء. أما الاختلافات الجزئية والعرضية فيهن، التي لم يخلها النبي تحريفاً كما تزعمون. فهي مما لا بد منه في الترجمة من لغة إلى أخرى، بناء على تفاوت المترجمين في معرفة كلتا لغتي المترجم منها والمترجم إليها، ولا جدال في ذلك».
- عمر: «أخالك ارتكبت الشطط نوعاً يا سيد إبراهيم في ما ذكرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنه لو رأى بين هذه التراجم من الخلاف في بعض الكلام تحريفاً لما أغضى عنه إلى آخر مقالك، كأنك نسيت أنه بين يهود العرب لم توجد التوراة سوى بلغتهم الأصلية، فليس إذا لتلك التراجم حظ بشيء من شهادة القرآن للتوراة. ولو وجدت تلك التراجم لديه لما أغضى عن الإشارة إلى تحريفهن».
- إبراهيم: «لقد أصبحت وأهل التوراة بأشد الامتنان لمناظري الكريم لاعترافه بمصادقة النبي للصحة الكائنة حينئذ بلغتها الأصلية، وهذا جل ما يرومه اليهود والنصارى من المسلمين، لأن المرجع في هذه المسألة إلى الأصل العبراني. ولله الحمد إن هذا الأصل لم يزل موجوداً عند قبائل اليهود في كل الأقطار، وهو كما يروي المطالعون المدققون واليهود أنها لا تختلف بقضية مما سبقت الإشارة إليه عن الترجمات الفرعية. فهل تسلمون حضرتكم وسائر المسلمين بصحة سلامة التوراة العبرانية؟ وألا ترى سيادتكم إن ما ذكرته هو طعنة قوية بنبوة النبي (صلعم) لأنه إذا كان نبياً فكيف لا يعلم ما انطوت عليه تلك التراجم قريبة منه أو بعيدة عنه؟».
- عمر: «أقر لك يا سيد إبراهيم بطول الباع في هذه المسائل، فأرجوك خفض الأمر بالنظر إلى هذه المسألة من باب البساطة والاتيان إليها بأقرب الطرق. على كل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ويرجح أنه لم يكن حينئذ بين اليهود المدنيين أو غيرهم توراة عربية يمكن للنبي الوقوف عليها بواسطة بعض الصحابة القارئين حتى يمكنه معرفة ما طرأ عليها من التحريف والخلل. وما بلغ ذهنه عنه يرجح أنه بلغه بواسطة بعض اليهود وأحبارهم، فكتب كما علم والله أعلم».
حينئذ صاح السيد عبد القادر: «واأسفاه يا عمر أفندي، لقد أخطأت النبي والقرآن. أيحتاج نبي الله إلى من يخبره عن التوراة، أو يكتب في القرآن شيئاً استناداً على قول من قال وهو منزل من الله سبحانه؟».
أجابه عمر أفندي، وقد غطى الخجل وجهه: «نعم يا أخي بيان ذلك غلط مني، ولكن أرجوك أين المهرب من الالتزام بالتسليم بسلامة التوراة من التحريف، ونبينا قد شهد بأنها كتاب الله؟ إذا علينا ولا مناص الاعتراف بسلامة الله من شائبة التحريف والتغيير، لأن القول بعدم تحريف التوراة حتى عصر النبي يقضي لا محالة بعدم تحريفها في ما بعد، كما أشار إليه كاتب تلك الرسالة، وكما يرى كل عاقل مخلص».
فوقف حينئذ حسن أفندي قباواتي وقال: «اصحوا يا مسلمين واحذروا من التسليم بما ينافي القرآن العزيز ويثلب سيد المرسلين. أتجهلون نتيجة التوغل بحديث أنتم في غنى عنه؟ كفاكم. أما يكفيكم ما أنزل لكم الله من الآيات الرواسخ النواسخ في قرآن لو اجتمع الأنس والجن لما أتوا بسورة من مثله؟».
أجابه الشيخ محمود: «عجباً لقولك هذا وأنت تتلو بوقار شهادة القرآن للتوراة والإنجيل. أمحرم عليك أن ترى في كتاب ينسبه القرآن لله ويدلك أين هو؟ إننا لم نزل في مركز اعتبار القرآن، فأرجو من لطفك إمعان البصيرة في ما قيل ويقال في خلال هذا الاجتماع، ثم احكم لنفسك بما تريد». ثم قال للحاضرين: «بما أن الوقت قد مضى نرجو إن حسن لديكم النظر قليلاً في البينة الأخرى على عدم تحريف التوراة. فمن تختارون للمناظرة في ذلك؟ فأجاب الأكثرون: «نرغب في أن يكون حسن أفندي راداً والشيخ سليمان مدافعاً». فأبي حسن أفندي وامتنع فألحوا عليه حتى قبل، ومن ثم وقف وقال على مَ أتكلم والبينة الأولى قد حلت بعدم تحريف التوراة، فلا حاجة بعد والحالة هذه إلى النظر في أمر البينة الأخرى، يكفي» .
الجميع: «بل نرجوك قبول التماسنا».
«لا حول ولا - أمركم».
- حسن: «إن صاحبنا يزعم أن إتمام الحوادث المنبأ عنها في التوراة قبل حدوثها حسب زعمه هي دليل ثان على عدم تحريف التوراة إلى آخر ما قاله بهذا الشأن، فما أدراه أن اليهود حرّفوا توراتهم بعد وقوع تلك الحوادث ثم تسلمها النصارى منهم محرّفة، وأنهم أتوا ذلك ليبينوا للعالم أكثر عظمة كتابهم المنزل؟».
- الشيخ سليمان: «بعد ما اتضح عدم تحريف التوراة مطلقاً بالنظر إلى البينة الأولى لا أرى محلاً بعد لمقال حسن أفندي. وبغض النظر عما تقدم يدفع هذا الزعم الواهن بما يأتي: (أولاً) إن جزءاً كبيراً من تلك النبوات هو عن سوء مصير حالة اليهود بناء على ارتدادهم عن عبادة الله ونبذ وصاياه، ومنه ما هو مضاد أفكارهم وأعمالهم بالنظر إلى الحوادث المنبأ عنها فيه، كالنبوات عن عيسى المسيح الذي رفضوه وأنكروه، فبعيد عن العقل أنه يخطر لهم ببال تحريف النبوات إلى مثل هذه الأمور المضادة لهم، والآيلة إلى كرههم وبغضهم من الأمم وإلى إخجالهم وتأنيبهم. (ثانياً) إن تلك الحوادث التي حدثت إتماماً لنبوات توراتهم حدث بعضها في ابتداء التاريخ المسيحي، وبعد ترجمة التوراة إلى اليونانية بنحو قرنين، وهو ما اختص بالمسيح، ومنها بعد ذلك بسنين عديدة وبعضها بأجيال متعددة كخراب مدينتهم والهيكل وشتاتهم شتاتاً ذريعاً في كل الأقطار، و خراب نينوى وبابل وصور ومصر وغير ذلك مما لا يسعنا ذكره. وكانت التوراة قبل ذلك بزمان طويل قد ترجمت إلى لغات مختلفة وتوزعت بين المسيحيين واشتهرت بين الأمم، فعليه ألا يكون ما زعمه حسن أفندي كما تقدم من أعظم ضروب المحال؟».
- حسن: «منذ شرعت بالكلام في هذه المسألة رأيت نفسي كما ينبه الأسد من نومه، أو ينفخ في نار يود إخمادها. فيكفي يا شيخ».
قال بعضهم: «نعم يكفي. إن لم يوجد سوى هاتين البينتين للتوراة فهما كافيتان لبيان كونها كتاب الله، وإنها كما أنزلت ولم تزل تماماً على ما كانت. إلا أننا نرجو من حضرة الشيخ سليمان أن يشرح لنا ما أمكن وبالإيجاز بعض الحوادث الأكثر أهمية التي حدثت إتماماً لنبوات الله في التوراة، فإن ذلك لا ريب لاذ ومفيد. فوقف وقال: «إن ما طلبتم مني الآن ليس في وسعي إيراده على طريقة لاذة ومفيدة كما ينبغي لحداثتي في معرفة الكتاب والتاريخ، فإذا شئتم ذلك فعليكم بكتابي «دليل الصواب إلى صدق الكتاب» و «البينة الجلية في صحة الديانة المسيحية» ترون فيهما ما يبهر النواظر ويجلي الخواطر من سمو كتاب الله ونبواته. بيد أني أقول بإيجاز أن نبوة موسى كليم الله عن سبي اليهود وشتاتهم السحيق في كل أقاليم العالم وذلهم والبلايا التي ستحيق بهم والنكبات التي ستدهمهم إذا حادوا عن الله وشريعته حتى يضحوا مثلاً وسخرية وعاراً ولعنة بين أمم الأرض قد تحققت كلها. فمن يا ترى يقرأ نبوات الكليم ويقابلها مع هذه الأمور التاريخية والعيانية ولايختم بكل قلبه على صحة التوراة وسلامتها؟ ونبوات إشعياء وإرميا عن خراب بابل ووصف هيئة خرابها وإتمام هذه النبوات بخراب تلك المدينة العظيمة التي كانت أم المدن وزينتها ومركز سياسة العالم التي الآن لا يكاد يعرف موضعها مما يحير العقول. وكذا النبوات عن مصر وصور وأدوم وبني عمون وما إلى ذلك من النبوات الكثيرة بهذا الشأن مما يطول شرحه، ويثبت تلك النبوات الإلهية التي أنبأت بذلك منذ أجيال عديدة، فمن لا يصدق عليه بالسياحة أو المطالعة».
ثم جلس، وأخذ الحاضرون بالتأمل والمداولة في مسألة سلامة التوراة من التحرّف، إلى أن اقتنع الجميع بذلك ما خلا السيد عبد القادر، الذي وقف حينئذ وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما هذا أيها السادة؟ ما هذا يا علماء المسلمين وأئمة الدين؟ أراكم عرجتم عن الصراط المستقيم. ألا تعلمون أن الاعتقاد بسلامة الكتب من التحريف والإفساد، حطة بالقرآن وضرب على أركان الإسلام؟ أيمكن اعتبار القرآن ككتاب الله مع اعتبار سلامة التوراة الحالية من التغيير والتحريف والحذف والإبدال؟ كلا، فانظروا إلى أين صرتم، وداركوا الحال قبل الزوال للنجاة من شر الوبال».
فوقف من ثم الشيخ محمود الرافعي وقال: «ما هذا الكلام يا سيد عبد القادر؟ أيخفى عليك أن القرآن يشهد للتوراة والإنجيل؟ فأي خطر يا ترى في البحث عن حقيقتهما وسلامتهما؟ لم يقل القرآن بتحريف الكتاب، أنقول نحن بذلك؟ فماذا ترى نعطي الله جواباً في يوم الدين إذا لم نصدق كتابه ونؤمن بما قد أنزل فيه، نحن الذين نبهنا إليه في القرآن ثم جئنا إليه فوجدناه على ما هو أحسن؟».
ثم جلس. وكان الوقت قد أمسى، فقال الشيخ علي: إن طلب الشيخ محمود عادل، غير أني أرى أن يكون أكثر مناسبة تأجيل بت الحكم في هذه المسألة إلى جلسة أخرى تكون إن حسن لديكم نهار السبت بعد غد، ليتمكن الجميع من فرصة وافية للتأمل فيها (قال ذلك خوفاً من السيد عبد القادر لئلا يعجل بإذاعة الأمر، فلا يتمكنون من فرصة أخرى مناسبة للنظر في أمر الإنجيل، وبما أن الوقت مضى فأرى مناسبة فض الاجتماع. ثم قدم لهم مائدة حافلة فأكلوا وانصرفوا بسرور، ما خلا السيد عبد القادر، فإنه ذهب مغموماً مما جرى.
ليست هناك تعليقات: