جسد المسيح

السؤال الثاني: من المعلوم أن الله في غنى عن العالم والساكنين فيه. وإن كل صلة له مع الخلائق تجعله تعالى في حيز الزمان والمكان، وبالتالي تنسب إليه المفعولية وهذا كفر. ثم هذا التجسد الذي تعتقد به المسيحية، ألا يعني انتقال جزء من الله إلى جسد المسيح؟

ع. ش. بيروت، لبنان

- ٢ -

(١٧) رويدك أيها الصديق الكريم، فالإسلام الذي تدين به يجعل الله في حيز الاتصال مع مخلوقاته وضمن الزمان والمكان. فأنت تؤمن بأن الله بعث برسول إلى الناس. وهذا معناه إقامة صلة مع مخلوقاته، فقد جاء في القرآن: «إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً» (سورة المزمل ٧٣: ١٥ و١٦). والأكثر من هذا أن القرآن يحرض الإنسان على إقامة صلة مع الله خالقه، وأن الله يحب ذلك بدليل قوله: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ» (سورة آل عمران ٣: ١٥٩).
قد تقول إن هذه التعبيرات الكلامية هي من قبيل المجاز. ولكن هذا اجتهاد على النص، ولا يمكنه أن يثبت أمام الحقيقة. لأن حوادث كثيرة من هذا النوع، ذكرت فيها أسماء أشخاص قاموا بأعمال بناء على أمر الله كما في قول القرآن: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ ٱلْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ» (سورة الأعراف ٧: ٥٩ - ٦٢). فهذه الآيات لا يمكن أخذها مأخذ المجاز. لأن فيها إشارة إلى حوادث معينة.
(١٨) وماذا تقول عن الحديث النبوي الخاص بالصلوات التي فرضت على المسلمين. فقد حدّث ابن اسحاق عن ابن مسعود عن رسول الله أنه قال في قصته عن ليلة المعراج: إن جبريل انتهى بي إلى ربي، ففرض عليّ خمسين صلاة كل يوم. فأقبلت راجعاً فلما مررت بموسى بن عمران ونعم الصاحب كان لكم، سألني كم فرض عليك من الصلاة، فقلت: خمسين صلاة كل يوم. فقال: إن الصلاة ثقيلة، وإن أمتك ضعيفة، فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك. فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي، فوضع عني عشراً. ثم انصرفت فمررت على موسى، فقال لي مثل ذلك، فرجعت فسألت ربي، فوضع عني عشراً. ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك، فرجعت فسألته فوضع عني عشراً. ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه قائلاً، ارجع فاسأل ربك، حتى انتهيت إلى أن وضع ذلك عني إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة. ثم رجعت إلى موسى، فقال لي مثل ذلك، فقلت: قد راجعت ربي وسألته حتى استحييت منه، فما أنا بفاعل. فمن أداهن منكم إيماناً بهن واحتساباً لهن كان له أجر خمسين صلاة (سيرة النبي لابن هشام ٣: ٢٧٦).
(١٩) فهذا الحديث أضعه أمامك لتقرر على ضوئه إن كان لله صلات مع مخلوقاته وأن لهذه المخلوقات علاقة بالله. واستطراداً أقول لك بمحبة: إن كنت تتمسك بعقيدة التنزيه المطلق، تكون قد آمنت بإله لا تعرف عنه شيئاً، وبالتالي أنت منفصل عنه كل الانفصال. وفي هذه الحالة تكون ضمناً قد أنكرت النبوة والقرآن. لأن النبي لا يصح أن يسمى نبياً إن لم يوح إليه ويرسل، وبذلك يقيم صلة بين الله والمخلوق.
(٢٠) وجاء في الحديث أن ربنا تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الأخير يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له (صحيح البخاري ٤: ٦٨) فما هذا النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا عند ثلث الليل الأخير، فهل يتحدد بالنزول في زمان ومكان؟ وهل يفرق هذا عن نزوله من سماء المجد إلى بيت لحم متجسداً في زمان ومكان؟
في اعتقادي أن التنزيه المطلق، الذي يقول بانفصال الله عن الكائنات، يجعله تعالى إلهاً منعزلاً، وبالتالي يفضي إلى التعطيل في الأمور الروحية. لأن الإنسان لا يمكن توبته وتجديده في معزل عن الله. وقد عرف بالاختبار أن كل مجهودات الإنسان الذاتية لرفع نفسه من حال الخطية إلى حال القبر، لا تجديه فتيلاً إن لم تكن له صلة بالله. قال المسيح في عظته على الجبل: «وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا ٱهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟» (متّى ٦: ٢٧) وبالنتيجة، نرى أن التنزيه المطلق هو الذي أعاق الكثيرين عن قبول فكر التجسد، وبذلك حرموا أنفسهم من فوائد الفداء. إلا أن هؤلاء في رفضهم تعليم التجسد يقدمون عدة اعتراضات منها:
(٢١) يقولون إن تجسد الله يحتم عليه تغييراً في جوهره الإلهي في زمان ومكان معين، لكأنهم يقيسون الله بمقاييس العقول القاصرة، وبالتالي ينسبون وبطريق غير مباشر العجز لله، وعدم قدرته على التجسد والظهور دون حدوث تغيير في جوهره. والحق أن التجسد لا يحتم حدوث تغيير في الطبيعة الإلهية. ودليلنا على ذلك أن الأقنوم الثاني لله، لما اتحد بالطبيعة البشرية لم يفقد ألوهيته. بل بقي ذلك الرب القدير، الذي يقيم الأموات ويشفي الأكمه والأبرص، ويغفر الخطايا، وينتهر العواصف والأمواج فتهدأ. وقد أخبرنا الإنجيل أنه ظهر في الجسد بطريقة غير اعتيادية. لأنه هو خالق الأجساد والطبائع، ولا يصعب عليه الاتحاد بها. وكل اعتقاد يخالف هذه الحقيقة، هو بمثابة إقرار بأن خالق الأجساد والطبائع ليس هو الله بل أحد غيره.
(٢٢) من المعروف بالاختبار أن الإنسان الحكيم العاقل يقدر أن يوفق نفسه مع البيئة والظروف التي يعيش فيها، فكم بالحري الله الحكيم جداً والقادر على كل شيء، يقدر أن يتجسد دون أن يعتريه تغيير أو تبديل في جوهره؟
لاحظ أن الشمس ترسل أشعتها ودفئها إلى الأرض وتتحد بالكائنات وتكسبها حياة وتنميها، دون أن يعتري الشمس أي تغيير في تركيبها. فهل يعقل أن يكون للشمس قوة الاتحاد مع العناصر الأخرى وأن تفعل فيها، دون أن يطرأ عليها تغيير، ولا تكون هذه القوة لله خالق الشمس وخالق العناصر؟
أنت تعتقد بأن الله خلق الإنسان الأول من صلصال كالفخار (سورة الرحمن ٥٥: ١٤) وهذا يعني أن الله قد وقف عند حد الزمان والمكان، لأنه أمسك بيده طيناً من بقعة محدودة وكون الإنسان منه في زمان محدود. فإن قلت إن وقوفه عند مكان وزمان محدودين، لا يجعله محدوداً لأنه قادر على كل شيء، قلت لك: وكذلك تجسده في زمان معين وحيز معين لا يجعله محدوداً، لأنه قادر على كل شيء. هكذا قال المسيح : «غَيْرُ ٱلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (لوقا ١٨: ٢٧).
(٢٣) جاء في الحديث عن محمد أنه قال: إن المؤمنين حين يتشفعون ربهم يوم القيامة. يأتون إليّ. فأنطلق فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي. فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً (صحيح البخاري ٤: ١٨).
من هنا ينطلق سؤال: كيف يتهم المسيحي بالكفر عندما يقول إن الله ظهر في الجسد، ولا يتهم الذي يقول إن الله تحتويه دار؟
(٢٤) جاء في سورة البقرة ٢: ١١٥: «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ» وجاء في سورة الرحمن ٥٥: ٢٦ و٢٧: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ» وجاء في سورة الدهر (الإنسان) ٧٦: ٩: «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً».
وجاء في سورة الحديد ٥٧: ٢٩: «أَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ» وجاء في سورة الفتح ٤٨: ١٠: «إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ». وجاء في سورة الملك ٦٧: ١: «تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
وجاء في سورة هود ١١: ٣٧ قوله لنوح: «وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا» وجاء في سورة الطور ٥٢: ٤٨ قوله لمحمد : «وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا». وجاء في سورة طه ٢٠: ٣٨ و٣٩ قوله لموسى: «إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ... يَأْخُذْهُ عَدُّوٌ لِي وَعَدُّوٌ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي».
وجاء في الحديث عن أبي هريرة، عن محمد أنه قال: خلق الله الخلق، فلما قامت الرحم فأخذت في حقو الرحمن (صحيح البخاري ٣: ١١٤).
فهذه النصوص تقول إن لله وجهاً ويداً وعيناً وحقواً وهي من أعضاء جسد الإنسان. فإن كان تجسد الله يحسب كفراً فكيف نفسر هذه الآيات؟
(٢٥) كيف يحل الله القدوس في بطن امرأة. وسط الدم ونجاسة الحبل والولادة؟ وكيف يحل في جسد بشري ويأكل ويجوع، ويشرب ويعطش ويبول ويتغوط؟
لعل القائلين بهذا لم يفهموا قول ملاك الله: إن الذي حبل به في مريم هو من الروح القدس. فإن كان الله أقدس من أن يلمس دم امرأة، فكيف يؤمنون بأن الله أخذ ضلعاً من آدم وصنع منها امرأة؟ وما قولهم في الحديث عن عائشة أنها قالت: كان النبي يتكئ في حضني وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن؟ (صحيح البخاري ١: ٤٤).
فإن كان الدم نجساً، وإن كان القرآن هو كلمة الله الأزلية القائم بذات جوهر الله، ولا يقبل الانفكاك والانفصال عن الله، فكيف يجيز إذاً محمد لنفسه، أن يتلوه وهو مضطجع في حجر عائشة الحائض. ولا يجوز أن يحل ويتجسد في أحشاء القديسة مريم؟
جاء في سورة الحجر ١٥: ٢٨: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ». وقد فسر الجلالان الحمأ المسنون بالطين الأسود. فإن كان الطين الأسود لم يحط لمسه من قدر الله ولم يدنسه، فكم بالحري بعد أن سوى منه الإنسان وجعله تاجاً لمخلوقاته، لا يأنف أن يحل فيه؟ شكراً لله لأجل كلمته في بولس: «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ، وَرُوحُ ٱللّٰهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟» (١ كورنثوس ٣: ١٦). وإن كان الله القدوس لا يرى ضيراً أن يسكن بروحه في المؤمن، فكم بالحري يسكن في جسد يسوع الذي لم يعرف خطية، ولم يولد من زرع بشري؟
(٢٦) جاء في سورة القصص ٢٨: ٢٩ و٣٠: «فَلَمَّا قَضَى مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِىء ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقَعْةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ».
ووردت القصة عينها في سورة طه ٢٠: ٩ - ١٣ هكذا: «وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَاراً لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى».
وقد فسر الإمام فخر الدين الرازي القصة هكذا: استأذن موسى عليه السلام شعيباً في الرجوع إلى والدته فأذن له. فخرج فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية، وكانت ليلة الجمعة، وقد حاد عن الطريق. فقدح موسى عليه السلام النار، فلم تور المقدحة شيئاً. فبينما هو في مزاولة ذلك، إذ نظر ناراً من بعيد عن يسار الطريق. قال السدي: ظن أنها نار من نيران الرعاة. وقال محدثون آخرون أنه عليه السلام رآها في شجرة... فلما أبصر توجه نحوها، فقال لأهله امكثوا إني أبصرت ناراً، لعلي آتيكم منها برأس عود أو فتيلة. فلما أتاها قال ابن عباس: رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها. كأنها نار بيضاء. فتوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة. فلا النار تغير خضرتها، ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار. فسمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً... فلما رأى موسى ذلك، وضع يده على عينيه فنودي: يا موسى إني أنا ربك، فقال لبيك، إني أسمع صوتك ولا أراك، فأين أنت؟ فقال أنا معك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك... فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس (التفسير الكبير جزء ٢٢ صفحة ١٤ - ١٥).
أما في الكتاب المقدس فقد وردت القصة هكذا: «وَظَهَرَ لَهُ (أي لموسى) مَلاَكُ ٱلرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ، فَنَظَرَ وَإِذَا ٱلْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِٱلنَّارِ، وَٱلْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ!... فَلَمَّا رَأَى ٱلرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ، نَادَاهُ ٱللّٰهُ مِنْ وَسَطِ ٱلْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: «مُوسَى مُوسَى». فَقَالَ: «هَئَنَذَا». فَقَالَ: «لاَ تَقْتَرِبْ إِلَى هٰهُنَا. ٱخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ» (خروج ٣: ٢ - ٥).
فيا صديقي الكريم، إن كان الله لكي يكلم موسى ويحمله رسالة إلى البشر، استحسن أن يحل في شجرة ويظهر في هيئة نار، أفلا يكون من التجني أن ينعت المسيحيون بالكفر، لأنهم يؤمنون بأن الله لكي يعلن ذاته في المحبة، ظهر في يسوع المسيح؟! وهل الشجرة التي بدا الله فيها، أعظم شأناً من المسيح؟
(٢٧) والآن أعود لأقول لك إن كان يسوع وهو في الجسد قد أكل وشرب وتغوط، فإن هذا لا يضير ملء اللاهوت، الذي حل فيه جسدياً. بدليل قول الكتاب المقدس: «إِنِّي عَالِمٌ وَمُتَيَقِّنٌ فِي ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ نَجِساً بِذَاتِهِ، إِلاَّ مَنْ يَحْسِبُ شَيْئاً نَجِساً، فَلَهُ هُوَ نَجِسٌ» (رومية ١٤: ١٤) وشكراً للمسيح لأنه لم يحسب شيئاً نجساً.
(٢٨) يا صديقي، إن المتأمل بعمق في الكتابات المقدسة، لا بد أن يلاحظ أن الطريقة التي اعتمدها الله لإعلان ذاته، وتبليغ مقاصده هي نوع من الظهور والتجسد. لا فرق في أن يكون هذا الظهور والتجسد في السحاب، أو في النار، أو في جسد ملاك العهد، أو في جسد المسيح، الذي ظهر فيه مملوءاً نعمة وحقاً.
نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين ١: ١ و٢ هذه العبارات التي تعتبر المفتاح في الكلام عن اتصالات الله بالبشر: «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ - ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ ٱلْعَالَمِينَ». وهاك أنواع الظهورات والطرق التي كلم الله بها البشر، كما وردت في الكتاب المقدس:
تكوين ٣: ٨ - ١٠ قوله: «وَسَمِعَا (آدم وحواء) صَوْتَ ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ مَاشِياً فِي ٱلْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ ٱلنَّهَارِ، فَٱخْتَبَأَ آدَمُ وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ. فَنَادَى ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي ٱلْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَٱخْتَبَأْتُ». فهنا نرى ظهور الله وهو يمشي ويسمع ويتكلم، ويختبئ آدم وامرأته من وجهه.
تكوين ٨: ٢١ قوله عن ذبيحة نوح: «فَتَنَسَّمَ ٱلرَّبُّ رَائِحَةَ ٱلرِّضَا. وَقَالَ ٱلرَّبُّ فِي قَلْبِهِ: لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ ٱلأَرْضَ...» وهنا يظهر الله وله حاسة الشم يتنسم بها رائحة الذبيحة، وله قلب يفكر فيه، لإعادة النظر في موقفه من الأرض.
تكوين ١٨: ١ - ٥ قوله: «وَظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ ٱلنَّهَارِ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَالٍ وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لٱسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ، وَقَالَ: يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلاَ تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ. لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَٱغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَٱتَّكِئُوا تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ، فَآخُذَ كِسْرَةَ خُبْزٍ، فَتُسْنِدُونَ قُلُوبَكُمْ ثُمَّ تَجْتَازُونَ، لأَنَّكُمْ قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَى عَبْدِكُمْ. فَقَالُوا: هٰكَذَا تَفْعَلُ» فهنا ظهر لإبراهيم في صورة إنسان، وقد جلس وأكل وشرب.
تكوين ٣٢: ٢٢ - ٣٠ قوله: إنه ظهر ليعقوب في صورة إنسان وصارعه حتى الفجر: ولما سأله أن يطلقه قال له لا أطلقك إن لم تباركني فباركه قائلاً له: لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت «فَدَعَا يَعْقُوبُ ٱسْمَ ٱلْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: لأَنِّي نَظَرْتُ ٱللّٰهَ وَجْهاً لِوَجْهٍ وَنُجِّيَتْ نَفْسِي».
خروج ٢٤: ٩ - ١١ قوله: «ثُمَّ صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونُ وَنَادَابُ وَأَبِيهُو وَسَبْعُونَ مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ، وَرَأَوْا إِلٰهَ إِسْرَائِيلَ، وَتَحْتَ رِجْلَيْهِ شِبْهُ صَنْعَةٍ مِنَ ٱلْعَقِيقِ ٱلأَزْرَقِ ٱلشَّفَّافِ، وَكَذَاتِ ٱلسَّمَاءِ فِي ٱلنَّقَاوَةِ. وَلٰكِنَّهُ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى أَشْرَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» هنا كان ظهور الله بصورة إنسان له يدان ورجلان، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف الشعب لأنهم كانوا أثمة وفي حاجة إلى مصالح له طبيعة الله وطبيعة الإنسان.

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.