رواية الباكورة الشهية - 11
الفصل الحادي عشر
أما القاضي فإذ كان قد كلّ وتعب من دفاع الشيخ علي وصحبه، دخل وجلس في مخدع منفرد، وأخذ يراجع تلك المناظرة، فكان يذهل ويعجب من قوة الأدلة والبراهين التي حامى بها المذكورون عن الكتاب المقدس، فقال: «يتراءى لي أن هؤلاء الرجال مصيبون، واستبعد أن علماء الإسلام يستطيعون الثبات في ميدان نزال أهل الكتاب. كيف تحارب الجنود بدون أسلحة، أعداء مدججين بها؟ وهل يغلب محارب بدون سلاح من هو شاكي السلاح بمجرد التنكيت على سيفه أنه غير ماض، أو أن رمحه قصير وضعيف السنان؟ فلا أرى للإسلام من الأسلحة لمقارعة أهل الكتاب سوى التنكيت والاعتراض على الكتاب بدعوى أنه محرّف، حال كونه له من الأدلة والبينات على عدم تحريفه ما يرد بالخيبة كل تنكيت واعتراض عليه، حتى كما رأينا أن بعض القضايا التي يحسبها علماؤنا دليل تحريفه هي حقاً بالعكس، من الدلائل على عدم تحريفه، فما العمل وما الرأي؟».وكان قد طار نومه من جراء استغراقه في الأفكار والتأمل، فبقي على هذه الحال إلى أن لاح الفجر، فاضطجع على فراشه ورقد حتى الساعة الثالثة من النهار. ولما استيقظ من نومه رجع إلى التأمل في ذلك الموضوع، ثم قال: لا بد إن شاء الله من الاجتماع مرة أخرى بالشيخ علي والأخذ معه بالبحث بشأن هذا الأمر الخطير، عسى أن يضحى ذلك وسيلة إقناعه وارتداده. ثم أرسل وأخبر المذكور بذلك، وعين الوقت الساعة الثانية ليلاً في غرفة استقبال مجلس البلدية.
أما ما كان من المتنصرين فإنهم سروا سروراً عظيماً مما جرى في تلك المناظرة، وأملوا منها خير نتيجة. ولما بلغت أيضاً دعوة القاضي للشيخ علي للاجتماع وأياه مرة أخرة في الأجل المذكور، ازداد سروراً، والتمسوا من لدنه تعالى حسن العاقبة. ولما كان الوقت دعي الشيخ علي إلى المحل المذكور، فلقيه القاضي بالبشاشة والأنس. وبعد أن جلس قال القاضي: «الباعث الاجتماعي بحضرتك الليلة هو لنتحدث معاً بشأن أمور خطرت لي هذا الصباح، فأرجوك أن تعرني سمعك. هل تذكر يا صاحبي أدلة وبراهين نبوة وإرسالية محمد صلى الله عليه وسلم؟ انظر كيف نادى بوحدانية الله داعياً إلى ذلك الجاهلية من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق. ماذا يا ترى دعاه إلى ذلك وهو ابن قبيلة وعشيرة وثنية تعبد اللات والعزي؟ وكيف وهو رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب جاء بقرآن عجيب، لو اجتمعت الأنس والجن لما أتت بمثله؟ وحال كونه يتيماً فقيراً فريداً في رأيه نجح بنصر الله وعونه نجاحاً يكاد يكون معجزة على كفّار قريش وخلافهم من العرب جاهلية ويهوداً، وتابعوه وأنصاره يزدادون دون توقف ازدياد غريباً حتى بزمن قصير غدا السواد الأعظم في بلاد العرب والشام من أمّته، رافعين شأن نبوته وإرساليته، ألا تنفي هذه الغرائب الريب بنبوة السيد الأعظم صلى الله عليه وسلم إرساليته؟».
أجاب الشيخ علي: «حقاً إني يا مولاي أكره أن أجرح حاساتكم بتفوهي لديكم بما ينفي دعوى محمد وإرساليته من لدن المولى عز وجل، غير أن الحال يلزمني أن أقول أني لست بناس ما ذكرتموه حضرتكم، وقد طالما سردت مثل ذلك أمام علماء المسيحيين، ولم أكن دونكم بالتفاخر في مثل هذه الأمور التي كنت أظنها كحضرتكم الآن حصوناً منيعة لهذه الدعوى، حتى كشف لي الغطاء، فرأيت نفسي في خطأ ووهم مبينين».
القاضي: «وكيف ذلك؟ تكلم بالحرية يا صديقي. لا تخف، ولا تخجل؟».
علي: «أشكركم يا مولاي، لا يخفى على اعتقاد محمد بوحدانية الله سبحانه ليس هو دليل النبوة، بل دليل على حذقه وحدة عقله، لأن كل عاقل حاذق يمكنه أن يميز وحدانية الله تعالى. هذا ولم تكن العرب خالية من التعليم بوحدانية الله، لأن اليهود من جهة وهم أكابر العرب، والنصارى من جهة أخرى كنصارى نجران وبني كندة وغيرهم، كانوا ينادون بتعليم الوحدانية الإلهية. وبما أن محمداً كان كثير ما يتجر من الحجاز إلى الشام ويمر في طريقه على بعض أديار النصارى، فلا يبعد أنه استنار بتعليم الوحدانية من بعض اليهود أو الرهبان المسيحيين، كما يلوح لنا ذلك من الحديث والسيرة، بل من نفس القرآن الذي به يثني على بعض قسس ورهبان النصارى شاهداً بتقواهم وحرارة عبادتهم، وأما نجاحه فلا يمكن أن يؤخذ دليلاً على صحة دعواه، وهو منكر ما جاء في كتاب الله، سيما أن أكثر نجاحه كان بعد ما أخذ السيف خلافاً لنجاح المسيح الذي كان قوة الله. هذا وليس بخاف على حضرتكم أن أهم برهان على الإرسالية من الله هو عمل الآيات والمعجزات باسم الله. ومن المعلوم أن محمداً لم يأت بآية ما برهاناً على صحة دعواه، كموسى الذي لما أرسله تعالى إلى بني إسرائيل أعطاه آيتين لتكونا له برهاناً على صحة دعواه أن الله أرسله إلى إخراجهم من مصر».
القاضي: «لقد جئت يا شيخ بأمرين فريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأول قولك أنه منكر ما جاء في كتاب الله. والثاني أنه لم يأت بآية ما برهاناً على صحة دعواه بالإرسالية من قبل الله. فعلى الأول أقول لا يخفى أن الرسول جاء مصدقاً لما مع اليهود والنصارى أي التوراة والإنجيل، كما ترى في سورة البقرة آية ١٠١ «وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَابَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» وفي سورة آل عمران آية ٣ و٤ «نَّزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ» إلى آخر الآية و «ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه..» فترى حضرتك أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل اللذين مع اليهود والنصارى، فمن أين جاز لك أن تقول بحقه ما قلت؟
وعلى الثاني أقول: «أنسيت أن الرسول أتى بآيات ومعجزات عديدة، من ذلك شقه القمر نصفين على أبي قبيس جبل في مكة والنصف الآخر على قينقاع كما اقترح عليه المشركون. وإحياءه أبويه بعد موتهما بزمان طويل، فآمنا به ثم أرجعا إلى الموت، وآية إخراجه الماء في محل يدعى المجاز، وإحياؤه ابن امرأة من الأنصار، وإشباعه عدداً عديداً من طعام قليل جداً (راجع السيرة النبوية صفحة ٣٧ و٥٥ و٤٠ جزء أول وغير ذلك مما لا يسعني ذكره) فعجباً كيف يسعك إنكار مثل هذه المعجزات التي قد شهد بها جم غفير من الثقاة الصادقين؟».
علي: «حاشا لي يا سيدي من الافتراء على نبي المسلمين أو خلافه، ولكني أنطق بكلمات أستطيع بيان صدقها، نعم وردت عدة آيات في القرآن مفادها أن محمداً جاء مصدقاً لما مع اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل. وإنما لدى النظر في ذلك بتدقيق وإمعان يرى أن ذلك دعوة تحتاج إلى إثبات. إنّ جل تعليم الكتاب المقدس، التوراة والإنجيل، هو تجسد ابن الله الأزلي وصلبه وموته فداء الخطاة. وقد اتضح لديكم مما كان في الجلسة السالفة عدم تحريف الكتاب. وفوق ذلك أقول أنه من المعلوم أنه قبل ظهور محمد بنحو ثلاثة قرون عقد مجمع في مدينة نيقية بأمر أول سلطان مسيحي مؤلف من جم غفير من أساقفة العالم المسيحي لأجل فحص عقيدة آريوس، منكر أزلية الابن ومساواته للآب في الجوهر والكرامة. وبعد مجادلات ومفاوضات مستطيلة حكم المجمع حسب الكتاب على ضلالة وهرطقة آريوس هذه. وحيثما وجدت نسخة في العالم من نسخ الكتاب المقدس قديمة وحديثة وفي أي لغة كانت، يرى من أول وهلة أن غايتها ومفادها المسيح الإله والإنسان معاً مماتاً في الجسد فداء البشر. وإنكار الشمس في رابعة نهارها ليس بأصعب من إنكار هذه الحقيقة التي هي غاية في الشهرة والبيان. وقد استوفينا الكلام على هذا الموضوع فيما سلف من البحث، فلا حاجة لمراجعة الإسهاب فيه. فما وجه تصديق محمد لما مع اليهود والنصارى، وهو ينكر لاهوت المسيح وصلبه بالجسد غاية التوراة ومفاد الإنجيل وخلاصه؟ ماذا تظنون حضرتكم لو سلبنا من الإنجيل كل آية فيه عن المسيح كإله وكمصلوب عن البشر، ماذا يبقى فيه؟».
فحقاً يا مولاي لو صدق محمد ما بيد اليهود والنصارى في كتابهم الإلهي لكان لا محالة مسيحياً. إذا دعواه هذه دعوى بلا برهان، لا تعار جانب الالتفات ممن له إلمام لمعرفة كلام الله في التوراة والإنجيل، وما لهما من البينات الجلية على سلامتهما من كل شائبة منذ بداءتهما حتى اليوم. أما تذكيركم إياي بما نسب لمحمد من الآيات والمعجزات، كما في كتب الحديث والسيرة، لست بناسيها، غير أني أقول الحق لسيادتكم أني وأنا في حال الإسلامية، وبأوج فخري وشغفي بمحمد، كنت أتحاشى ذكر شيء أمام أئمة النصارى، وكنت أخجل كل الخجل عندما أسأل عنها أو عن بعضها، لتيقني عدم صحتها بناء على ما قد جاء في القرآن. والعجب كيف حضرتكم تتخذونها على محمل الصدق، والقرآن في يدكم؟
القاضي: «وأين ذكر في القرآن عدم إتيان الرسول بالمعجزات والآيات؟».
علي: «لا يخفى على مولاي أن الآيات القرآنية التي يتبين منها جلياً عدم إتيان نبي المسلمين بآية ما كثيرة أجتزئ بذكر ثلاث منها:
الأولى: ما جاء في سورة الرعد آيتي ٢٧ و٣٨ «وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ، وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ» إلى آخر الآية.
الثانية: في سورة العنكبوت آية ٥٠ «وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَاتُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ»
الثالثة: سورة الإسراء آية ٥٩ «وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا ٱلأَّوَلُونَ».
إلا أن هذا الكلام يقطع بعدم إتيان محمد بآيات كموسى ويسوع المسيح وغيرهما من أنبياء الله، وأنى يسوغ للمسلمين أن يصدقوا الرواة بأن نبيهم أتى بآيات ومعجزات، حال كون القرآن المعتبر لديهم ككتاب الله يصرح أن محمداً لم يرسل بالآيات، ويقدم جواب اعتذار لدى المنكتين عليه بعدم إتيانه بآية ما: «قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين».
فتوقف القاضي برهة عن الكلام مطرقاً عابساً، ثم قال بصوت منخفض: «يلزمنا الوقوف على تأويل هذه الآيات لا سيما الأخيرة في تفسير البيضاوي».
علي: «حسنا، ولكن الآية غنية عن تفسير المفسرين، معناها واضح كوضوح أحرفها، وليس لنا الآن الوصول حالاً إلى البيضاوي غير أني إن شئت أسرد لك حرّفياً كلامه بشأن هذه، وفيما بعد تنظر ذلك على مهل في محله. قال البيضاوي: «وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا إن كذب بها الأولون، أي ما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحها قريش إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم في الطبع كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوها تكذيب أولئك، واستوجبوا الاستئصال على ما قضت به سنتنا. وقد قضينا أن لا نستأصلهم لأن فيهم من يؤمن أو يلد من يؤمن» (بيضاوي مجلد أول صفحة ٧٠٢) فهل من بيان أجلى من هذا على كون محمد لم يأت بالآيات كأنبياء الله السالفين؟ إلا أن العلة المذكورة هنا تبين قطعياً عدم إتيانه بآية ما؟» .
فلما رأى القاضي ذلك قال: «نعم ذلك حجة الله لعدم إرسال الرسول بالآيات، فعليه يكون النبي ما أتى بالمعجزات والآيات. وما روى عن آيات أتى بها هو محض كذب لا ينبغي الالتفات إليه. وأشكر همتك يا شيخ علي على تنبيهك إياي على حقيقة لا أعذر على عدم انتباهي إليها، وإنما أسألك ألا أن القرآن معجزة عظيمة دائمة لسمو بلاغته وغريب فصاحته، وما حوى من عجائب الآيات السماوية على نوع مدهش لم يسبق له نظير، ولا يمكن الإتيان بمثله؟».
علي: «لا يخفى على مولاي: ما المعجزة إلا حادث يحدث خلاف مجرى الطبيعة وناموسها، فإماتة حي بطريقة ما لا يعد معجزة لحدوثه وفق ناموس الطبيعة. ولكن إحياء الميت بواسطة كتاب ما في نهاية البلاغة والفصاحة لا يعد معجزة بل من نوادر أعمال الإنسان. وإن حسبنا القرآن بناء على سمو بلاغته وفصاحته معجزة، يلزمنا أن نحسب كثيراً من أشعار العرب وخطبهم معجزات، لما هي عليه من البلاغة والفصاحة، كقصيدة امرء القيس المشهورة التي مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
التي كانت ولا تزال يضرب بها المثل لشهرتها، حتى يقال أشهر من «قفانبك» وكقصائد المتنبي والفارض والحريري، وخطب قس الفصاحة ولقمان وغيرهم. فمن هذا القبيل يكون القرآن خارجاً عن كونه معجزة.
بقي علينا النظر فيه من حيثية الحقائق الموجودة فيه فأقول: إن أكثر القضايا الشرعية وأجلها فيه مقتبسة من كتاب التوراة، وجميع القصص فيه ما عدا قصتي صالح وهود هي مأخوة عن التوراة ومسبوكة بقالب الفصاحة العربية بتصرف قليل، ومكررة فيه مراراً عديدة حتى ملأت صفحات كما ترى، فقصة خلق الله آدم وأمره تعالى الملائكة بالسجود له حسب القرآن إلى آخر الحديث مكررة في خمس سور، وحديث نوح والطوفان مكرر عشر مرات في عشر سور، وحديث إبراهيم بإنذاره عبثاً قومه وتبشيره بإسحق مكرر في ثماني سور، وحديث لوط بإنذاره عبثاً قومه وهلاك سدوم مكرر في تسع سور، وقصة يوسف سورة برمتها، وحديث موسى بإرساله من لدنه تعالى إلى فرعون لإخراج بني إسرائيل من مصر مكرر في اثنتي عشرة سورة، فإذا نسخنا من القرآن كل ما هو مقتبس من التوراة ومأخوذ عنها من الشرائع والسيرة لا يبقى فيه كما لا يخفى على نباهتكم ما يستحق الذكر فبأي نوع إذاً هو معجزة وما دليل ذلك؟».
القاضي: «إذا ربما كان زعمك هذا يا شيخ أن القرآن من غرائب الأعمال ونوادر التآليف، لكنه ليس بمعجزة، قرين الصواب غير أن إتيان رجل أمي به يرى من باب المعجزة كما لا يخفى على فطانتكم».
علي: «على فرض أن محمداً أتى بأجمعه لا يدخل ذلك ضمن دائرة المعجزة، كما لا يخفى، بل لا يزال في دائرة إمكانية القوى العقلية، طالما يرى أنه مجموع ومؤلف من شرائع وأحاديث قديمة مدون أكثرها في كتابه تعالى. هذا وأن الوحي بالتوراة والإنجيل مع كونه فعلاً إلهياً. لا يقال عنه معجزة، بل وحياً اقتضى وقوع المعجزات لإثبات كونه وحي الله. ولكن حضرتكم وأنا وكل من له إلمام في مسألة القرآن يعرف كيف ومن أين جمعت سوره وآياته، والطرق التي اتخذت لإثبات تلك الآيات بوجه شرعي كون محمد نطق بها، وهذا لا غرو يوقع الريب بأن محمداً أتى بكل القرآن».
القاضي: «نعم صحيح ما أشرتم إليه بخصوص الكيفية التي بها جمع القرآن، غير أنه يدل على سمو التقوى وفضل قائله، ألا ترى ذلك؟».
علي: «لا ريب أن محمداً كان من أول طبقة في العقل والذكاء، وهنا أرجو مولاي إن حسن لديكم فلنرجع قليلاً إلى مسألة تصديق محمد لما بين يديه من التوراة والإنجيل، فما هو يا سيدي وجه تصديقه لكتاب الله هذا؟».
القاضي: «إن وجه تصديقه للتوراة والإنجيل هو تصديقه ما جاء فيهما من قصة خلق الله آدم وحواء وعصيانهما وطردهما من الجنة، وقتل قايين أخاه، وجميع القصص التي ذكرتها جنابك، وحديث مريم وزكريا، واعتبار الختان والوضوء وغير ذلك من الأوامر والنواهي كما لا يخفى».
علي: «نعم أن محمداً صدق الكتاب في جل هذه الأحاديث، وأهمل أو بالحري أنكر ما هو أهم وأولى بالتصديق».
القاضي: «وما هو؟».
علي: «قد تقدم بيان بعض ذلك لجنابكم ولاستيفاء الفائدة أقول أن محمداً صدق التوراة في مسألة إغواء أبوينا الاولين وطردهما من الجنة، متكلماً عنهما بغاية الإيجاز، ويترك بعض أجزائه الجوهرية (أنظر سورة البقرة والأعراف) وأهمل مسألة طريقة العفو عنهما وعن الخطاة من نسلهما وإرجاعهم إلى حال البرارة والقداسة، وإدخالهم بعد ارتحالهم من الدنيا فردوساً أسمى وأمجد خالدين فيه. المسألة المشحون كتاب الله بالتكلم عنها والإيمان إليها بطرق وأنواع شتى لا سيما في الإنجيل كما قد سلف بيانه. وذكر محمد قصة إبراهيم وتبشير الملائكة إياه بغلام حليم وتقديم ابنه لله وافتداء الله إياه بذبح عظيم (أي كبش عظيم) وأهمل منها ما هو أكثر أهمية، وهو وعد الرحمن لإبراهيم أن بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض. ومن المؤكد أنه سبحانه وتعالى أراد بذلك إسحق».
القاضي: «وما دليل ذلك؟».
علي: «أن لذلك ثلاثة أدلة. الدليل الأول أن إعطاء الله هذا الوعد الثمين لإبراهيم كان بعد تقديمه ابنه اسحق إطاعة لأمره تعالى (انظر تكوين ٢٢) ويؤيد ذلك الدليل الثاني وهو قوله تعالى لإبراهيم عندما همت سارة امرأته بطرد هاجر وابنها اسماعيل «فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ ٱسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ» (تكوين ٢١: ١٢) الدليل الثالث هو تكرار هذا الوعد لإسحق ويعقوب ابنه (انظر تكوين ٢٦: ٤ و٢٨: ١٤): إذ يقول الله تعالى لإسحق بعد موت أبيه: «وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ كَنُجُومِ ٱلسَّمَاءِ، وَأُعْطِي نَسْلَكَ جَمِيعَ هٰذِهِ ٱلْبِلاَدِ، وَتَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلأَرْضِ» وليعقوب لما كان هارباً من وجه أخيه عيسو: «وَيَكُونُ نَسْلُكَ كَتُرَابِ ٱلأَرْضِ، وَتَمْتَدُّ غَرْباً وَشَرْقاً وَشِمَالاً وَجَنُوباً. وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ». ألا ترون سيادتكم إذا أن وعد الله لإبراهيم أن بنسله تتبارك جميع أمم الأرض يريد به نسل إسحق ويعقوب؟» .
القاضي: «بلى بناء على تكرار ذلك لإسحق ويعقوب وعلى الآية المذكورة في الدليل الثاني».
علي: «بناء عليه إذا تباركت قبائل العرب إنما تتبارك بنسل إسحق ويعقوب، أي بالمسيح ابن الله وابن مريم، الذي جاء من ذرية يعقوب حسب وعده تعالى، لا بنسل إسماعيل الذي ما له شيء من هذا الوعد المقدس».
القاضي: «قد غاليت في الكلام وتطرفت جداً يا شيخ علي، حتى جردت أبانا إسماعيل من كل بركة، وإذا كان إسماعيل عليه السلام قد طرد وأمه من بيت أبيه كما تقول التوراة، وربي معتزلاً غريباً، كيف نما هذا النمو وخرج من صلبه أعظم قبائل العرب وأمراؤها بدون بركة الله عليه؟».
علي: «لم أقل أن الله سبحانه ما بارك إسماعيل قط. نعم وعد الله إبراهيم وهاجر بأنه تكثيراً يكثر نسل إسماعيل ويجعله أمة عظيمة، لكن البركة العظمى والوعد المقدس كان لإسحق ويعقوب كما ترون. ولندع الآن التوراة جانباً، ولنلتفت إلى ما جاء في القرآن بهذا الصدد فترى في سورة العنكبوت آية ٢٧ قولاً جميلاً بهذا الخصوص وهو «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُّوَةَ وَٱلْكِتَابَ» إلى آخر الآية فأرجوكم سيدي أجيلوا النظر في هذه الآية الجوهرية. لماذا لم يذكر بها إسماعيل مع كونه بكر إبراهيم بل أهمل منها كأنه لم يكن محسوباً؟ وبذكر الابن والحفيد فقط هبة له من الله، ما السر في ذلك؟ على كل أن هذه الآية ترفع قدر إسحق ويعقوب على إسماعيل وتبين لنا جلياً أن ذريتهما لا ذرية إسماعيل هي ذرية إبراهيم التي جعل الله فيها النبوة والكتاب» .
القاضي: «لا صحة لدعوى بدون دليل وقوله تعالى في الآية (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) لا يحصر ذلك في نسل إسحق ويعقوب، بل يمكن أن يعم نسل غيرهما من بني إبراهيم، فحصر ذلك في ذرية بعضهم دون بعض يحتاج إلى دليل، فما دليل ذلك؟».
علي: «ألا تكتفون يا مولاي بالدليل الذي أقمته من التوراة كما قد رأيت؟».
القاضي: «إن دليل التوراة لما في التوراة، وجنابك وضعت التوراة وعمدت إلى القرآن لتبين منه ما يوافق نص التوراة بشأن ما نحن بصدده، وعليه أرى أنه يحق لي أن أطلب منكم الدليل على ما قد ادعيتموه من القرآن».
علي: «انظر يا سيدي ما جاء في سورة الجاثية آية ١٦ «وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُّوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ» إلا أن ذلك دليل راهن على أن القول القرآني عن إبراهيم «وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب» يراد بذلك بني إسرائيل نسل إسحق ويعقوب، وألا ينطبق ذلك الانطباق على قوله تعالى في التوراة لكل من إبراهيم وإسحق ويعقوب «وبنسلك تتبارك جميع أمم الأرض».
عند ذلك توقف القاضي عن الكلام ربع ساعة، ثم رفع رأسه وقال: «ونعم الدليل يا شيخ، والآن قد أطلنا الوقت فيكفي الليلة ما جرى بيننا. دعنا ننصرف ثم إن عشنا نجتمع الليلة التالية لتتمة البحث والمناظرة». أجاب: «الأمر إليكم سيدي، غير أني أرجوكم إن حسن لديكم اسمحوا لي أن أقول شيئاً كآخر كلام لي مع حضرتكم، ثم ننصرف، لأنه ربما ما سمحت الظروف ألا نجتمع أيضاً كهذا الاجتماع الحلو الذي به قد أوليتموني فضلاً جزيلاً، احتملتموني بطول الأناة وإخلاص المحبة».
القاضي: «قل ما بدا لك يا صديقي العزيز».
علي: «أرى حضرتكم اعتبرتم حق الاعتبار الأدلة التي أقمتها لديكم من التوراة والقرآن على أن الله عز شأنه جعل البركة لكل الأمم بنسل إسحق ويعقوب. النسل الذي جعل فيه النبوة والكتاب، وعليه لا يسوغ لنا أن ننتظر البركة إلا بالمسيح النسل المبارك الشخص العجيب الكامل الذي يفوق الأنبياء والمرسلين كافة بما لا يقاس من كل وجه، كما تبرهن ذلك لحضرتكم في جلسة أمس. وما دام القرآن يقول «ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكمة والنبوة» ولدى التدقيق يرى أن الأنبياء والمرسلين كافة الذي قالوا وكتبوا التوراة والإنجيل هم من بني إسرائيل وفقاً لقول القرآن، فمن أين إذا يحق لنا أن نطلب الإرشاد والهدى إلى معرفة حق الله وقصده الصالح من جهتنا معشر البشر إلا من هذا الكتاب الإلهي، الذي يقال عنه في القرآن «أنه نور وهدى وموعظة للمتقين» (سورة المائدة آية ٤٧ و٤٨) أنه «تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً» (سورة الأنعام ٦: ١٥٤). وأي حاجة لخلافة ما دام كافياً وافياً؟ كيف لا وهو كتاب الله كتاب يعلن سر المسيح العجيب؟ ويحل لنا المشكل العظيم الذي يراه كل مسلم لبيب لدى اطلاعه جيداً على وصفه ونسبه في القرآن، فأتوسل إلى سيدي أن لا تنسوا هذه الحقائق العظمى ولا تلقوها إلى الوراء، فإن بها الخير والحياة وبدونها فلا» .
القاضي: «إني ممتن لك يا صديقي، وأعدك أني سأتروى هذه القضايا، وأرجو أن لا مانع يمنعنا من الاجتماع الليلة التالية إن شاء الله». ثم قاما وانصرفا.
أما القاضي فبعد وصوله إلى منزله انفرد في مخدعه وأخذ بيده القرآن وفتح الآيتين المتقدم ذكرهما وقرأ الأولى «ووهبنا له إسحق ويعقوب الخ» ووضع اصبعه على الآية وبدأ يكررها بحيرة وغيظ ووهبنا له إسحق ويعقوب.. إسحق ويعقوب.. حسناً أين إسماعيل إذا؟ أخرج عن كونه ابناً لإبراهيم. التوراة والقرآن يعلنان أنه ابنه بكره، لماذا إذا اخرجه الله من نوع الهبة لإبراهيم، مخصصاً بذلك إسحق وابنه يعقوب؟ هل ذلك بدون معنى ولا قصد؟ الأمر الطبيعي أن يقال ووهبنا له إسماعيل وإسحق ومديان وشوحاً إلى آخر أولاد إبراهيم أو بالأقل إسماعيل وإسحق. فما على العدول عما هو طبيعي من هذا القبيل إلى ما ليس بطبيعي، إذ يعدل من ذكر الأقرب إلى الأبعد، أي من الابن إلى ابن الابن؟ أليست هذه هي الموافقة والمصادقة لنص التوراة أنه بإسحق يدعى لك نسل لا بإسماعيل؟ فأنى لنا المهرب من هذه الحجة الدامغة المعلنة لنا في كتابنا، الداكة إلى الحضيض افتخارنا وعجبنا في إسماعيل ونسله.
ثم نقل اصبعه إلى الشطر الثاني من الآية «وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب».. النبوة والكتاب.. حسناً في أي ذرية من نسل بنيه؟ أفي الكل أم في البعض؟ ماذا تقول أيها الشريف؟ أقول عن فمه: «ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة». هذا فصل الخطاب. إن الكتاب والنبوة آتاهما الله ذرية ابني الموعد إسحق ويعقوب لا إسماعيل وغيره من أولاد إبراهيم، وهل بهذا الكتاب الكفاية للهدى والرشاد أيها المصحف الشريف؟ نعم هو نور وهدى وموعظة للمتقين تماماً وتفصيلاً لكل شيء. إذا ما حاجتنا إليك إلا لتؤدي لنا هذه الشهادة؟ حسناً. ثم أخذ يناجي نفسه: ماذا يا أحمد؟ انتبه إلى نفسك. إن كان هكذا إسحق ويعقوب ابني الموعد دون إخوتهما، وإن كان الكتاب الكافي الوافي التام أوتي ذريتهما لا ذرية غيرهما، وأن بنسلهما حسب التوراة تتبارك جميع أمم الأرض لا بنسل إسماعيل ولا بنسل مديان ولا بنسل أحد على الأرض دونهما. فكيف يحق لنا أن ندعي بكتاب أجنبي، ونؤمن بنبي ليس من بني إسرائيل؟ ما أقوى حجج المسيحيين وما أوهى حجتنا: أأستعفي من مناظرة الشيخ علي؟ ولكني قد وعدته بالاجتماع الليلة التالية فلا يليق بي النكث بوعدي. ثم سكت برهة طويلة ثم قال: «ألم تقل التوراة على لسان الكليم موسى «أن نبيا مثلي سيقيم لك الرب إلهك من إخوتك له تسمعون» فيظهر من هذه الآية أن هذا النبي ليس هو من بني إسرائيل، لأن الخطاب لعموم الشعب بصيغة المفرد، فلا بد إذا أن هذا النبي المراد بالآية من قبيلة أخرى. وبما أنه لم يظهر نبي من أقارب بني إسرائيل إلا من ذرية إسماعيل أخي جدهم إسحق، فيكون الأرجح بهذه الآية هو محمد. حسناً ولكن كيف يدحض هذا النبي حقائق كلية من كتاب الله، ويصد قومه عن درس هذا الكتاب والتدين بحسبه، وهو يشهد بكفايته للهدى والرشاد كما لا يخفى؟ فالمسألة متناقضة. غير أني سأمسك الشيخ علي بهذه الآية، وأرى إن كان يمكنه التخلص منها. ثم قام واضطجع.
ولما كانت الليلة التالية حضر إلى محل المناظرة، ودعا الشيخ علي فحضر، وبعد أن جلسا قال القاضي: «قد أتممت وعدي لك بأني ترويت جيداً في القضايا التي كان عليها مدار حديثنا ليلة أمس، غير أني في أثناء ذلك خطر على بالي ما قاله الكليم موسى في التوراة لشعب إسرائيل وهو «يُقِيمُ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ». إلى أن يقول عن فمه تعالى: «أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِٱسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ» (تنثية ١٨: ١٥ و١٨ و١٩) فلا غرو أن هذا الإنباء هو عن نبينا صلى الله عليه وسلم» .
علي: «إن الدعوة تفتقر إلى الدليل. فما الدليل على أن إنباء موسى هذا هو عن محمد العربي؟».
القاضي: «الدليل قائم من نفس الأنباء وذلك أولاً: أنه قال نبياً من إخوتك، وهذا لا يصح قط أن يكون عن نبي من بني إسرائيل لكون المخاطب هو الشعب إسرائيل بصيغة المفرد، فيدخل تحت هذه الصيغة عموم بني إسرائيل، وعليه يكون النبي المنبأ عنه في هذه الجملة من إخوة إسرائيل لا منهم. وثانياً: أنه يكون كموسى متولياً أمر أمته مشترعاً ذا بطش ونقمة من الكفار، إذ قال «نبياً مثلي» وهذا محال انطباقه على المسيح الذي كان نبياً وديعاً مهاناً كما يصف الإنجيل، وبما أنه لم يقم نبي من إخوة إسرائيل سوى محمد القرشي الإسماعيلي المتشح بالصفات المذكورة، فيكون طبعاً هو المراد بذلك الأنباء» .
علي: «إن دليل حضرتك هذا هو كنفس الذي ذكره صاحب السيرة النبوية جزء أول صفحة ٨٧ ونعم الدليل لو ثبت - إن الأنباء عن هذا النبي موجود في الأصل العبراني عند الإسرائيلين كما في الترجمة العربية عنه الكائنة هنا معي، فإن حسن ننظر ذلك في محله، ونرى هل مفاد الآية هو كما يزعم أئمة الإسلام؟ حسناً افتح التوراة. ففتحها وقرأ الآية «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون» فانظر مولاي الفرق العظيم فإن الآية تبين كون ذلك النبي من بني إسرائيل لا من غيرهم بكلمة «من وسطك، من إخوتك، أليس الأمر هكذا يا مولاي؟».
القاضي: «إذا كانت كلمة «من وسطك» موجودة في الأصل العبراني كما قلت فيكون هذا النبي المنبأ عنه بدون ريب من بني إسرائيل» .
علي: «لا شك بكونها موجودة تماماً كما في هذه النسخة، وعليك بالسؤال وما يزيد الحقيقة وضوحاً هو ما جاء في الأصحاح الذي قبل هذا تثنية ١٧: ١٤ الخ «مَتَى أَتَيْتَ إِلَى ٱلأَرْضِ... فَإِنْ قُلْتَ: أَجْعَلُ عَلَيَّ مَلِكاً... فَإِنَّكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً ٱلَّذِي يَخْتَارُهُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ. مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً. لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ عَلَيْكَ رَجُلاً أَجْنَبِيّاً لَيْسَ هُوَ أَخَاكَ... وَعِنْدَمَا يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَمْلَكَتِهِ، يَكْتُبُ لِنَفْسِهِ نُسْخَةً مِنْ هٰذِهِ ٱلشَّرِيعَةِ... لِكَيْ يُطِيلَ ٱلأَيَّامَ عَلَى مَمْلَكَتِهِ هُوَ وَبَنُوهُ فِي وَسَطِ إِسْرَائِيلَ».
القاضي: «كلا فإن الأمر واضح من قرائن الكلام أن المراد بها من وسطهم منهم، وأن ملكهم يكون لا بد منهم إسرائيلياً لا أجنبياً. ونعلم أن الله سبحانه لما ابتغى بنو إسرائيل ملكاً اختار لهم ملكاً شاول ثم داود وسليمان».
علي: «ألا ترون مولاي أن جملة من وسط إخوتك تجعل عليك ملكاً بمعزل عن قرائنها وعن واقعة الحال هي من حيثية الفكر الإسلامي بالنبي المراد بأنباء موسى أقرب من جملة من وسطك من إخوتك للزعم أن المراد بذلك الملك هو من إخوة يعقوب لا من ذريته، لأن جملة «من وسطك» لا تدع محلاً للكفر بأن ذلك النبي ليس هو منهم، بخلاف جملة من وسط إخوتك التي بالنظر إليها مجردة بظهر أن الملك لمراد به أجنبي عن إسرائيل كما تقدم. فيتضح لكم مولاي أن هذا النبي هو إسرائيلي لا إسماعيلي ولا مدياني، وبالتالي ليس هو محمد العربي الإسماعيلي. ومعشر المسيحيين يعتقدون أن النبي المراد بذلك الأنباء هو المسيح ابن مريم لا ريب. لا يسعني أن أذكر أوجه الشبه بينه وبين موسى الكليم إلا على غاية الإيجاز.
أولاً: إن موسى كان كليم الله، به وسائر الأنبياء كلم الله الآباء، ممهداً بهم إلى المسيح كلمة الله، الذي به «كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ... ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين ١: ١ و٢).
ثانياً: لقد كان موسى وسيط العهد القديم بين الله وبني إسرائيل.. مشيراً ورامزاً إلى المسيح وسيط العهد الجديد عهد النعمة والرحمة والغفران.
ثالثاً: كان موسى قائداً يتلقى شريعة ربه ونبياً ملهماً يعلن إرادة الله لقومه، والمسيح هو ذلك القائد الأعظم والمشترع الأعظم والوسيط الأوحد « لِكَيْ يَكُونَ ٱلْمَدْعُّوُونَ إِذْ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَهْدِ ٱلأَّوَلِ (عهد موسى) يَنَالُونَ وَعْدَ ٱلْمِيرَاثِ ٱلأَبَدِيِّ (في المسيح)» (عبرانيين ٩: ١٥).
القاضي: «إن وجه الشبه الذي أتيت به جنابك ما خلا القضيتين الأوليتين هو محض روحي، حال كون أمر موسى وصفاته المسطرة في التوراة هي حسية ظاهرة».
علي: «لا يخفى أن مشابهة ذلك النبي لموسى لا تقتضي مماثلته له في كل شيء محسوس، بل من حيثية إقامته كنبي ووسيط ومعلم وقائد وأمين. ولا يخفى عليكم البون العظيم بين موسى ومحمد من حيثية أجل الأمور وأهمها».
القاضي: «وما ذلك؟».
علي: «إن موسى اشتهر جداً بالآيات والمعجزات التي أجراها الله بيده في مصر والبرية، ومحمد لم يفعل آية واحدة كما قد رأيتم، موسى حرر الإسرائيليين من عبودية فرعون لا بسيف ولا برمح بل بمجرد قوة الله. موسى أقات الإسرائيليين بخبز من السماء أربعين سنة. فبما يشبه محمد موسى من هذا القبيل؟ ثم ما دام الله سبحانه حضر الكتاب والنبوة في بني إسرائيل كما يرى جلياً من التوراة والإنجيل، وكما يصرح القرآن، فأنى يحق لنا أن ننتظر نبياً خارجاً عنهم. وإذا كان الله حصر البركة لأمم الأرض فيهم كما قد رأيت، فأنى يحق لنا أن نرجوها من دونهم. ألا يكون ذلك والعياذ بالله مغالطة لكلمة الباري تعالى؟ هذا عدا ما هو واضح كل الوضوح من نفس إنباء موسى عن ذلك النبي بأنه من ذات بني إسرائيل، كما قد رأيتم. وبما أن لا نبي أتى من بعد موسى من بني إسرائيل يماثله (بل يفوقه) في عمل الآيات والمعجزات، وإعلان أسرار العلي، مع باقي الصفات المتقدم ذكرها كالمسيح ابن مريم، الذي أنبأت عنه بعد موسى جميع أنبياء الله بوضوح وبيان لا مزيد عليهما، كما قد رأيتم وترون، فيكون هو ولا سواه النبي المراد بذلك الأنباء. وعليه فلا مندوحة لك عن أحد أمرين: إما أن تسلم بأن محمداً غير مقصود البتة في أنباء موسى هذا، وإما أن تغالط موسى والقرآن».
القاضي: «حسناً ما قد أتيت به، غير أني أسألك أما تنبئ التوراة عن مجيء محمد العربي بعد عيسى المسيح رسولاً من الله إلى الناس كافة؟».
علي: «ما كنت أفكر يا مولاي إن حضرتكم تعتقدون أن التوراة تشهد لمحمد أو تنبئ عن مجيئه كنبي ومرسل من الله لهداية خلقه».
القاضي: «كيف لا وقد روى في كتاب السيرة النبوية عن بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك أنه قد جاء أن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء والأرض، وأن الله تعالى قال في التوراة أنه باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون.. واسمه في التوراة أيضاً «حمياطا» أي يحمي الحرم و «قدومياً» أي الأول السابق.. و «طاب طاب» أي طيب، وفيها أيضاً ومحمد حبيب الرحمن، ومحمد ابن عبد الله مولده بمكة ومهاجرها إلى طابه وملكه بالشام وفي الإنجيل اسمه «ألمنحمنا» ومعناه بالسريانية محمد، وفي الزبور «حاط حاط والفلاح» الذي يمحق الله به الباطل «والفارق» أي يفرق بين الحق والباطل، وأنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب أتدري من أنا؟ أنا اسمي في التوراة «أحيد» وفي الإنجيل «البارقليط» وفي الزبور أني أنا الله لا إله إلا أنا ومحمد رسولي. وفي الزبور أيضاً يا داود سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، لا أغضب عليه أبداً ولا يعصيني أبداً، وقد غفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (كتاب السيرة النبوية)» .
علي: «كيف ترى مولاي أصادقة هذه الروايات عن محمد والصحابة؟».
القاضي: «إن كانت هذه غير صادقة فأي حديث صادق؟».
علي: «اسأل حضرتكم أن تعفيني إن شئتم من الجواب».
القاضي: «كلا أرجوكم أن تتكلم بكل حرية. أرأيتم مني ما يزعج خاطركم؟».
علي: «إذا لا تؤاخذني حضرتكم فيما أقول أن لا صحة لدعوى وجود هذه الأقوال في التوراة والزبور، وأني لمتعجب كل العجب كيف ادعى محمد هذه الدعوى إن كان ادعاها، أو كيف روى عن كتاب الله روايات لا أصل لها فيه. إن اسم محمد وطاب لا يعرف قط في كتاب الله، فها التوراة عبرانية ويونانية وسريانية ولاتينية وعربية لا تجد فيها شيئاً مما روى بخصوص محمد. أين يقال في الزبور عن فمه تعالى محمد رسولي ولداود سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد إلى آخر القول؟ اين جاء في التوراة أني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد؟».
والإنجيل أيضاً لا شيء فيه مما قيل سوى كلمة «بارقليط» وقط لم يعن المسيح بها شخصاً بشرياً بل الروح القدس الذي وعد به رسله أن يرسله لهم بعد صعوده عنهم ليحل في قلوبهم ويملأهم قوة، وليذكرهم بكل ما سمعوه من سيدهم ويؤيدهم بالآيات والمعجزات برهاناً لصحة الإنجيل الذي يكرزون به، وختماً لصحة دعواه أنهم مرسلون من الله لإرشاد الناس وهداهم، فالادعاء يا مولاي سهل ولكن الإثبات عسر. والقول أن التوراة والإنجيل تحرّفا من أن محمداً قال لعمر قبل الجملة التي ذكرتها وهي: أتدري من أنا يا عمر؟ أنا الذي بعثني الله في التوراة لموسى وفي الإنجيل لعيسى وفي الزبور لدواد، فهذه يا مولاي دعوى. أليس القرآن يقول عن فمه تعالى أنه آتى موسى الكتاب وعيسى الإنجيل وأنه أيد عيسى بالروح القدس، فعليه يكون الروح القدس لقن المسيح الإنجيل لا محمد، وإذا كانت هذه الدعوى لا تقبل عند أهل التعقل والدراية، فأظن أنها ليست من محمد، بل مختلقة رواة أرادوا بها رفع شأن محمد».
القاضي: ألهذا الحد يا شيخ علي؟ أتكذب الرسول والصحابة؟ (قال هذا بصوت رائق واطئ اختشاء أن يسمع ذلك أحد من الخارج).
علي: «كنت طلبت الاستعفاء من المجاوبة محاشاة مس حاساتكم فلم تعفني، وليس غرضي فيما قلت إلا بيان الحق، فهل ذلك يغيظكم سامحوني».
القاضي: «كلا لست مغتاظاً البتة من جنابكم إنكم ما فهتم بشيء إلا في محله، وهذا حق المناظرة. ولو أرى منكم ما يدل على مراعاة الخاطر من الإطراء والتمليق لما كنت أسر بالدخول معكم في هذا الباب وإنما رمت الجولان معكم قليلاً في هذا الميدان، لعلي أفوز بإقناعكم، ولكن ذهب أملي أدراج الرياح».
علي: «أنت تعلم يا مولاي أني كنت من أشد الناس غيرة على الإسلام ومن أوفرهم تعبداً، وأجهدهم على الدرس والمطالعة، لكنني كما أؤكد لحضرتكم، ورب السرائر يعلم، أني ما كنت أستطيع أن أقتنع بصحة مثل هذه الروايات ما لم أتأكدها في التوراة والإنجيل. وكنت أحزن وأغتم كثيراً لما لم أجد فيهما أثراً لها وحينما كنت أرى بعض علمائنا وعامتنا يتحدثون بها وبروايات المعجزات بفخر وعجب، كنت أضحك آسفاً، وكثيراً ما كنت أذهب بسببها إلى الريب بنبوة محمد وإرساليته، فكنت من جراء ذلك في جهاد شديد اضطرني إلى معاشرة علماء عديدين يهود ومسيحيين، وبقيت على هذا الحال إلى أن كشف الله عن بصيرتي وأراني الصراط المستقيم في كتابه الثمين».
أما القاضي فبهت ولم يفه ببنت شفة. وبعد نحو ثلث ساعة وقف وقال: «سبحان الله. قد أطلنا الحديث يا صاح. اكتفينا. أجزل الله ثوابكم وأسحن معادكم. فدعنا الآن ننصرف. وإن سمح الله وفسح في الأجل فسنعود إلى مثل هذه المعاشرات الطيبة». ثم نهض الشيخ علي وصافح بعضهما بعضاً وانصرف كل إلى مكانه.
وكان القاضي في أثناء الطريق يحدث نفسه هكذا «كل كلام الشيخ علي في محله. نعم القرآن ينفي أن الرسول أتى بالآيات كما أول آياته في هذا الباب أشهر أئمة الإسلام، فكيف روى عن ألسنة ثقات أنه أتى بآيات ومعجزات كشق القمر وإحياء الموتى إلى غير ذلك؟ إن ذلك عديم الصحة، كيف تجرأ الرواة أن يرووا ما لا شبه صحة له. هل راموه تقليده بعيسى؟ إن ذا الضلال مبين. وأين الشهادات للرسول والنبي الإسماعيلي المكي في التوراة والإنجيل كما يزعم المحدثون؟ لا حول ولا قوة إلا بالله».
أما الشيخ علي فانصرف طيب القلب مسروراً، وهو يحمد الله ويشكره. ولما دخل على رفاقه وأخبرهم ما كان بينه وبين القاضي فرحوا فرحاً عظيماً وحمدوا الله وسألوه البركة والهدى للمومأ إليه.
ليست هناك تعليقات: