قصة البحث عن الحق - 1
الفصل الأول: نظرة إلى الوراء
وُلدت في ١٣ أغسطس (آب) ١٩٣٤ في عائلة مسلمة من الطبقة المتوسطة في توديل، وهي قرية صغيرة على الساحل الغربي لبلاد الهند على شاطئ نهر صغير تحيطه الجبال العالية. وكان في قريتنا ثلاثة أنواع من الناس، أولهم المسلمون، وهم الأغلبية والأغنياء. ثم الهندوس من الطبقة العليا. أما الجماعة الثالثة فهي المنبوذون. ولم يكن في القرية معبد هندوسي، فكان الهندوس يتعبدون أمام بعض الأحجار التي دهنوها باللون الأحمر خارج نطاق القرية. أما المسلمون الكبار في السن من الرجال فكانوا يمارسون فرائض الدين الإسلامي بأمانة. لكن الشباب كانوا مشغولين بأشياء أخرى.وكان لأبي أربعة إخوة وأختان. وكنا نعيش في بيت واحد، وكان والدي بمساعدة أخيه الأصغر يزرع قطعة أرض يملكها الإخوة جميعاً، أما أعمامي الثلاثة الآخرون فكانوا موظفين. ولم تكن عائلتي متدينة كثيراً، فكنا نكتفي بالذهاب للعبادة في الجامع كل يوم جمعة.
وكانت عادة أهل قريتنا أن نسمي الطفل الوليد على اسم أحد جدوده، أو على اسم أحد الأنبياء. كما كانوا يختارون أحد أسماء الله الحسنى، ويضيفون إليه كلمة «عبد» وهذه أسماء للرجال. أما تسمية البنات فكانت صعبة في قريتنا لأن القرآن لا يذكر إلا اسم مريم. ثم كان لدينا اسم آمنة أم نبي الإسلام، وعائشة زوجته وفاطمة ابنته. وبالطريقة نفسها اختارت العائلة لي اسم إبراهيم، ثم أضافت لقب العائلة «خان» و «دشموخ». وكانت عائلتي فخورة باسمي لأنه اسم إبراهيم خليل الله، كما أنه كان اسم جدي، واسم كثيرين من المسلمين المحترمين في قريتنا.
ولقد تبعت ديانة الإسلام، شأن بقية أسرتي. وفي سنة ١٩٥٧ كنت في الثالثة والعشرين من عمري، وقد حصلت على درجة البكالوريوس في العلوم من جامعة بومباي. ولكني لم أكن قد مارست أية ديانة، ولا قرأت كتاباً دينياً، ولم تكن عندي نسخة من القرآن، ولم أكن قد تلقيت تعليماً دينياً جاداً في طفولتي. وكان في قريتنا جامع قريب من بيتنا، فكان المؤذّن يدعو المؤمنين للصلاة خمس مرات كل يوم. لكن لم يكن لجامعنا إمام، فكان واحد من الأتقياء الكبار في السن يؤمُّ الموجودين في الصلاة. وكان المؤذن يقوم بالإمامة عندما لا يوجد شخص يستطيع أن يفعل ذلك. وفي مطلع كل صباح كان الأطفال يجتمعون في الجامع لتعلُّم القرآن وحفظه، وكان بعضهم يرتل القرآن ترتيلاً جميلاً. ولما كان القرآن قد أُنزل باللغة العربية، فكان لا بد أن نحفظه باللغة العربية، حتى لو لم نفهم معاني ما نقرأ. وكان معلّمنا يصحح قراءتنا الخاطئة دون أن يوضِّح لنا المعاني. وعندما كان أحدنا ينتهي من حفظ القرآن، كنا نحتفل بذلك بأن نجتمع حول قبر أحد الأولياء الصالحين لنقرأ الفاتحة، ثم نكسر جوزة هند نسمّي عليها اسم الله ونوزّعها على الحاضرين. وكان في قريتنا أربعة أضرحة مقدسة تتميز في ظلام الليل بضوء مصباح زيتي، وكان أهل القرية يكسون الضريح سنوياً في موعد وفاة الوليّ المدفون فيه بقماش أبيض، وينثرون عليه الورود طالبين له ولنا الرحمة.
ولما لم يكن في بلدنا إمام، لم تكن هناك مدرسة إسلامية أحضرها. على أن كثيرين من الأولاد كانوا يستيقظون مبكرين ليتلوا القرآن في بيوتهم. ولكن لما كان أغلب الآباء أمّيين، لم يكونوا قادرين على أن يصححوا الأخطاء التي يرتكبها أولادهم في القراءة. وكان في قريتنا رجل عجوز يصلح شباك الصيد، ولكن بسبب عجزه لم يكن قادراً أن يذهب للجامع في أوقات الصلاة الخمس، فكان يدعو الناس للصلاة في بيته. وكان رجلاً تقياً محبوباً من الناس، وقد حفظ القرآن كله. وعندما كان يموت أحد القرويين كانوا يطلبون من ذلك الشيخ أن يقرأ القرآن ترحُّماً على الميت. وكان يتقاضى أجراً بسيطاً على تلاوته، كما كان يتلو آيات على الرمال التي ينثرونها حول البيوت ليمنعوا الحشرات السامة من الاقتراب إليها. كما كان يتلو آيات قرآنية لشفاء المرضى. ومع أنه كان يقرأ القرآن بالعربية، إلا أنه لم يكن يعرف كيف يكتب ولا أن يشرح معناه. ولكن هذا لم يمنع كثيرين من الأطفال من الذهاب إلى بيته لتعلُّم القرآن. وكنت أخاف منه لأنه كان يضرب الأطفال بعصاه.
ثم التحقت بمدرسة متوسطة تعلِّم باللغة الأردية، تديرها الحكومة في قريتنا. وبعد أن تعلمت الأبجدية الأردية والعربية حاولت أن أقرأ من القرآن الموجود في بيتنا في شهر رمضان فقط. وكنت أختار السُّور القصيرة، ولم أقرأ القرآن كله أبداً، ولا مترجماً، ولم أحاول أن أحفظ منه شيئاً.
وكان أحد التلاميذ يقرأ لنا قبل بداية دروسنا اليومية في المدرسة سورة الفاتحة، ثم كان تلميذان يقومان بقيادة بقية الطلبة في تلاوة الأذكار. وذات يوم طلب مني قائد الفصل أن أتلو سورة الفاتحة، فوقفت أرتعش، وأنا أتلو في غير نظام آيات تلك السورة. ويبدو أن قراءتي كانت رديئة للغاية، حتى أن ناظر المدرسة جاء بعصاه ليضربني. وقرر الناظر أن يخصص حصة أسبوعية لحفظ القرآن.
وعندما التحقت بمدرسة أردية داخلية في قرية قريبة أجبرونا على أداء الصلاة بانتظام. وكان الغياب عن صلاة العشاء يحرمنا من تناول وجبة العشاء. فتعلمت كيف أصلي وأركع، وحفظت كلمات الصلاة باللغة العربية. غير أني لم أستطع أن أدرك الصلة بين ما كنت أقوله من كلمات وبين ما أفعله من قيام وركوع.
وكان الصوم واجباً ثقيلاً عليَّ. فقد كان شهر رمضان طويلاً، خصوصاً عندما يجيء في شدة حرارة الصيف. ولم أكن طفلاً حتى يعفوني من الصوم، فكان لا بد من الصيام والصلاة. غير أن شهر رمضان كان يجيئنا دوماً بمكافأة، لأن المدرسة كانت تغلق أبوابها مبكراً، وكنا نتناول وجبات طعام شهية في الليل. ثم كانت عائلاتنا تعطينا مصروفاً أكبر وحلوى ألذّ وملابس جديدة.
وبقدر ما أذكر، وأرجو ألا تخونني الذاكرة، لم يكن أفراد عائلتي يمارسون دينهم كما يجب، ما عدا أختي الكبرى التي حفظت القرآن وأقامت الصلاة - ولو أنها كامرأة لم تكن تستطيع أن تذهب إلى الجامع لأداء العبادة. فلم أشعر أني أقل أو أسوأ من أي فرد من أفراد أسرتنا. وعندما انتهيت من الدارسة الثانوية كنت قد فقدت حتى القليل من تديُّني الذي تعلمته في صغري.
ليست هناك تعليقات: