أسس الإيمان بأنّ المسيح هو الله
نرى لزاماً علينا بعد أن تحدثنا عن
«حتمية الإيمان بأن المسيح هو الله»
أن نفرد هذا الفصل للحديث عن الأسس التي بنينا عليها هذا الإيمان، والتي
تضيف إلى ما تقدم أدلة جديدة لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها.
فنحن لا نؤمن بأن المسيح هو الله على أسس وراثية تناقلها الأبناء عن الآباء، لكننا نؤمن قلبياً بهذا الحق على أسس قوية مبنية أصلاً على إعلانات كلمة الله.
فإذا سألني واحد: لماذا نؤمن بأن المسيح هو الله؟ فإنني أجيبه على أسس من الحق الواضح المعلن في الكتاب المقدس.. وإليك هذه الأسس في وضوح صريح.
(١) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس ميلاده المعجزي من عذراء: لقد خلق الله آدم خلقاً مباشراً من تراب ونفخ فيه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية، تم أخذ ضلعاً من أضلاعه وبناها إمرأة وأحضرها إلى آدم، وكان السبب وراء خلقه المرأة من الرجل هو تأكيد «وحدة الجنس البشري» فالرجل والمرأة كلاهما من تراب لا فضل لأحدهما على الآخر من حيث المادة التي خلقها منها الله، فلم يكن خلق المرأة من الرجل لمجرد إثبات قدرة الله «فقد ثبتت هذه القدرة بخلق آدم من العدم والتراب» بل كان هذا الخلق لإثبات وحدة الإنسانية جمعاء.
أما ولادة «يسوع المسيح» من عذراء لم يمسسها بشر، فكانت معجزة فريدة قصد الله في حكمته أن تتم، لكي يولد المسيح إنساناً دون أن يرث خطية الإنسان.
وواضح أن كل البشر قد ورثوا الخطية لأنهم توارثوا دم آدم الذي أفسدته الخطية كما نقرأ في الكلمات «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رو ٥: ١٢). فالبشر جميعاً يحملون في عروقهم دم آدم الأثيم كما يقرر بولس الرسول في كلماته «وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ» (أع ١٧: ٢٦)، لقد كان آدم هو «نبع» النهر الذي جاء منه البشر. وما دام النبع قد تلوث بالخطية، فكل قطرة ماء تجري في النهر حملت جراثيم الخطية.
يقول «الدكتور M.R. Dehaan»: إن من الحقائق العلمية الثابتة أن الدم الذي ينتج في جسد الجنين ينتج عن طريق الأب، فالبويضة غير المخصبة لا يمكن أن تكون دماً لأن البويضة نفسها ليس بها من العناصر الضرورية ما يعدها لإنتاج الدم، بدليل أن بيضة الدجاجة غير المخصبة لا تخرج كتكوتاً. فالجنين لا يأخذ نقطة واحدة من دم الأم، فالأم تمد الجنين بالعناصر المغذية لبناء الجسم الصغير الذي تضمه أحشاؤها ولكن كل الدم الذي فيه قد نتج عن طريق الأب، فمنذ لحظة الحمل إلى لحظة الولادة لا تمر نقطة دم واحدة من الأم إلى الجنين، إذ أن كل عمل الأم هو إمداد الجنين بالمواد اللازمة لبناء جسمه مثل البروتينات، والكربوهيدرات، والأملاح، والمعادن، وهذه تمر بسهولة من الأم إلى الجنين، دون أن تعطي الأم للجنين نقطة دم واحدة. والدم موجود في الجنين ينتج داخله أصلاً من الأب كبذرة حياة، وكلما نما جسمه عن طريق الغذاء الذي تقدمه الأم ازداد الدم اللازم لذلك الجسم.
ولما كان المسيح له المجد قد تجسد في أحشاء عذراء لم تعرف رجلاً، فجسده البشري لم تجر في عروقه نقطة دم ملوثة بالاثم، لأنه لم يرث خطية آدم الساقط كما قرر يوحنا الرسول في الكلمات: «وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (١ يو ٣: ٥) وكما قال بطرس الرسول وهو يؤكد نقاوة وطهارة دم المسيح في كلماته: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (١ بط ١: ١٨ - ٢٠). ولهذا فإن دم المسيح الزكي الكريم يطهر الذين يؤمنون به من كل خطية. إن ولادة المسيح من عذراء كان غرضها الأساسي فداء الإنسان، ولأن الفداء لا يمكن أن يتممه سوى الله، فالمسيح إذاً هو «الله الابن» الذي أخذ صورة إنسان.
ولو كان المسيح مجرد إنسان فلماذا لم يولد كما يولد سائر البشر؟ لماذا لم يولد بالتناسل الطبيعي كما ولد إبراهيم وموسى وإيليا وإشعياء وسائر الرسل والأنبياء؟
لقد رنت أجراس النبوة منذ لحظة سقوط الإنسان مؤكدة ميلاد المسيح من عذراء، ففي سفر التكوين تحدث الله إلى الحية قائلاً: «وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تك ٣: ١٥) وفي سفر إشعياء أوضحت النبوة بما لا يعطي مجالاً للشك بأن المسيح سيولد من عذراء بالكلمات: «وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» (إش ٧: ١٤).
والآن تعال معي لنقلب صفحات العهد الجديد ونقرأ القصة البسيطة الرائعة التي تحدثنا عن كيف تجسد «ابن الله» من فتاة عذراء. إن القصة مذكورة في إنجيل متى في هذه العبارات: «أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَكَانَتْ هٰكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارّاً، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً. وَلٰكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هٰذِهِ ٱلأُمُورِ، إِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: «يَا يُوسُفُ ٱبْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتَكَ، لأَنَّ ٱلَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ». وَهٰذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ ٱلرَّبِّ بِٱلنَّبِيِّ: «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا)» (مت ١: ١٨ - ٢٣).
والقصة تحمل لنا أجمل الحقائق وأسماها، فملاك الرب قد أخبر يوسف أن الذي حُبل به في مريم العذارء هو من الروح القدس، فلم يمسسها بشر ولم تك بغياً، ويخبره بأن هذا الوليد سيدعى «يسوع» «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»، ويسجل متى فكر الروح القدس عن ولادة المسيح المعجزية من مريم العذراء إنها إتماماً لنبوة سابقة هي نبوة إشعياء التي ذكرناها في بداية حديثنا، والتي سجلها إشعياء قبل ميلاد المسيح بحوالي سبعمئة سنة.. فالمسيح له المجد هو «عمانوئيل» الذي تفسيره «الله معنا» ولذا قال عنه بولس الرسول: «وَبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (١ تي ٣: ١٦). وقال مشيراً إلى عمله الفدائي وهو يخاطب قسوس كنيسة أفسس «احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه» (أع ٢٠: ٢٨).
ويكشف «لوقا» النقاب عن بشارة جبرائيل الملاك لمريم العذارء بالكلمات: «وفي الشهر السادس (أي الشهر السادس لحمل أليصابات زوجة زكريا الكاهن بيوحنا المعمدان) «أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ ٱلْمَلاَكُ مِنَ ٱللّٰهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ ٱسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ ٱسْمُهُ يُوسُفُ. وَٱسْمُ ٱلْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. فَدَخَلَ إِلَيْهَا ٱلْمَلاَكُ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ. فَلَمَّا رَأَتْهُ ٱضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلتَّحِيَّةُ! فَقَالَ لَهَا ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُّوَةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ. وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِٱبْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهٰذَا هُوَ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ لِتِلْكَ ٱلْمَدْعُّوَةِ عَاقِراً، لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى ٱللّٰهِ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ ٱلرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ. فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا ٱلْمَلاَكُ» (لوقا ١: ٢٦ - ٣٨).
هذه القصة الكاملة لولادة المسيح المعجزية، فلكي يحمي الله مريم العذراء من الموت رجماً كزانية حملت سفاحاً كما أمر الرب موسى بالكلمات: «إِذَا كَانَتْ فَتَاةٌ عَذْرَاءُ مَخْطُوبَةً لِرَجُلٍ، فَوَجَدَهَا رَجُلٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَٱضْطَجَعَ مَعَهَا، فَأَخْرِجُوهُمَا كِلَيْهِمَا إِلَى بَابِ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ وَٱرْجُمُوهُمَا بِٱلْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَا» (تث ٢٢: ٢٣ و٢٤). أعطى إعلاناً خاصاً في حلم لخطيبها يوسف ليأخذها زوجة، فتلد هذا الوليد العجيب في كنفه، وتحت اسمه، ولكنه من الجهة الأخرى أكد أن هذا الوليد ليس كسائر البشر، فهو «يسوع المخلص» وهو في ذات الوقت «ابن الله» وأكد الكتاب في كلمات صريحة بأن يوسف لم يمس مريم قبل أن تلد المسيح بالكلمات «فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته. ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر. ودعا اسمه يسوع».
فأنا أومن بأن المسيح هو الله، على أساس ولادته المعجزية من عذراء، فهو لم يولد كما يولد سائر البشر بل هيأ الله له جسداً خاصاً كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين «لِذٰلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً» (عب ١٠: ٥). ولم تكن ولادته بالجسد هي بداية حياته، فقد كان موجوداً منذ الأزل كما قال بفخه المبارك «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يو ٨: ٥٨) وكما تحدث عنه أجور ابن متقية في سفر أمثال قائلاً: «مَن صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ؟ مَن جَمَعَ ٱلرِّيحَ في حُفْنَتَيْهِ؟ مَن صَرَّ ٱلْمِيَاهَ في ثَوْبٍ؟ مَن ثَبَّتَ جَمِيعَ أَطْرَافِ ٱلأَرْضِ؟ مَا ٱسْمُهُ وَمَا ٱسْمُ ٱبْنِهِ إِنْ عَرَفْتَ؟» (أم ٣٠: ٤) فهو «الله الابن» الأزلي الأبدي، الأول والآخر، البداية والنهاية.
(٢) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس إعلانات الفلك والنجوم عن مجيئه: نقرأ في سفر التكوين الكلمات: «وَقَالَ ٱللّٰهُ: لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ ٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ، وَتَكُونَ لآيَاتٍ وَأَوْقَاتٍ وَأَيَّامٍ وَسِنِينٍ. وَتَكُونَ أَنْوَاراً فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَكَانَ كَذٰلِكَ.فَعَمِلَ ٱللّٰهُ ٱلنُّورَيْنِ ٱلْعَظِيمَيْنِ: ٱلنُّورَ ٱلأَكْبَرَ لِحُكْمِ ٱلنَّهَارِ، وَٱلنُّورَ ٱلأَصْغَرَ لِحُكْمِ ٱللَّيْلِ، وَٱلنُّجُومَ. وَجَعَلَهَا ٱللّٰهُ فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى ٱلأَرْضِ، وَلِتَحْكُمَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ، وَلِتَفْصِلَ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَٱلظُّلْمَةِ» (تك ١: ١٤ - ١٨).
ويقول دكتور «Charles S. Bauer» إن الكلمة «آيات» المذكورة في النص جاءت في العبرية «othoth» التي معناها «الآتي» ولو أنك درست الأصل العبري للكلمة لرأيت أنها ترينا أن نجوم السماء عملت لكي تتحدث عن شخص آت. والكلمة «أوقات» تعني في العبرية «أوقات معينة» فهي تتحدث عن شخص سيأتي في وقت معين كما قال بولس الرسول «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ» (غلا ٤: ٤) «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُعَيَّنِ لأَجْلِ ٱلْفُجَّارِ» (رو ٥: ٦).
ولذا فليس بعجيب أن نقرأ عن مجيء المجوس من المشرق للسجود للمسيح الوليد كما سجل متى في إنجيله بالكلمات: «وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ٱلْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ» (مت ٢: ١و٢).
لقد رنم داود قديماً في مزموره قائلاً: «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَماً، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً» (مز ١٩: ١ و٢) ومجد الله الذي تتحدث به السموات والفلك، ليس هو مجده في الخليقة فقط، بل مجده في الفداء أيضاً.
هناك اثنتي عشرة مجموعة من النجوم الثابتة في السماء تدور في منطقة البروج سأوردها بحسب ترتيبها الزمني:
فنحن لا نؤمن بأن المسيح هو الله على أسس وراثية تناقلها الأبناء عن الآباء، لكننا نؤمن قلبياً بهذا الحق على أسس قوية مبنية أصلاً على إعلانات كلمة الله.
فإذا سألني واحد: لماذا نؤمن بأن المسيح هو الله؟ فإنني أجيبه على أسس من الحق الواضح المعلن في الكتاب المقدس.. وإليك هذه الأسس في وضوح صريح.
(١) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس ميلاده المعجزي من عذراء: لقد خلق الله آدم خلقاً مباشراً من تراب ونفخ فيه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية، تم أخذ ضلعاً من أضلاعه وبناها إمرأة وأحضرها إلى آدم، وكان السبب وراء خلقه المرأة من الرجل هو تأكيد «وحدة الجنس البشري» فالرجل والمرأة كلاهما من تراب لا فضل لأحدهما على الآخر من حيث المادة التي خلقها منها الله، فلم يكن خلق المرأة من الرجل لمجرد إثبات قدرة الله «فقد ثبتت هذه القدرة بخلق آدم من العدم والتراب» بل كان هذا الخلق لإثبات وحدة الإنسانية جمعاء.
أما ولادة «يسوع المسيح» من عذراء لم يمسسها بشر، فكانت معجزة فريدة قصد الله في حكمته أن تتم، لكي يولد المسيح إنساناً دون أن يرث خطية الإنسان.
وواضح أن كل البشر قد ورثوا الخطية لأنهم توارثوا دم آدم الذي أفسدته الخطية كما نقرأ في الكلمات «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رو ٥: ١٢). فالبشر جميعاً يحملون في عروقهم دم آدم الأثيم كما يقرر بولس الرسول في كلماته «وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ» (أع ١٧: ٢٦)، لقد كان آدم هو «نبع» النهر الذي جاء منه البشر. وما دام النبع قد تلوث بالخطية، فكل قطرة ماء تجري في النهر حملت جراثيم الخطية.
يقول «الدكتور M.R. Dehaan»: إن من الحقائق العلمية الثابتة أن الدم الذي ينتج في جسد الجنين ينتج عن طريق الأب، فالبويضة غير المخصبة لا يمكن أن تكون دماً لأن البويضة نفسها ليس بها من العناصر الضرورية ما يعدها لإنتاج الدم، بدليل أن بيضة الدجاجة غير المخصبة لا تخرج كتكوتاً. فالجنين لا يأخذ نقطة واحدة من دم الأم، فالأم تمد الجنين بالعناصر المغذية لبناء الجسم الصغير الذي تضمه أحشاؤها ولكن كل الدم الذي فيه قد نتج عن طريق الأب، فمنذ لحظة الحمل إلى لحظة الولادة لا تمر نقطة دم واحدة من الأم إلى الجنين، إذ أن كل عمل الأم هو إمداد الجنين بالمواد اللازمة لبناء جسمه مثل البروتينات، والكربوهيدرات، والأملاح، والمعادن، وهذه تمر بسهولة من الأم إلى الجنين، دون أن تعطي الأم للجنين نقطة دم واحدة. والدم موجود في الجنين ينتج داخله أصلاً من الأب كبذرة حياة، وكلما نما جسمه عن طريق الغذاء الذي تقدمه الأم ازداد الدم اللازم لذلك الجسم.
ولما كان المسيح له المجد قد تجسد في أحشاء عذراء لم تعرف رجلاً، فجسده البشري لم تجر في عروقه نقطة دم ملوثة بالاثم، لأنه لم يرث خطية آدم الساقط كما قرر يوحنا الرسول في الكلمات: «وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (١ يو ٣: ٥) وكما قال بطرس الرسول وهو يؤكد نقاوة وطهارة دم المسيح في كلماته: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (١ بط ١: ١٨ - ٢٠). ولهذا فإن دم المسيح الزكي الكريم يطهر الذين يؤمنون به من كل خطية. إن ولادة المسيح من عذراء كان غرضها الأساسي فداء الإنسان، ولأن الفداء لا يمكن أن يتممه سوى الله، فالمسيح إذاً هو «الله الابن» الذي أخذ صورة إنسان.
ولو كان المسيح مجرد إنسان فلماذا لم يولد كما يولد سائر البشر؟ لماذا لم يولد بالتناسل الطبيعي كما ولد إبراهيم وموسى وإيليا وإشعياء وسائر الرسل والأنبياء؟
لقد رنت أجراس النبوة منذ لحظة سقوط الإنسان مؤكدة ميلاد المسيح من عذراء، ففي سفر التكوين تحدث الله إلى الحية قائلاً: «وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تك ٣: ١٥) وفي سفر إشعياء أوضحت النبوة بما لا يعطي مجالاً للشك بأن المسيح سيولد من عذراء بالكلمات: «وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» (إش ٧: ١٤).
والآن تعال معي لنقلب صفحات العهد الجديد ونقرأ القصة البسيطة الرائعة التي تحدثنا عن كيف تجسد «ابن الله» من فتاة عذراء. إن القصة مذكورة في إنجيل متى في هذه العبارات: «أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَكَانَتْ هٰكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارّاً، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً. وَلٰكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هٰذِهِ ٱلأُمُورِ، إِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: «يَا يُوسُفُ ٱبْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتَكَ، لأَنَّ ٱلَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ». وَهٰذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ ٱلرَّبِّ بِٱلنَّبِيِّ: «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا)» (مت ١: ١٨ - ٢٣).
والقصة تحمل لنا أجمل الحقائق وأسماها، فملاك الرب قد أخبر يوسف أن الذي حُبل به في مريم العذارء هو من الروح القدس، فلم يمسسها بشر ولم تك بغياً، ويخبره بأن هذا الوليد سيدعى «يسوع» «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»، ويسجل متى فكر الروح القدس عن ولادة المسيح المعجزية من مريم العذراء إنها إتماماً لنبوة سابقة هي نبوة إشعياء التي ذكرناها في بداية حديثنا، والتي سجلها إشعياء قبل ميلاد المسيح بحوالي سبعمئة سنة.. فالمسيح له المجد هو «عمانوئيل» الذي تفسيره «الله معنا» ولذا قال عنه بولس الرسول: «وَبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (١ تي ٣: ١٦). وقال مشيراً إلى عمله الفدائي وهو يخاطب قسوس كنيسة أفسس «احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه» (أع ٢٠: ٢٨).
ويكشف «لوقا» النقاب عن بشارة جبرائيل الملاك لمريم العذارء بالكلمات: «وفي الشهر السادس (أي الشهر السادس لحمل أليصابات زوجة زكريا الكاهن بيوحنا المعمدان) «أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ ٱلْمَلاَكُ مِنَ ٱللّٰهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ ٱسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ ٱسْمُهُ يُوسُفُ. وَٱسْمُ ٱلْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. فَدَخَلَ إِلَيْهَا ٱلْمَلاَكُ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ. فَلَمَّا رَأَتْهُ ٱضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلتَّحِيَّةُ! فَقَالَ لَهَا ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُّوَةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ. وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِٱبْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهٰذَا هُوَ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ لِتِلْكَ ٱلْمَدْعُّوَةِ عَاقِراً، لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى ٱللّٰهِ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ ٱلرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ. فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا ٱلْمَلاَكُ» (لوقا ١: ٢٦ - ٣٨).
هذه القصة الكاملة لولادة المسيح المعجزية، فلكي يحمي الله مريم العذراء من الموت رجماً كزانية حملت سفاحاً كما أمر الرب موسى بالكلمات: «إِذَا كَانَتْ فَتَاةٌ عَذْرَاءُ مَخْطُوبَةً لِرَجُلٍ، فَوَجَدَهَا رَجُلٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَٱضْطَجَعَ مَعَهَا، فَأَخْرِجُوهُمَا كِلَيْهِمَا إِلَى بَابِ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ وَٱرْجُمُوهُمَا بِٱلْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَا» (تث ٢٢: ٢٣ و٢٤). أعطى إعلاناً خاصاً في حلم لخطيبها يوسف ليأخذها زوجة، فتلد هذا الوليد العجيب في كنفه، وتحت اسمه، ولكنه من الجهة الأخرى أكد أن هذا الوليد ليس كسائر البشر، فهو «يسوع المخلص» وهو في ذات الوقت «ابن الله» وأكد الكتاب في كلمات صريحة بأن يوسف لم يمس مريم قبل أن تلد المسيح بالكلمات «فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته. ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر. ودعا اسمه يسوع».
فأنا أومن بأن المسيح هو الله، على أساس ولادته المعجزية من عذراء، فهو لم يولد كما يولد سائر البشر بل هيأ الله له جسداً خاصاً كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين «لِذٰلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً» (عب ١٠: ٥). ولم تكن ولادته بالجسد هي بداية حياته، فقد كان موجوداً منذ الأزل كما قال بفخه المبارك «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يو ٨: ٥٨) وكما تحدث عنه أجور ابن متقية في سفر أمثال قائلاً: «مَن صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ؟ مَن جَمَعَ ٱلرِّيحَ في حُفْنَتَيْهِ؟ مَن صَرَّ ٱلْمِيَاهَ في ثَوْبٍ؟ مَن ثَبَّتَ جَمِيعَ أَطْرَافِ ٱلأَرْضِ؟ مَا ٱسْمُهُ وَمَا ٱسْمُ ٱبْنِهِ إِنْ عَرَفْتَ؟» (أم ٣٠: ٤) فهو «الله الابن» الأزلي الأبدي، الأول والآخر، البداية والنهاية.
(٢) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس إعلانات الفلك والنجوم عن مجيئه: نقرأ في سفر التكوين الكلمات: «وَقَالَ ٱللّٰهُ: لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ ٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ، وَتَكُونَ لآيَاتٍ وَأَوْقَاتٍ وَأَيَّامٍ وَسِنِينٍ. وَتَكُونَ أَنْوَاراً فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَكَانَ كَذٰلِكَ.فَعَمِلَ ٱللّٰهُ ٱلنُّورَيْنِ ٱلْعَظِيمَيْنِ: ٱلنُّورَ ٱلأَكْبَرَ لِحُكْمِ ٱلنَّهَارِ، وَٱلنُّورَ ٱلأَصْغَرَ لِحُكْمِ ٱللَّيْلِ، وَٱلنُّجُومَ. وَجَعَلَهَا ٱللّٰهُ فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى ٱلأَرْضِ، وَلِتَحْكُمَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ، وَلِتَفْصِلَ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَٱلظُّلْمَةِ» (تك ١: ١٤ - ١٨).
ويقول دكتور «Charles S. Bauer» إن الكلمة «آيات» المذكورة في النص جاءت في العبرية «othoth» التي معناها «الآتي» ولو أنك درست الأصل العبري للكلمة لرأيت أنها ترينا أن نجوم السماء عملت لكي تتحدث عن شخص آت. والكلمة «أوقات» تعني في العبرية «أوقات معينة» فهي تتحدث عن شخص سيأتي في وقت معين كما قال بولس الرسول «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ» (غلا ٤: ٤) «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُعَيَّنِ لأَجْلِ ٱلْفُجَّارِ» (رو ٥: ٦).
ولذا فليس بعجيب أن نقرأ عن مجيء المجوس من المشرق للسجود للمسيح الوليد كما سجل متى في إنجيله بالكلمات: «وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ٱلْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ» (مت ٢: ١و٢).
لقد رنم داود قديماً في مزموره قائلاً: «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَماً، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً» (مز ١٩: ١ و٢) ومجد الله الذي تتحدث به السموات والفلك، ليس هو مجده في الخليقة فقط، بل مجده في الفداء أيضاً.
هناك اثنتي عشرة مجموعة من النجوم الثابتة في السماء تدور في منطقة البروج سأوردها بحسب ترتيبها الزمني:
- برج العذراء
- برج الميزان
- برج العقرب
- برج القوس
- برج الجدي
- برج الدلو
- برج الحوت
- برج الحمل
- برج الثور
- برج الجوزاء
- برج السرطان
- برج الأسد
إن هذه البروج تتحدث عن
«قصة الفداء»
فبرج العذراء يتحدث عن ميلاد المسيح من عذراء، وبرج الميزان يرينا أن البشر
قد وزنوا بالموازين فوجدوا ناقصين، وبرج العقرب وقد ترجم في الإنجليزية
Serpant أي الحية، يرينا الحية القديمة التي سممت حياة الإنسان بالخطية،
وبرج القوس يرينا المسيح الظافر المنتصر الذي سحق رأس الحية بموته على
الصليب، وبرج الجدي يتحدث عن ناحية من نواحي عمل المسيح على الصليب كما
نقرأ في لاويين ٩: ٣، وبرج الدلو يتحدث عن المسيح ينبوع الماء الحي كما
نقرأ في يوحنا ٤: ١٤ و٧: ٣٧ - ٣٩ ورؤ ٢٢: ١٧، وبرج الحوت يرينا المسيح
المدفون المقام من الأموات
«لأَنَّهُ كَمَا كَانَ
يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ،
هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ
وَثَلاَثَ لَيَالٍ» (متى ١٢: ٤٠) وبرج الحمل يرينا المسيح
حمل الله الذي يرفع خطية العالم يو ١: ٢٩، وبرج الثور يرينا المسيح ذبيحة
الخطية كما نقرأ في لاويين ٤: ١٣ - ١٥، وبرج الجوزاء أو التوأمان يرينا
المسيح في يوم عرسه (رؤ ١٩: ٧ - ٩) كما يرينا إياه وقد صالح العبرانيين
والأمم مع الله بالصليب (أفسس ٢: ١٦)، وبرج السرطان يرينا الإنسان العتيق
سرطان الجنس البشري الذي سيمحو الله ذكره من تحت السماء، وأخيراً برج الأسد
الذي يرينا النصرة النهائية للمسيح كما نقرأ في الكلمات:
«هُوَذَا قَدْ غَلَبَ
ٱلأَسَدُ ٱلَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ، لِيَفْتَحَ
ٱلسِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ ٱلسَّبْعَةَ» (رؤ ٥: ٥) وسيأتي اليوم القريب الذي نسمع فيه الهتاف الجميل
«قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ ٱلْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤ ١١: ١٥).
فإذا كانت النجوم في بروجها تتحدث عن المسيح، وداود يقول في المزمور: «السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه» فالمسيح إذاً ليس مجرد إنسان، إنه الله الابن المسيطر على الكون «حَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عب ١: ٣) وعلى أساس إعلانات الفلك والنجوم عن المسيح فأنا أومن بأنه الله، فالفلك لم يتحدث قط بهذه الصورة الرائعة عن كائن من بني الإنسان.
(٣) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس حياته المنزهة عن الخطأ والمعصومة عن الزلل: يصف يوحنا الرسول المسيح بالكلمات: «وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (١ يو ٣: ٥) ويصفه بطرس الرسول بالكلمات: «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ. ٱلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (١ بط ٢: ٢١ و٢٢) ويصفه بولس الرسول بالكلمات: «ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً» (٢ كو ٥: ٢١).
فالمسيح ليس فيه خطية، ولم يفعل خطية. ولم يعرف خطية، لقد تسامى فوق البشر بخلو حياته من الخطأ - أي خطأ - واتصف بالصلاح المطلق، وليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله.
ذات يوم جاء شاب غني إليه وقال له: «أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ؟» فَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ» (مت ١٩: ١٦ و١٧).
وكأن المسيح له المجد يقول لذلك الشاب: أتدعوني صالحاً بمقياس الصلاح البشري؟ أم تدعوني صالحاً بمقياس الصلاح الإلهي؟ وإذا كنت تقصد إنني صالح بمقياس الصلاح الإلهي فهذا يعني إنني الله، لأنه ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله، فإذا اعترفت بحق بصلاحي بالمقياس الإلهي وجب عليك أن تعترف بأنني الله.
أجل، كان المسيح صالحاً، منزهاً عن الخطأ، لأنه كان الله الابن المتجسد في صورة إنسان.
يقال إن الفضل ما شهدت به الأعداء، ولقد تحدى المسيح أعداءه علانية قائلاً: «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يو ٨: ٤٦) ولم يستطع أعداؤه أن يمسكوا عليه زلة، أو يجدوا في حياته شبه خطأ أو شر.
ودراسة دقيقة للأصحاح الثامن من إنجيل يوحنا ترينا القيمة العظمى لهذا التحدي من جانب المسيح، ففي بداية الأصحاح نقرأ: «ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى ٱلْهَيْكَلِ فِي ٱلصُّبْحِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ. وَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱمْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي ٱلْوَسَطِ قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ ٱلْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هٰذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» قَالُوا هٰذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ» (يو ٨: ٢ - ٦).
كان المسيح مشغولاً بإشاعة النور، وكان الكتبة والفريسيون يقومون بتدبير المؤامرات في الظلام.
رجال دين.. ومتآمرون.. يا للتناقض.
أتوا إليه بامرأة أمسكوها وهي تزني في ذات الفعل، ومن عجب أنهم لم يحضروا شريكها في الجريمة مع أن الناموس يقول «إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعاً مَعَ ٱمْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْلٍ، يُقْتَلُ ٱلاثْنَانِ: ٱلرَّجُلُ ٱلْمُضْطَجِعُ مَعَ ٱلْمَرْأَةِ وَٱلْمَرْأَةُ» (تث ٢٢: ٢٢) ولكن هؤلاء الفريسيين لم يحضروا الرجل الشريك في الجريمة وهذا يؤكد أن قصدهم لم يكن الدفاع عن الناموس، بل الإيقاع بالمسيح «قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه» وكان الموقف دقيقاً فإذا قال المسيح ارجموها ظهر واضحاً أن لا فرق بينه وبين موسى... فبأي جديد أتى إليهم؟! وإذا قال لا ترجموها اتهموه بالحض على عصيان الناموس واشتكوا عليه... ولكن المسيح «ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ» (كو ٢: ٣) «وَأَمَّا يَسُوعُ فَٱنْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَلَمَّا ٱسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، ٱنْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَّوَلاً بِحَجَرٍ!» ثُمَّ ٱنْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى ٱلأَرْضِ» .
هل انحنى في ذلك الوقت ليكتب خطاياهم ويصفها أمام عيونهم؟
ربما.. ولكن الأمر المؤكد نقرأه في الكلمات: «وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً، مُبْتَدِئِينَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ إِلَى ٱلآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَٱلْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي ٱلْوَسَطِ» (يو ٨: ١ - ٩).
لقد انسحب الكتبة والفريسيون الذين أحضروا المرأة الزانية، انسحبوا بعد أن أيقظ المسيح ضمائرهم بكلماته، وأظهر لهم خباياهم وخطاياهم، فهرب الفريسيون أمام نور عينيه - كدت أقول - أمام نار عينيه لأنهم كلهم في الموازيين إلى فوق.. لكنهم خطاة وأثمة.
«وبقي يسوع وحده مع المرأة».
أجل بقي وحده لأنه القدوس المنزه عن الخطأ.
بقي وحده لأنه وحده له حق الدينونة والقضاء.
وغفر للمرأة الساقطة، واهباً إياها قوة لحياة الطهر والنقاء.
هذه هي بداية الأصحاح، ونرى هناك كيف أعلن المسيح للكتبة والفريسيين شر قلوبهم، وإذ نستمر إلى قلب الأصحاح نسمع كلمات المسيح لليهود «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ ٱلْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي ٱلْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِٱلْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو ٱلْكَذَّابِ. وَأَمَّا أَنَا فَلأَنِّي أَقُولُ ٱلْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي. مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يو ٨: ٤٤ - ٤٦). وكأن الروح القدس وهو يضع هذه الآية في هذا المكان أراد أن يقارن بين المخلوقات الساقطة والإله القدوس، بين الذين لوثتهم الخطية، وذاك الذي قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين إنه «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (عب ٧: ٢٦) بين المسيح، وبين خلائقه.
وكأن المسيح يقول في هذه المقارنة: ها أنا قد كشفت لأفضل من فيكم من المتدينين، للكتبة والفريسين شر حياتهم فهربوا أمام نور عينيّ.. لكن «من منكم يبكتني على خطية؟».. من منكم يستطيع أن يذكر لي زلة؟ أو هفوة أو كلمة نابية؟ أو نظرة دنسة؟ أو موقفاً ضعيفاً؟ «من منكم يبكتني على خطية؟».
وأمام طهارة حياة المسيح جملتها وتفصيلها.. في ظاهرها وباطنها.. أمام عصمة المسيح عن الزلل.. أمام نقاوة المسيح في ذاته وتصرفاته، يرى أعظم الأنبياء والقديسين نفسه بأنه قزم أمام عملاق.. فليس بين الأنبياء من خلت حياته من الخطأ والزلل، وليس بين القديسين من لم تزل قدمه ذات يوم كما قرر إشعياء النبي بكلماته «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء ٥٣: ٦).
أما المسيح فهو يقف فريداً في نقاوة حياته ولذا فقد شهد عنه بيلاطس الوالي الروماني قائلاً: «لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً» (يو ١٨: ٣٨).
وقال عنه قائد المئة الذي أشرف على صلبه «بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً!» (لو ٢٣: ٤٧).
وعلى أساس حياته الخالية من الخطأ والمعصومة من الزلل نقرر في يقين أنه «ابن الله» أنه «الله أُظهر في الجسد».
(٤) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس علمه بكل شيء: يتميز الله عن سائر مخلوقاته بثلاث صفات هي: «العلم بكل شيء»... «القدرة على كل شيء»... «الحضور في كل مكان».. ولذا فنحن نراه يتحدى الناس في سفر إشعياء بالكلمات: «مَا هِيَ ٱلأَوَّلِيَّاتُ؟ أَخْبِرُوا فَنَجْعَلَ عَلَيْهَا قُلُوبَنَا وَنَعْرِفَ آخِرَتَهَا، أَوْ أَعْلِمُونَا ٱلْمُسْتَقْبِلاَتِ. أَخْبِرُوا بِٱلآتِيَاتِ فِيمَا بَعْدُ فَنَعْرِفَ أَنَّكُمْ آلِهَةٌ» (إش ٤١: ٢٢ و٢٣).
وكأن الله جل شأنه يقول: إن دليل الألوهية هو العلم بكل شيء، بالأوليات والمستقبلات، والعهد الجديد يرينا أن المسيح له المجد عالم بكل شيء.
فقد علم كل شيء عن الإنسان: وهذا واضح في الكلمات: «وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِٱسْمِهِ، إِذْ رَأَوُا ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي صَنَعَ. لٰكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ. وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ» (يو ٢: ٢٣ - ٢٥).
وقد علم كل شيء عن نثنائيل: والقصة مذكورة في إنجيل يوحنا الأصحاح الأول بالكلمات: «فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: وَجَدْنَا ٱلَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ٱبْنَ يُوسُفَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَةِ. فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟ قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: تَعَالَ وَٱنْظُرْ. وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ عَنْهُ: هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ. قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟ أَجَابَ يَسُوعُ: قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ، رَأَيْتُكَ. فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يو ١: ٤٥ - ٤٩).
هل كان نثنائيل تحت التينة يصلي بعيداً عن عيون الناس فأدهشه أن عرف المسيح سره؟ أو هل كانت هناك ذكريات خاصة بطفولة نثنائيل كان مكانها تحت التينة، فلما أعلن المسيح معرفته بها صاح نثنائيل «يا معلم أنت ابن الله. أنت ملك إسرائيل».
إن ما يهمنا هو أن المسيح قد رأى نثنائيل تحت التينة، وأن هذه المعرفة العجيبة دفعت نثنائيل للاعتراف بأن المسيح هو «ابن الله».
وقد علم كل شيء عن المرأة السامرية: قابل المسيح هذه المرأة عند بئر يعقوب وبدأ معها الحديث قائلاً: «أعطيني لأشرب» (يو ٤: ٧) فقالت له المرأة السامرية «كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية لان اليهود لا يعاملون السامريين».
وفجأة أصبح طالب الماء هو نفسه معطي الماء الحي إذ قال المسيح للمرأة: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ ٱللّٰهِ، وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً. قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَٱلْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ ٱلْمَاءُ ٱلْحَيُّ؟ أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، ٱلَّذِي أَعْطَانَا ٱلْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» (يو ٤: ١٠ - ١٢).
أجل إنّ يسوع أعظم من يعقوب.. لأن يعقوب أعطاهم بئر ماء عادي ككل الآبار، لكن يسوع له المجد يعطي من يأتي إليه ماء حياً لا يستطيع نبع أرضي أن يخرج مثله، ولذا فقد أجابها قائلاً: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً وَلٰكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يو ٤: ١٣ و١٤).
ودفعت كلماته المرأة إلى طلب هذا الماء العجيب، ولكنها بعقلها المادي المغلف بضباب الجهل ظنت أنه مجرد نوع جديد من المياه فقالت: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هٰذَا ٱلْمَاءَ، لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ٱذْهَبِي وَٱدْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هٰهُنَا» (يو ٤: ١٥ و١٦).
ورأت المرأة نفسها في موقف حرج، فهي امرأة ذات ماض، وهذا اليهودي الغريب الذي يتحدث إليها يقترب من كشف النقاب عن ماضيها الأسود الأثيم الأليم.. وأرادت أن تهرب من نظرات عينيه الفاحصتين، وأن تنهي حديثها معه فقالت له: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ» (يو ٤: ١٧).
وعندئذ أعلن لها المسيح علمه بكل شيء، وفي أسلوب رقيق كشف لها عن ماضيها دون أن يجرحها فقال لها: «لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَٱلَّذِي لَكِ ٱلآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هٰذَا قُلْتِ بِٱلصِّدْقِ» (يو ٤: ١٨).
وأحنت المرأة رأسها فلا سبيل للإنكار أمام عيني فاحص القلوب والكلى، وأجدى من الإنكار الاعتراف الصادق في هذا المقام ولذا قالت المرأة «يا سيد أرى أنك نبي» وكأنها تقول له: «أنت تعلم كل شيء عني.. أنت تعرف آثامي وآلامي.. أنت نبي» لقد ظنت في جهلها أنه مجرد نبي، ولكن المسيح أعلن لها أنه «مسيا» وهو الاسم اليوناني للمسيح الذي ينتظره العبرانيون لأن «المسيح» هو الاسم العبراني «للمسيا» ولقد ذهبت المرأة بعد هذه المقابلة تنادي لأهل مدينتها: «هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ؟» (يو ٤: ٢٩). ولما أثارت فضولهم وأتوا إْيه واستمعوا إلى حديثه «فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ... وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَمِ» ( يو ٤: ٣٩ و٤٢).
وقد علم المسيح بموت لعازر وهو بعيد عنه: أرسلت الأختان مرثا ومريم رسالة عاجلة إلى المسيح قالتا فيها: «يَا سَيِّدُ، هُوَذَا ٱلَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ» (يو ١١: ٣). «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: هٰذَا ٱلْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ ٱللّٰهِ، لِيَتَمَجَّدَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ بِهِ. وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ. فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ» (يو ١١: ٤ - ٦).
هل مررت في اختبار كهذا؟ هل وقعت في ضيقة أردت منها مخرجاً شريعاً فأرسلت إلى الرب صلاة تلغرافية تخبره فيها بمحنتك وحاجتك للمعونة، وإذ بالرب يتأنى عليك ويتأخر - في تقديرك - في المجيء لمعونتك؟ إن محنتك في هذه الحالة ليست الدمار إنها لمجد الله، ليتمجد ابن الله بها.. أجل فالمجد الذي يعود إلى الله يشاركه فيه ابنه الوحيد، فهو واحد مع الآب.
بعد ذلك قال المسيح لتلاميذه: «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لٰكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ». فَقَالَ تَلاَمِيذُهُ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى». وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ، وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ ٱلنَّوْمِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ عَلاَنِيَةً: «لِعَازَرُ مَاتَ» (يو ١١: ١١ - ١٤).
مات.. وكيف عرفت يا سيد؟
وكأنني أسمع الرب يجيب تلاميذه بالكلمات: أنا موجود هناك، كما أنا موجود معكم، أنا مع الأختين الحزينتين الباكيتين كما أنا معكم يا تلاميذي.. «لِعَازَرُ مَاتَ. وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا» (يو ١١: ١٤ و١٥). قال هذا لانه علم مسبقاً أنه سيقيم لعازر من قبره. لقد عرف المسيح بموت لعازر دون أن يخبره أحد، لأنه الله الموجود في كل مكان، العالم بكل شيء.
وقد علم المسيح بكل ما سيحدث له من آلام وأعلن كذلك قيامته نقرأ في إنجيل يوحنا هذه الكلمات: «أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ ٱلْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ إِلَى ٱلآبِ» (يو ١٣: ١) ونقرأ أيضاً: «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ» (يو ١٨: ٤).
لم يأخذه أحد على غرة.
- لقد عرف أن يهوذا التلميذ الخائن سيسلمه، لذلك قال لتلاميذه «أَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلٰكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذٰلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ» (يو ١٣: ١٠ و١١).
- وعرف أنه سيذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم، وقد جاء إعلانه عن علمه بما سيأتي عليه من آلام بعد أن اعترف بطرس بلاهوته بكلماته الصريحة «أنت هو المسيح ابن الله الحي» وهنا نقرأ الكلمات: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ... مِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ (أي بعد أن أعلن الآب لاهوت ابنه لبطرس) ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومَ» (متى ١٦: ١٦ - ٢١). أجل علم المسيح بكل ما سيأتي عليه من آلام وأخبر تلاميذه بما سيحدث له قبل حدوثه، كما أعلن معرفته بقيامته.
وقد علم المسيح أن الحواري بطرس سينكره وهذا ما نقرأه في إنجيل متى بالكلمات «حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ ٱلرَّعِيَّةِ. وَلٰكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ. فَقَالَ بُطْرُسُ لَهُ: وَإِنْ شَكَّ فِيكَ ٱلْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَداً. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: وَلَوِ ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» (مت ٢٦: ٣١ - ٣٥).
وقد صدقت النبوءة وأنكر بطرس المسيح، وها نحن نقرأ عن إنكاره هذه الكلمات: «وَبَعْدَ قَلِيلٍ جَاءَ ٱلْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: حَقّاً أَنْتَ أَيْضاً مِنْهُمْ، فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ! فَٱبْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ ٱلرَّجُلَ! وَلِلْوَقْتِ صَاحَ ٱلدِّيكُ. فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ يَسُوعَ ٱلَّذِي قَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ ٱلدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً» (مت ٢٦: ٧٣ - ٧٥).
وقد علم المسيح بكل حوادث الضيقة العظيمة التي تسبق مجيئه مع قديسيه إلى هذه الأرض: وقد شرحها في إنجيل متى الأصحاح الرابع والعشرين، كما تحدث عنها لعبده يوحنا في سفر الرؤيا بتفصيل يذهل العقل.
ويكفي هنا أن نذكر كلمات قليلة من حديثه تاركين لمن يريد التوسع العودة إلى الكتاب المقدس لدراسة هذه التفاصيل لنفسه فقد قال بفمه المبارك «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ تُظْلِمُ ٱلشَّمْسُ، وَٱلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَٱلنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، وَقُّوَاتُ ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ فِي ٱلسَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ بِقُّوَةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ» (مت ٢٤: ٢٩ و٣٠).
أجل إن المسيح هو الله الذي ظهر في الجسد لأنه عالم بكل شيء، وأمام علمه نقول مع داود: «عَجِيبَةٌ هٰذِهِ ٱلْمَعْرِفَةُ فَوْقِي. ٱرْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا» (مز ١٣٩: ٦). وقد اعترف بطرس بعلم المسيح بكل شيء في هذه الكلمات: «فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هٰؤُلاَءِ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ٱرْعَ خِرَافِي. قَالَ لَهُ أَيْضاً ثَانِيَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ٱرْعَ غَنَمِي. قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱرْعَ غَنَمِي» (يو ٢١: ١٥ - ١٧). وكأننا نسمع بطرس يقول بهذا الاعتراف الواضح: أيمكن أن تُخفى عليك عواطف قلبي؟ أنت تعلم كل شيء.. أنت تعرف كل شيء.. أنت «الله» فاحص القلوب والكلى.
وهذا ما نقرأه في سفر رؤيا يوحنا في الكلمات: «فَسَتَعْرِفُ جَمِيعُ ٱلْكَنَائِسِ أَنِّي أَنَا هُوَ ٱلْفَاحِصُ ٱلْكُلَى وَٱلْقُلُوبَ، وَسَأُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ» (رؤيا ٢: ٢٣).
وأمام علم المسيح بكل شيء أومن بأن المسيح هو «الله».
(٥) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس حضوره في كل مكان: يترنم داود لله في المزمور قائلاً: «أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ ٱلصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي ٱلْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضاً تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ» (مز ١٣٩: ٧ - ١٠).
فمن صفات الله: الوجود في كل مكان، والمسيح قد أعلن بكلمات صريحة عن وجوده في كل مكان ولذا فأنا أومن أنه الله.
بعد أن خاطب بولس قسوس كنيسة أفسس قائلاً: «ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ يَشْهَدُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ قَائِلاً: إِنَّ وُثُقاً وَشَدَائِدَ تَنْتَظِرُنِي. وَلٰكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَٱلْخِدْمَةَ ٱلَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ. وَٱلآنَ هَا أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَ وَجْهِي أَيْضاً، أَنْتُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِينَ مَرَرْتُ بَيْنَكُمْ كَارِزاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ... وَلَمَّا قَالَ هٰذَا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ وَصَلَّى. وَكَانَ بُكَاءٌ عَظِيمٌ مِنَ ٱلْجَمِيعِ، وَوَقَعُوا عَلَى عُنُقِ بُولُسَ يُقَبِّلُونَهُ مُتَوَجِّعِينَ، وَلاَ سِيَّمَا مِنَ ٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا: إِنَّهُمْ لَنْ يَرَوْا وَجْهَهُ أَيْضاً» (أع ٢٠: ٢٣ - ٣٨).
لقد عرف قسوس كنيسة أفسس أنهم لن يحظوا بحضور بولس معهم مرة أخرى.. لن يستمعوا إلى تعاليمه الثمينة.. لن يأخذوا منه هبة روحية لثباتهم.. فبكوا.. عرفوا أن الموت سينهي خدمة هذا الرسول العظيم.
وفي الرسالة إلى القديسين في فيلبي، وهي الرسالة التي كتبها بولس في أخريات أيامه نقرأ كلماته: «لأَنَّ لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ وَٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ. وَلٰكِنْ إِنْ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ فِي ٱلْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي، فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي! فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ ٱلاثْنَيْنِ: لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً. وَلٰكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي ٱلْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ» (في ١: ٢١ - ٢٤).
وكأن بولس يقول بكلماته هذه: أنا لا يمكنني أن أكون في السماء وفي الأرض، لا أستطيع أن أخدمكم بعد أن أذهب لأكون مع الرب.. لن يكون في مقدوري أن أكون واسطة تقدمكم وفرحكم في الإيمان وأنا موجود مع المسيح في المجد «لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً. وَلٰكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي ٱلْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ» (في ١: ٢٤).
وها هو بطرس الرسول يعلن ذات الموقف بكلماته: «وَلٰكِنِّي أَحْسِبُهُ حَقّاً مَا دُمْتُ فِي هٰذَا ٱلْمَسْكَنِ أَنْ أُنْهِضَكُمْ بِٱلتَّذْكِرَةِ، عَالِماً أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً. فَأَجْتَهِدُ أَيْضاً أَنْ تَكُونُوا بَعْدَ خُرُوجِي تَتَذَكَّرُونَ كُلَّ حِينٍ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ» (٢ بط ١: ١٣ - ١٥).
فبطرس أعلن أنه طالما كان موجوداً في الجسد على الأرض فواجبه أن ينهض القديسين بالتذكرة.. وأعلن أن خلع جسده صار قريباً، وأوصاهم أن يتذكروا كلماته، فلن يكون في مقدوره الاتصال بهم بعد أن يخلع مسكنه.
فالأنبياء والرسل والقديسون كلهم مضوا.. وأنهى الموت خدمتهم وعلاقتهم بالأرض وسكانها.
أما الرب يسوع المسيح فهو الموجود في كل مكان.
- إنه قد وعد تلاميذه قائلاً: «لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (مت ١٨: ٢٠).
- وقال لتلاميذه القديسين: «فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (مت ٢٨: ١٩ و٢٠).
- وقال لنيقوديموس: «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (يو ٣: ١٣).
ولقد أكدت كل الحوادث أن مواعيد الرب يسوع المسيح أمينة وصادقة. ففي إنجيل يوحنا نرى الرب وهو يؤكد لتلاميذه حقيقة حضوره الدائم معهم في الكلمات: «وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، وَهُوَ أَّوَلُ ٱلأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ ٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ ٱلْخَوْفِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ» (يو ٢٠: ١٩).
لقد كان التلاميذ في خوف من اليهود ولذلك أغلقوا الأبواب والنوافذ.. فمن أين دخل المسيح؟
لقد دخل ورفع يديه وآثار الجروح فيهما وقال: «سَلاَمٌ لَكُمْ. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا ٱلرَّبَّ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: سَلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: ٱقْبَلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ» (يو ٢٠: ١٩ - ٢٣).
«أَمَّا تُومَا، أَحَدُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلتَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُ ٱلتَّلاَمِيذُ ٱلآخَرُونَ: قَدْ رَأَيْنَا ٱلرَّبَّ» (يو ٢٠: ٢٤ و٢٥).
ويمكنني أن أتصور توما وهو يقول متعجباً: رأيتم الرب؟ وكيف دخل الرب إلى هنا؟.. الأبواب مغلقة.. ولا فتحة واحدة في المكان يمكنه الدخول منها؟!
ويرد التلاميذ قائلين: «دخل ورأيناه.. أرانا يديه وجنبه وسمعنا صوته.. قال لنا: سلام لكم.. وأرسلنا لتبشير العالم الهالك الأثيم.. توما ليتك كنت معنا».
ويرد توما وهو يهز رأسه قائلاً: كلا إن عقلي ليس على غرار عقولكم.. أنتم أصحاب عقليات تتأثر بسرعة.. أكاد أقول إنها عقليات ضعيفة.. أنتم غلبتكم العاطفة فتصورتم في أوهامكم أنكم رأيتم الرب.. أما أنا فإنني رجل واقعي مثقف «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يو ٢٠: ٢٥).
وكان المسيح موجوداً عندما تحدث توما بكلماته إلى رفاقه، وسمع كل ما قاله توما، ولو أن توما لم يره بعينيه.
«وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً» (يو ٢٠: ٢٦ و٢٧).
وامتلأ توما وباقي التلاميذ عجباً. هل كان الرب معهم حين نطق توما بكلماته؟ كيف سمع كلماته بالحرف الواحد.. وكيف جاء ليلبي مطاليب عقله؟
:وأشرق النور على قلب توما وهتف قائلاً «ربي وإلهي».
«قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو ٢٠: ٢٩).
أجل إن الرب يسوع المسيح موجود في كل مكان. وهو رفيق رحلة الحياة لكل مؤمن، ولقد كان الإحساس بحضوره الدائم هو سر سلام القديسين ونصرتهم.. إصغ إلى كلمات بولس وهو يكتب لتلميذه الحبيب تيموثاوس قائلاً: «فِي ٱحْتِجَاجِي ٱلأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ ٱلْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ. وَلٰكِنَّ ٱلرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَّوَانِي، لِكَيْ تُتَمَّ بِي ٱلْكِرَازَةُ، وَيَسْمَعَ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ، فَأُنْقِذْتُ مِنْ فَمِ ٱلأَسَدِ. وَسَيُنْقِذُنِي ٱلرَّبُّ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ رَدِيءٍ وَيُخَلِّصُنِي لِمَلَكُوتِهِ ٱلسَّمَاوِيِّ. ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. آمِينَ» (٢ تيمو ٤: ١٦ - ١٨).
أجل إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس حضوره في كل مكان، وهذه صفة لا تتوفر لأحد من البشر.. إنها صفة من صفات الله.
(٦) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس قدرته الشخصية لعمل المعجزات: المعجزة ضرورة لإثبات النبوة، وهذا واضح من الكلمات: «فَأَجَابَ مُوسَى: وَلٰكِنْ هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي، بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَظْهَرْ لَكَ ٱلرَّبُّ. فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: مَا هٰذِهِ فِي يَدِكَ؟ فَقَالَ: عَصاً. فَقَالَ: ٱطْرَحْهَا إِلَى ٱلأَرْضِ. فَطَرَحَهَا إِلَى ٱلأَرْضِ فَصَارَتْ حَيَّةً، فَهَرَبَ مُوسَى مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: مُدَّ يَدَكَ وَأَمْسِكْ بِذَنَبِهَا (فَمَدَّ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ، فَصَارَتْ عَصاً فِي يَدِهِ) لِكَيْ يُصَدِّقُوا أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ آبَائِهِمْ، إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَاقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ أَيْضاً: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي عُبِّكَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي عُبِّهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، وَإِذَا يَدُهُ بَرْصَاءُ مِثْلَ ٱلثَّلْجِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: رُدَّ يَدَكَ إِلَى عُبِّكَ (فَرَدَّ يَدَهُ إِلَى عُبِّهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْ عُبِّهِ، وَإِذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ مِثْلَ جَسَدِهِ) فَيَكُونُ إِذَا لَمْ يُصَدِّقُوكَ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ ٱلآيَةِ ٱلأُولَى، أَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ صَوْتَ ٱلآيَةِ ٱلأَخِيرَةِ» (خر ٤: ١ - ٨).
والكلمات ترينا أن موسى خشي أن لا يصدقه شعبه حين يدعي النبوة. فأيده الله بالمعجزات لتكون دليلاً حياً على صدق نبوته.
وكل نبي أرسله الله إلى هذه الأرض أجرى معجزات، لكنه لم يفعلها بقوته الشخصية بل بقوة الله، أما المسيح له المجد فقد أجرى المعجزات بقوة لاهوته لأنه ابن الله والله الابن.
لقد أظهر سلطانه الإلهي على الطبيعة: يحتفظ لنا التاريخ بقصة عن الملكة فيكتوريا التي اشتهرت بتقواها ومحبتها لكلمة الله، وكانت تلقب باسم «ملكة انكلترة وأمبراطورة ما وراء البحار» إنها كانت ذات يوم واقفة على شاطئ البحر وإذ بموجة شديدة تبلل ثيابها بالماء، وهنا نظرت الأمبراطورة إلى البحر الهائج وقالت: اسكت ابكم.. ولكن البحر زاد هياجاً وجاءت موجة شديدة أخرى وبللتها بكيفية أشد. وهنا ابتسمت الملكة وقالت: «يسمونني أمبراطورة ما وراء البحار وها أنذا آمر البحر فلا يطيعني... شخص واحد فقط هو ملك الملوك ورب الأرباب هو الرب يسوع المسيح الذي أمر البحر فأطاعه».
ذات يوم قال المسيح لتلاميذه «وَقَالَ لَهُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ لَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى ٱلْعَبْرِ». فَصَرَفُوا ٱلْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي ٱلسَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ ٱلأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. وَكَانَ هُوَ فِي ٱلْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً» (مر ٤: ٣٥ - ٣٨).
لماذا لم يوقظ التلاميذ المسيح قبل أن تمتلئ السفينة بالماء؟ لعلهم ظنوا أنهم يستطيعون بمجهودهم أن يقوموا بعمل يجعل السفينة في أمان، ويتركوه نائماً في هدوء! ولكن عبثاً تحاول أن تحل مشاكلك بدون المسيح. إنك حينئذ تزيدها تعقيداً.
وتحت ضغط الريح العاصفة، والأمواج التي تضرب إلى السفينة اضطر التلاميذ أن يلجأوا إلى المسيح فأيقظوه وقالوا له: يا معلم أما يهمك أننا نهلك؟
فقام وانتهر الريح وقال للبحر اسكت. ابكم. فسكنت الريح وصار هدوء عظيم.
وفي عتاب لطيف قال المسيح لتلاميذه: «ما بالكم خائفين هكذا؟ كيف لا إيمان لكم؟ فخافوا خوفاً عظيماً وقال بعضهم لبعض من هو هذا؟ فإن الريح أيضاً والبحر يطيعانه».
إن ذاك الذي أسكت البحر، هو نفسه الرب الذي سأل أيوب قديماً قائلاً: «وَمَنْ حَجَزَ ٱلْبَحْرَ بِمَصَارِيعَ حِينَ ٱنْدَفَقَ فَخَرَجَ مِنَ ٱلرَّحِمِ. إِذْ جَعَلْتُ ٱلسَّحَابَ لِبَاسَهُ وَٱلضَّبَابَ قِمَاطَهُ وَجَزَمْتُ عَلَيْهِ حَدِّي وَأَقَمْتُ لَهُ مَغَالِيقَ وَمَصَارِيعَ، وَقُلْتُ: إِلَى هُنَا تَأْتِي وَلاَ تَتَعَدَّى، وَهُنَا تُتْخَمُ كِبْرِيَاءُ لُجَجِكَ؟» (أي ٣٨: ٨ - ١١).
ولما نتابع معجزات المسيح في إنجيل يوحنا، نجدها معجزات لا يرقى الشك إليها. لقد أزعجنا العصريون الذين يشكون في صدق الكتاب المقدس، بادعائهم القائل: إن المسيح كان شخصاً عبقرياً، وكان يتميز بشخصية مغناطسية، وأنه بالقوة المغناطسية التي امتلكها أثر في المفلوجين المرضى بالشلل النفسي، فأعاد إليهم الثقة بأنفسهم، وهكذا أعطاهم القدرة على العودة لممارسة حياتهم الطبيعية من جديد.
ولكن المعجزات التي سجلها إنجيل يوحنا كانت فوق العبقرية، كانت فوق القوى المغناطسية. كانت فوق القدرة العقلية. كانت فوق الإيحاء وكل أساليب علم النفس في العلاج. كانت معجزات إلهية في كل ما أحاط بها، وفي كل تفاصيلها.
فقد أظهر المسيح فيها قدرته على شفاء المرضى حتى دون أن يرى المريض: ذات يوم جاء يسوع إلى قانا الجليل «فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا ٱلْجَلِيلِ، حَيْثُ صَنَعَ ٱلْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ٱبْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ. هٰذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، ٱنْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ٱبْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى ٱلْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!» (يو ٤: ٤٦ - ٤٨).
ويتوسل الرجل إلى المسيح قائلاً: «يَا سَيِّدُ، ٱنْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ٱبْنِي» (يو ٤: ٤٩) وعندئذ ينطق المسيح بعبارة قصيرة تعلن عن الاهوته وقدرته فيقول لخادم الملك: «اذهب. ابنك حي».
«فَآمَنَ ٱلرَّجُلُ بِٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ، وَذَهَبَ» (يو ٤: ٥٠).
ويبدو أن إيمانه كان عظيماً لدرجة أنه لم يسرع إلى بيته في ذلك اليوم، إذ تيقن أن ابنه قد دبت فيه الصحة من جديد، وأنه لا داعي للإسراع لرؤيته، ولذا قضى يومه في قانا الجليل لعله قضاه في زيارة أصدقائه.
«وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ ٱسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ. فَٱسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى، فَقَالُوا لَهُ: أَمْسٍ فِي ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ ٱلْحُمَّى. فَفَهِمَ ٱلأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ» (يو ٤: ٥٠ - ٥٣).
لقد شفى المسيح ابن خادم الملك بكلمة من فمه، ودون أن يراه فلم يكن هناك أي مجال لممارسة قواه المغناطسية كما يدعي العصريون، بل كانت المعجزة دليلاً ناطقاً على قدرته الإلهية، ولذا آمن خادم الملك وبيته كله.
وأظهر قدرته على شفاء الأمراض المستعصية: فهناك «وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ ٱلضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِٱلْعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ. فِي هٰذِهِ كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ، يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ ٱلْمَاءِ. لأَنَّ مَلاَكاً كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَاناً فِي ٱلْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ ٱلْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَّوَلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ ٱلْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ ٱعْتَرَاهُ. وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً» (يو ٥: ٢ - ٥).
هذا عمر طويل قضاه الرجل في مرض استعصى على الطب أن يجد له علاج.
«هٰذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً، وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً، فَقَالَ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟» وقد يبدو السؤال غريباً، لكن الغرابة تزول لو علمت أن هناك مرضى لا يريدون أن يبرأوا، لأنهم يجدون متعة في مرضهم.. متعة عطف الناس عليهم.. متعة عناية الناس بهم.. أو متعة لفت الأنظار إليهم.
لكن هذا الرجل كان يرغب في الشفاء. غير أنه لم يجد من يلقيه في البركة متى تحرك الماء ولذا قال للمسيح: «يَا سَيِّدُ، لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي ٱلْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ ٱلْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ».
وهنا قال له الرب القادر على كل شيء: «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: قُمِ. ٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱمْشِ فَحَالاً بَرِئَ ٱلإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى».
كان في قدرة المسيح أن يشفي رجلاً مصاباً بالشلل بعد ثمان وثلاثين سنة قضاها في العجز والمرض.
وأطعم الجماهير الغفيرة من خمسة أرغفة وسمكتين: «بَعْدَ هٰذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ، وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ. وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ ٱلَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي ٱلْمَرْضَى» (يو ٦: ١ و٢).
لقد خرجت الجماهير وراء المسيح وحيثما يوجد فهو يجذب الجماهير إليه.. إن في المسيح جاذبية عجيبة لا يستطيع إنسان أن يتجاهلها.. الملحدون يعرفون جاذبيته، والمؤمنون يختبرون هذه الجاذبية. إنه لا مفر لك من مواجهة المسيح.
«فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هٰؤُلاَءِ؟» وَإِنَّمَا قَالَ هٰذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ» (يو ٦: ٥ و٦).
وجلس فيلبس يعمل عملية حسابية ليقدر تكاليف إطعام هذا الجمع الغفير، ثم أجاب «لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً» (يو ٦: ٧).
وهنا تقدم واحد من تلاميذه وهو اندراوس وقال: «هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ، وَلٰكِنْ مَا هٰذَا لِمِثْلِ هٰؤُلاَءِ؟» (يو ٦: ٩).
وقد كتب القس «هنري هوايتمان» الانجليزي تعليقاً على هذه المعجزة فقال: «إن رجل القرن العشرين يستطيع أن يطوف بالكرة الأرضية. ويقتل الناس الذين يعيشون على بعد أميال منه، ويزن الكواكب ويحدد أماكنها، ويخرج البترول من باطن الأرض، ويطبع ملاين النسخ من الصحف اليومية، ويجعل الدجاجة تبيض ٣٦٥ بيضة في السنة، ويجعل الكلاب تدخن «البيبة» وكلب البحر يلعب بكرة الماء. وهذا الرجل العجيب إذا رأى خمسة أرغفة وسمكتين، وخمسة جياع وطفلين فقيرين فإنه يعقد مؤتمراً ويشكل لجنة كبرى وبعض اللجان الصغيرة، ويدعو إلى عملية انتخابات حرة. ثم يصرخ بأعلى صوته أن هناك أزمة شديدة تواجهه، وهو يضع تعليمات لا حصر لها ثم يبتعد تاركاً الأشخاص الخمسة والطفلين جياعاً كما كانوا قبل تأليف المؤتمر واللجان» .
هذا هو رجل القرن العشرين بكل قدراته، وعلمه واكتشافاته واختراعاته، أعجز من أن يقابل أزمة الجوع في عالم اليوم ويصرخ بأعلى صوته من مشكلة «الانفجار السكاني».
أما الرب يسوع فقد قال لتلاميذه «ٱجْعَلُوا ٱلنَّاسَ يَتَّكِئُونَ. وَكَانَ فِي ٱلْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ، فَٱتَّكَأَ ٱلرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلاَفٍ. وَأَخَذَ يَسُوعُ ٱلأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ، وَوَّزَعَ عَلَى ٱلتَّلاَمِيذِ، وَٱلتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا ٱلْمُتَّكِئِينَ. وَكَذٰلِكَ مِنَ ٱلسَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا. فَلَمَّا شَبِعُوا، قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: ٱجْمَعُوا ٱلْكِسَرَ ٱلْفَاضِلَةَ لِكَيْ لاَ يَضِيعَ شَيْءٌ. فَجَمَعُوا وَمَلأُوا ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ ٱلْكِسَرِ، مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ ٱلشَّعِيرِ ٱلَّتِي فَضَلَتْ عَنِ ٱلآكِلِينَ» (يو ٦: ١٠ - ١٣).
لقد كانت القفف المملؤءة من الكسر الفاضلة، دليلاً ملموساً على شبع الجماهير، وعلى قدرة المسيح الإلهية لإشباعها.
فليقل لنا العصريون.. أي دخل للعبقرية في هذه المعجزة؟ وأي دخل للقوة المغناطسية؟ وأي دخل للقدرة الإيحائية؟ وليكفوا عن ترهاتهم، ويعترفوا أن المسيح هو الله القادر على كل شيء.
وفتح المسيح عيني إنسان مولود أعمى: وهذه المعجزة تتحدى العلم، وتخرس العصريين المتبجحين، فهي معجزة خلق ليس في مقدور إنسان بشري أن يأتي بمثلها يسجلها يوحنا بالكلمات: «وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» (يو ٩: ١ و٢).
ويمكننا القول بأن سؤال التلاميذ كان مبنياً على عدة أفكار:
أولاً: فكرة تناسخ الأرواح، ويبدو أنها وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت.
ثانياً: الفكرة القائلة بأن أرواح البشر كانت موجودة قبل حلولها في أجساد أصحابها، وأنها ارتكبت حينئذ بعض الأخطاء وهي فكرة تغلغلت في كتابات الرابيين.
ثالثاً: هي ما فهموه من أن الله يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء (خر ٢٠: ٥).
رابعاً: الاعتقاد السائد عند الكثيرين بأن المرض والخطية صنوان لا يفترقان.
لكن المسيح أجاب إجابة تنفي كل هذه الأفكار فقال: «لاَ هٰذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لٰكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ» (يو ٩: ٣). وتعني كلماته أن خطية هذا الإنسان أو أبويه لا تزيد عن خطايا الآخرين، وأنه وُلد أعمى لتظهر أعمال الله فيه.
نعم ففي أقسى التجارب نستطيع أن نرى يد الله العاملة لخير البشر وبركة نفوسهم.
وكلمات المسيح التي قال فيها: « لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ» تؤكد لنا لاهوته إذ الواقع أنه قد أظهر «أعمال الله» في ذلك الأعمى بإعادة البصر إليه، بل بأن خلق له من الطين عينين جديدتين.
وتابع يوحنا سرد تفاصيل المعجزة بالكلمات: «قَالَ هٰذَا وَتَفَلَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ ٱلتُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِٱلطِّينِ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى» (يو ٩: ٦).
ولو أن هناك إنساناً بصيراً طليت عينيه بالطين لكان معرضاً أن يصاب بالعمى ولكن المسيح طلى عيني الأعمى، ومن ذلك الطين عمل للأعمى عينين جديدتين أليس هو الذي خلق آدم من تراب ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار نفساً حية؟
«كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يو ١: ٣).
ولقد أمر المسيح ذلك الأعمى قائلاً: «ٱذْهَبِ ٱغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ. ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَٱغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً» (يو ٩: ٧).
ولما حاول الفريسيون أن يسلبوا من هذا الرجل إيمانه بمن أعاد له نور بصره قالوا له: «أَعْطِ مَجْداً لِلّٰهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ خَاطِئٌ. فَأَجَابَ: أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَٱلآنَ أُبْصِرُ... فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً» (يو ٩: ٢٤ - ٣٤).
ولما أخرجوه خارجاً.. لم يتركه يسوع وحده.
«فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟ أَجَابَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ» (يو ٩: ٣٥ - ٣٧).
وهكذا أعلن الرب حقيقة شخصه لذلك الرجل، الذي أعاد له بقدرة لاهوته نور عينيه.
وأقام المسيح ميتاً بعد أن أنتن: وهذه المعجزة تتحدى بصورة قاطعة كل منكر للاهوت المسيح، فالإنسان مع ما بلغه من تقدم في العلم في هذا القرن العشرين ما زال عاجزاً عن أن يقيم ميت بعد أربع ساعات من وفاته، فكم بالحري بعد أربعة أيام.. وبعد أن دبت في جسده عناصر العفونة والفناء!!
لكن المسيح أقام ميتأً بعد أن أنتن فهناك في قرية بيت عنيا عاشت أسرة أحبها المسيح «وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ» (يو ١١: ٥). وكان بيت هذه الأسرة في تلك القرية الوادعة محطة الراحة التي يذهب إليها المسيح حين يتعب، وحين يريد أن يجلس جلسة هادئة مع أناس قريبين من قلبه.
ومع هذا الحب القوي من جانب المسيح لهذه الأسرة، فقد سمح في محبته أن تجتاز تجربة مريرة، هي تجربة مرض لعازر وموته. والواقع أن محبة الله لنا ليست ضماناً يبعد عنا آلام الحياة، وإلا صارت علاقتنا به على أساس المصالح المادية، والأمان في الحياة الدنيا، ومع ذلك فهناك حقيقة يجب أن لا تغرب عن بالنا وهي أن الآلام التي تمر بحياة من يحبهم الرب، تهدف إلى خيرهم وبركتهم وتنقية نفوسهم.
مرض لعازر.. ويبدو أن مرضه كان قاسياً وخطيراً. فأرسلت الأختان إلى المسيح رسالة برقية قائلتين: «يَا سَيِّدُ، هُوَذَا ٱلَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ» (يو ١١: ٣).
«فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ» (يو ١١: ٦).
ما أغرب تصرفات المسيح المحب!!
أحياناً تكون في قلبك تجربة محرقة، وترسل رسالة برقية للسماء لتنقذك، وبدلاً من أن تأتيك الإجابة فوراً.. تجد نفسك وحيداً في دوامة.. السماء لا تسمع وكأنها خلت من الله.. وأنت ترفع صوتك في عتاب قائلاً: «حتى متى يا رب أصرخ ولا تستجيب»؟
وهنا ما أحوجنا أن نسمع كلمات النبي صفنيا: «ٱلرَّبُّ إِلَهُكِ فِي وَسَطِكِ جَبَّارٌ يُخَلِّصُ. يَبْتَهِجُ بِكِ فَرَحاً. يَسْكُتُ فِي مَحَبَّتِهِ..» (صفنيا ٣: ١٧) وكلمات صاحب المزمور القائل: «ٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ وَٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ» (مز ٢٧: ١٤).
إن الله يقصد من وراء صمته الجبار خيرك. يقصد بركة لنفسك. يقصد أن يعلن لك عن شخصه بكيفية أبهى وأكمل. فانتظر الرب.
ويستمر يوحنا في تسجيل تفاصيل المعجزة بالكلمات: «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: هٰذَا ٱلْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ ٱللّٰهِ، لِيَتَمَجَّدَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ بِهِ. وَبَعْدَ ذٰلِكَ قَالَ لَهُمْ: لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لٰكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ. فَقَالَ تَلاَمِيذُهُ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى. وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ، وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ ٱلنَّوْمِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ عَلاَنِيَةً: لِعَازَرُ مَاتَ. وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا. وَلٰكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ» (يو ١١: ٤ و١١ - ١٥).
لعازر مات.. وأنا أفرح لأجلكم!!
كيف يفرح الرب لموت حبيب كلعازر؟ إن السبب هو أن هذا الموت سيعطي للتلاميذ فرصة يتحققون فيها صدق كلماته القائلة: «لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هٰذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يو ٥: ٢٨ و٢٩).
وجاء المسيح وتلاميذه إلى بيت عنيا.
«فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاَقَتْهُ، وفَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هٰهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي» (يو ١١: ٢٠ و٢١). ونحن نلمح عتاباً رقيقاً في كلمات مرثا، وكأنها تقول: أنت صديق أسرتنا. بيتنا مكان راحتك. تتركنا وحدنا في محنتنا وأحزاننا؟ ويجيب المسيح مرثا قائلاً: «سَيَقُومُ أَخُوكِ».
قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي ٱلْقِيَامَةِ، فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ».
وينطق المسيح بأسمى إعلاناته عن نفسه قائلاً: «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (يو ١١: ٢٥ و٢٦).
وكلمات المسيح هذه تنطبق على لحظة الاختطاف.
«ٱلأَمْوَاتُ فِي ٱلْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً» (١ تس ٤: ١٦). وهذا يقابل الكلمات: «مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا».
«ثُمَّ نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ ٱلْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي ٱلسُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ ٱلرَّبِّ فِي ٱلْهَوَاءِ» (١ تس ٤: ١٧) وهذا يقابل الكلمات: «وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ».
قال المسيح لمرثا: «أَتُؤْمِنِينَ بِهٰذَا؟ قَالَتْ لَهُ: نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، ٱلآتِي إِلَى ٱلْعَالَمِ» (يو ١١: ٢٦ و٢٧).
«وَلَمَّا قَالَتْ هٰذَا مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ أُخْتَهَا سِرّاً، قَائِلَةً: ٱلْمُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ يَدْعُوكِ. أَمَّا تِلْكَ فَلَمَّا سَمِعَتْ قَامَتْ سَرِيعاً وَجَاءَتْ إِلَيْهِ... ثُمَّ إِنَّ ٱلْيَهُودَ ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهَا فِي ٱلْبَيْتِ يُعَّزُونَهَا، لَمَّا رَأَوْا مَرْيَمَ قَامَتْ عَاجِلاً وَخَرَجَتْ، تَبِعُوهَا قَائِلِينَ: إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى ٱلْقَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ. فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ، خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هٰهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي. فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي، وَٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ، ٱنْزَعَجَ بِٱلرُّوحِ وَٱضْطَرَبَ، وَقَالَ: أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟ قَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، تَعَالَ وَٱنْظُرْ» (يو ١١: ٢٨ - ٣٤).
وهنا يسجل يوحنا الرسول أصغر آيات الكتاب المقدس، وأعمقها، وأصدقها تعبيراً عن مشاعر المسيح في كلمتين «بَكَى يَسُوعُ» (يو ١١: ٣٥). إن هاتين الكلمتين أعمق من المحيط، وأرحب من العالم الفسيح، إننا نرى فيهما هنا، وشفقة، ومشاركة قلب المسيح للحزانى والمتألمين.
ولما رأى اليهود دموع المسيح قالوا: «فَقَالَ ٱلْيَهُودُ:ٱنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ. وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ: أَلَمْ يَقْدِرْ هٰذَا ٱلَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هٰذَا أَيْضاً لاَ يَمُوتُ؟» (يو ١١: ٣٦ و٣٧).
إنه يقدر أن يقيمه من الموت.
جاء يسوع إلى القبر، وكان مغارة قد وضع عليه حجر وقال: «ٱرْفَعُوا ٱلْحَجَرَ. قَالَتْ لَهُ مَرْثَا، أُخْتُ ٱلْمَيْتِ: يَا سَيِّدُ، قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ» (يو ١١: ٣٩).
أجل تعفنت الجثة.. فاحت الرائحة النتنة من الجسد المائت. مسكين الإنسان.. إنه تراب وإلى تراب يعود.. وأجمل امرأة تخطر في مشيتها على الأرض تتعفن وتفوح منها رائحة تزكم الانوف عندما يتلقفها القبر كفريسة من فرائس الموت.
ومرثا وهي تردد كلماتها «يا سيد قد أنتن» كانت كأنها تقول: «يا سيد أنا لا أريد أن أرى لعازر ميتاً» منتناً إن في ذهني صورة لعازر الحي الممتلئ حيوية. وأريد أن تستمر صورته الجميلة أمام عيني. لا أريد أن أشم بأنفي عفونة الموت.
ويرد عليها المسيح بكلماته: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ ٱللّٰهِ؟. فَرَفَعُوا ٱلْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ ٱلْمَيْتُ مَوْضُوعاً» (يو ١١: ٤٠ و٤١)، وشم الناس الرائحة النتنية رائحة الموت.
وصرخ يسوع بصوت عظيم: «لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجاً» (يو ١١: ٤٣).
«فَخَرَجَ ٱلْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ، وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ» (يو ١١: ٤٤) نعم انتزع المسيح لعازر من بين أنياب الموت وأقامه بعد أن أنتن ولا يستطيع أحد أن يحي العظام وهي رميم سوى الله.
يقول دوايت لايمان مودي: «لو أن الرب يسوع لم يدعُ لعازر باسمه لقام جميع من في القبور من قوة صوت الرب القادر على كل شيء. فإن صوت المسيح قادر على إقامة جميع من في القبور من تراب الموت» (اقرأ يوحنا ٥: ٢٨ و٢٩).
وهنا لا بد من ملاحظة جديرة بالاعتبار وهي أن المسيح لم يقم بعمل معجزة واحدة في حياته لمصلحته الخاصة أو لإنقاذ نفسه من ألم تعرض له، فقد أبى أن يسمع لصوت إبليس ويصنع الحجارة خبزراً ليشبع جوع جسده (اقرأ متى ٤: ١ - ٤)، وأبى أن ينزل عن الصليب ليخلص نفسه من عذابه (اقرأ متى ٢٧: ٣٩ - ٤٣)، فمعجزاته كلها كانت لتطهير أبرص، أو شفاء مريض، أو إغاثة ملهوف أو إعادة البصر إلى أعمى، أو إقامة ميت من قبره. كانت كلها لخير غيره. كانت لإظهار حب الله وحنانه وقدرته التي تستطيع أن تنقذ كل من يلجأ إليه.
ويختتم يوحنا إنجيله بالكلمات: «وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يو ٢٠: ٣٠ و٣١). فأنا أومن أن المسيح هو الله على أساس قدرته لعمل المعجزات.
(٧) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس سلطانه المطلق لغفران الخطايا: لا يستطيع إنسان على الأرض أن يغفر خطايا الناس لأن الله وحده عنده المغفرة، كما تقول كلمات المزمور: «لأَنَّ عِنْدَكَ ٱلْمَغْفِرَةَ. لِكَيْ يُخَافَ مِنْكَ» (مز ١٣٠: ٤) وكما يقول دانيال: «لِلرَّبِّ إِلَهِنَا ٱلْمَرَاحِمُ وَٱلْمَغْفِرَةُ» (دا ٩: ٩)، وكما نقرأ في سفر ميخا «مَنْ هُوَ إِلَهٌ مِثْلُكَ غَافِرٌ ٱلإِثْمَ وَصَافِحٌ عَنِ ٱلذَّنْبِ» (ميخا ٧: ١٨). ويعلن العهد الجديد أن المسيح له السلطان المطلق لغفران خطايا الراجعين إليه، ولهذا فأنا أومن أنه الله.
ذات يوم كان المسيح في كفرناحوم، وسمع الناس أنه في بيت «وَلِلْوَقْتِ ٱجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَسَعُ وَلاَ مَا حَوْلَ ٱلْبَابِ. فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِٱلْكَلِمَةِ» وحيثما وجد المسيح نفوساً تجتمع حوله فإنه يخاطبهم بالكلمة لأنه: «لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللّٰهِ» (مت ٤: ٤).
وهناك «وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجاً يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ ٱلْجَمْعِ، كَشَفُوا ٱلسَّقْفَ حَيْثُ كَانَ» وبعدما نقبوه دلوا السرير الذي كان المفلوج مضطجعاً عليه والذين زاروا فلسطين يدركون أن عملية كشف السقف ونقبه في كثير من بيوتها ليست صعبة، فالسقوف في المباني العادية مبنية من جذوع الشجر المغطاة بطبقة من الخشب الرقيق، عليها طبقة من القطع الخزفية، يمكن رفعها بسهولة، وإنزال ما يريدون إنزاله من بين العروق بالحبال.
«فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ. وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هٰذَا هٰكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ ٱللّٰهُ وَحْدَهُ؟» (مر ٢: ٥ - ٧).
ولو كان المسيح مجرد إنسان لاعتبرناه وهو يغفر خطايا ذلك المفلوج مجدفاً، إذ أن أي إنسان من البشر يدعي أن في قدرته أن يغفر الخطايا يجدف. أجل، أي إنسان مهما كان مركزه الديني يدعى أنه يستطيع أن يحل إنساناً من خطاياه يجدف.
لقد دهشت وأنا أقرأ الفصل الثاني من كتاب «اغتيال» الذي كتبه الكاتب الأمريكي المؤرخ «جون كوترل» عن مصرع كيندي هذه العبارات: «وقبل الساعة الواحدة بدقائق قليلة جاء قسيسان من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية هما الأب أوسكار هيوبر والأب جيمس طومسون ليكونا إلى جوار كيندي وسحب الأب هيوبر الغطاء عن وجه الرئيس، ثم رفع يده اليمنى وقال باللاتينية.. إذا كنت حياً فإنني أحلك من كل لوم وخطايا»
«لأن عندك المغفرة لكي يخاف منك»
ولأن المسيح هو الله فله سلطان الغفران، وقد شعر بروحه أنهم يفكرون في أنفسهم هكذا فقال لهم: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهٰذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱمْشِ؟» (مر ٢: ٨ و٩).
إن غفران الخطايا أصعب جداً من شفاء المرض، لأن الغفران اقتضى أن يموت المسيح على الصليب «لأن أجرة الخطية هي موت» بينما شفاء هذا الرجل من مرضه المستعصي تم بكلمة من بين شفتيه المباركتين.
«َلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا» - قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «لَكَ أَقُولُ قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ». فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ ٱلسَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ ٱلْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ ٱلْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هٰذَا قَطُّ!» (مرقس ٢: ١٠ - ١٢).
لقد شفى المسيح ذلك المفلوج ليؤكد سلطانه لغفران الخطايا، ولا يقدر أحد أن يغفر خطايا إلا الله وحده.
ومرة ثانية يمارس المسيح سلطانه للغفران فقد «سَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ ٱلْفَرِّيسِيِّ وَٱتَّكَأَ. وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ ٱلْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيبِ» (لو ٧: ٣٦ - ٣٨).
وتضايق سمعان الفريسي - مضيف المسيح - أن تدخل بيته امرأة خاطئة فتلوثه بنجاسة حياتها، وسمعتها الرديئة، وتضايق بالأكثر أن يسمح لها المسيح أن تلمسه بيديها وأن تمسح قدميه بشعرها، وتكلم في نفسه قائلاً: «لَوْ كَانَ هٰذَا نَبِيّاً لَعَلِمَ مَنْ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئِةٌ» (لو ٧: ٣٩).
وعرف فاحص القلوب أفكار قلب سمعان، وأراد أن يظهر له شر بره الذاتي فقال له: «يَا سِمْعَانُ عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ. فَقَالَ: قُلْ يَا مُعَلِّمُ. كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى ٱلْوَاحِدِ خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى ٱلآخَرِ خَمْسُونَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعاً. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبّاً لَهُ؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ: أَظُنُّ ٱلَّذِي سَامَحَهُ بِٱلأَكْثَرِ» (لو ٧: ٤٠ - ٤٣).
وهنا قام الرب بمقارنة بين سمعان الفريسي المتكل على بره الذاتي، وبين المرأة الخاطئة التي عزمت أن تتوب توبة حقيقية. فقال لسمعان: «بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ. ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِٱلدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِٱلطِّيبِ رِجْلَيَّ» (لو ٧: ٤٣ - ٤٦).
ثم قال للمرأة: «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ» (لو ٧: ٤٨).
«فَٱبْتَدَأَ ٱلْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضاً؟» (لو ٧: ٤٩).
ولم يعتذر المسيح، ولم يتراجع إنه «الله الابن» الذي له سلطان الغفران.
«لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ» (يو ٥: ٢٢).
لقد أكد المسيح سلطانه المطلق لغفران الخطايا، وعلى أساس هذا السلطان أنا أومن أن المسيح هو الله.
(٨) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس طلبه الولاء المطلق من الذين يريدون أن يتبعوه: لم يجرؤ نبي أن يطلب الولاء المطلق من أتباعه لشخصه.
لم يطلب موسى النبي الولاء لنفسه من شعب إسرائيل، لكنه قال لهم: «يُقِيمُ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ. حَسَبَ كُلِّ مَا طَلَبْتَ مِنَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكَ فِي حُورِيبَ يَوْمَ ٱلاجْتِمَاعِ قَائِلاً: لاَ أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِي وَلاَ أَرَى هٰذِهِ ٱلنَّارَ ٱلْعَظِيمَةَ أَيْضاً لِئَلاَّ أَمُوتَ قَالَ لِيَ ٱلرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلَّمُوا. أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِٱسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ» (تث ١٨: ١٥ - ١٩).
وقد أكد استفانوس في خطابه لليهود أن موسى كان يشير بهذه النبوة إلى شخص المسيح (اقرأ أع ٧: ٣٧) فموسى لم يطلب لنفسه الولاء لأنه إنسان، لكنه أشار إلى ذاك النبي الآتي.. إلى شخص المسيح الذي يستحق كل ولاء لأنه ابن الله الذي قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اَللّٰهُ كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ» (عب ١: ١ و٢).
وإيليا النبي حين تحدى أنبياء البعل وصلى فوق جبل الكرمل لم يطلب الولاء لنفسه بل قال: «أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ، لِيُعْلَمِ ٱلْيَوْمَ أَنَّكَ أَنْتَ ٱللّٰهُ فِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ، وَبِأَمْرِكَ قَدْ فَعَلْتُ كُلَّ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ. ٱسْتَجِبْنِي يَا رَبُّ ٱسْتَجِبْنِي، لِيَعْلَمَ هٰذَا ٱلشَّعْبُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ» (١ ملوك ١٨: ٣٦ و٣٧).
ولكننا نرى أن المسيح يطالب تابعيه بالولاء المطلق لشخصه، ولو لم يكن هو «الله الابن» لكانه طلبه تعدياً صريحاً على حقوق الله.
- اصغ إليه وهو يطالب بتكريس كل الحب لشخصه قائلاً: «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (مت ١٠: ٣٧ - ٣٩).
إنه يطالب في كلماته هذه بأن نحبه أكثر من الأب والأم، والابن والابنة، وأن نتبعه حتى الموت حاملين الصليب، وأن نضيع حياتنا من أجله وفي خدمته.
أيمكن أن تكون هذه المطاليب من مجرد إنسان؟
يقيناً لا.
- ثم اصغ إليه وهو يطالب من يريد أن يأتي وراءه بإنكار ذاته وحمل الصليب ولسير وراءه فيقول: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (مت ١٦: ٢٤ و٢٥).
وقد جاءت هذه الكلمات بعد اعتراف بطرس للمسيح بأنه «ابن الله الحي».
أجل لقد طلب إنكار الذات، وحمل الصليب، وإهلاك النفس من أجله.. فلو لم يكن هو الله المتجسد فبأي حق يطلب كل هذه التضحيات وهذا الولاء؟!
- وأخيراً اصغ إليه وهو يطالب ببغضة كل من له علاقة قوية بنا من أجله. إنه يطالب بتركنا لكل أموالنا في سبيله: «وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. فَكَذٰلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لو ١٤: ٢٥ - ٢٧ و٣٣).
إن المسيح يطالبنا بأن نحبه أكثر من محبتنا لأي شخص آخر في هذا الوجود، مهما كانت علاقة القربى التي تربطنا به.. يطالبنا بأن نتألم لأجله حتى الموت.. يطالبنا بالتضحية بكل أموالنا من أجله. بأن نبغض حتى أنفسنا في سبيله.
إنه يقيناً ليس مجرد إنسان. إنه ابن الله والله الابن. إنه المستحق كل ولاء، وهو لم يقبل قط أن يتبعه الناس بسبب مصالحهم الشخصية، أو أهدافهم المادية.
ذات يوم أطعم الجماهير الجائعة من خمسة أرغفة وسمكتين، فقال الناس بعد أن أكلوا: «إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم».
وعلم المسيح أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، فانصرف إلى الجبل وحده. وبحث الناس عنه حتى وجدوه. ولما وجدوه قالوا له: «يَا مُعَلِّمُ، مَتَى صِرْتَ هُنَا؟» أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ. اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ ٱلْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ ٱلْبَاقِي لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلَّذِي يُعْطِيكُمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّ هٰذَا ٱللّٰهُ ٱلآبُ قَدْ خَتَمَهُ» (يو ٦: ٢٦ و٢٧).
لقد طالب المسيح أتباعه بالولاء المطلق له، وعلى أساس قانونية مطاليبه فأنا أومن أن المسيح هو الله.
(٩) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس قبوله السجود والعبادة من البشر والملائكة: ينادي الله شعبه القديم في مزمور لآساف قائلاً: «اِسْمَعْ يَا شَعْبِي فَأُحَذِّرَكَ. يَا إِسْرَائِيلُ، إِنْ سَمِعْتَ لِي. لاَ يَكُنْ فِيكَ إِلٰهٌ غَرِيبٌ، وَلاَ تَسْجُدْ لإِلٰهٍ أَجْنَبِيٍّ» (مز ٨١: ٨ و٩). فلو كان المسيح مجرد إنسان وقبل السجود لكان أعظم مضل ظهر على وجه الأرض.. لكان إلهاً أجنبياً. لكن إذا كان هو ابن الله، والله الابن المساوي للآب فهو يستحق السجود والعبادة.
ولقد قبل المسيح السجود والعبادة، بينما رفض رسله القديسون كما رفض الملائكة أي سجود.
فبطرس الرسول عندما دخل قيصرية استقبله كرنيليوس وسجد واقعاً على قدميه فلم يقبل بطرس هذا السجود كما نقرأ في الكلمات: «وَسَجَدَ وَاقِعاً عَلَى قَدَمَيْهِ. فَأَقَامَهُ بُطْرُسُ قَائِلاً: قُمْ، أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ» (أع ١٠: ٢٥ و٢٦).
وبولس وبرنابا رفضا عبادة الناس لهما، وتعرض بولس من جراء رفضه هذا للرجم، وقد ذكرت القصة بالكلمات «وَكَانَ يَجْلِسُ فِي لِسْتِرَةَ رَجُلٌ عَاجِزُ ٱلرِّجْلَيْنِ مُقْعَدٌ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَلَمْ يَمْشِ قَطُّ. هٰذَا كَانَ يَسْمَعُ بُولُسَ يَتَكَلَّمُ، فَشَخَصَ إِلَيْهِ، وَإِذْ رَأَى أَنَّ لَهُ إِيمَاناً لِيُشْفَى قَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: قُمْ عَلَى رِجْلَيْكَ مُنْتَصِباً. فَوَثَبَ وَصَارَ يَمْشِي. فَٱلْجُمُوعُ لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ بُولُسُ، رَفَعُوا صَوْتَهُمْ بِلُغَةِ لِيكَأُونِيَّةَ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا. فَكَانُوا يَدْعُونَ بَرْنَابَا «زَفْسَ» وَبُولُسَ «هَرْمَسَ» إِذْ كَانَ هُوَ ٱلْمُتَقَدِّمَ فِي ٱلْكَلاَمِ. فَأَتَى كَاهِنُ زَفْسَ ٱلَّذِي كَانَ قُدَّامَ ٱلْمَدِينَةِ بِثِيرَانٍ وَأَكَالِيلَ عِنْدَ ٱلأَبْوَابِ مَعَ ٱلْجُمُوعِ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ. فَلَمَّا سَمِعَ ٱلرَّسُولاَنِ، بَرْنَابَا وَبُولُسُ، مَّزَقَا ثِيَابَهُمَا، وَٱنْدَفَعَا إِلَى ٱلْجَمْعِ صَارِخَيْنِ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، لِمَاذَا تَفْعَلُونَ هٰذَا؟ نَحْنُ أَيْضاً بَشَرٌ تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُمْ، نُبَشِّرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هٰذِهِ ٱلأَبَاطِيلِ إِلَى ٱلإِلٰهِ ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاءَ وَٱلأَرْضَ وَٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، ٱلَّذِي فِي ٱلأَجْيَالِ ٱلْمَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ ٱلأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ - مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ - وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً، يُعْطِينَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً. وَبِقَوْلِهِمَا هٰذَا كَفَّا ٱلْجُمُوعَ بِٱلْجَهْدِ عَنْ أَنْ يَذْبَحُوا لَهُمَا. ثُمَّ أَتَى يَهُودٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَةَ وَأَقْنَعُوا ٱلْجُمُوعَ، فَرَجَمُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ» (أع ١٤: ٨ - ١٩).
لقد رفض بولس وبرنابا عبادة البشر، ومن عجب أن الناس الذين كانوا على وشك تقديم الذبائح لبولس باعتباره إلهاً متجسداً رجموه حتى ظنوه مات.
والملائكة أيضاً رفضوا سجود الناس: ففي الأصحاح الأخير من سفر رؤيا يوحنا نقرأ «وَأَنَا يُوحَنَّا ٱلَّذِي كَانَ يَنْظُرُ وَيَسْمَعُ هٰذَا. وَحِينَ سَمِعْتُ وَنَظَرْتُ، خَرَرْتُ لأَسْجُدَ أَمَامَ رِجْلَيِ ٱلْمَلاَكِ ٱلَّذِي كَانَ يُرِينِي هٰذَا. فَقَالَ لِيَ: ٱنْظُرْ لاَ تَفْعَلْ! لأَنِّي عَبْدٌ مَعَكَ وَمَعَ إِخْوَتِكَ ٱلأَنْبِيَاءِ، وَٱلَّذِينَ يَحْفَظُونَ أَقْوَالَ هٰذَا ٱلْكِتَابِ. ٱسْجُدْ لِلّٰه» (رؤ ٢٢: ٨ و٩).
أما المسيح له المجد فقد قبل السجود، لأنه ابن الله الذي تسجد له الملائكة والبشر.
فعندما أعاد البصر للمولود أعمى وطرده اليهود من مجمعهم بسبب اعترافه بقوة المسيح «فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟ أَجَابَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ. فَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ. وَسَجَدَ لَهُ» (يو ٩: ٣٥ - ٣٨).
وقبل المسيح السجود منه.
وفي إنجيل متى نرى المسيح ماشياً على الماء في قلب العاصفة الهوجاء، ونسمعه يأمر بطرس بالمجيء إليه، ثم ينقذه من الغرق حين يدخل الشك قلبه. ثم نقرأ الكلمات «وَلَمَّا دَخَلاَ ٱلسَّفِينَةَ سَكَنَتِ ٱلرِّيحُ. وَٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: بِٱلْحَقِيقَةِ أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ!» (مت ١٤: ٣٢ و٣٣).
وقبل المسيح السجود من تلاميذه.
وفي إنجيل لوقا نقرأ: «وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ» (لو ٢٤: ٥٠ - ٥٢).
وقبل المسيح السجود من الملائكة.
ويسجل كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن سجود الملائكة للمسيح الكلمات: «وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ» (عب ١: ٦).
وأخيراً يسجل يوحنا صورة رائعة لسجود سكان السماء للمسيح وعبادتهم له بالكلمات: «وَلَمَّا أَخَذَ ٱلسِّفْرَ خَرَّتِ ٱلأَرْبَعَةُ ٱلْحَيَوَانَاتُ وَٱلأَرْبَعَةُ وَٱلْعِشْرُونَ شَيْخاً أَمَامَ ٱلْحَمَلِ (الذي يشير إلى المسيح الذبيح) وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُّوَةٌ بَخُوراً هِيَ صَلَوَاتُ ٱلْقِدِّيسِينَ. وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلٰهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ حَوْلَ ٱلْعَرْشِ وَٱلْحَيَوَانَاتِ وَٱلشُّيُوخِ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ، قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: مُسْتَحِقٌّ هُوَ ٱلْحَمَلُ ٱلْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ ٱلْقُدْرَةَ وَٱلْغِنَى وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلْقُّوَةَ وَٱلْكَرَامَةَ وَٱلْمَجْدَ وَٱلْبَرَكَةَ. وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ وَتَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَمَا عَلَى ٱلْبَحْرِ، كُلُّ مَا فِيهَا، سَمِعْتُهَا قَائِلَةً: لِلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ ٱلْبَرَكَةُ وَٱلْكَرَامَةُ وَٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. وَكَانَتِ ٱلْحَيَوَانَاتُ ٱلأَرْبَعَةُ تَقُولُ: آمِينَ. وَٱلشُّيُوخُ ٱلأَرْبَعَةُ وَٱلْعِشْرُونَ خَرُّوا وَسَجَدُوا لِلْحَيِّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤ ٥: ٨ - ١٤).
ومن هو الحي إلى أبد الآبدين الذي يعبده ويسجد له سكان السماء؟ إنه الرب يسوع المسيح الذي قال عن نفسه: «َهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤ ١: ١٨).
لقد قبل المسيح السجود والعبادة من البشر والملائكة وسكان السماء، وعلى هذا الأساس أنا أومن أن الله الابن «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (مت ٤: ١٠).
(١٠) أنا أومن أن المسيح هو الله على أساس تصريحاته الصادقة عن نفسه: يحتفظ لنا التاريخ بقصة عن رجل من رجال الله زار شخصاً من العصريين الذين ينكرون لاهوت الرب يسوع المسيح، وكان الرجل على فراش المرض، وأراد رجل الله أن يقدم لذلك الشخص المسكين ابن الله المخلص من الخطية، ودارت بينهما المناقشة الآتية:
رجل الله: ماذا تظن في المسيح؟
الرجل العصري: في اعتقادي أن المسيح كان إنساناً أميناً ومعلماً صادقاً. لكنه ليس أكثر من ذلك.
- إذاً كان المسيح معلماً صادقاً كما تعتقد، فهل تظن أن مثل هذا المعلم يكذب؟
- المعلم الصادق لا يكذب.. وأعتقد أن المسيح لم يكذب قط.
- إذاً دعني أقرأ لك بعض ما قاله المسيح عن نفسه.
وفتح رجل الله الكتاب المقدس وشرع يقرأ هذه الآيات:
- «لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ» (يو ٨: ٢٤). وتعود بنا العبارة «أنا هو» إلى سفر إشعياء حيث نقرأ «اِسْمَعْ لِي يَا يَعْقُوبُ. وَإِسْرَائِيلُ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُ. أَنَا هُوَ. أَنَا ٱلأَوَّلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ، وَيَدِي أَسَّسَتِ ٱلأَرْضَ وَيَمِينِي نَشَرَتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (إش ٤٨: ١٢ و١٣).
- «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يو ١٠: ٢٧ - ٣٠).
- «لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ فَآمِنُوا بِي... لَو كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ ٱلآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ. قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا ٱلآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ؟ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لٰكِنَّ ٱلآبَ ٱلْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ ٱلأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ ٱلأَعْمَالِ نَفْسِهَا» (يو ١٤: ١ و٧ - ١١).
وكأن الرب يسوع يقول بكلماته الصريحة. إن كلامي هو كلام الآب.. إن أعمالي هي أعمال الآب.. وأعمالي خير دليل على لاهوتي.
- ثم يصرح المسيح عن نفسه بهذه التصريحات:
«أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَداً» (يو ٦: ٣٥).
«أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يو ٨: ١٢).
«أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (يو ١٠: ٩).
«أَنَا هُوَ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ» (يو ١٠: ١١).
«أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يو ١١: ٢٥).
«أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (يو ١٤: ٦).
«أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يو ١٠: ٣٠).
ولايمكن لواحد من البشر أن يدعي لنفسه هذه الأوصاف الفائقة، إلا إذا كان مجدفاً من طراز فريد، أو مضلاً من طراز فريد.. أو إذا كان هو «ابن الله» بالحق والمحبة.
وتابع رجل الله حديثه للرجل العصري قائلاً: وبحسب اعتقادك أن المسيح معلم صادق. فتصريحاته الصادقة تؤكد لاهوته.
فلما سمع الرجل العصري شهادة كلمة الله قبل المسيح مخلصاً وتجدد ونال غفراناً لخطاياه.
أجل مَن من البشر يستطيع أن يقف وسط هذا العالم المظلم قائلاً: «أنا هو نور العالم»؟ لا أحد! لأن الكتاب يقول «إِذْ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رو ٣: ٢٣). الله وحده هو نور السموات والأرض، فإذا قال المسيح عن نفسه أنا هو نور العالم فهذا يعني يقيناً أنه الله.
ولقد قال المسيح ما هو أكثر من ذلك إذ فتح ذراعيه للمتعبين والمثقلين بأوزار الإثم، وأثقال الحياة قائلاً: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (مت ١١: ٢٨).
في سفر دانيال نقرأ عن مؤامرة قام بها الوزراء في مملكة داريوس ضد دانيال بسبب تفوقه عليهم، فقد رأوا أن دانيال متمسك بشرعية إلهه، فأرادوا أن يقضوا عليه عن طريق أمانته وطاعته لهذا الإله.
والآن تعال معي لنقرأ تفاصيل القصة في الكلمات:
«حِينَئِذٍ ٱجْتَمَعَ هَؤُلاَءِ ٱلْوُزَرَاءُ وَٱلْمَرَازِبَةُ عِنْدَ ٱلْمَلِكِ وَقَالُوا لَهُ: «أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ دَارِيُوسُ، عِشْ إِلَى ٱلأَبَدِ! إِنَّ جَمِيعَ وُزَرَاءِ ٱلْمَمْلَكَةِ وَٱلشِّحَنِ وَٱلْمَرَازِبَةِ وَٱلْمُشِيرِينَ وَٱلْوُلاَةِ قَدْ تَشَاوَرُوا عَلَى أَنْ يَضَعُوا أَمْراً مَلَكِيّاً وَيُشَدِّدُوا نَهْياً، بِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَطْلُبُ طِلْبَةً حَتَّى ثَلاَثِينَ يَوْماً مِنْ إِلَهٍ أَوْ إِنْسَانٍ إِلاَّ مِنْكَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، يُطْرَحُ فِي جُبِّ ٱلأُسُودِ. فَثَبِّتِ ٱلآنَ ٱلنَّهْيَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، وَأَمْضِ ٱلْكِتَابَةَ لِكَيْ لاَ تَتَغَيَّرَ كَشَرِيعَةِ مَادِي وَفَارِسَ ٱلَّتِي لاَ تُنْسَخُ». لأَجْلِ ذَلِكَ أَمْضَى ٱلْمَلِكُ دَارِيُوسُ ٱلْكِتَابَةَ وَٱلنَّهْيَ» (دا ٦: ٦ - ٩).
مسكين هذا الملك.. خدعه مشيروه.. فأوقف نفسه في موقف أكبر من قدرته.. أرادوا أن يجعلوا منه إلهاً لمدة ثلاثين يوماً، فأظهرت هذه المدة القصيرة أنه إنسان عاجز، ضعيف.
لكن هل يستطيع ملك - مهما بلغت عظمته - أن يكون إلهاً لمدة ثلاثين يوماً يستمع فيها إلى أنات المرضى وصرخات المظلومين.. وتوسلات المتضايقين؟
كلا. إن الملك «داريوس» لن يستطيع ومن ذا الذي يستطيع ذلك إلا الله القادر على كل شيء؟
ولم يعبأ «دانيال» الشاب الأمين لله، بأمر الملك.. أدرك أن الملك وقع فريسة في أيدي وزرائه ومشيريه.. ورفض أن يرفع طلباته إلى الملك خلال ثلاثين يوماً.. رفض أن يصلي إليه.
ولا شك أن أسئلة كثيرة ملأت رأس دانيال: هل يستطيع الملك إذا طلبت منه أن يريحني من آلامي الجسدية؟ أن يريحني في أزماتي النفسية؟ أن يشبع احتياجاتي الروحية؟ وهل يستطيع أن يستمع إلى طلبات الملايين من شعبه في وقت واحد؟ يقيناً أنه ملك مخدوع.. واحد فقط أرفع إليه الصلاة. هو الله الذي قال عنه داود «يَا سَامِعَ ٱلصَّلاَةِ، إِلَيْكَ يَأْتِي كُلُّ بَشَرٍ» (مز ٦٥: ٢).
وأعلن دانيال تحديه العلني لأمر الملك.
«فَلَمَّا عَلِمَ دَانِيآلُ بِإِمْضَاءِ ٱلْكِتَابَةِ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِهِ، وَكُواهُ مَفْتُوحَةٌ فِي عُلِّيَّتِهِ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ، وَصَلَّى وَحَمَدَ قُدَّامَ إِلَهِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَ ذَلِكَ» (دا ٦: ١٠).
وهنا كشف المتآمرون عن نواياهم.
«فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْمَلِكُ هَذَا ٱلْكَلاَمَ ٱغْتَاظَ عَلَى نَفْسِهِ جِدّاً، وَجَعَلَ قَلْبَهُ عَلَى دَانِيآلَ لِيُنَجِّيَهُ، وَٱجْتَهَدَ إِلَى غُرُوبِ ٱلشَّمْسِ لِيُنْقِذَهُ» (دا ٦: ١٤).
إيه أيها الملك. ها أنت قد وقعت في الفخ الذي نصبه لك وزراؤك واكتشفت الخدعة الكبرى التي خدعك بها مشيروك.. وها هو دانيال أحد أفراد دولتك العظمى في خطر الموت.. وها أنت عاجز عن إنقاذه.. فكيف تصورت أن تجيب طلبات المحتاجين والمتضايقين والمتألمين في أمبراطوريتك المترامية الأطراف؟
وأوقف الوزراء الملك الذي «ألهّوه» موقفاً حرجاً فاجتمع أولئك الرجال إلى الملك وقالوا للملك اعلم أيها الملك أن شريعة مادي وفارس هي أن كل نهي أو أمر يضعه الملك لا يتغير.
وعجز «الملك الإله» عن إنقاذ دانيال من براثن أعدائه.
«حِينَئِذٍ أَمَرَ ٱلْمَلِكُ فَأَحْضَرُوا دَانِيآلَ وَطَرَحُوهُ فِي جُبِّ ٱلأُسُودِ. وَقَالَ ٱلْمَلِكُ لِدَانِيآلَ: «إِنَّ إِلَهَكَ ٱلَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِماً هُوَ يُنَجِّيكَ». وَأُتِيَ بِحَجَرٍ وَوُضِعَ عَلَى فَمِ ٱلْجُبِّ وَخَتَمَهُ ٱلْمَلِكُ بِخَاتِمِهِ وَخَاتِمِ عُظَمَائِهِ، لِئَلاَّ يَتَغَيَّرَ ٱلْقَصْدُ فِي دَانِيآلَ» (دا ٦: ١٦ و١٧).
وتعال معي لترى «الملك الإله» وترثي له.
«حِينَئِذٍ مَضَى ٱلْمَلِكُ إِلَى قَصْرِهِ وَبَاتَ صَائِماً، وَلَمْ يُؤْتَ قُدَّامَهُ بِسَرَارِيهِ وَطَارَ عَنْهُ نَوْمُهُ. ثُمَّ قَامَ ٱلْمَلِكُ بَاكِراً عِنْدَ ٱلْفَجْرِ وَذَهَبَ مُسْرِعاً إِلَى جُبِّ ٱلأُسُودِ. فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى ٱلْجُبِّ نَادَى دَانِيآلَ بِصَوْتٍ أَسِيفٍ: يَا دَانِيآلُ عَبْدَ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، هَلْ إِلَهُكَ ٱلَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِماً قَدِرَ عَلَى أَنْ يُنَجِّيَكَ مِنَ ٱلأُسُودِ؟ فَتَكَلَّمَ دَانِيآلُ مَعَ ٱلْمَلِكِ: يَا أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، عِشْ إِلَى ٱلأَبَدِ! إِلَهِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَسَدَّ أَفْوَاهَ ٱلأُسُودِ فَلَمْ تَضُرَّنِي، لأَنِّي وُجِدْتُ بَرِيئاً قُدَّامَهُ وَقُدَّامَكَ أَيْضاً أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ. لَمْ أَفْعَلْ ذَنْباً» (دا ٦: ١٨ - ٢٢).
لقد ثبت عجز البشر عجزاً تاماً.. حتى ولو كانوا ملوكاً.. في إراحة المتعبين.
أما الرب يسوع المسيح فيقف في قدرة لاهوته قائلاً «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم».
ويقيناً.
لو أن الاسكندر في أيام أبهته نطق بهذه الكلمات لأصبح أضحوكة.
ولو قالها نابليون في أيام جبروته لأضحى سخرية. ولو قالها هتلر في أيام مجده لصار هزءاً.
ذلك لأن أحداً من البشر لا يقدر أن يريح المتعبين والثقيلي الأحمال.
أما المسيح الرب فهو ينادي كل متعب بكلماته الرقيقة قائلاً:
تعال ضع يا أيها المتعب
ضع رأسك
ضعه على صدري وفي قربي
أرح نفسك
إنه يقول: أيها المتعب بالهموم والأحزان. أيها المثقل بالأوزار والآثام. تعال إليّ وأنا أريحك.
وكل الذين ذهبوا إليه بأتعابهم وأثقالهم.. أراحهم.
أجل.. فقد أراح السامرية من ثقل ماضيها الأسود الأثيم، وأراح زكا رئيس جباة الضرائب من ثقل ظلمه الأثيم وأراح نازفة الدم من مرضها المستعصي، وأراح توما من الشك الذي أقض مضجعه وما زال إلى اليوم يريح المتعبين.
كما قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين «يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْساً وَٱلْيَوْمَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ» (عب ١٣: ٨).
ومع كل ما تقدم فقد صرح المسيح عن نفسه بعد صعوده إلى السماء لعبده يوحنا قائلاً: «أَنَا هُوَ ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ. ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ» (رؤ ١: ١١).
«أَنَا هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ، وَٱلْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتاً وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ ٱلْهَاوِيَةِ وَٱلْمَوْتِ» (رؤ ١: ١٧ و١٨).
«أَنَا ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ، ٱلْبِدَايَةُ وَٱلنِّهَايَةُ، ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ» (رؤ ٢٢: ١٣).
وعلى أساس تصريحات المسيح الصادقة عن نفسه فأنا أومن أنه «الله».
(١١) أنا أومن أن المسيح هو الله على أساس قيامته الفريدة من بين الأموات: لقد أقام الرب يسوع المسيح أثناء وجوده بالجسد على الأرض ثلاثة أشخاص.
أقام ابنة «يايرس» أحد رؤساء المجمع، ذلك الرجل الذي جاء «وَلَمَّا رَآهُ خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً قَائِلاً: ٱبْنَتِي ٱلصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا» (مر ٥: ٢٢ و٢٣). ولما وصل المسيح إلى بيت يايرس كانت الفتاة قد فارقت الحياة لكن الرب «أَمْسَكَ بِيَدِ ٱلصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: طَلِيثَا، قُومِي. (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ قُومِي). وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ ٱلصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ، لأَنَّهَا كَانَتِ ٱبْنَةَ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتاً عَظِيماً» (مر ٥: ٤١ و٤٢).
وأقام شاباً وحيداً لأمه الأرملة في مدينة نايين نقرأ عنه الكلمات: «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي ذَهَبَ إِلَى مَدِينَةٍ تُدْعَى نَايِينَ، وَذَهَبَ مَعَهُ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ. فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى بَابِ ٱلْمَدِينَةِ، إِذَا مَيْتٌ مَحْمُولٌ ٱبْنٌ وَحِيدٌ لأُمِّهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ. فَلَمَّا رَآهَا ٱلرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: لاَ تَبْكِي. ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ، فَوَقَفَ ٱلْحَامِلُونَ. فَقَالَ: أَيُّهَا ٱلشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ قُمْ. فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ وَٱبْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ. فَأَخَذَ ٱلْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ شَعْبَهُ» (لو ٧: ١١ - ١٦).
وأقام لعازر من بيت عنيا بعد أن أنتن (يو ١١).
وفي هذه الصور الثلاث نتلقى أثمن الدروس، فالصبية ابنة يايرس أقامها الرب بعد موتها مباشرة والشاب ابن الأرملة كان قد مات منذ وقت وكانوا في طريقهم لدفنه، والرجل لعازر كان قد دفن منذ أربعة أيام ودب الفساد في جسده.
ثلاث صور للموت: فتاة صغيرة.. وشاب.. ورجل كامل الرجولة.
والموت هو صورة مجسمة للخطية، وهؤلاء الموتى هم نماذج للخطاة.
- فالفتاة كانت قد ماتت في تلك اللحظة ولم تظهر عليها بعد أية علامة من علامات التعفن والفساد. كان جسدها ما زال حاراً، ولم تجف بعد قطرات العرق من فوق جبينها. إنها ترينا صورة للخاطئ المؤدب المتدين.. فهذا الشخص لا تظهر عليه أية آثار خارجية للموت الذي يكمن داخله. وإذا أخذنا بالمظهر الخارجي وحده خيل إلينا أن هذا الخاطئ ليس ميتاً، لأن حياته الأدبية والدينية تبدو في صورة حسنة، تماماً كصورة الذين يعترفون بأنهم أحياء في المسيح وأحياناً أفضل.. ولكن الفتاة كانت ميتة رغم كل مظهر.. وكانت تحتاج إلى المسيح ليقيمها من الموت.
- وشاب نايين يصور لنا درجة مختلفة لمظاهر الموت الخارجية فهذا الشاب مات ربما منذ يوم أو يومين. لقد تقلص جلده، وغارت عيناه، وسرت البرودة في جسده.. إن كل علامات الموت قد ظهرت عليه، بعكس صورة الفتاة الصغيرة التي ماتت قبل أن يصل المسيح بدقائق.. ولكن الحقيقة: أن هذه الفتاة الصغيرة كانت ميتة تماماً كذلك الشاب، مع أن مظهرها لم يكن يدل على ذلك.. فهل لاحظت الدرس هنا.. إن الشاب يرينا صورة الخاطئ الذي لفظه المجتمع وبدأ في إخراجه بعيداً عنه كشخص غير جدير بالحياة فيه.
- ولكن الميت الثالث هو لعازر، لقد دفن وأنتن. صارت رائحته كريهة، وها هو في قلب الأرض ينهشه الدود، وهذه صورة للخاطئ الذي حطم كل القيود والقوانين والمثل العليا، وتدهور حتى وصل إلى الجريمة والانحلال الخلقي الظاهر، حتى اضطر المجتمع إلى عزله وسجنه، وتقييد حريته لأنه خطر عليه.
ولكن التفت إلى هذه الحقيقة، فمع أن هناك اختلافاً كبيراً في مظهر الموت في هذه الحالات الثلاث، ولكننا لا نجد فرقاً في درجة الموت فيها. فالفرق موجود في المظهر فقط، ولكن الثلاثة كانوا أمواتاً كل واحد كالآخر، وبعد شهور قليلة لن يكون بإمكانك التفريق بينهم من حيث المظهر كذلك.
وهذا ما قاله الله عن البشر، «لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رو ٣: ٢٢ و٢٣). والناس قد يختلفون في درجات مظاهر الخطية والشر من الخارج، ولكن الناس جميعاً بدون المسيح أموات على مستوى واحد، المؤدب والمتدين.. كالخليع والخائن.. كما يقول بولس الرسول «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا» (أف ٢: ١) الكل يحتاجون أن يعودوا إلى الحياة بالمسيح.
وفي كل حالة من حالات الموت هذه، لم يكن هناك سوى واحد فقط هو الذي في قدرته الإنقاذ من الموت هو المسيح الرب.
وفي كل حالة قام الميت من الموت بكلمة الرب.
فقد قال للفتاة الصغيرة: «طَلِيثَا، قُومِي» (مر ٥: ٤١).
وقال للشاب في نايين: «أيها الشاب لك أقول قم» (لو ٧: ١٤).
وقال للعازر: «لعازر هلم خارجاً» (يو ١١: ٤٣).
وفي كل حالة حدثت القيامة بكلمة الله، لأن الذي تكلم هو «ابن الله» و «الله الابن» لقد قام هؤلاء الثلاثة بقوة رب الحياة، ومعطي الحياة، ولكنهم ماتوا ثانية بحكم فساد طبيعتهم وابتلعهم القبر من جديد.
تماماً كما عاد إلى الموت ابن الأرملة الذي أقامه إيليا بالصراخ للرب، وابن المرأة الشونمية الذي أقامه إليشع بالصلاة للرب.
أما الرب يسوع المسيح فقد قام من الأموات بصورة فريدة لم يسبقه إليها غيره، وهو لن يموت أيضاً ولن يسود عليه الموت بعد كما قال بولس الرسول: «عَالِمِينَ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لاَ يَمُوتُ أَيْضاً. لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ ٱلْمَوْتُ بَعْدُ» (رو ٦: ٩).
وهناك عدة حقائق تتعلق بقيامة المسيح الفريدة:
وأول حقيقة هي أن جسد المسيح لم يتعفن بعد موته:
وهذه الحقيقة يقررها بطرس الرسول في كلماته: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ ٱسْمَعُوا هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ: يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ بِقُّوَاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا ٱللّٰهُ بِيَدِهِ فِي وَسَطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ. هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. اَلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ نَاقِضاً أَوْجَاعَ ٱلْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ. لأَنَّ دَاوُدَ يَقُولُ فِيهِ: كُنْتُ أَرَى ٱلرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ، أَنَّهُ عَنْ يَمِينِي، لِكَيْ لاَ أَتَزَعْزَعَ. لِذٰلِكَ سُرَّ قَلْبِي وَتَهَلَّلَ لِسَانِي. حَتَّى جَسَدِي أَيْضاً سَيَسْكُنُ عَلَى رَجَاءٍ. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً. عَرَّفْتَنِي سُبُلَ ٱلْحَيَاةِ وَسَتَمْلأُنِي سُرُوراً مَعَ وَجْهِكَ» (أع ٢: ٢٢ - ٢٨).
ويتابع بطرس الرسول كلماته مقرراً أن هذه النبوة ليست عن داود شخصياً، وإنما عن المسيح الذي جاء من نسل داود فيقول: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ جِهَاراً عَنْ رَئِيسِ ٱلآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ، وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. فَإِذْ كَانَ نَبِيّاً، وَعَلِمَ أَنَّ ٱللّٰهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً. فَيَسُوعُ هٰذَا أَقَامَهُ ٱللّٰهُ، وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذٰلِكَ. وَإِذِ ٱرْتَفَعَ بِيَمِينِ ٱللّٰهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنَ ٱلآبِ، سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ. لأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. وَهُوَ نَفْسُهُ يَقُولُ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي، ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ ٱللّٰهَ جَعَلَ يَسُوعَ هٰذَا، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبّاً وَمَسِيحاً» (أع ٢: ٢٩ - ٣٦).
إن هذه العبارات تؤكد في وضوح لا غموض فيه أن جسد المسيح لم ير فساداً، لم يتعفن كما تتعفن أجساد البشر أجمعين. لقد بقي في كل بهائه وجماله. لأنه خلا من كل عناصر الخطية.
الحقيقة الثانية هي أن الثالوث الأقدس قد اشترك في قيامة المسيح.
- فالآب قد أقام المسيح كما قال بطرس الرسول: «فيسوع هذا أقامه الله» (أع ٢: ٢٤).
- والمسيح قد أقام نفسه، وهذا الحق واضح في كلماته: «فَسَأَلَهُ ٱلْيَهُودُ: «أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هٰذَا؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ». فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: «فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هٰذَا ٱلْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟» وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. فَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هٰذَا، فَآمَنُوا بِٱلْكِتَابِ وَٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ» (يو ٢: ١٨ - ٢٢).
لقد أعلن المسيح عن قدرته في إقامه جسده من بين الأموات، وأكد هذا بكلماته «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يو ١٠: ١٧ و١٨).
- والروح القدس قد أقام المسيح كما قال بولس الرسول: «بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْمَدْعُّوُ رَسُولاً، ٱلْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي ٱلْكُتُبِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ٱبْنِهِ. ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُّوَةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (رو ١: ١ - ٤). وكلمة «تعين» معناها «ظهر بالدليل الواضح» دليل القيامة من الأموات أنه «ابن الله» كما ظهر أن روح القداسة أو الروح القدوس قد اشترك في قيامته.
فالثالوث الأقدس «الآب والابن والروح القدس» قد اشترك في قيامة المسيح من بين الأموات.
الحقيقة الثالثة أن المسيح عندما قام خرج من قبره وهو مغلق: إن كثيرين يتصورون أن ملاك السماء جاء ودحرج الحجر عن باب القبر ليساعد المسيح على الخروج منه، وهذا تصور خاطئ، لقد قام المسيح وخرج من القبر وهو مغلق، ثم جاء الملاك ودحرج الحجر وقال للمرأتين - مريم المجدلية ومريم الأخرى - «لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا ٱنْظُرَا ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ ٱلرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ» (مت ٢٨: ٦). لقد خرج الرب من القبر وهو مغلق. خرج متحدياً أختام الأمبراطورية الرومانية وقوتها العسكرية. تماماً كما دخل إلى العلية التي في أورشليم والأبواب مغلقة (يو ٢٠: ١٩ - ٢٩). ولقد كانت قيامة المسيح هي الدليل الساطع على نصرة الحق على الباطل، والنور على الظلام وإله السلام على إله هذا العالم الأثيم.
الحقيقة الرابعة أن قيامة المسيح هي الدليل المؤكد لقيامة المؤمنين به: وهذه حقيقة يؤكدها بولس الرسول في كلماته: «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذٰلِكَ ٱلرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ سَيُحْضِرُهُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً مَعَهُ» (١ تس ٤: ١٤).
وهنا يخطر على الذهن سؤالاً لا بد أن نجيب عنه في هذا المقام وهو: كيف يُقام الأموات وبأي جسم يأتون؟ كيف يمكن أن يعيد الله إلى الوجود أجساد الذين أكلتهم الأسماك في البحار، وأحرقتهم النار، وتحللوا وصاروا جزءاً من أديم الأرض؟
ولو أدركنا أن الله يحتفظ في سجلات السماء بصورة فوتوغرافية لكل واحد من سكان الأرض، وبصورة بالأشعة للعظام والأحشاء، لعرفنا كيف سيعود كل واحد بنفس ملامحه إلى الوجود.
وليس هذا الكلام خيال كاتب، وإنما هو حقيقة كتابية صريحة تؤكدها كلمات داود القائلة «لأَنَّكَ أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ ٱمْتَزْتُ عَجَباً. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذٰلِكَ يَقِيناً. لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي ٱلْخَفَاءِ وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَّوَرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا» :(مز ١٣٩: ١٣ - ١٦) فصورتنا، وملامحنا، وتفاصيل عظامنا وأحشائنا موجودة في سجلات السماء، ومن السهل أن تستخرج صورة طبق الأصل عند أي مصور إذا كانت لديك الصورة الأصلية.
وعلى هذا فإن قيامة المسيح تؤكد قيامة المفديين في القيامة الأولى، ثم قيامة الأشرار للدينونة بعد ملك الألف السنة كل واحد بذات الملامح والقامة والصورة التي عاش بها.
وعلى أساس قيامة المسيح الفريدة أنا أومن بأن المسيح هو الله.
(١٢) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس سلطانه وعمله المعجزي وتأثير اسمه في الأرواح والأجساد بعد صعوده إلى السماء: كل نبي عاش على الأرض، انتهت معجزاته بموته، فموسى الكليم صنع في حياته معجزات كثيرة بقوة الله الذي أمره بصنعها، لكنه مات «وَلَمْ يَعْرِفْ إِنْسَانٌ قَبْرَهُ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (تث ٣٤: ٦) وانتهت معجزاته بموته تماماً كما انتهت معجزات سائر الرسل والأنبياء.
أما الرب يسوع فقد ظل اسمه وما زال يعمل بقوة في الأرواح والأجساد.
لقد وعد تلاميذه في حديثه الأخير معهم قائلاً: «لٰكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ ٱلْحَقَّ، إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ ٱلْمُعَّزِي، وَلٰكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ. أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى بِرٍّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضاً. وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ قَدْ دِينَ» (يو ١٦: ٧ - ١١).
وما وعد به الرب يسوع أكمله، وهذا ما يؤكده سفر أعمال الرسل بالكلمات «وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ ٱلْخَمْسِينَ كَانَ ٱلْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ ٱلْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَٱسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَٱبْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ ٱلرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا. وَكَانَ يَهُودٌ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ سَاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا صَارَ هٰذَا ٱلصَّوْتُ، ٱجْتَمَعَ ٱلْجُمْهُورُ وَتَحَيَّرُوا، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ» (أع ٢: ١ - ٦).
ولما اجتمع هذا الجمهور وقف بطرس مع الأحد عشر، وكلمهم عن حقيقة هذا الصوت، مؤكداً أنه «الروح القدس» الذي سكبه يسوع الذي صعد إلى السماء، بعد أن صلبوه وقتلوه، إذ أنه قام من الأموات «وَإِذِ ٱرْتَفَعَ بِيَمِينِ ٱللّٰهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنَ ٱلآبِ، سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ» (أع ٢: ٣٣).
فالمعزي الذي تحدث عنه المسيح لتلاميذه، لم يكن نبياً آتياً بعده، وإنما كان الروح القدس كما أوضح له المجد بفمه المبارك قائلاً: «وَأَمَّا ٱلْمُعَّزِي، ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، ٱلَّذِي سَيُرْسِلُهُ ٱلآبُ بِٱسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يو ١٤: ٢٦).
فالمسيحيون لم ينتظروا نبياً آخر يأتي بعد المسيح، بل كان رجاؤهم وما زال في عودة المسيح ثانية بعد صعوده إلى السماء كما وعدهم «وَهَا أَنَا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ» (رؤ ٢٢: ١٢). ولذا فإن صلاة المسيحيين الحقيقيين في كل العصور تركزت في الكلمات: «آمين تعال أيها الرب يسوع» (رؤ ٢٢: ٢٠). وهي آخر كلمات اختتم بها سفر الرؤيا، أخر أسفار الكتاب المقدس.
ولقد استمر تأثير المسيح قوياً وفعالاً بعد صعوده إلى السماء، وسفر أعمال الرسل يحمل أصدق الأدلة على ما نقول.
- ففي يوم الخمسين أي بعد صعود المسيح إلى السماء بعشرة أيام، عمل المسيح بروحه وبكلمته في قلوب نحو ثلاثة آلاف نفس فتجددوا واعتمدوا، وانضموا إلى الكنيسة التي أسسها المسيح في أورشليم، فبعد أن وعظهم بطرس بكلمة الرب. نقرأ الكلمات: «فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَأَلُوا بُطْرُسَ وَسَائِرَ ٱلرُّسُلِ: مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ؟ فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ: تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ... فَقَبِلُوا كَلاَمَهُ بِفَرَحٍ، وَٱعْتَمَدُوا، وَٱنْضَمَّ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ» (أع ٢: ٣٧ و٣٨ و٤١).
فمن الذي أعطى القوة لبطرس الجبان الذي أنكر المسيح ثلاث مرات لتؤثر كلماته في القلوب هذا التأثير الفعال؟
ومن الذي نخس قلوب هؤلاء سوى الروح القدس الذي أرسله المسيح بعد صعوده إلى السماء!
إن تجدد هذا العدد الضخم دفعة واحدة دليل على فاعلية عمل المسيح في القلوب بعد صعوده إلى السماء.
- ولقد شفى اسم المسيح رجلاً أعرج من بطن أمه: أجل بعد أن صعد المسيح إلى السماء ظل اسمه قوياً فعالاً يشفي الأمراض، ويجري المعجزات، لأنه الله الموجود في كل مكان، القادر على كل شيء.. وهذه كلمات سفر أعمال الرسل عن شفاء ذلك الإنسان: «وَصَعِدَ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا مَعاً إِلَى ٱلْهَيْكَلِ فِي سَاعَةِ ٱلصَّلاَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. وَكَانَ رَجُلٌ أَعْرَجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يُحْمَلُ، كَانُوا يَضَعُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ بَابِ ٱلْهَيْكَلِ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ «ٱلْجَمِيلُ» لِيَسْأَلَ صَدَقَةً مِنَ ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ ٱلْهَيْكَلَ. فَهٰذَا لَمَّا رَأَى بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا مُزْمِعَيْنِ أَنْ يَدْخُلاَ ٱلْهَيْكَلَ، سَأَلَ لِيَأْخُذَ صَدَقَةً. فَتَفَرَّسَ فِيهِ بُطْرُسُ مَعَ يُوحَنَّا وَقَالَ: ٱنْظُرْ إِلَيْنَا!> فَلاَحَظَهُمَا مُنْتَظِراً أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا شَيْئاً. فَقَالَ بُطْرُسُ: لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلٰكِنِ ٱلَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ قُمْ وَٱمْشِ. وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ ٱلْيُمْنَى وَأَقَامَهُ، فَفِي ٱلْحَالِ تَشَدَّدَتْ رِجْلاَهُ وَكَعْبَاهُ، فَوَثَبَ وَوَقَفَ وَصَارَ يَمْشِي، وَدَخَلَ مَعَهُمَا إِلَى ٱلْهَيْكَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَيَطْفُرُ وَيُسَبِّحُ ٱللّٰهَ» (أع ٣: ١ - ٨).
ولما اجتمع الجمهور الذي رأى هذه المعجزة حول بطرس ويوحنا، أعلن لهم بطرس أن شفاء الرجل قد تم باسم يسوع المسيح فقال: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ تَتَعَجَّبُونَ مِنْ هٰذَا، وَلِمَاذَا تَشْخَصُونَ إِلَيْنَا كَأَنَّنَا بِقُّوَتِنَا أَوْ تَقْوَانَا قَدْ جَعَلْنَا هٰذَا يَمْشِي؟ إِنَّ إِلٰهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، إِلٰهَ آبَائِنَا، مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ، ٱلَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ، وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقِهِ. وَلٰكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ ٱلْقُدُّوسَ ٱلْبَارَّ، وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ. وَرَئِيسُ ٱلْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذٰلِكَ. وَبِٱلإِيمَانِ بِٱسْمِهِ، شَدَّدَ ٱسْمُهُ هٰذَا ٱلَّذِي تَنْظُرُونَهُ وَتَعْرِفُونَهُ، وَٱلإِيمَانُ ٱلَّذِي بِوَاسِطَتِهِ أَعْطَاهُ هٰذِهِ ٱلصِّحَّةَ أَمَامَ جَمِيعِكُمْ» (أع ٣: ١٢ - ١٦).
فالمسيح هو الله الحي الموجود بقوته في كل مكان. ولذا فإن اسمه المبارك العجيب فيه القدرة لإعطاء الصحة والحياة.
- وقد جدد المسيح بعد صعوده إلى السماء شاول الطرسوسي:
يشهد شاول الطرسوسي - الذي صار بعد تجديده بولس الرسول - عن نفسه قائلاً: «أَنَا ٱلَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً» (١ تي ١: ١٣). وقد اضطهد شاول كنيسة أورشليم، والمسيحيون الذين عاشوا في تلك الجهات، وعن هذا نقرأ الكلمات: «أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّداً وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ ٱلرَّبِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ إِلَى ٱلْجَمَاعَاتِ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاساً مِنَ ٱلطَّرِيقِ، رِجَالاً أَوْ نِسَاءً، يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ» (أع ٩: ١ و٢).
هذه هي الصورة الكتابية لاضطهاد شاول للمسيحيين والكتاب المقدس يرينا أن المسيحيين الحقيقيين الأتقياء يجب أن يتوقعوا الاضطهاد في كل مكان كما يكتب بولس الرسول لتيموثاوس قائلاً: «وَأَمَّا أَنْتَ فَقَدْ تَبِعْتَ تَعْلِيمِي، وَسِيرَتِي، وَقَصْدِي، وَإِيمَانِي، وَأَنَاتِي، وَمَحَبَّتِي، وَصَبْرِي، وَٱضْطِهَادَاتِي، وَآلاَمِي، مِثْلَ مَا أَصَابَنِي فِي أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَّةَ وَلِسْتِرَةَ. أَيَّةَ ٱضْطِهَادَاتٍ ٱحْتَمَلْتُ! وَمِنَ ٱلْجَمِيعِ أَنْقَذَنِي ٱلرَّبُّ. وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِٱلتَّقْوَى فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ» (٢ تي ٣: ١٠ - ١٢).
«لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (في ١: ٢٩).
إن المسيحيين الأمناء يضطهدون في كل بقعة من بقاع الأرض، لأن حياتهم المنيرة تؤلم عيون الناس، توبخ خطاياهم، فيحاولون القضاء عليهم.. ولكن هيهات!! لأن المسيح رأس الكنيسة حي في السماء يحس بآلام شعبه على الأرض ويتقدم لإنقاذه وحمايته.
لقد كان «شاول» يظن أنه يقدم خدمة لله، وأنه يقضي على شرذمة ضالة تؤمن بأن المسيح هو «ابن الله» وكان المسيح في اعتقاد شاول مضلاً أفاكاً ظهر على أرض اليهودية.
وبينما شاول يقترب إلى دمشق، وقد أعمى التعصب عينيه، تستمر القصة قائلة: «وَفِي ذَهَابِهِ حَدَثَ أَنَّهُ ٱقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، فَسَقَطَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتاً قَائِلاً لَهُ: شَاوُلُ، شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ فَسَأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: أَنَا يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ. فَسَأَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟ فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: قُم وَٱدْخُلِ ٱلْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ. وَأَمَّا ٱلرِّجَالُ ٱلْمُسَافِرُونَ مَعَهُ فَوَقَفُوا صَامِتِينَ، يَسْمَعُونَ ٱلصَّوْتَ وَلاَ يَنْظُرُونَ أَحَداً. فَنَهَضَ شَاوُلُ عَنِ ٱلأَرْضِ، وَكَانَ وَهُوَ مَفْتُوحُ ٱلْعَيْنَيْنِ لاَ يُبْصِرُ أَحَداً. فَٱقْتَادُوهُ بِيَدِهِ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ يُبْصِرُ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ» (أع ٩: ٣ - ٩).
وتفاصيل القصة تؤكد أن المسيح حي في السماء.
فقد ظهر بنوره الوضاح لشاول
وناداه باسمه
وأراه أنه صعب عليه أن يحاربه.
ويقيناً أن من يحارب المسيح يجرح نفسه. إنه تماماً كمن يرفس مناخس الخيل، يمتلئ جسمه بالجراح ولا تتأثر المناخس وأمام نور المسيح، وتحت تأثير صوته قال شاول الطرسوسي: «يا رب ماذا تريد أن أفعل؟».
عجيب أن يقول شاول للمسيح «يا رب» فشاول رجل يهودي، فريسي، يعرف كتابه المقدس جيداً ويذكر كلمات سفر الخروج: «أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي» (خر ٢٠: ٢ و٣). ما الذي حدث لك يا شاول حتى تنادي المسيح قائلاً: «يا رب» ويردعلينا شاول بالكلمات: «لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ، بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْبِرُّ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ. لأَعْرِفَهُ، وَقُّوَةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ» (في ٣: ٧ - ١٠).
لقد تيقنت أن تلاميذ المسيح لم يسرقوا جسده، لقد قام وقبره خال من جسده، ولذا أشرق علي بنوره من السماء، لقد آمنت أنه «ابن الله الحي» «فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلا ٢: ٢٠).
دخل شاول المدينة كما أوصاه الرب، وكما كلم الرب يسوع شاول من السماء، كلم حنانيا في رؤيا لمقابلة شاول. فلما جاء حنانيا إليه قال له «أَيُّهَا ٱلأَخُ شَاوُلُ، قَدْ أَرْسَلَنِي ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلَّذِي ظَهَرَ لَكَ فِي ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي جِئْتَ فِيهِ، لِكَيْ تُبْصِرَ وَتَمْتَلِئَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَلِلْوَقْتِ وَقَعَ مِنْ عَيْنَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قُشُورٌ، فَأَبْصَرَ فِي ٱلْحَالِ، وَقَامَ وَٱعْتَمَدَ» (أع ٩: ١٧ و١٨). وهكذا تجدد شاول، وصار إناء مختاراً ليحمل اسم المسيح أمام أمم وملوك وبني إسرائيل.
وتجديد شاول اليهودي المتعصب، المجدف والمضطهد والمفتري، وحديث المسيح معه من السماء، واعترافه بلاهوت المسيح، هذا كله يحمل أصدق الدليل على أن المسيح هو «ابن الله» و «الله الابن».
ونستمر في سفر أعمال الرسل لنرى الرب يسوع المسيح:
- عاملاً بروحه في السامرة (أع ٨).
- وفي قلب الوزير الحبشي (أع ٨).
- وفي قلب كرنيليوس ومن حضروا في بيته (أع ١٠).
- ونراه يشفي إينياس (أع ٩: ٣٢ - ٣٥).
- ويقيم التلميذة الخادمة طابيثا (أع ٩: ٣٦ - ٤٢).
- ويزعزع أساسات سجن فيلبي ويجدد حافظ السجن (أع ١٦: ١٩ - ٣٤).
- وينقذ بولس في قلب العاصفة (أع ٢٧: ١٤ - ٤٤).
وما زال إلى اليوم يغير قلوب الذين يقبلونه مخلصاً في أنحاء الأرض، وينير بروحه قلوب وعقول المؤمنين به، ويرشدهم إلى أنفع الاكتشافات والاختراعات العلمية لخير البشرية، فقد أرشد «أديسون» لاكتشاف الكهرباء، وأرشد «فلمنج» لابتكار البنسلين الذي أنقذ حياة الملايين. وأرشد العلماء المسيحيين لابتكار كل ما هو لخير الإنسان. فعلى أساس سلطان المسيح وتأثير اسمه على الأرواح والأجساد بعد صعوده إلى السماء أنا أومن أنه «الله».
(١٣) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس أنه ديان البشر أجمعين: يقول داود في المزمور: «وَتُخْبِرُ ٱلسَّمَاوَاتُ بِعَدْلِهِ، لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلدَّيَّانُ» (مز ٥٠: ٦). وإذ نقلب صفحات الكتاب نجد أن الديان هو المسيح، ونصل إلى نتيجة حتمية هي أن المسيح هو الله لأنه هو الديان.
استمع إلى كلماته التي قالها لليهود: «لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلابْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» (يو ٥: ٢٢ و٢٣).
واصغ إلى كلمات بولس للقديسين في رومية: «مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً، ٱلَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا!» (رو ٨: ٣٤).
وأمل أذنك إلى حديثه للأثينيين في «أريوس باغوس» وهو يقول: «فَٱللّٰهُ ٱلآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ. لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ، مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (أع ١٧: ٣٠ و٣١). وأخيراً اسمعه يكتب لتيموثاوس في أخريات أيامه: «فَإِنِّي أَنَا ٱلآنَ أُسْكَبُ سَكِيباً، وَوَقْتُ ٱنْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ. قَدْ جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ، حَفِظْتُ ٱلإِيمَانَ، وَأَخِيراً قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ ٱلْبِرِّ، ٱلَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلرَّبُّ ٱلدَّيَّانُ ٱلْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضاً» (٢ تي ٤: ٦ - ٨).
- ويعرف دارس الكتاب المقدس أن المسيح هو الذي سيحاسب المفديين أمام كرسيه «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً» (٢ كو ٥: ١٠).
- وأنه سيحاسب الشعوب الحية عند مجيئه أمام كرسي مجده: «وَمَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ ٱلرَّاعِي ٱلْخِرَافَ مِنَ ٱلْجِدَاءِ» (مت ٢٥: ٣١ و٣٢).
- وهو الذي سيدين الأموات أمام العرش الأبيض العظيم: «ثُمَّ رَأَيْتُ عَرْشاً عَظِيماً أَبْيَضَ، وَٱلْجَالِسَ عَلَيْهِ ٱلَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلسَّمَاءُ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ! وَرَأَيْتُ ٱلأَمْوَاتَ صِغَاراً وَكِبَاراً وَاقِفِينَ أَمَامَ ٱللّٰهِ، وَٱنْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ. وَٱنْفَتَحَ سِفْرٌ آخَرُ هُوَ سِفْرُ ٱلْحَيَاةِ، وَدِينَ ٱلأَمْوَاتُ مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلأَسْفَارِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ» (رؤ ٢٠: ١١ و١٢).
وإذا قارنا بين كلمات المسيح: «لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن» وبين الكلمات القائلة: «ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله.. ودين الأموات بحسب أعماله» تأكدنا أن المسيح هو الله الديان، الذي وقف أمامه إبراهيم وناداه بأنه «ديان كل الأرض» (تك ١٨: ٢٥)، والذي قال عن نفسه «كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِٱسْمِكَ صَنَعْنَا قُّوَاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي ٱلإِثْمِ» (مت ٧: ٢٢ و٢٣). فعلى أساس أن المسيح هو ديان كل الأرض فأنا أومن أنه «الله».
(١٤) أنا أومن بأن المسيح هو الله لأنه مفتاح الكتاب المقدس كله وموضعه المركزي:
- فهو في سفر التكوين نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تك ٣: ١٥)، وهو في الخروج حمل الفصح (خر ١٢: ١ - ١٤)، وهو في اللاويين في مختلف صور الذبائح والقرابين (لاويين ١ - ٤)، وهو في العدد الحية المرفوعة في البرية (عدد ٢١: ٨) مع (يو ٣: ١٤)، وهو في إشعياء البديل الحامل لخطايانا (إش ٥٣: ٦) وهكذا حتى نراه في ملاخي شمس البر (ملاخي ٤: ٢).
- وكل شخصيات الكتاب المقدس ترمز إليه، فهابيل يرينا إياه البار المذبوح، وإسحق يرينا إياه الحامل للصليب والمطيع لإرادة الآب، وموسى يرينا إياه في حلمه وحكمته، وإيليا يرينا إياه في قوته وصرامته.
- والعهد الجديد كله مكرس له، فمتى يبدأ إنجيله بالكلمات: «كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (مت ١: ١) ومرقس يبدأ إنجيله بالكلمات: «فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ» (لو ٢٤: ٥٢). ويوحنا يبدأ إنجيله بالكلمات: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يو ١: ١).
- ورسائل الرسل متمركزة في الحديث عنه وسفر رؤيا يوحنا هو إعلان مجده وملكه.
- وكاتب الرسالة إلى العبرانيين يرينا أن المسيح أعظم من الملائكة (عب ١: ٤)، وأن الملائكة تسجد له (عب ١: ٢٦)، وأنه أعظم من موسى (عب ٣: ٣)، وأن الفرق بينه وبين موسى كالفرق بين الخادم وابن البيت فموسى «خادم» أما المسيح «فابن على بيته» (عب ٣: ٥ و٦)، وأنه أعظم من هرون (عب ٧: ١١) لأنه رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق.
- كما يؤكد الرب بكلماته أنه «أعظم من يونان» (مت ١٢: ٤١) و «أعظم من سليمان» (مت ١٢: ٤٢) و «أعظم من الهيكل» مت ١٢: ٦ ولي هناك من هو أعظم من الهيكل إلا رب الهيكل نفسه.
- وكذلك يعلن الرسل عبوديتهم للمسيح: فمع أن بولس يوصي المؤمنين قائلاً: «قَدِ ٱشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ، فَلاَ تَصِيرُوا عَبِيداً لِلنَّاسِ» (١ كو ٧: ٢٣) فهو يعلن عبوديته للمسيح بالكلمات: «بولس عبد ليسوع المسيح» (رو ١: ١) وإعلانه هذا يؤكد بوضوح بأن المسيح هو الله، وكذلك يعلن بطرس عن عبوديته للمسيح بالكلمات: «سِمْعَانُ بُطْرُسُ عَبْدُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَرَسُولُهُ» (٢ بط ١: ١)، وكذلك يقول يعقوب «يَعْقُوبُ، عَبْدُ ٱللّٰهِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (يع ١: ١) فيعلن بكلماته عبوديته للآب والابن، وفي ذات الوقت مساواة الابن بالآب.
هذه هي الأسس التي نبنى عليها إيماننا بأن المسيح هو الله، فالمسيح هو رب التاريخ، وهو مركز النبوات، فمن أجله تنبأ الأنبياء، وجاء المرسلون يعدون الطريق لمجيئه. وكتب الكتاب المقدس من سفر التكوين إلى سفر رؤيا يوحنا.
يحتفظ لنا التاريخ بقصة رجل أمريكي سافر إلى فرنسا، ومن هناك اشترى خريطة مفككة للأمريكتين، قال له بائعها: إن أذكى الناس لا يستطيع تركيب هذه الخريطة في أقل من ساعتين. وحمل الأب الخريطة لولديه، وتحداهما إن استطاعا تركيبها في نصف ساعة فإنه يعطي لكل منهما خمسين دولاراً.. وكم كانت دهشة الرجل عظيمة حين عاد الولدان بالخريطة كاملة بعد عشر دقائق.
قال الأب لولديه: أخبراني عن السر!!
قال الولدان: لقد رأينا في ظهر الخريطة صورة لرأس إبراهام لنكولن، فجمعنا الصورة فتكونت الخريطة في الحال.
والكتاب المقدس يظل كتاباً مغلقاً، يصعب على قارئه فهم محتوياته، حتى نرى على صفحاته «وجه المسيح المنير» الذي رآه يوحنا وكتب عنه قائلاً: «ثُمَّ رَأَيْتُ ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَٱلْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِيناً وَصَادِقاً، وَبِٱلْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ. وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلاَّ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ «كَلِمَةَ ٱللّٰهِ». وَٱلأَجْنَادُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بِيضٍ، لاَبِسِينَ بَّزاً أَبْيَضَ وَنَقِيّاً. وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ ٱلأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ ٱللّٰهِ ٱلْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ: مَلِكُ ٱلْمُلُوكِ وَرَبُّ ٱلأَرْبَابِ» (رؤيا ١٩: ١١ - ١٦).
بحق قال عنه شلينج: «المسيح ليس هو المعلم فقط كما يقول البعض ولا هو المؤسس بل هو المسيحية ذاتها» وقال عنه واحد من كبار المفكرين وهو يتحدث إلى مجموعة من أصدقائه: «لو دخل نابوليون إلى هنا لوقفنا أمامه إجلالاً باعتباره قائد عسكري عبقري، ولو دخل شكسبير لانحنينا أمامه احتراماً لتحليله الرائع لنفسية الإنسان البشري... لكن لو دخل المسيح لركعنا في حضرته سجداً أمام مجد لاهوته البهي».
أجل لقد ظهر في تجسد «ابن الله» وموته على الصليب ما يؤكد عظمة قيمة الإنسان.. أو كما قال قديس جليل.
«يموت النبات ليحيا الحيوان، ويموت الحيوان ليحيا الإنسان فلا بد من موت «البديل» لنوال الحياة» .
ولذا فلما رأى الله الإنسان وقد مات روحياً بالخطية، أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ودان الخطية في الجسد، ليعطي حياة أبدية للإنسان الذي يؤمن بهذا العمل العظيم، ويؤكد في ذات الوقت قيمة الإنسان العظمى، هذه القيمة التي كاد الإنسان أن يفقد إحساسه بها، من فرط ما رأى تفاهة نفسه أمام الموت، وأمام كوراث الطبيعة، وأمام هذا الكون العظيم.
فإذا كانت النجوم في بروجها تتحدث عن المسيح، وداود يقول في المزمور: «السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه» فالمسيح إذاً ليس مجرد إنسان، إنه الله الابن المسيطر على الكون «حَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عب ١: ٣) وعلى أساس إعلانات الفلك والنجوم عن المسيح فأنا أومن بأنه الله، فالفلك لم يتحدث قط بهذه الصورة الرائعة عن كائن من بني الإنسان.
(٣) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس حياته المنزهة عن الخطأ والمعصومة عن الزلل: يصف يوحنا الرسول المسيح بالكلمات: «وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (١ يو ٣: ٥) ويصفه بطرس الرسول بالكلمات: «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ. ٱلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (١ بط ٢: ٢١ و٢٢) ويصفه بولس الرسول بالكلمات: «ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً» (٢ كو ٥: ٢١).
فالمسيح ليس فيه خطية، ولم يفعل خطية. ولم يعرف خطية، لقد تسامى فوق البشر بخلو حياته من الخطأ - أي خطأ - واتصف بالصلاح المطلق، وليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله.
ذات يوم جاء شاب غني إليه وقال له: «أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ؟» فَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ» (مت ١٩: ١٦ و١٧).
وكأن المسيح له المجد يقول لذلك الشاب: أتدعوني صالحاً بمقياس الصلاح البشري؟ أم تدعوني صالحاً بمقياس الصلاح الإلهي؟ وإذا كنت تقصد إنني صالح بمقياس الصلاح الإلهي فهذا يعني إنني الله، لأنه ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله، فإذا اعترفت بحق بصلاحي بالمقياس الإلهي وجب عليك أن تعترف بأنني الله.
أجل، كان المسيح صالحاً، منزهاً عن الخطأ، لأنه كان الله الابن المتجسد في صورة إنسان.
يقال إن الفضل ما شهدت به الأعداء، ولقد تحدى المسيح أعداءه علانية قائلاً: «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يو ٨: ٤٦) ولم يستطع أعداؤه أن يمسكوا عليه زلة، أو يجدوا في حياته شبه خطأ أو شر.
ودراسة دقيقة للأصحاح الثامن من إنجيل يوحنا ترينا القيمة العظمى لهذا التحدي من جانب المسيح، ففي بداية الأصحاح نقرأ: «ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى ٱلْهَيْكَلِ فِي ٱلصُّبْحِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ. وَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱمْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي ٱلْوَسَطِ قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ ٱلْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هٰذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» قَالُوا هٰذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ» (يو ٨: ٢ - ٦).
كان المسيح مشغولاً بإشاعة النور، وكان الكتبة والفريسيون يقومون بتدبير المؤامرات في الظلام.
رجال دين.. ومتآمرون.. يا للتناقض.
أتوا إليه بامرأة أمسكوها وهي تزني في ذات الفعل، ومن عجب أنهم لم يحضروا شريكها في الجريمة مع أن الناموس يقول «إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعاً مَعَ ٱمْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْلٍ، يُقْتَلُ ٱلاثْنَانِ: ٱلرَّجُلُ ٱلْمُضْطَجِعُ مَعَ ٱلْمَرْأَةِ وَٱلْمَرْأَةُ» (تث ٢٢: ٢٢) ولكن هؤلاء الفريسيين لم يحضروا الرجل الشريك في الجريمة وهذا يؤكد أن قصدهم لم يكن الدفاع عن الناموس، بل الإيقاع بالمسيح «قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه» وكان الموقف دقيقاً فإذا قال المسيح ارجموها ظهر واضحاً أن لا فرق بينه وبين موسى... فبأي جديد أتى إليهم؟! وإذا قال لا ترجموها اتهموه بالحض على عصيان الناموس واشتكوا عليه... ولكن المسيح «ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ» (كو ٢: ٣) «وَأَمَّا يَسُوعُ فَٱنْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَلَمَّا ٱسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، ٱنْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَّوَلاً بِحَجَرٍ!» ثُمَّ ٱنْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى ٱلأَرْضِ» .
هل انحنى في ذلك الوقت ليكتب خطاياهم ويصفها أمام عيونهم؟
ربما.. ولكن الأمر المؤكد نقرأه في الكلمات: «وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً، مُبْتَدِئِينَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ إِلَى ٱلآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَٱلْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي ٱلْوَسَطِ» (يو ٨: ١ - ٩).
لقد انسحب الكتبة والفريسيون الذين أحضروا المرأة الزانية، انسحبوا بعد أن أيقظ المسيح ضمائرهم بكلماته، وأظهر لهم خباياهم وخطاياهم، فهرب الفريسيون أمام نور عينيه - كدت أقول - أمام نار عينيه لأنهم كلهم في الموازيين إلى فوق.. لكنهم خطاة وأثمة.
«وبقي يسوع وحده مع المرأة».
أجل بقي وحده لأنه القدوس المنزه عن الخطأ.
بقي وحده لأنه وحده له حق الدينونة والقضاء.
وغفر للمرأة الساقطة، واهباً إياها قوة لحياة الطهر والنقاء.
هذه هي بداية الأصحاح، ونرى هناك كيف أعلن المسيح للكتبة والفريسيين شر قلوبهم، وإذ نستمر إلى قلب الأصحاح نسمع كلمات المسيح لليهود «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ ٱلْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي ٱلْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِٱلْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو ٱلْكَذَّابِ. وَأَمَّا أَنَا فَلأَنِّي أَقُولُ ٱلْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي. مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يو ٨: ٤٤ - ٤٦). وكأن الروح القدس وهو يضع هذه الآية في هذا المكان أراد أن يقارن بين المخلوقات الساقطة والإله القدوس، بين الذين لوثتهم الخطية، وذاك الذي قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين إنه «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (عب ٧: ٢٦) بين المسيح، وبين خلائقه.
وكأن المسيح يقول في هذه المقارنة: ها أنا قد كشفت لأفضل من فيكم من المتدينين، للكتبة والفريسين شر حياتهم فهربوا أمام نور عينيّ.. لكن «من منكم يبكتني على خطية؟».. من منكم يستطيع أن يذكر لي زلة؟ أو هفوة أو كلمة نابية؟ أو نظرة دنسة؟ أو موقفاً ضعيفاً؟ «من منكم يبكتني على خطية؟».
وأمام طهارة حياة المسيح جملتها وتفصيلها.. في ظاهرها وباطنها.. أمام عصمة المسيح عن الزلل.. أمام نقاوة المسيح في ذاته وتصرفاته، يرى أعظم الأنبياء والقديسين نفسه بأنه قزم أمام عملاق.. فليس بين الأنبياء من خلت حياته من الخطأ والزلل، وليس بين القديسين من لم تزل قدمه ذات يوم كما قرر إشعياء النبي بكلماته «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء ٥٣: ٦).
أما المسيح فهو يقف فريداً في نقاوة حياته ولذا فقد شهد عنه بيلاطس الوالي الروماني قائلاً: «لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً» (يو ١٨: ٣٨).
وقال عنه قائد المئة الذي أشرف على صلبه «بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً!» (لو ٢٣: ٤٧).
وعلى أساس حياته الخالية من الخطأ والمعصومة من الزلل نقرر في يقين أنه «ابن الله» أنه «الله أُظهر في الجسد».
(٤) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس علمه بكل شيء: يتميز الله عن سائر مخلوقاته بثلاث صفات هي: «العلم بكل شيء»... «القدرة على كل شيء»... «الحضور في كل مكان».. ولذا فنحن نراه يتحدى الناس في سفر إشعياء بالكلمات: «مَا هِيَ ٱلأَوَّلِيَّاتُ؟ أَخْبِرُوا فَنَجْعَلَ عَلَيْهَا قُلُوبَنَا وَنَعْرِفَ آخِرَتَهَا، أَوْ أَعْلِمُونَا ٱلْمُسْتَقْبِلاَتِ. أَخْبِرُوا بِٱلآتِيَاتِ فِيمَا بَعْدُ فَنَعْرِفَ أَنَّكُمْ آلِهَةٌ» (إش ٤١: ٢٢ و٢٣).
وكأن الله جل شأنه يقول: إن دليل الألوهية هو العلم بكل شيء، بالأوليات والمستقبلات، والعهد الجديد يرينا أن المسيح له المجد عالم بكل شيء.
فقد علم كل شيء عن الإنسان: وهذا واضح في الكلمات: «وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِٱسْمِهِ، إِذْ رَأَوُا ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي صَنَعَ. لٰكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ. وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ» (يو ٢: ٢٣ - ٢٥).
وقد علم كل شيء عن نثنائيل: والقصة مذكورة في إنجيل يوحنا الأصحاح الأول بالكلمات: «فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: وَجَدْنَا ٱلَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ٱبْنَ يُوسُفَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَةِ. فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟ قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: تَعَالَ وَٱنْظُرْ. وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ عَنْهُ: هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ. قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟ أَجَابَ يَسُوعُ: قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ، رَأَيْتُكَ. فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يو ١: ٤٥ - ٤٩).
هل كان نثنائيل تحت التينة يصلي بعيداً عن عيون الناس فأدهشه أن عرف المسيح سره؟ أو هل كانت هناك ذكريات خاصة بطفولة نثنائيل كان مكانها تحت التينة، فلما أعلن المسيح معرفته بها صاح نثنائيل «يا معلم أنت ابن الله. أنت ملك إسرائيل».
إن ما يهمنا هو أن المسيح قد رأى نثنائيل تحت التينة، وأن هذه المعرفة العجيبة دفعت نثنائيل للاعتراف بأن المسيح هو «ابن الله».
وقد علم كل شيء عن المرأة السامرية: قابل المسيح هذه المرأة عند بئر يعقوب وبدأ معها الحديث قائلاً: «أعطيني لأشرب» (يو ٤: ٧) فقالت له المرأة السامرية «كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية لان اليهود لا يعاملون السامريين».
وفجأة أصبح طالب الماء هو نفسه معطي الماء الحي إذ قال المسيح للمرأة: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ ٱللّٰهِ، وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً. قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَٱلْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ ٱلْمَاءُ ٱلْحَيُّ؟ أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، ٱلَّذِي أَعْطَانَا ٱلْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» (يو ٤: ١٠ - ١٢).
أجل إنّ يسوع أعظم من يعقوب.. لأن يعقوب أعطاهم بئر ماء عادي ككل الآبار، لكن يسوع له المجد يعطي من يأتي إليه ماء حياً لا يستطيع نبع أرضي أن يخرج مثله، ولذا فقد أجابها قائلاً: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً وَلٰكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يو ٤: ١٣ و١٤).
ودفعت كلماته المرأة إلى طلب هذا الماء العجيب، ولكنها بعقلها المادي المغلف بضباب الجهل ظنت أنه مجرد نوع جديد من المياه فقالت: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هٰذَا ٱلْمَاءَ، لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ٱذْهَبِي وَٱدْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هٰهُنَا» (يو ٤: ١٥ و١٦).
ورأت المرأة نفسها في موقف حرج، فهي امرأة ذات ماض، وهذا اليهودي الغريب الذي يتحدث إليها يقترب من كشف النقاب عن ماضيها الأسود الأثيم الأليم.. وأرادت أن تهرب من نظرات عينيه الفاحصتين، وأن تنهي حديثها معه فقالت له: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ» (يو ٤: ١٧).
وعندئذ أعلن لها المسيح علمه بكل شيء، وفي أسلوب رقيق كشف لها عن ماضيها دون أن يجرحها فقال لها: «لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَٱلَّذِي لَكِ ٱلآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هٰذَا قُلْتِ بِٱلصِّدْقِ» (يو ٤: ١٨).
وأحنت المرأة رأسها فلا سبيل للإنكار أمام عيني فاحص القلوب والكلى، وأجدى من الإنكار الاعتراف الصادق في هذا المقام ولذا قالت المرأة «يا سيد أرى أنك نبي» وكأنها تقول له: «أنت تعلم كل شيء عني.. أنت تعرف آثامي وآلامي.. أنت نبي» لقد ظنت في جهلها أنه مجرد نبي، ولكن المسيح أعلن لها أنه «مسيا» وهو الاسم اليوناني للمسيح الذي ينتظره العبرانيون لأن «المسيح» هو الاسم العبراني «للمسيا» ولقد ذهبت المرأة بعد هذه المقابلة تنادي لأهل مدينتها: «هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ؟» (يو ٤: ٢٩). ولما أثارت فضولهم وأتوا إْيه واستمعوا إلى حديثه «فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ... وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَمِ» ( يو ٤: ٣٩ و٤٢).
وقد علم المسيح بموت لعازر وهو بعيد عنه: أرسلت الأختان مرثا ومريم رسالة عاجلة إلى المسيح قالتا فيها: «يَا سَيِّدُ، هُوَذَا ٱلَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ» (يو ١١: ٣). «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: هٰذَا ٱلْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ ٱللّٰهِ، لِيَتَمَجَّدَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ بِهِ. وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ. فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ» (يو ١١: ٤ - ٦).
هل مررت في اختبار كهذا؟ هل وقعت في ضيقة أردت منها مخرجاً شريعاً فأرسلت إلى الرب صلاة تلغرافية تخبره فيها بمحنتك وحاجتك للمعونة، وإذ بالرب يتأنى عليك ويتأخر - في تقديرك - في المجيء لمعونتك؟ إن محنتك في هذه الحالة ليست الدمار إنها لمجد الله، ليتمجد ابن الله بها.. أجل فالمجد الذي يعود إلى الله يشاركه فيه ابنه الوحيد، فهو واحد مع الآب.
بعد ذلك قال المسيح لتلاميذه: «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لٰكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ». فَقَالَ تَلاَمِيذُهُ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى». وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ، وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ ٱلنَّوْمِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ عَلاَنِيَةً: «لِعَازَرُ مَاتَ» (يو ١١: ١١ - ١٤).
مات.. وكيف عرفت يا سيد؟
وكأنني أسمع الرب يجيب تلاميذه بالكلمات: أنا موجود هناك، كما أنا موجود معكم، أنا مع الأختين الحزينتين الباكيتين كما أنا معكم يا تلاميذي.. «لِعَازَرُ مَاتَ. وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا» (يو ١١: ١٤ و١٥). قال هذا لانه علم مسبقاً أنه سيقيم لعازر من قبره. لقد عرف المسيح بموت لعازر دون أن يخبره أحد، لأنه الله الموجود في كل مكان، العالم بكل شيء.
وقد علم المسيح بكل ما سيحدث له من آلام وأعلن كذلك قيامته نقرأ في إنجيل يوحنا هذه الكلمات: «أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ ٱلْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ إِلَى ٱلآبِ» (يو ١٣: ١) ونقرأ أيضاً: «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ» (يو ١٨: ٤).
لم يأخذه أحد على غرة.
- لقد عرف أن يهوذا التلميذ الخائن سيسلمه، لذلك قال لتلاميذه «أَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلٰكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذٰلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ» (يو ١٣: ١٠ و١١).
- وعرف أنه سيذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم، وقد جاء إعلانه عن علمه بما سيأتي عليه من آلام بعد أن اعترف بطرس بلاهوته بكلماته الصريحة «أنت هو المسيح ابن الله الحي» وهنا نقرأ الكلمات: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ... مِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ (أي بعد أن أعلن الآب لاهوت ابنه لبطرس) ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومَ» (متى ١٦: ١٦ - ٢١). أجل علم المسيح بكل ما سيأتي عليه من آلام وأخبر تلاميذه بما سيحدث له قبل حدوثه، كما أعلن معرفته بقيامته.
وقد علم المسيح أن الحواري بطرس سينكره وهذا ما نقرأه في إنجيل متى بالكلمات «حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ ٱلرَّعِيَّةِ. وَلٰكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ. فَقَالَ بُطْرُسُ لَهُ: وَإِنْ شَكَّ فِيكَ ٱلْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَداً. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: وَلَوِ ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» (مت ٢٦: ٣١ - ٣٥).
وقد صدقت النبوءة وأنكر بطرس المسيح، وها نحن نقرأ عن إنكاره هذه الكلمات: «وَبَعْدَ قَلِيلٍ جَاءَ ٱلْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: حَقّاً أَنْتَ أَيْضاً مِنْهُمْ، فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ! فَٱبْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ ٱلرَّجُلَ! وَلِلْوَقْتِ صَاحَ ٱلدِّيكُ. فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ يَسُوعَ ٱلَّذِي قَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ ٱلدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً» (مت ٢٦: ٧٣ - ٧٥).
وقد علم المسيح بكل حوادث الضيقة العظيمة التي تسبق مجيئه مع قديسيه إلى هذه الأرض: وقد شرحها في إنجيل متى الأصحاح الرابع والعشرين، كما تحدث عنها لعبده يوحنا في سفر الرؤيا بتفصيل يذهل العقل.
ويكفي هنا أن نذكر كلمات قليلة من حديثه تاركين لمن يريد التوسع العودة إلى الكتاب المقدس لدراسة هذه التفاصيل لنفسه فقد قال بفمه المبارك «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ تُظْلِمُ ٱلشَّمْسُ، وَٱلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَٱلنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، وَقُّوَاتُ ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ فِي ٱلسَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ بِقُّوَةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ» (مت ٢٤: ٢٩ و٣٠).
أجل إن المسيح هو الله الذي ظهر في الجسد لأنه عالم بكل شيء، وأمام علمه نقول مع داود: «عَجِيبَةٌ هٰذِهِ ٱلْمَعْرِفَةُ فَوْقِي. ٱرْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا» (مز ١٣٩: ٦). وقد اعترف بطرس بعلم المسيح بكل شيء في هذه الكلمات: «فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هٰؤُلاَءِ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ٱرْعَ خِرَافِي. قَالَ لَهُ أَيْضاً ثَانِيَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ٱرْعَ غَنَمِي. قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱرْعَ غَنَمِي» (يو ٢١: ١٥ - ١٧). وكأننا نسمع بطرس يقول بهذا الاعتراف الواضح: أيمكن أن تُخفى عليك عواطف قلبي؟ أنت تعلم كل شيء.. أنت تعرف كل شيء.. أنت «الله» فاحص القلوب والكلى.
وهذا ما نقرأه في سفر رؤيا يوحنا في الكلمات: «فَسَتَعْرِفُ جَمِيعُ ٱلْكَنَائِسِ أَنِّي أَنَا هُوَ ٱلْفَاحِصُ ٱلْكُلَى وَٱلْقُلُوبَ، وَسَأُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ» (رؤيا ٢: ٢٣).
وأمام علم المسيح بكل شيء أومن بأن المسيح هو «الله».
(٥) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس حضوره في كل مكان: يترنم داود لله في المزمور قائلاً: «أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ ٱلصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي ٱلْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضاً تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ» (مز ١٣٩: ٧ - ١٠).
فمن صفات الله: الوجود في كل مكان، والمسيح قد أعلن بكلمات صريحة عن وجوده في كل مكان ولذا فأنا أومن أنه الله.
بعد أن خاطب بولس قسوس كنيسة أفسس قائلاً: «ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ يَشْهَدُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ قَائِلاً: إِنَّ وُثُقاً وَشَدَائِدَ تَنْتَظِرُنِي. وَلٰكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَٱلْخِدْمَةَ ٱلَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ. وَٱلآنَ هَا أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَ وَجْهِي أَيْضاً، أَنْتُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِينَ مَرَرْتُ بَيْنَكُمْ كَارِزاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ... وَلَمَّا قَالَ هٰذَا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ وَصَلَّى. وَكَانَ بُكَاءٌ عَظِيمٌ مِنَ ٱلْجَمِيعِ، وَوَقَعُوا عَلَى عُنُقِ بُولُسَ يُقَبِّلُونَهُ مُتَوَجِّعِينَ، وَلاَ سِيَّمَا مِنَ ٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا: إِنَّهُمْ لَنْ يَرَوْا وَجْهَهُ أَيْضاً» (أع ٢٠: ٢٣ - ٣٨).
لقد عرف قسوس كنيسة أفسس أنهم لن يحظوا بحضور بولس معهم مرة أخرى.. لن يستمعوا إلى تعاليمه الثمينة.. لن يأخذوا منه هبة روحية لثباتهم.. فبكوا.. عرفوا أن الموت سينهي خدمة هذا الرسول العظيم.
وفي الرسالة إلى القديسين في فيلبي، وهي الرسالة التي كتبها بولس في أخريات أيامه نقرأ كلماته: «لأَنَّ لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ وَٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ. وَلٰكِنْ إِنْ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ فِي ٱلْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي، فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي! فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ ٱلاثْنَيْنِ: لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً. وَلٰكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي ٱلْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ» (في ١: ٢١ - ٢٤).
وكأن بولس يقول بكلماته هذه: أنا لا يمكنني أن أكون في السماء وفي الأرض، لا أستطيع أن أخدمكم بعد أن أذهب لأكون مع الرب.. لن يكون في مقدوري أن أكون واسطة تقدمكم وفرحكم في الإيمان وأنا موجود مع المسيح في المجد «لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً. وَلٰكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي ٱلْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ» (في ١: ٢٤).
وها هو بطرس الرسول يعلن ذات الموقف بكلماته: «وَلٰكِنِّي أَحْسِبُهُ حَقّاً مَا دُمْتُ فِي هٰذَا ٱلْمَسْكَنِ أَنْ أُنْهِضَكُمْ بِٱلتَّذْكِرَةِ، عَالِماً أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً. فَأَجْتَهِدُ أَيْضاً أَنْ تَكُونُوا بَعْدَ خُرُوجِي تَتَذَكَّرُونَ كُلَّ حِينٍ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ» (٢ بط ١: ١٣ - ١٥).
فبطرس أعلن أنه طالما كان موجوداً في الجسد على الأرض فواجبه أن ينهض القديسين بالتذكرة.. وأعلن أن خلع جسده صار قريباً، وأوصاهم أن يتذكروا كلماته، فلن يكون في مقدوره الاتصال بهم بعد أن يخلع مسكنه.
فالأنبياء والرسل والقديسون كلهم مضوا.. وأنهى الموت خدمتهم وعلاقتهم بالأرض وسكانها.
أما الرب يسوع المسيح فهو الموجود في كل مكان.
- إنه قد وعد تلاميذه قائلاً: «لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (مت ١٨: ٢٠).
- وقال لتلاميذه القديسين: «فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (مت ٢٨: ١٩ و٢٠).
- وقال لنيقوديموس: «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (يو ٣: ١٣).
ولقد أكدت كل الحوادث أن مواعيد الرب يسوع المسيح أمينة وصادقة. ففي إنجيل يوحنا نرى الرب وهو يؤكد لتلاميذه حقيقة حضوره الدائم معهم في الكلمات: «وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، وَهُوَ أَّوَلُ ٱلأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ ٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ ٱلْخَوْفِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ» (يو ٢٠: ١٩).
لقد كان التلاميذ في خوف من اليهود ولذلك أغلقوا الأبواب والنوافذ.. فمن أين دخل المسيح؟
لقد دخل ورفع يديه وآثار الجروح فيهما وقال: «سَلاَمٌ لَكُمْ. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا ٱلرَّبَّ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: سَلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: ٱقْبَلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ» (يو ٢٠: ١٩ - ٢٣).
«أَمَّا تُومَا، أَحَدُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلتَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُ ٱلتَّلاَمِيذُ ٱلآخَرُونَ: قَدْ رَأَيْنَا ٱلرَّبَّ» (يو ٢٠: ٢٤ و٢٥).
ويمكنني أن أتصور توما وهو يقول متعجباً: رأيتم الرب؟ وكيف دخل الرب إلى هنا؟.. الأبواب مغلقة.. ولا فتحة واحدة في المكان يمكنه الدخول منها؟!
ويرد التلاميذ قائلين: «دخل ورأيناه.. أرانا يديه وجنبه وسمعنا صوته.. قال لنا: سلام لكم.. وأرسلنا لتبشير العالم الهالك الأثيم.. توما ليتك كنت معنا».
ويرد توما وهو يهز رأسه قائلاً: كلا إن عقلي ليس على غرار عقولكم.. أنتم أصحاب عقليات تتأثر بسرعة.. أكاد أقول إنها عقليات ضعيفة.. أنتم غلبتكم العاطفة فتصورتم في أوهامكم أنكم رأيتم الرب.. أما أنا فإنني رجل واقعي مثقف «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يو ٢٠: ٢٥).
وكان المسيح موجوداً عندما تحدث توما بكلماته إلى رفاقه، وسمع كل ما قاله توما، ولو أن توما لم يره بعينيه.
«وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً» (يو ٢٠: ٢٦ و٢٧).
وامتلأ توما وباقي التلاميذ عجباً. هل كان الرب معهم حين نطق توما بكلماته؟ كيف سمع كلماته بالحرف الواحد.. وكيف جاء ليلبي مطاليب عقله؟
:وأشرق النور على قلب توما وهتف قائلاً «ربي وإلهي».
«قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو ٢٠: ٢٩).
أجل إن الرب يسوع المسيح موجود في كل مكان. وهو رفيق رحلة الحياة لكل مؤمن، ولقد كان الإحساس بحضوره الدائم هو سر سلام القديسين ونصرتهم.. إصغ إلى كلمات بولس وهو يكتب لتلميذه الحبيب تيموثاوس قائلاً: «فِي ٱحْتِجَاجِي ٱلأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ ٱلْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ. وَلٰكِنَّ ٱلرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَّوَانِي، لِكَيْ تُتَمَّ بِي ٱلْكِرَازَةُ، وَيَسْمَعَ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ، فَأُنْقِذْتُ مِنْ فَمِ ٱلأَسَدِ. وَسَيُنْقِذُنِي ٱلرَّبُّ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ رَدِيءٍ وَيُخَلِّصُنِي لِمَلَكُوتِهِ ٱلسَّمَاوِيِّ. ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. آمِينَ» (٢ تيمو ٤: ١٦ - ١٨).
أجل إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس حضوره في كل مكان، وهذه صفة لا تتوفر لأحد من البشر.. إنها صفة من صفات الله.
(٦) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس قدرته الشخصية لعمل المعجزات: المعجزة ضرورة لإثبات النبوة، وهذا واضح من الكلمات: «فَأَجَابَ مُوسَى: وَلٰكِنْ هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي، بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَظْهَرْ لَكَ ٱلرَّبُّ. فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: مَا هٰذِهِ فِي يَدِكَ؟ فَقَالَ: عَصاً. فَقَالَ: ٱطْرَحْهَا إِلَى ٱلأَرْضِ. فَطَرَحَهَا إِلَى ٱلأَرْضِ فَصَارَتْ حَيَّةً، فَهَرَبَ مُوسَى مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: مُدَّ يَدَكَ وَأَمْسِكْ بِذَنَبِهَا (فَمَدَّ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ، فَصَارَتْ عَصاً فِي يَدِهِ) لِكَيْ يُصَدِّقُوا أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ آبَائِهِمْ، إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَاقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ أَيْضاً: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي عُبِّكَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي عُبِّهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، وَإِذَا يَدُهُ بَرْصَاءُ مِثْلَ ٱلثَّلْجِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: رُدَّ يَدَكَ إِلَى عُبِّكَ (فَرَدَّ يَدَهُ إِلَى عُبِّهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْ عُبِّهِ، وَإِذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ مِثْلَ جَسَدِهِ) فَيَكُونُ إِذَا لَمْ يُصَدِّقُوكَ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ ٱلآيَةِ ٱلأُولَى، أَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ صَوْتَ ٱلآيَةِ ٱلأَخِيرَةِ» (خر ٤: ١ - ٨).
والكلمات ترينا أن موسى خشي أن لا يصدقه شعبه حين يدعي النبوة. فأيده الله بالمعجزات لتكون دليلاً حياً على صدق نبوته.
وكل نبي أرسله الله إلى هذه الأرض أجرى معجزات، لكنه لم يفعلها بقوته الشخصية بل بقوة الله، أما المسيح له المجد فقد أجرى المعجزات بقوة لاهوته لأنه ابن الله والله الابن.
لقد أظهر سلطانه الإلهي على الطبيعة: يحتفظ لنا التاريخ بقصة عن الملكة فيكتوريا التي اشتهرت بتقواها ومحبتها لكلمة الله، وكانت تلقب باسم «ملكة انكلترة وأمبراطورة ما وراء البحار» إنها كانت ذات يوم واقفة على شاطئ البحر وإذ بموجة شديدة تبلل ثيابها بالماء، وهنا نظرت الأمبراطورة إلى البحر الهائج وقالت: اسكت ابكم.. ولكن البحر زاد هياجاً وجاءت موجة شديدة أخرى وبللتها بكيفية أشد. وهنا ابتسمت الملكة وقالت: «يسمونني أمبراطورة ما وراء البحار وها أنذا آمر البحر فلا يطيعني... شخص واحد فقط هو ملك الملوك ورب الأرباب هو الرب يسوع المسيح الذي أمر البحر فأطاعه».
ذات يوم قال المسيح لتلاميذه «وَقَالَ لَهُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ لَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى ٱلْعَبْرِ». فَصَرَفُوا ٱلْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي ٱلسَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ ٱلأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. وَكَانَ هُوَ فِي ٱلْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً» (مر ٤: ٣٥ - ٣٨).
لماذا لم يوقظ التلاميذ المسيح قبل أن تمتلئ السفينة بالماء؟ لعلهم ظنوا أنهم يستطيعون بمجهودهم أن يقوموا بعمل يجعل السفينة في أمان، ويتركوه نائماً في هدوء! ولكن عبثاً تحاول أن تحل مشاكلك بدون المسيح. إنك حينئذ تزيدها تعقيداً.
وتحت ضغط الريح العاصفة، والأمواج التي تضرب إلى السفينة اضطر التلاميذ أن يلجأوا إلى المسيح فأيقظوه وقالوا له: يا معلم أما يهمك أننا نهلك؟
فقام وانتهر الريح وقال للبحر اسكت. ابكم. فسكنت الريح وصار هدوء عظيم.
وفي عتاب لطيف قال المسيح لتلاميذه: «ما بالكم خائفين هكذا؟ كيف لا إيمان لكم؟ فخافوا خوفاً عظيماً وقال بعضهم لبعض من هو هذا؟ فإن الريح أيضاً والبحر يطيعانه».
إن ذاك الذي أسكت البحر، هو نفسه الرب الذي سأل أيوب قديماً قائلاً: «وَمَنْ حَجَزَ ٱلْبَحْرَ بِمَصَارِيعَ حِينَ ٱنْدَفَقَ فَخَرَجَ مِنَ ٱلرَّحِمِ. إِذْ جَعَلْتُ ٱلسَّحَابَ لِبَاسَهُ وَٱلضَّبَابَ قِمَاطَهُ وَجَزَمْتُ عَلَيْهِ حَدِّي وَأَقَمْتُ لَهُ مَغَالِيقَ وَمَصَارِيعَ، وَقُلْتُ: إِلَى هُنَا تَأْتِي وَلاَ تَتَعَدَّى، وَهُنَا تُتْخَمُ كِبْرِيَاءُ لُجَجِكَ؟» (أي ٣٨: ٨ - ١١).
ولما نتابع معجزات المسيح في إنجيل يوحنا، نجدها معجزات لا يرقى الشك إليها. لقد أزعجنا العصريون الذين يشكون في صدق الكتاب المقدس، بادعائهم القائل: إن المسيح كان شخصاً عبقرياً، وكان يتميز بشخصية مغناطسية، وأنه بالقوة المغناطسية التي امتلكها أثر في المفلوجين المرضى بالشلل النفسي، فأعاد إليهم الثقة بأنفسهم، وهكذا أعطاهم القدرة على العودة لممارسة حياتهم الطبيعية من جديد.
ولكن المعجزات التي سجلها إنجيل يوحنا كانت فوق العبقرية، كانت فوق القوى المغناطسية. كانت فوق القدرة العقلية. كانت فوق الإيحاء وكل أساليب علم النفس في العلاج. كانت معجزات إلهية في كل ما أحاط بها، وفي كل تفاصيلها.
فقد أظهر المسيح فيها قدرته على شفاء المرضى حتى دون أن يرى المريض: ذات يوم جاء يسوع إلى قانا الجليل «فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا ٱلْجَلِيلِ، حَيْثُ صَنَعَ ٱلْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ٱبْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ. هٰذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، ٱنْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ٱبْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى ٱلْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!» (يو ٤: ٤٦ - ٤٨).
ويتوسل الرجل إلى المسيح قائلاً: «يَا سَيِّدُ، ٱنْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ٱبْنِي» (يو ٤: ٤٩) وعندئذ ينطق المسيح بعبارة قصيرة تعلن عن الاهوته وقدرته فيقول لخادم الملك: «اذهب. ابنك حي».
«فَآمَنَ ٱلرَّجُلُ بِٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ، وَذَهَبَ» (يو ٤: ٥٠).
ويبدو أن إيمانه كان عظيماً لدرجة أنه لم يسرع إلى بيته في ذلك اليوم، إذ تيقن أن ابنه قد دبت فيه الصحة من جديد، وأنه لا داعي للإسراع لرؤيته، ولذا قضى يومه في قانا الجليل لعله قضاه في زيارة أصدقائه.
«وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ ٱسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ. فَٱسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى، فَقَالُوا لَهُ: أَمْسٍ فِي ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ ٱلْحُمَّى. فَفَهِمَ ٱلأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ» (يو ٤: ٥٠ - ٥٣).
لقد شفى المسيح ابن خادم الملك بكلمة من فمه، ودون أن يراه فلم يكن هناك أي مجال لممارسة قواه المغناطسية كما يدعي العصريون، بل كانت المعجزة دليلاً ناطقاً على قدرته الإلهية، ولذا آمن خادم الملك وبيته كله.
وأظهر قدرته على شفاء الأمراض المستعصية: فهناك «وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ ٱلضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِٱلْعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ. فِي هٰذِهِ كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ، يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ ٱلْمَاءِ. لأَنَّ مَلاَكاً كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَاناً فِي ٱلْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ ٱلْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَّوَلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ ٱلْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ ٱعْتَرَاهُ. وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً» (يو ٥: ٢ - ٥).
هذا عمر طويل قضاه الرجل في مرض استعصى على الطب أن يجد له علاج.
«هٰذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً، وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً، فَقَالَ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟» وقد يبدو السؤال غريباً، لكن الغرابة تزول لو علمت أن هناك مرضى لا يريدون أن يبرأوا، لأنهم يجدون متعة في مرضهم.. متعة عطف الناس عليهم.. متعة عناية الناس بهم.. أو متعة لفت الأنظار إليهم.
لكن هذا الرجل كان يرغب في الشفاء. غير أنه لم يجد من يلقيه في البركة متى تحرك الماء ولذا قال للمسيح: «يَا سَيِّدُ، لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي ٱلْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ ٱلْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ».
وهنا قال له الرب القادر على كل شيء: «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: قُمِ. ٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱمْشِ فَحَالاً بَرِئَ ٱلإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى».
كان في قدرة المسيح أن يشفي رجلاً مصاباً بالشلل بعد ثمان وثلاثين سنة قضاها في العجز والمرض.
وأطعم الجماهير الغفيرة من خمسة أرغفة وسمكتين: «بَعْدَ هٰذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ، وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ. وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ ٱلَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي ٱلْمَرْضَى» (يو ٦: ١ و٢).
لقد خرجت الجماهير وراء المسيح وحيثما يوجد فهو يجذب الجماهير إليه.. إن في المسيح جاذبية عجيبة لا يستطيع إنسان أن يتجاهلها.. الملحدون يعرفون جاذبيته، والمؤمنون يختبرون هذه الجاذبية. إنه لا مفر لك من مواجهة المسيح.
«فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هٰؤُلاَءِ؟» وَإِنَّمَا قَالَ هٰذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ» (يو ٦: ٥ و٦).
وجلس فيلبس يعمل عملية حسابية ليقدر تكاليف إطعام هذا الجمع الغفير، ثم أجاب «لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً» (يو ٦: ٧).
وهنا تقدم واحد من تلاميذه وهو اندراوس وقال: «هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ، وَلٰكِنْ مَا هٰذَا لِمِثْلِ هٰؤُلاَءِ؟» (يو ٦: ٩).
وقد كتب القس «هنري هوايتمان» الانجليزي تعليقاً على هذه المعجزة فقال: «إن رجل القرن العشرين يستطيع أن يطوف بالكرة الأرضية. ويقتل الناس الذين يعيشون على بعد أميال منه، ويزن الكواكب ويحدد أماكنها، ويخرج البترول من باطن الأرض، ويطبع ملاين النسخ من الصحف اليومية، ويجعل الدجاجة تبيض ٣٦٥ بيضة في السنة، ويجعل الكلاب تدخن «البيبة» وكلب البحر يلعب بكرة الماء. وهذا الرجل العجيب إذا رأى خمسة أرغفة وسمكتين، وخمسة جياع وطفلين فقيرين فإنه يعقد مؤتمراً ويشكل لجنة كبرى وبعض اللجان الصغيرة، ويدعو إلى عملية انتخابات حرة. ثم يصرخ بأعلى صوته أن هناك أزمة شديدة تواجهه، وهو يضع تعليمات لا حصر لها ثم يبتعد تاركاً الأشخاص الخمسة والطفلين جياعاً كما كانوا قبل تأليف المؤتمر واللجان» .
هذا هو رجل القرن العشرين بكل قدراته، وعلمه واكتشافاته واختراعاته، أعجز من أن يقابل أزمة الجوع في عالم اليوم ويصرخ بأعلى صوته من مشكلة «الانفجار السكاني».
أما الرب يسوع فقد قال لتلاميذه «ٱجْعَلُوا ٱلنَّاسَ يَتَّكِئُونَ. وَكَانَ فِي ٱلْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ، فَٱتَّكَأَ ٱلرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلاَفٍ. وَأَخَذَ يَسُوعُ ٱلأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ، وَوَّزَعَ عَلَى ٱلتَّلاَمِيذِ، وَٱلتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا ٱلْمُتَّكِئِينَ. وَكَذٰلِكَ مِنَ ٱلسَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا. فَلَمَّا شَبِعُوا، قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: ٱجْمَعُوا ٱلْكِسَرَ ٱلْفَاضِلَةَ لِكَيْ لاَ يَضِيعَ شَيْءٌ. فَجَمَعُوا وَمَلأُوا ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ ٱلْكِسَرِ، مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ ٱلشَّعِيرِ ٱلَّتِي فَضَلَتْ عَنِ ٱلآكِلِينَ» (يو ٦: ١٠ - ١٣).
لقد كانت القفف المملؤءة من الكسر الفاضلة، دليلاً ملموساً على شبع الجماهير، وعلى قدرة المسيح الإلهية لإشباعها.
فليقل لنا العصريون.. أي دخل للعبقرية في هذه المعجزة؟ وأي دخل للقوة المغناطسية؟ وأي دخل للقدرة الإيحائية؟ وليكفوا عن ترهاتهم، ويعترفوا أن المسيح هو الله القادر على كل شيء.
وفتح المسيح عيني إنسان مولود أعمى: وهذه المعجزة تتحدى العلم، وتخرس العصريين المتبجحين، فهي معجزة خلق ليس في مقدور إنسان بشري أن يأتي بمثلها يسجلها يوحنا بالكلمات: «وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» (يو ٩: ١ و٢).
ويمكننا القول بأن سؤال التلاميذ كان مبنياً على عدة أفكار:
أولاً: فكرة تناسخ الأرواح، ويبدو أنها وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت.
ثانياً: الفكرة القائلة بأن أرواح البشر كانت موجودة قبل حلولها في أجساد أصحابها، وأنها ارتكبت حينئذ بعض الأخطاء وهي فكرة تغلغلت في كتابات الرابيين.
ثالثاً: هي ما فهموه من أن الله يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء (خر ٢٠: ٥).
رابعاً: الاعتقاد السائد عند الكثيرين بأن المرض والخطية صنوان لا يفترقان.
لكن المسيح أجاب إجابة تنفي كل هذه الأفكار فقال: «لاَ هٰذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لٰكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ» (يو ٩: ٣). وتعني كلماته أن خطية هذا الإنسان أو أبويه لا تزيد عن خطايا الآخرين، وأنه وُلد أعمى لتظهر أعمال الله فيه.
نعم ففي أقسى التجارب نستطيع أن نرى يد الله العاملة لخير البشر وبركة نفوسهم.
وكلمات المسيح التي قال فيها: « لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ» تؤكد لنا لاهوته إذ الواقع أنه قد أظهر «أعمال الله» في ذلك الأعمى بإعادة البصر إليه، بل بأن خلق له من الطين عينين جديدتين.
وتابع يوحنا سرد تفاصيل المعجزة بالكلمات: «قَالَ هٰذَا وَتَفَلَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ ٱلتُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِٱلطِّينِ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى» (يو ٩: ٦).
ولو أن هناك إنساناً بصيراً طليت عينيه بالطين لكان معرضاً أن يصاب بالعمى ولكن المسيح طلى عيني الأعمى، ومن ذلك الطين عمل للأعمى عينين جديدتين أليس هو الذي خلق آدم من تراب ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار نفساً حية؟
«كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يو ١: ٣).
ولقد أمر المسيح ذلك الأعمى قائلاً: «ٱذْهَبِ ٱغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ. ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَٱغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً» (يو ٩: ٧).
ولما حاول الفريسيون أن يسلبوا من هذا الرجل إيمانه بمن أعاد له نور بصره قالوا له: «أَعْطِ مَجْداً لِلّٰهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ خَاطِئٌ. فَأَجَابَ: أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَٱلآنَ أُبْصِرُ... فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً» (يو ٩: ٢٤ - ٣٤).
ولما أخرجوه خارجاً.. لم يتركه يسوع وحده.
«فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟ أَجَابَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ» (يو ٩: ٣٥ - ٣٧).
وهكذا أعلن الرب حقيقة شخصه لذلك الرجل، الذي أعاد له بقدرة لاهوته نور عينيه.
وأقام المسيح ميتاً بعد أن أنتن: وهذه المعجزة تتحدى بصورة قاطعة كل منكر للاهوت المسيح، فالإنسان مع ما بلغه من تقدم في العلم في هذا القرن العشرين ما زال عاجزاً عن أن يقيم ميت بعد أربع ساعات من وفاته، فكم بالحري بعد أربعة أيام.. وبعد أن دبت في جسده عناصر العفونة والفناء!!
لكن المسيح أقام ميتأً بعد أن أنتن فهناك في قرية بيت عنيا عاشت أسرة أحبها المسيح «وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ» (يو ١١: ٥). وكان بيت هذه الأسرة في تلك القرية الوادعة محطة الراحة التي يذهب إليها المسيح حين يتعب، وحين يريد أن يجلس جلسة هادئة مع أناس قريبين من قلبه.
ومع هذا الحب القوي من جانب المسيح لهذه الأسرة، فقد سمح في محبته أن تجتاز تجربة مريرة، هي تجربة مرض لعازر وموته. والواقع أن محبة الله لنا ليست ضماناً يبعد عنا آلام الحياة، وإلا صارت علاقتنا به على أساس المصالح المادية، والأمان في الحياة الدنيا، ومع ذلك فهناك حقيقة يجب أن لا تغرب عن بالنا وهي أن الآلام التي تمر بحياة من يحبهم الرب، تهدف إلى خيرهم وبركتهم وتنقية نفوسهم.
مرض لعازر.. ويبدو أن مرضه كان قاسياً وخطيراً. فأرسلت الأختان إلى المسيح رسالة برقية قائلتين: «يَا سَيِّدُ، هُوَذَا ٱلَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ» (يو ١١: ٣).
«فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ» (يو ١١: ٦).
ما أغرب تصرفات المسيح المحب!!
أحياناً تكون في قلبك تجربة محرقة، وترسل رسالة برقية للسماء لتنقذك، وبدلاً من أن تأتيك الإجابة فوراً.. تجد نفسك وحيداً في دوامة.. السماء لا تسمع وكأنها خلت من الله.. وأنت ترفع صوتك في عتاب قائلاً: «حتى متى يا رب أصرخ ولا تستجيب»؟
وهنا ما أحوجنا أن نسمع كلمات النبي صفنيا: «ٱلرَّبُّ إِلَهُكِ فِي وَسَطِكِ جَبَّارٌ يُخَلِّصُ. يَبْتَهِجُ بِكِ فَرَحاً. يَسْكُتُ فِي مَحَبَّتِهِ..» (صفنيا ٣: ١٧) وكلمات صاحب المزمور القائل: «ٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ وَٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ» (مز ٢٧: ١٤).
إن الله يقصد من وراء صمته الجبار خيرك. يقصد بركة لنفسك. يقصد أن يعلن لك عن شخصه بكيفية أبهى وأكمل. فانتظر الرب.
ويستمر يوحنا في تسجيل تفاصيل المعجزة بالكلمات: «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: هٰذَا ٱلْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ ٱللّٰهِ، لِيَتَمَجَّدَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ بِهِ. وَبَعْدَ ذٰلِكَ قَالَ لَهُمْ: لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لٰكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ. فَقَالَ تَلاَمِيذُهُ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى. وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ، وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ ٱلنَّوْمِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ عَلاَنِيَةً: لِعَازَرُ مَاتَ. وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا. وَلٰكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ» (يو ١١: ٤ و١١ - ١٥).
لعازر مات.. وأنا أفرح لأجلكم!!
كيف يفرح الرب لموت حبيب كلعازر؟ إن السبب هو أن هذا الموت سيعطي للتلاميذ فرصة يتحققون فيها صدق كلماته القائلة: «لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هٰذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يو ٥: ٢٨ و٢٩).
وجاء المسيح وتلاميذه إلى بيت عنيا.
«فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاَقَتْهُ، وفَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هٰهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي» (يو ١١: ٢٠ و٢١). ونحن نلمح عتاباً رقيقاً في كلمات مرثا، وكأنها تقول: أنت صديق أسرتنا. بيتنا مكان راحتك. تتركنا وحدنا في محنتنا وأحزاننا؟ ويجيب المسيح مرثا قائلاً: «سَيَقُومُ أَخُوكِ».
قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي ٱلْقِيَامَةِ، فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ».
وينطق المسيح بأسمى إعلاناته عن نفسه قائلاً: «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (يو ١١: ٢٥ و٢٦).
وكلمات المسيح هذه تنطبق على لحظة الاختطاف.
«ٱلأَمْوَاتُ فِي ٱلْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً» (١ تس ٤: ١٦). وهذا يقابل الكلمات: «مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا».
«ثُمَّ نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ ٱلْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي ٱلسُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ ٱلرَّبِّ فِي ٱلْهَوَاءِ» (١ تس ٤: ١٧) وهذا يقابل الكلمات: «وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ».
قال المسيح لمرثا: «أَتُؤْمِنِينَ بِهٰذَا؟ قَالَتْ لَهُ: نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، ٱلآتِي إِلَى ٱلْعَالَمِ» (يو ١١: ٢٦ و٢٧).
«وَلَمَّا قَالَتْ هٰذَا مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ أُخْتَهَا سِرّاً، قَائِلَةً: ٱلْمُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ يَدْعُوكِ. أَمَّا تِلْكَ فَلَمَّا سَمِعَتْ قَامَتْ سَرِيعاً وَجَاءَتْ إِلَيْهِ... ثُمَّ إِنَّ ٱلْيَهُودَ ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهَا فِي ٱلْبَيْتِ يُعَّزُونَهَا، لَمَّا رَأَوْا مَرْيَمَ قَامَتْ عَاجِلاً وَخَرَجَتْ، تَبِعُوهَا قَائِلِينَ: إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى ٱلْقَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ. فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ، خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هٰهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي. فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي، وَٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ، ٱنْزَعَجَ بِٱلرُّوحِ وَٱضْطَرَبَ، وَقَالَ: أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟ قَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، تَعَالَ وَٱنْظُرْ» (يو ١١: ٢٨ - ٣٤).
وهنا يسجل يوحنا الرسول أصغر آيات الكتاب المقدس، وأعمقها، وأصدقها تعبيراً عن مشاعر المسيح في كلمتين «بَكَى يَسُوعُ» (يو ١١: ٣٥). إن هاتين الكلمتين أعمق من المحيط، وأرحب من العالم الفسيح، إننا نرى فيهما هنا، وشفقة، ومشاركة قلب المسيح للحزانى والمتألمين.
ولما رأى اليهود دموع المسيح قالوا: «فَقَالَ ٱلْيَهُودُ:ٱنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ. وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ: أَلَمْ يَقْدِرْ هٰذَا ٱلَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هٰذَا أَيْضاً لاَ يَمُوتُ؟» (يو ١١: ٣٦ و٣٧).
إنه يقدر أن يقيمه من الموت.
جاء يسوع إلى القبر، وكان مغارة قد وضع عليه حجر وقال: «ٱرْفَعُوا ٱلْحَجَرَ. قَالَتْ لَهُ مَرْثَا، أُخْتُ ٱلْمَيْتِ: يَا سَيِّدُ، قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ» (يو ١١: ٣٩).
أجل تعفنت الجثة.. فاحت الرائحة النتنة من الجسد المائت. مسكين الإنسان.. إنه تراب وإلى تراب يعود.. وأجمل امرأة تخطر في مشيتها على الأرض تتعفن وتفوح منها رائحة تزكم الانوف عندما يتلقفها القبر كفريسة من فرائس الموت.
ومرثا وهي تردد كلماتها «يا سيد قد أنتن» كانت كأنها تقول: «يا سيد أنا لا أريد أن أرى لعازر ميتاً» منتناً إن في ذهني صورة لعازر الحي الممتلئ حيوية. وأريد أن تستمر صورته الجميلة أمام عيني. لا أريد أن أشم بأنفي عفونة الموت.
ويرد عليها المسيح بكلماته: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ ٱللّٰهِ؟. فَرَفَعُوا ٱلْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ ٱلْمَيْتُ مَوْضُوعاً» (يو ١١: ٤٠ و٤١)، وشم الناس الرائحة النتنية رائحة الموت.
وصرخ يسوع بصوت عظيم: «لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجاً» (يو ١١: ٤٣).
«فَخَرَجَ ٱلْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ، وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ» (يو ١١: ٤٤) نعم انتزع المسيح لعازر من بين أنياب الموت وأقامه بعد أن أنتن ولا يستطيع أحد أن يحي العظام وهي رميم سوى الله.
يقول دوايت لايمان مودي: «لو أن الرب يسوع لم يدعُ لعازر باسمه لقام جميع من في القبور من قوة صوت الرب القادر على كل شيء. فإن صوت المسيح قادر على إقامة جميع من في القبور من تراب الموت» (اقرأ يوحنا ٥: ٢٨ و٢٩).
وهنا لا بد من ملاحظة جديرة بالاعتبار وهي أن المسيح لم يقم بعمل معجزة واحدة في حياته لمصلحته الخاصة أو لإنقاذ نفسه من ألم تعرض له، فقد أبى أن يسمع لصوت إبليس ويصنع الحجارة خبزراً ليشبع جوع جسده (اقرأ متى ٤: ١ - ٤)، وأبى أن ينزل عن الصليب ليخلص نفسه من عذابه (اقرأ متى ٢٧: ٣٩ - ٤٣)، فمعجزاته كلها كانت لتطهير أبرص، أو شفاء مريض، أو إغاثة ملهوف أو إعادة البصر إلى أعمى، أو إقامة ميت من قبره. كانت كلها لخير غيره. كانت لإظهار حب الله وحنانه وقدرته التي تستطيع أن تنقذ كل من يلجأ إليه.
ويختتم يوحنا إنجيله بالكلمات: «وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يو ٢٠: ٣٠ و٣١). فأنا أومن أن المسيح هو الله على أساس قدرته لعمل المعجزات.
(٧) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس سلطانه المطلق لغفران الخطايا: لا يستطيع إنسان على الأرض أن يغفر خطايا الناس لأن الله وحده عنده المغفرة، كما تقول كلمات المزمور: «لأَنَّ عِنْدَكَ ٱلْمَغْفِرَةَ. لِكَيْ يُخَافَ مِنْكَ» (مز ١٣٠: ٤) وكما يقول دانيال: «لِلرَّبِّ إِلَهِنَا ٱلْمَرَاحِمُ وَٱلْمَغْفِرَةُ» (دا ٩: ٩)، وكما نقرأ في سفر ميخا «مَنْ هُوَ إِلَهٌ مِثْلُكَ غَافِرٌ ٱلإِثْمَ وَصَافِحٌ عَنِ ٱلذَّنْبِ» (ميخا ٧: ١٨). ويعلن العهد الجديد أن المسيح له السلطان المطلق لغفران خطايا الراجعين إليه، ولهذا فأنا أومن أنه الله.
ذات يوم كان المسيح في كفرناحوم، وسمع الناس أنه في بيت «وَلِلْوَقْتِ ٱجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَسَعُ وَلاَ مَا حَوْلَ ٱلْبَابِ. فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِٱلْكَلِمَةِ» وحيثما وجد المسيح نفوساً تجتمع حوله فإنه يخاطبهم بالكلمة لأنه: «لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللّٰهِ» (مت ٤: ٤).
وهناك «وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجاً يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ ٱلْجَمْعِ، كَشَفُوا ٱلسَّقْفَ حَيْثُ كَانَ» وبعدما نقبوه دلوا السرير الذي كان المفلوج مضطجعاً عليه والذين زاروا فلسطين يدركون أن عملية كشف السقف ونقبه في كثير من بيوتها ليست صعبة، فالسقوف في المباني العادية مبنية من جذوع الشجر المغطاة بطبقة من الخشب الرقيق، عليها طبقة من القطع الخزفية، يمكن رفعها بسهولة، وإنزال ما يريدون إنزاله من بين العروق بالحبال.
«فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ. وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هٰذَا هٰكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ ٱللّٰهُ وَحْدَهُ؟» (مر ٢: ٥ - ٧).
ولو كان المسيح مجرد إنسان لاعتبرناه وهو يغفر خطايا ذلك المفلوج مجدفاً، إذ أن أي إنسان من البشر يدعي أن في قدرته أن يغفر الخطايا يجدف. أجل، أي إنسان مهما كان مركزه الديني يدعى أنه يستطيع أن يحل إنساناً من خطاياه يجدف.
لقد دهشت وأنا أقرأ الفصل الثاني من كتاب «اغتيال» الذي كتبه الكاتب الأمريكي المؤرخ «جون كوترل» عن مصرع كيندي هذه العبارات: «وقبل الساعة الواحدة بدقائق قليلة جاء قسيسان من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية هما الأب أوسكار هيوبر والأب جيمس طومسون ليكونا إلى جوار كيندي وسحب الأب هيوبر الغطاء عن وجه الرئيس، ثم رفع يده اليمنى وقال باللاتينية.. إذا كنت حياً فإنني أحلك من كل لوم وخطايا»
«لأن عندك المغفرة لكي يخاف منك»
ولأن المسيح هو الله فله سلطان الغفران، وقد شعر بروحه أنهم يفكرون في أنفسهم هكذا فقال لهم: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهٰذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱمْشِ؟» (مر ٢: ٨ و٩).
إن غفران الخطايا أصعب جداً من شفاء المرض، لأن الغفران اقتضى أن يموت المسيح على الصليب «لأن أجرة الخطية هي موت» بينما شفاء هذا الرجل من مرضه المستعصي تم بكلمة من بين شفتيه المباركتين.
«َلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا» - قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «لَكَ أَقُولُ قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ». فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ ٱلسَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ ٱلْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ ٱلْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هٰذَا قَطُّ!» (مرقس ٢: ١٠ - ١٢).
لقد شفى المسيح ذلك المفلوج ليؤكد سلطانه لغفران الخطايا، ولا يقدر أحد أن يغفر خطايا إلا الله وحده.
ومرة ثانية يمارس المسيح سلطانه للغفران فقد «سَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ ٱلْفَرِّيسِيِّ وَٱتَّكَأَ. وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ ٱلْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيبِ» (لو ٧: ٣٦ - ٣٨).
وتضايق سمعان الفريسي - مضيف المسيح - أن تدخل بيته امرأة خاطئة فتلوثه بنجاسة حياتها، وسمعتها الرديئة، وتضايق بالأكثر أن يسمح لها المسيح أن تلمسه بيديها وأن تمسح قدميه بشعرها، وتكلم في نفسه قائلاً: «لَوْ كَانَ هٰذَا نَبِيّاً لَعَلِمَ مَنْ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئِةٌ» (لو ٧: ٣٩).
وعرف فاحص القلوب أفكار قلب سمعان، وأراد أن يظهر له شر بره الذاتي فقال له: «يَا سِمْعَانُ عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ. فَقَالَ: قُلْ يَا مُعَلِّمُ. كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى ٱلْوَاحِدِ خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى ٱلآخَرِ خَمْسُونَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعاً. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبّاً لَهُ؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ: أَظُنُّ ٱلَّذِي سَامَحَهُ بِٱلأَكْثَرِ» (لو ٧: ٤٠ - ٤٣).
وهنا قام الرب بمقارنة بين سمعان الفريسي المتكل على بره الذاتي، وبين المرأة الخاطئة التي عزمت أن تتوب توبة حقيقية. فقال لسمعان: «بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ. ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِٱلدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِٱلطِّيبِ رِجْلَيَّ» (لو ٧: ٤٣ - ٤٦).
ثم قال للمرأة: «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ» (لو ٧: ٤٨).
«فَٱبْتَدَأَ ٱلْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضاً؟» (لو ٧: ٤٩).
ولم يعتذر المسيح، ولم يتراجع إنه «الله الابن» الذي له سلطان الغفران.
«لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ» (يو ٥: ٢٢).
لقد أكد المسيح سلطانه المطلق لغفران الخطايا، وعلى أساس هذا السلطان أنا أومن أن المسيح هو الله.
(٨) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس طلبه الولاء المطلق من الذين يريدون أن يتبعوه: لم يجرؤ نبي أن يطلب الولاء المطلق من أتباعه لشخصه.
لم يطلب موسى النبي الولاء لنفسه من شعب إسرائيل، لكنه قال لهم: «يُقِيمُ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ. حَسَبَ كُلِّ مَا طَلَبْتَ مِنَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكَ فِي حُورِيبَ يَوْمَ ٱلاجْتِمَاعِ قَائِلاً: لاَ أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِي وَلاَ أَرَى هٰذِهِ ٱلنَّارَ ٱلْعَظِيمَةَ أَيْضاً لِئَلاَّ أَمُوتَ قَالَ لِيَ ٱلرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلَّمُوا. أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِٱسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ» (تث ١٨: ١٥ - ١٩).
وقد أكد استفانوس في خطابه لليهود أن موسى كان يشير بهذه النبوة إلى شخص المسيح (اقرأ أع ٧: ٣٧) فموسى لم يطلب لنفسه الولاء لأنه إنسان، لكنه أشار إلى ذاك النبي الآتي.. إلى شخص المسيح الذي يستحق كل ولاء لأنه ابن الله الذي قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اَللّٰهُ كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ» (عب ١: ١ و٢).
وإيليا النبي حين تحدى أنبياء البعل وصلى فوق جبل الكرمل لم يطلب الولاء لنفسه بل قال: «أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ، لِيُعْلَمِ ٱلْيَوْمَ أَنَّكَ أَنْتَ ٱللّٰهُ فِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ، وَبِأَمْرِكَ قَدْ فَعَلْتُ كُلَّ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ. ٱسْتَجِبْنِي يَا رَبُّ ٱسْتَجِبْنِي، لِيَعْلَمَ هٰذَا ٱلشَّعْبُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ» (١ ملوك ١٨: ٣٦ و٣٧).
ولكننا نرى أن المسيح يطالب تابعيه بالولاء المطلق لشخصه، ولو لم يكن هو «الله الابن» لكانه طلبه تعدياً صريحاً على حقوق الله.
- اصغ إليه وهو يطالب بتكريس كل الحب لشخصه قائلاً: «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (مت ١٠: ٣٧ - ٣٩).
إنه يطالب في كلماته هذه بأن نحبه أكثر من الأب والأم، والابن والابنة، وأن نتبعه حتى الموت حاملين الصليب، وأن نضيع حياتنا من أجله وفي خدمته.
أيمكن أن تكون هذه المطاليب من مجرد إنسان؟
يقيناً لا.
- ثم اصغ إليه وهو يطالب من يريد أن يأتي وراءه بإنكار ذاته وحمل الصليب ولسير وراءه فيقول: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (مت ١٦: ٢٤ و٢٥).
وقد جاءت هذه الكلمات بعد اعتراف بطرس للمسيح بأنه «ابن الله الحي».
أجل لقد طلب إنكار الذات، وحمل الصليب، وإهلاك النفس من أجله.. فلو لم يكن هو الله المتجسد فبأي حق يطلب كل هذه التضحيات وهذا الولاء؟!
- وأخيراً اصغ إليه وهو يطالب ببغضة كل من له علاقة قوية بنا من أجله. إنه يطالب بتركنا لكل أموالنا في سبيله: «وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. فَكَذٰلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لو ١٤: ٢٥ - ٢٧ و٣٣).
إن المسيح يطالبنا بأن نحبه أكثر من محبتنا لأي شخص آخر في هذا الوجود، مهما كانت علاقة القربى التي تربطنا به.. يطالبنا بأن نتألم لأجله حتى الموت.. يطالبنا بالتضحية بكل أموالنا من أجله. بأن نبغض حتى أنفسنا في سبيله.
إنه يقيناً ليس مجرد إنسان. إنه ابن الله والله الابن. إنه المستحق كل ولاء، وهو لم يقبل قط أن يتبعه الناس بسبب مصالحهم الشخصية، أو أهدافهم المادية.
ذات يوم أطعم الجماهير الجائعة من خمسة أرغفة وسمكتين، فقال الناس بعد أن أكلوا: «إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم».
وعلم المسيح أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، فانصرف إلى الجبل وحده. وبحث الناس عنه حتى وجدوه. ولما وجدوه قالوا له: «يَا مُعَلِّمُ، مَتَى صِرْتَ هُنَا؟» أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ. اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ ٱلْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ ٱلْبَاقِي لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلَّذِي يُعْطِيكُمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّ هٰذَا ٱللّٰهُ ٱلآبُ قَدْ خَتَمَهُ» (يو ٦: ٢٦ و٢٧).
لقد طالب المسيح أتباعه بالولاء المطلق له، وعلى أساس قانونية مطاليبه فأنا أومن أن المسيح هو الله.
(٩) إنني أومن بأن المسيح هو الله على أساس قبوله السجود والعبادة من البشر والملائكة: ينادي الله شعبه القديم في مزمور لآساف قائلاً: «اِسْمَعْ يَا شَعْبِي فَأُحَذِّرَكَ. يَا إِسْرَائِيلُ، إِنْ سَمِعْتَ لِي. لاَ يَكُنْ فِيكَ إِلٰهٌ غَرِيبٌ، وَلاَ تَسْجُدْ لإِلٰهٍ أَجْنَبِيٍّ» (مز ٨١: ٨ و٩). فلو كان المسيح مجرد إنسان وقبل السجود لكان أعظم مضل ظهر على وجه الأرض.. لكان إلهاً أجنبياً. لكن إذا كان هو ابن الله، والله الابن المساوي للآب فهو يستحق السجود والعبادة.
ولقد قبل المسيح السجود والعبادة، بينما رفض رسله القديسون كما رفض الملائكة أي سجود.
فبطرس الرسول عندما دخل قيصرية استقبله كرنيليوس وسجد واقعاً على قدميه فلم يقبل بطرس هذا السجود كما نقرأ في الكلمات: «وَسَجَدَ وَاقِعاً عَلَى قَدَمَيْهِ. فَأَقَامَهُ بُطْرُسُ قَائِلاً: قُمْ، أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ» (أع ١٠: ٢٥ و٢٦).
وبولس وبرنابا رفضا عبادة الناس لهما، وتعرض بولس من جراء رفضه هذا للرجم، وقد ذكرت القصة بالكلمات «وَكَانَ يَجْلِسُ فِي لِسْتِرَةَ رَجُلٌ عَاجِزُ ٱلرِّجْلَيْنِ مُقْعَدٌ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَلَمْ يَمْشِ قَطُّ. هٰذَا كَانَ يَسْمَعُ بُولُسَ يَتَكَلَّمُ، فَشَخَصَ إِلَيْهِ، وَإِذْ رَأَى أَنَّ لَهُ إِيمَاناً لِيُشْفَى قَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: قُمْ عَلَى رِجْلَيْكَ مُنْتَصِباً. فَوَثَبَ وَصَارَ يَمْشِي. فَٱلْجُمُوعُ لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ بُولُسُ، رَفَعُوا صَوْتَهُمْ بِلُغَةِ لِيكَأُونِيَّةَ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا. فَكَانُوا يَدْعُونَ بَرْنَابَا «زَفْسَ» وَبُولُسَ «هَرْمَسَ» إِذْ كَانَ هُوَ ٱلْمُتَقَدِّمَ فِي ٱلْكَلاَمِ. فَأَتَى كَاهِنُ زَفْسَ ٱلَّذِي كَانَ قُدَّامَ ٱلْمَدِينَةِ بِثِيرَانٍ وَأَكَالِيلَ عِنْدَ ٱلأَبْوَابِ مَعَ ٱلْجُمُوعِ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ. فَلَمَّا سَمِعَ ٱلرَّسُولاَنِ، بَرْنَابَا وَبُولُسُ، مَّزَقَا ثِيَابَهُمَا، وَٱنْدَفَعَا إِلَى ٱلْجَمْعِ صَارِخَيْنِ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، لِمَاذَا تَفْعَلُونَ هٰذَا؟ نَحْنُ أَيْضاً بَشَرٌ تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُمْ، نُبَشِّرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هٰذِهِ ٱلأَبَاطِيلِ إِلَى ٱلإِلٰهِ ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاءَ وَٱلأَرْضَ وَٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، ٱلَّذِي فِي ٱلأَجْيَالِ ٱلْمَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ ٱلأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ - مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ - وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً، يُعْطِينَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً. وَبِقَوْلِهِمَا هٰذَا كَفَّا ٱلْجُمُوعَ بِٱلْجَهْدِ عَنْ أَنْ يَذْبَحُوا لَهُمَا. ثُمَّ أَتَى يَهُودٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَةَ وَأَقْنَعُوا ٱلْجُمُوعَ، فَرَجَمُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ» (أع ١٤: ٨ - ١٩).
لقد رفض بولس وبرنابا عبادة البشر، ومن عجب أن الناس الذين كانوا على وشك تقديم الذبائح لبولس باعتباره إلهاً متجسداً رجموه حتى ظنوه مات.
والملائكة أيضاً رفضوا سجود الناس: ففي الأصحاح الأخير من سفر رؤيا يوحنا نقرأ «وَأَنَا يُوحَنَّا ٱلَّذِي كَانَ يَنْظُرُ وَيَسْمَعُ هٰذَا. وَحِينَ سَمِعْتُ وَنَظَرْتُ، خَرَرْتُ لأَسْجُدَ أَمَامَ رِجْلَيِ ٱلْمَلاَكِ ٱلَّذِي كَانَ يُرِينِي هٰذَا. فَقَالَ لِيَ: ٱنْظُرْ لاَ تَفْعَلْ! لأَنِّي عَبْدٌ مَعَكَ وَمَعَ إِخْوَتِكَ ٱلأَنْبِيَاءِ، وَٱلَّذِينَ يَحْفَظُونَ أَقْوَالَ هٰذَا ٱلْكِتَابِ. ٱسْجُدْ لِلّٰه» (رؤ ٢٢: ٨ و٩).
أما المسيح له المجد فقد قبل السجود، لأنه ابن الله الذي تسجد له الملائكة والبشر.
فعندما أعاد البصر للمولود أعمى وطرده اليهود من مجمعهم بسبب اعترافه بقوة المسيح «فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟ أَجَابَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ. فَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ. وَسَجَدَ لَهُ» (يو ٩: ٣٥ - ٣٨).
وقبل المسيح السجود منه.
وفي إنجيل متى نرى المسيح ماشياً على الماء في قلب العاصفة الهوجاء، ونسمعه يأمر بطرس بالمجيء إليه، ثم ينقذه من الغرق حين يدخل الشك قلبه. ثم نقرأ الكلمات «وَلَمَّا دَخَلاَ ٱلسَّفِينَةَ سَكَنَتِ ٱلرِّيحُ. وَٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: بِٱلْحَقِيقَةِ أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ!» (مت ١٤: ٣٢ و٣٣).
وقبل المسيح السجود من تلاميذه.
وفي إنجيل لوقا نقرأ: «وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ» (لو ٢٤: ٥٠ - ٥٢).
وقبل المسيح السجود من الملائكة.
ويسجل كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن سجود الملائكة للمسيح الكلمات: «وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ» (عب ١: ٦).
وأخيراً يسجل يوحنا صورة رائعة لسجود سكان السماء للمسيح وعبادتهم له بالكلمات: «وَلَمَّا أَخَذَ ٱلسِّفْرَ خَرَّتِ ٱلأَرْبَعَةُ ٱلْحَيَوَانَاتُ وَٱلأَرْبَعَةُ وَٱلْعِشْرُونَ شَيْخاً أَمَامَ ٱلْحَمَلِ (الذي يشير إلى المسيح الذبيح) وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُّوَةٌ بَخُوراً هِيَ صَلَوَاتُ ٱلْقِدِّيسِينَ. وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلٰهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ حَوْلَ ٱلْعَرْشِ وَٱلْحَيَوَانَاتِ وَٱلشُّيُوخِ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ، قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: مُسْتَحِقٌّ هُوَ ٱلْحَمَلُ ٱلْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ ٱلْقُدْرَةَ وَٱلْغِنَى وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلْقُّوَةَ وَٱلْكَرَامَةَ وَٱلْمَجْدَ وَٱلْبَرَكَةَ. وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ وَتَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَمَا عَلَى ٱلْبَحْرِ، كُلُّ مَا فِيهَا، سَمِعْتُهَا قَائِلَةً: لِلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ ٱلْبَرَكَةُ وَٱلْكَرَامَةُ وَٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. وَكَانَتِ ٱلْحَيَوَانَاتُ ٱلأَرْبَعَةُ تَقُولُ: آمِينَ. وَٱلشُّيُوخُ ٱلأَرْبَعَةُ وَٱلْعِشْرُونَ خَرُّوا وَسَجَدُوا لِلْحَيِّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤ ٥: ٨ - ١٤).
ومن هو الحي إلى أبد الآبدين الذي يعبده ويسجد له سكان السماء؟ إنه الرب يسوع المسيح الذي قال عن نفسه: «َهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤ ١: ١٨).
لقد قبل المسيح السجود والعبادة من البشر والملائكة وسكان السماء، وعلى هذا الأساس أنا أومن أن الله الابن «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (مت ٤: ١٠).
(١٠) أنا أومن أن المسيح هو الله على أساس تصريحاته الصادقة عن نفسه: يحتفظ لنا التاريخ بقصة عن رجل من رجال الله زار شخصاً من العصريين الذين ينكرون لاهوت الرب يسوع المسيح، وكان الرجل على فراش المرض، وأراد رجل الله أن يقدم لذلك الشخص المسكين ابن الله المخلص من الخطية، ودارت بينهما المناقشة الآتية:
رجل الله: ماذا تظن في المسيح؟
الرجل العصري: في اعتقادي أن المسيح كان إنساناً أميناً ومعلماً صادقاً. لكنه ليس أكثر من ذلك.
- إذاً كان المسيح معلماً صادقاً كما تعتقد، فهل تظن أن مثل هذا المعلم يكذب؟
- المعلم الصادق لا يكذب.. وأعتقد أن المسيح لم يكذب قط.
- إذاً دعني أقرأ لك بعض ما قاله المسيح عن نفسه.
وفتح رجل الله الكتاب المقدس وشرع يقرأ هذه الآيات:
- «لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ» (يو ٨: ٢٤). وتعود بنا العبارة «أنا هو» إلى سفر إشعياء حيث نقرأ «اِسْمَعْ لِي يَا يَعْقُوبُ. وَإِسْرَائِيلُ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُ. أَنَا هُوَ. أَنَا ٱلأَوَّلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ، وَيَدِي أَسَّسَتِ ٱلأَرْضَ وَيَمِينِي نَشَرَتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (إش ٤٨: ١٢ و١٣).
- «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يو ١٠: ٢٧ - ٣٠).
- «لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ فَآمِنُوا بِي... لَو كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ ٱلآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ. قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا ٱلآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ؟ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لٰكِنَّ ٱلآبَ ٱلْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ ٱلأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ ٱلأَعْمَالِ نَفْسِهَا» (يو ١٤: ١ و٧ - ١١).
وكأن الرب يسوع يقول بكلماته الصريحة. إن كلامي هو كلام الآب.. إن أعمالي هي أعمال الآب.. وأعمالي خير دليل على لاهوتي.
- ثم يصرح المسيح عن نفسه بهذه التصريحات:
«أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَداً» (يو ٦: ٣٥).
«أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يو ٨: ١٢).
«أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (يو ١٠: ٩).
«أَنَا هُوَ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ» (يو ١٠: ١١).
«أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يو ١١: ٢٥).
«أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (يو ١٤: ٦).
«أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يو ١٠: ٣٠).
ولايمكن لواحد من البشر أن يدعي لنفسه هذه الأوصاف الفائقة، إلا إذا كان مجدفاً من طراز فريد، أو مضلاً من طراز فريد.. أو إذا كان هو «ابن الله» بالحق والمحبة.
وتابع رجل الله حديثه للرجل العصري قائلاً: وبحسب اعتقادك أن المسيح معلم صادق. فتصريحاته الصادقة تؤكد لاهوته.
فلما سمع الرجل العصري شهادة كلمة الله قبل المسيح مخلصاً وتجدد ونال غفراناً لخطاياه.
أجل مَن من البشر يستطيع أن يقف وسط هذا العالم المظلم قائلاً: «أنا هو نور العالم»؟ لا أحد! لأن الكتاب يقول «إِذْ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رو ٣: ٢٣). الله وحده هو نور السموات والأرض، فإذا قال المسيح عن نفسه أنا هو نور العالم فهذا يعني يقيناً أنه الله.
ولقد قال المسيح ما هو أكثر من ذلك إذ فتح ذراعيه للمتعبين والمثقلين بأوزار الإثم، وأثقال الحياة قائلاً: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (مت ١١: ٢٨).
في سفر دانيال نقرأ عن مؤامرة قام بها الوزراء في مملكة داريوس ضد دانيال بسبب تفوقه عليهم، فقد رأوا أن دانيال متمسك بشرعية إلهه، فأرادوا أن يقضوا عليه عن طريق أمانته وطاعته لهذا الإله.
والآن تعال معي لنقرأ تفاصيل القصة في الكلمات:
«حِينَئِذٍ ٱجْتَمَعَ هَؤُلاَءِ ٱلْوُزَرَاءُ وَٱلْمَرَازِبَةُ عِنْدَ ٱلْمَلِكِ وَقَالُوا لَهُ: «أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ دَارِيُوسُ، عِشْ إِلَى ٱلأَبَدِ! إِنَّ جَمِيعَ وُزَرَاءِ ٱلْمَمْلَكَةِ وَٱلشِّحَنِ وَٱلْمَرَازِبَةِ وَٱلْمُشِيرِينَ وَٱلْوُلاَةِ قَدْ تَشَاوَرُوا عَلَى أَنْ يَضَعُوا أَمْراً مَلَكِيّاً وَيُشَدِّدُوا نَهْياً، بِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَطْلُبُ طِلْبَةً حَتَّى ثَلاَثِينَ يَوْماً مِنْ إِلَهٍ أَوْ إِنْسَانٍ إِلاَّ مِنْكَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، يُطْرَحُ فِي جُبِّ ٱلأُسُودِ. فَثَبِّتِ ٱلآنَ ٱلنَّهْيَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، وَأَمْضِ ٱلْكِتَابَةَ لِكَيْ لاَ تَتَغَيَّرَ كَشَرِيعَةِ مَادِي وَفَارِسَ ٱلَّتِي لاَ تُنْسَخُ». لأَجْلِ ذَلِكَ أَمْضَى ٱلْمَلِكُ دَارِيُوسُ ٱلْكِتَابَةَ وَٱلنَّهْيَ» (دا ٦: ٦ - ٩).
مسكين هذا الملك.. خدعه مشيروه.. فأوقف نفسه في موقف أكبر من قدرته.. أرادوا أن يجعلوا منه إلهاً لمدة ثلاثين يوماً، فأظهرت هذه المدة القصيرة أنه إنسان عاجز، ضعيف.
لكن هل يستطيع ملك - مهما بلغت عظمته - أن يكون إلهاً لمدة ثلاثين يوماً يستمع فيها إلى أنات المرضى وصرخات المظلومين.. وتوسلات المتضايقين؟
كلا. إن الملك «داريوس» لن يستطيع ومن ذا الذي يستطيع ذلك إلا الله القادر على كل شيء؟
ولم يعبأ «دانيال» الشاب الأمين لله، بأمر الملك.. أدرك أن الملك وقع فريسة في أيدي وزرائه ومشيريه.. ورفض أن يرفع طلباته إلى الملك خلال ثلاثين يوماً.. رفض أن يصلي إليه.
ولا شك أن أسئلة كثيرة ملأت رأس دانيال: هل يستطيع الملك إذا طلبت منه أن يريحني من آلامي الجسدية؟ أن يريحني في أزماتي النفسية؟ أن يشبع احتياجاتي الروحية؟ وهل يستطيع أن يستمع إلى طلبات الملايين من شعبه في وقت واحد؟ يقيناً أنه ملك مخدوع.. واحد فقط أرفع إليه الصلاة. هو الله الذي قال عنه داود «يَا سَامِعَ ٱلصَّلاَةِ، إِلَيْكَ يَأْتِي كُلُّ بَشَرٍ» (مز ٦٥: ٢).
وأعلن دانيال تحديه العلني لأمر الملك.
«فَلَمَّا عَلِمَ دَانِيآلُ بِإِمْضَاءِ ٱلْكِتَابَةِ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِهِ، وَكُواهُ مَفْتُوحَةٌ فِي عُلِّيَّتِهِ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ، وَصَلَّى وَحَمَدَ قُدَّامَ إِلَهِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَ ذَلِكَ» (دا ٦: ١٠).
وهنا كشف المتآمرون عن نواياهم.
«فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْمَلِكُ هَذَا ٱلْكَلاَمَ ٱغْتَاظَ عَلَى نَفْسِهِ جِدّاً، وَجَعَلَ قَلْبَهُ عَلَى دَانِيآلَ لِيُنَجِّيَهُ، وَٱجْتَهَدَ إِلَى غُرُوبِ ٱلشَّمْسِ لِيُنْقِذَهُ» (دا ٦: ١٤).
إيه أيها الملك. ها أنت قد وقعت في الفخ الذي نصبه لك وزراؤك واكتشفت الخدعة الكبرى التي خدعك بها مشيروك.. وها هو دانيال أحد أفراد دولتك العظمى في خطر الموت.. وها أنت عاجز عن إنقاذه.. فكيف تصورت أن تجيب طلبات المحتاجين والمتضايقين والمتألمين في أمبراطوريتك المترامية الأطراف؟
وأوقف الوزراء الملك الذي «ألهّوه» موقفاً حرجاً فاجتمع أولئك الرجال إلى الملك وقالوا للملك اعلم أيها الملك أن شريعة مادي وفارس هي أن كل نهي أو أمر يضعه الملك لا يتغير.
وعجز «الملك الإله» عن إنقاذ دانيال من براثن أعدائه.
«حِينَئِذٍ أَمَرَ ٱلْمَلِكُ فَأَحْضَرُوا دَانِيآلَ وَطَرَحُوهُ فِي جُبِّ ٱلأُسُودِ. وَقَالَ ٱلْمَلِكُ لِدَانِيآلَ: «إِنَّ إِلَهَكَ ٱلَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِماً هُوَ يُنَجِّيكَ». وَأُتِيَ بِحَجَرٍ وَوُضِعَ عَلَى فَمِ ٱلْجُبِّ وَخَتَمَهُ ٱلْمَلِكُ بِخَاتِمِهِ وَخَاتِمِ عُظَمَائِهِ، لِئَلاَّ يَتَغَيَّرَ ٱلْقَصْدُ فِي دَانِيآلَ» (دا ٦: ١٦ و١٧).
وتعال معي لترى «الملك الإله» وترثي له.
«حِينَئِذٍ مَضَى ٱلْمَلِكُ إِلَى قَصْرِهِ وَبَاتَ صَائِماً، وَلَمْ يُؤْتَ قُدَّامَهُ بِسَرَارِيهِ وَطَارَ عَنْهُ نَوْمُهُ. ثُمَّ قَامَ ٱلْمَلِكُ بَاكِراً عِنْدَ ٱلْفَجْرِ وَذَهَبَ مُسْرِعاً إِلَى جُبِّ ٱلأُسُودِ. فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى ٱلْجُبِّ نَادَى دَانِيآلَ بِصَوْتٍ أَسِيفٍ: يَا دَانِيآلُ عَبْدَ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، هَلْ إِلَهُكَ ٱلَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِماً قَدِرَ عَلَى أَنْ يُنَجِّيَكَ مِنَ ٱلأُسُودِ؟ فَتَكَلَّمَ دَانِيآلُ مَعَ ٱلْمَلِكِ: يَا أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، عِشْ إِلَى ٱلأَبَدِ! إِلَهِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَسَدَّ أَفْوَاهَ ٱلأُسُودِ فَلَمْ تَضُرَّنِي، لأَنِّي وُجِدْتُ بَرِيئاً قُدَّامَهُ وَقُدَّامَكَ أَيْضاً أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ. لَمْ أَفْعَلْ ذَنْباً» (دا ٦: ١٨ - ٢٢).
لقد ثبت عجز البشر عجزاً تاماً.. حتى ولو كانوا ملوكاً.. في إراحة المتعبين.
أما الرب يسوع المسيح فيقف في قدرة لاهوته قائلاً «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم».
ويقيناً.
لو أن الاسكندر في أيام أبهته نطق بهذه الكلمات لأصبح أضحوكة.
ولو قالها نابليون في أيام جبروته لأضحى سخرية. ولو قالها هتلر في أيام مجده لصار هزءاً.
ذلك لأن أحداً من البشر لا يقدر أن يريح المتعبين والثقيلي الأحمال.
أما المسيح الرب فهو ينادي كل متعب بكلماته الرقيقة قائلاً:
تعال ضع يا أيها المتعب
ضع رأسك
ضعه على صدري وفي قربي
أرح نفسك
إنه يقول: أيها المتعب بالهموم والأحزان. أيها المثقل بالأوزار والآثام. تعال إليّ وأنا أريحك.
وكل الذين ذهبوا إليه بأتعابهم وأثقالهم.. أراحهم.
أجل.. فقد أراح السامرية من ثقل ماضيها الأسود الأثيم، وأراح زكا رئيس جباة الضرائب من ثقل ظلمه الأثيم وأراح نازفة الدم من مرضها المستعصي، وأراح توما من الشك الذي أقض مضجعه وما زال إلى اليوم يريح المتعبين.
كما قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين «يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْساً وَٱلْيَوْمَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ» (عب ١٣: ٨).
ومع كل ما تقدم فقد صرح المسيح عن نفسه بعد صعوده إلى السماء لعبده يوحنا قائلاً: «أَنَا هُوَ ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ. ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ» (رؤ ١: ١١).
«أَنَا هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ، وَٱلْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتاً وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ ٱلْهَاوِيَةِ وَٱلْمَوْتِ» (رؤ ١: ١٧ و١٨).
«أَنَا ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ، ٱلْبِدَايَةُ وَٱلنِّهَايَةُ، ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ» (رؤ ٢٢: ١٣).
وعلى أساس تصريحات المسيح الصادقة عن نفسه فأنا أومن أنه «الله».
(١١) أنا أومن أن المسيح هو الله على أساس قيامته الفريدة من بين الأموات: لقد أقام الرب يسوع المسيح أثناء وجوده بالجسد على الأرض ثلاثة أشخاص.
أقام ابنة «يايرس» أحد رؤساء المجمع، ذلك الرجل الذي جاء «وَلَمَّا رَآهُ خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً قَائِلاً: ٱبْنَتِي ٱلصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا» (مر ٥: ٢٢ و٢٣). ولما وصل المسيح إلى بيت يايرس كانت الفتاة قد فارقت الحياة لكن الرب «أَمْسَكَ بِيَدِ ٱلصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: طَلِيثَا، قُومِي. (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ قُومِي). وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ ٱلصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ، لأَنَّهَا كَانَتِ ٱبْنَةَ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتاً عَظِيماً» (مر ٥: ٤١ و٤٢).
وأقام شاباً وحيداً لأمه الأرملة في مدينة نايين نقرأ عنه الكلمات: «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي ذَهَبَ إِلَى مَدِينَةٍ تُدْعَى نَايِينَ، وَذَهَبَ مَعَهُ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ. فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى بَابِ ٱلْمَدِينَةِ، إِذَا مَيْتٌ مَحْمُولٌ ٱبْنٌ وَحِيدٌ لأُمِّهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ. فَلَمَّا رَآهَا ٱلرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: لاَ تَبْكِي. ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ، فَوَقَفَ ٱلْحَامِلُونَ. فَقَالَ: أَيُّهَا ٱلشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ قُمْ. فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ وَٱبْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ. فَأَخَذَ ٱلْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ شَعْبَهُ» (لو ٧: ١١ - ١٦).
وأقام لعازر من بيت عنيا بعد أن أنتن (يو ١١).
وفي هذه الصور الثلاث نتلقى أثمن الدروس، فالصبية ابنة يايرس أقامها الرب بعد موتها مباشرة والشاب ابن الأرملة كان قد مات منذ وقت وكانوا في طريقهم لدفنه، والرجل لعازر كان قد دفن منذ أربعة أيام ودب الفساد في جسده.
ثلاث صور للموت: فتاة صغيرة.. وشاب.. ورجل كامل الرجولة.
والموت هو صورة مجسمة للخطية، وهؤلاء الموتى هم نماذج للخطاة.
- فالفتاة كانت قد ماتت في تلك اللحظة ولم تظهر عليها بعد أية علامة من علامات التعفن والفساد. كان جسدها ما زال حاراً، ولم تجف بعد قطرات العرق من فوق جبينها. إنها ترينا صورة للخاطئ المؤدب المتدين.. فهذا الشخص لا تظهر عليه أية آثار خارجية للموت الذي يكمن داخله. وإذا أخذنا بالمظهر الخارجي وحده خيل إلينا أن هذا الخاطئ ليس ميتاً، لأن حياته الأدبية والدينية تبدو في صورة حسنة، تماماً كصورة الذين يعترفون بأنهم أحياء في المسيح وأحياناً أفضل.. ولكن الفتاة كانت ميتة رغم كل مظهر.. وكانت تحتاج إلى المسيح ليقيمها من الموت.
- وشاب نايين يصور لنا درجة مختلفة لمظاهر الموت الخارجية فهذا الشاب مات ربما منذ يوم أو يومين. لقد تقلص جلده، وغارت عيناه، وسرت البرودة في جسده.. إن كل علامات الموت قد ظهرت عليه، بعكس صورة الفتاة الصغيرة التي ماتت قبل أن يصل المسيح بدقائق.. ولكن الحقيقة: أن هذه الفتاة الصغيرة كانت ميتة تماماً كذلك الشاب، مع أن مظهرها لم يكن يدل على ذلك.. فهل لاحظت الدرس هنا.. إن الشاب يرينا صورة الخاطئ الذي لفظه المجتمع وبدأ في إخراجه بعيداً عنه كشخص غير جدير بالحياة فيه.
- ولكن الميت الثالث هو لعازر، لقد دفن وأنتن. صارت رائحته كريهة، وها هو في قلب الأرض ينهشه الدود، وهذه صورة للخاطئ الذي حطم كل القيود والقوانين والمثل العليا، وتدهور حتى وصل إلى الجريمة والانحلال الخلقي الظاهر، حتى اضطر المجتمع إلى عزله وسجنه، وتقييد حريته لأنه خطر عليه.
ولكن التفت إلى هذه الحقيقة، فمع أن هناك اختلافاً كبيراً في مظهر الموت في هذه الحالات الثلاث، ولكننا لا نجد فرقاً في درجة الموت فيها. فالفرق موجود في المظهر فقط، ولكن الثلاثة كانوا أمواتاً كل واحد كالآخر، وبعد شهور قليلة لن يكون بإمكانك التفريق بينهم من حيث المظهر كذلك.
وهذا ما قاله الله عن البشر، «لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رو ٣: ٢٢ و٢٣). والناس قد يختلفون في درجات مظاهر الخطية والشر من الخارج، ولكن الناس جميعاً بدون المسيح أموات على مستوى واحد، المؤدب والمتدين.. كالخليع والخائن.. كما يقول بولس الرسول «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا» (أف ٢: ١) الكل يحتاجون أن يعودوا إلى الحياة بالمسيح.
وفي كل حالة من حالات الموت هذه، لم يكن هناك سوى واحد فقط هو الذي في قدرته الإنقاذ من الموت هو المسيح الرب.
وفي كل حالة قام الميت من الموت بكلمة الرب.
فقد قال للفتاة الصغيرة: «طَلِيثَا، قُومِي» (مر ٥: ٤١).
وقال للشاب في نايين: «أيها الشاب لك أقول قم» (لو ٧: ١٤).
وقال للعازر: «لعازر هلم خارجاً» (يو ١١: ٤٣).
وفي كل حالة حدثت القيامة بكلمة الله، لأن الذي تكلم هو «ابن الله» و «الله الابن» لقد قام هؤلاء الثلاثة بقوة رب الحياة، ومعطي الحياة، ولكنهم ماتوا ثانية بحكم فساد طبيعتهم وابتلعهم القبر من جديد.
تماماً كما عاد إلى الموت ابن الأرملة الذي أقامه إيليا بالصراخ للرب، وابن المرأة الشونمية الذي أقامه إليشع بالصلاة للرب.
أما الرب يسوع المسيح فقد قام من الأموات بصورة فريدة لم يسبقه إليها غيره، وهو لن يموت أيضاً ولن يسود عليه الموت بعد كما قال بولس الرسول: «عَالِمِينَ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لاَ يَمُوتُ أَيْضاً. لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ ٱلْمَوْتُ بَعْدُ» (رو ٦: ٩).
وهناك عدة حقائق تتعلق بقيامة المسيح الفريدة:
وأول حقيقة هي أن جسد المسيح لم يتعفن بعد موته:
وهذه الحقيقة يقررها بطرس الرسول في كلماته: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ ٱسْمَعُوا هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ: يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ بِقُّوَاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا ٱللّٰهُ بِيَدِهِ فِي وَسَطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ. هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. اَلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ نَاقِضاً أَوْجَاعَ ٱلْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ. لأَنَّ دَاوُدَ يَقُولُ فِيهِ: كُنْتُ أَرَى ٱلرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ، أَنَّهُ عَنْ يَمِينِي، لِكَيْ لاَ أَتَزَعْزَعَ. لِذٰلِكَ سُرَّ قَلْبِي وَتَهَلَّلَ لِسَانِي. حَتَّى جَسَدِي أَيْضاً سَيَسْكُنُ عَلَى رَجَاءٍ. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً. عَرَّفْتَنِي سُبُلَ ٱلْحَيَاةِ وَسَتَمْلأُنِي سُرُوراً مَعَ وَجْهِكَ» (أع ٢: ٢٢ - ٢٨).
ويتابع بطرس الرسول كلماته مقرراً أن هذه النبوة ليست عن داود شخصياً، وإنما عن المسيح الذي جاء من نسل داود فيقول: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ جِهَاراً عَنْ رَئِيسِ ٱلآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ، وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. فَإِذْ كَانَ نَبِيّاً، وَعَلِمَ أَنَّ ٱللّٰهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً. فَيَسُوعُ هٰذَا أَقَامَهُ ٱللّٰهُ، وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذٰلِكَ. وَإِذِ ٱرْتَفَعَ بِيَمِينِ ٱللّٰهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنَ ٱلآبِ، سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ. لأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. وَهُوَ نَفْسُهُ يَقُولُ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي، ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ ٱللّٰهَ جَعَلَ يَسُوعَ هٰذَا، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبّاً وَمَسِيحاً» (أع ٢: ٢٩ - ٣٦).
إن هذه العبارات تؤكد في وضوح لا غموض فيه أن جسد المسيح لم ير فساداً، لم يتعفن كما تتعفن أجساد البشر أجمعين. لقد بقي في كل بهائه وجماله. لأنه خلا من كل عناصر الخطية.
الحقيقة الثانية هي أن الثالوث الأقدس قد اشترك في قيامة المسيح.
- فالآب قد أقام المسيح كما قال بطرس الرسول: «فيسوع هذا أقامه الله» (أع ٢: ٢٤).
- والمسيح قد أقام نفسه، وهذا الحق واضح في كلماته: «فَسَأَلَهُ ٱلْيَهُودُ: «أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هٰذَا؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ». فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: «فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هٰذَا ٱلْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟» وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. فَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هٰذَا، فَآمَنُوا بِٱلْكِتَابِ وَٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ» (يو ٢: ١٨ - ٢٢).
لقد أعلن المسيح عن قدرته في إقامه جسده من بين الأموات، وأكد هذا بكلماته «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يو ١٠: ١٧ و١٨).
- والروح القدس قد أقام المسيح كما قال بولس الرسول: «بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْمَدْعُّوُ رَسُولاً، ٱلْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي ٱلْكُتُبِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ٱبْنِهِ. ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُّوَةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (رو ١: ١ - ٤). وكلمة «تعين» معناها «ظهر بالدليل الواضح» دليل القيامة من الأموات أنه «ابن الله» كما ظهر أن روح القداسة أو الروح القدوس قد اشترك في قيامته.
فالثالوث الأقدس «الآب والابن والروح القدس» قد اشترك في قيامة المسيح من بين الأموات.
الحقيقة الثالثة أن المسيح عندما قام خرج من قبره وهو مغلق: إن كثيرين يتصورون أن ملاك السماء جاء ودحرج الحجر عن باب القبر ليساعد المسيح على الخروج منه، وهذا تصور خاطئ، لقد قام المسيح وخرج من القبر وهو مغلق، ثم جاء الملاك ودحرج الحجر وقال للمرأتين - مريم المجدلية ومريم الأخرى - «لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا ٱنْظُرَا ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ ٱلرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ» (مت ٢٨: ٦). لقد خرج الرب من القبر وهو مغلق. خرج متحدياً أختام الأمبراطورية الرومانية وقوتها العسكرية. تماماً كما دخل إلى العلية التي في أورشليم والأبواب مغلقة (يو ٢٠: ١٩ - ٢٩). ولقد كانت قيامة المسيح هي الدليل الساطع على نصرة الحق على الباطل، والنور على الظلام وإله السلام على إله هذا العالم الأثيم.
الحقيقة الرابعة أن قيامة المسيح هي الدليل المؤكد لقيامة المؤمنين به: وهذه حقيقة يؤكدها بولس الرسول في كلماته: «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذٰلِكَ ٱلرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ سَيُحْضِرُهُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً مَعَهُ» (١ تس ٤: ١٤).
وهنا يخطر على الذهن سؤالاً لا بد أن نجيب عنه في هذا المقام وهو: كيف يُقام الأموات وبأي جسم يأتون؟ كيف يمكن أن يعيد الله إلى الوجود أجساد الذين أكلتهم الأسماك في البحار، وأحرقتهم النار، وتحللوا وصاروا جزءاً من أديم الأرض؟
ولو أدركنا أن الله يحتفظ في سجلات السماء بصورة فوتوغرافية لكل واحد من سكان الأرض، وبصورة بالأشعة للعظام والأحشاء، لعرفنا كيف سيعود كل واحد بنفس ملامحه إلى الوجود.
وليس هذا الكلام خيال كاتب، وإنما هو حقيقة كتابية صريحة تؤكدها كلمات داود القائلة «لأَنَّكَ أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ ٱمْتَزْتُ عَجَباً. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذٰلِكَ يَقِيناً. لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي ٱلْخَفَاءِ وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَّوَرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا» :(مز ١٣٩: ١٣ - ١٦) فصورتنا، وملامحنا، وتفاصيل عظامنا وأحشائنا موجودة في سجلات السماء، ومن السهل أن تستخرج صورة طبق الأصل عند أي مصور إذا كانت لديك الصورة الأصلية.
وعلى هذا فإن قيامة المسيح تؤكد قيامة المفديين في القيامة الأولى، ثم قيامة الأشرار للدينونة بعد ملك الألف السنة كل واحد بذات الملامح والقامة والصورة التي عاش بها.
وعلى أساس قيامة المسيح الفريدة أنا أومن بأن المسيح هو الله.
(١٢) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس سلطانه وعمله المعجزي وتأثير اسمه في الأرواح والأجساد بعد صعوده إلى السماء: كل نبي عاش على الأرض، انتهت معجزاته بموته، فموسى الكليم صنع في حياته معجزات كثيرة بقوة الله الذي أمره بصنعها، لكنه مات «وَلَمْ يَعْرِفْ إِنْسَانٌ قَبْرَهُ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (تث ٣٤: ٦) وانتهت معجزاته بموته تماماً كما انتهت معجزات سائر الرسل والأنبياء.
أما الرب يسوع فقد ظل اسمه وما زال يعمل بقوة في الأرواح والأجساد.
لقد وعد تلاميذه في حديثه الأخير معهم قائلاً: «لٰكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ ٱلْحَقَّ، إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ ٱلْمُعَّزِي، وَلٰكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ. أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى بِرٍّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضاً. وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ قَدْ دِينَ» (يو ١٦: ٧ - ١١).
وما وعد به الرب يسوع أكمله، وهذا ما يؤكده سفر أعمال الرسل بالكلمات «وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ ٱلْخَمْسِينَ كَانَ ٱلْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ ٱلْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَٱسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَٱبْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ ٱلرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا. وَكَانَ يَهُودٌ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ سَاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا صَارَ هٰذَا ٱلصَّوْتُ، ٱجْتَمَعَ ٱلْجُمْهُورُ وَتَحَيَّرُوا، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ» (أع ٢: ١ - ٦).
ولما اجتمع هذا الجمهور وقف بطرس مع الأحد عشر، وكلمهم عن حقيقة هذا الصوت، مؤكداً أنه «الروح القدس» الذي سكبه يسوع الذي صعد إلى السماء، بعد أن صلبوه وقتلوه، إذ أنه قام من الأموات «وَإِذِ ٱرْتَفَعَ بِيَمِينِ ٱللّٰهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنَ ٱلآبِ، سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ» (أع ٢: ٣٣).
فالمعزي الذي تحدث عنه المسيح لتلاميذه، لم يكن نبياً آتياً بعده، وإنما كان الروح القدس كما أوضح له المجد بفمه المبارك قائلاً: «وَأَمَّا ٱلْمُعَّزِي، ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، ٱلَّذِي سَيُرْسِلُهُ ٱلآبُ بِٱسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يو ١٤: ٢٦).
فالمسيحيون لم ينتظروا نبياً آخر يأتي بعد المسيح، بل كان رجاؤهم وما زال في عودة المسيح ثانية بعد صعوده إلى السماء كما وعدهم «وَهَا أَنَا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ» (رؤ ٢٢: ١٢). ولذا فإن صلاة المسيحيين الحقيقيين في كل العصور تركزت في الكلمات: «آمين تعال أيها الرب يسوع» (رؤ ٢٢: ٢٠). وهي آخر كلمات اختتم بها سفر الرؤيا، أخر أسفار الكتاب المقدس.
ولقد استمر تأثير المسيح قوياً وفعالاً بعد صعوده إلى السماء، وسفر أعمال الرسل يحمل أصدق الأدلة على ما نقول.
- ففي يوم الخمسين أي بعد صعود المسيح إلى السماء بعشرة أيام، عمل المسيح بروحه وبكلمته في قلوب نحو ثلاثة آلاف نفس فتجددوا واعتمدوا، وانضموا إلى الكنيسة التي أسسها المسيح في أورشليم، فبعد أن وعظهم بطرس بكلمة الرب. نقرأ الكلمات: «فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَأَلُوا بُطْرُسَ وَسَائِرَ ٱلرُّسُلِ: مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ؟ فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ: تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ... فَقَبِلُوا كَلاَمَهُ بِفَرَحٍ، وَٱعْتَمَدُوا، وَٱنْضَمَّ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ» (أع ٢: ٣٧ و٣٨ و٤١).
فمن الذي أعطى القوة لبطرس الجبان الذي أنكر المسيح ثلاث مرات لتؤثر كلماته في القلوب هذا التأثير الفعال؟
ومن الذي نخس قلوب هؤلاء سوى الروح القدس الذي أرسله المسيح بعد صعوده إلى السماء!
إن تجدد هذا العدد الضخم دفعة واحدة دليل على فاعلية عمل المسيح في القلوب بعد صعوده إلى السماء.
- ولقد شفى اسم المسيح رجلاً أعرج من بطن أمه: أجل بعد أن صعد المسيح إلى السماء ظل اسمه قوياً فعالاً يشفي الأمراض، ويجري المعجزات، لأنه الله الموجود في كل مكان، القادر على كل شيء.. وهذه كلمات سفر أعمال الرسل عن شفاء ذلك الإنسان: «وَصَعِدَ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا مَعاً إِلَى ٱلْهَيْكَلِ فِي سَاعَةِ ٱلصَّلاَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. وَكَانَ رَجُلٌ أَعْرَجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يُحْمَلُ، كَانُوا يَضَعُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ بَابِ ٱلْهَيْكَلِ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ «ٱلْجَمِيلُ» لِيَسْأَلَ صَدَقَةً مِنَ ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ ٱلْهَيْكَلَ. فَهٰذَا لَمَّا رَأَى بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا مُزْمِعَيْنِ أَنْ يَدْخُلاَ ٱلْهَيْكَلَ، سَأَلَ لِيَأْخُذَ صَدَقَةً. فَتَفَرَّسَ فِيهِ بُطْرُسُ مَعَ يُوحَنَّا وَقَالَ: ٱنْظُرْ إِلَيْنَا!> فَلاَحَظَهُمَا مُنْتَظِراً أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا شَيْئاً. فَقَالَ بُطْرُسُ: لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلٰكِنِ ٱلَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ قُمْ وَٱمْشِ. وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ ٱلْيُمْنَى وَأَقَامَهُ، فَفِي ٱلْحَالِ تَشَدَّدَتْ رِجْلاَهُ وَكَعْبَاهُ، فَوَثَبَ وَوَقَفَ وَصَارَ يَمْشِي، وَدَخَلَ مَعَهُمَا إِلَى ٱلْهَيْكَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَيَطْفُرُ وَيُسَبِّحُ ٱللّٰهَ» (أع ٣: ١ - ٨).
ولما اجتمع الجمهور الذي رأى هذه المعجزة حول بطرس ويوحنا، أعلن لهم بطرس أن شفاء الرجل قد تم باسم يسوع المسيح فقال: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ تَتَعَجَّبُونَ مِنْ هٰذَا، وَلِمَاذَا تَشْخَصُونَ إِلَيْنَا كَأَنَّنَا بِقُّوَتِنَا أَوْ تَقْوَانَا قَدْ جَعَلْنَا هٰذَا يَمْشِي؟ إِنَّ إِلٰهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، إِلٰهَ آبَائِنَا، مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ، ٱلَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ، وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقِهِ. وَلٰكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ ٱلْقُدُّوسَ ٱلْبَارَّ، وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ. وَرَئِيسُ ٱلْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذٰلِكَ. وَبِٱلإِيمَانِ بِٱسْمِهِ، شَدَّدَ ٱسْمُهُ هٰذَا ٱلَّذِي تَنْظُرُونَهُ وَتَعْرِفُونَهُ، وَٱلإِيمَانُ ٱلَّذِي بِوَاسِطَتِهِ أَعْطَاهُ هٰذِهِ ٱلصِّحَّةَ أَمَامَ جَمِيعِكُمْ» (أع ٣: ١٢ - ١٦).
فالمسيح هو الله الحي الموجود بقوته في كل مكان. ولذا فإن اسمه المبارك العجيب فيه القدرة لإعطاء الصحة والحياة.
- وقد جدد المسيح بعد صعوده إلى السماء شاول الطرسوسي:
يشهد شاول الطرسوسي - الذي صار بعد تجديده بولس الرسول - عن نفسه قائلاً: «أَنَا ٱلَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً» (١ تي ١: ١٣). وقد اضطهد شاول كنيسة أورشليم، والمسيحيون الذين عاشوا في تلك الجهات، وعن هذا نقرأ الكلمات: «أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّداً وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ ٱلرَّبِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ إِلَى ٱلْجَمَاعَاتِ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاساً مِنَ ٱلطَّرِيقِ، رِجَالاً أَوْ نِسَاءً، يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ» (أع ٩: ١ و٢).
هذه هي الصورة الكتابية لاضطهاد شاول للمسيحيين والكتاب المقدس يرينا أن المسيحيين الحقيقيين الأتقياء يجب أن يتوقعوا الاضطهاد في كل مكان كما يكتب بولس الرسول لتيموثاوس قائلاً: «وَأَمَّا أَنْتَ فَقَدْ تَبِعْتَ تَعْلِيمِي، وَسِيرَتِي، وَقَصْدِي، وَإِيمَانِي، وَأَنَاتِي، وَمَحَبَّتِي، وَصَبْرِي، وَٱضْطِهَادَاتِي، وَآلاَمِي، مِثْلَ مَا أَصَابَنِي فِي أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَّةَ وَلِسْتِرَةَ. أَيَّةَ ٱضْطِهَادَاتٍ ٱحْتَمَلْتُ! وَمِنَ ٱلْجَمِيعِ أَنْقَذَنِي ٱلرَّبُّ. وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِٱلتَّقْوَى فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ» (٢ تي ٣: ١٠ - ١٢).
«لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (في ١: ٢٩).
إن المسيحيين الأمناء يضطهدون في كل بقعة من بقاع الأرض، لأن حياتهم المنيرة تؤلم عيون الناس، توبخ خطاياهم، فيحاولون القضاء عليهم.. ولكن هيهات!! لأن المسيح رأس الكنيسة حي في السماء يحس بآلام شعبه على الأرض ويتقدم لإنقاذه وحمايته.
لقد كان «شاول» يظن أنه يقدم خدمة لله، وأنه يقضي على شرذمة ضالة تؤمن بأن المسيح هو «ابن الله» وكان المسيح في اعتقاد شاول مضلاً أفاكاً ظهر على أرض اليهودية.
وبينما شاول يقترب إلى دمشق، وقد أعمى التعصب عينيه، تستمر القصة قائلة: «وَفِي ذَهَابِهِ حَدَثَ أَنَّهُ ٱقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، فَسَقَطَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتاً قَائِلاً لَهُ: شَاوُلُ، شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ فَسَأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: أَنَا يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ. فَسَأَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟ فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: قُم وَٱدْخُلِ ٱلْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ. وَأَمَّا ٱلرِّجَالُ ٱلْمُسَافِرُونَ مَعَهُ فَوَقَفُوا صَامِتِينَ، يَسْمَعُونَ ٱلصَّوْتَ وَلاَ يَنْظُرُونَ أَحَداً. فَنَهَضَ شَاوُلُ عَنِ ٱلأَرْضِ، وَكَانَ وَهُوَ مَفْتُوحُ ٱلْعَيْنَيْنِ لاَ يُبْصِرُ أَحَداً. فَٱقْتَادُوهُ بِيَدِهِ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ يُبْصِرُ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ» (أع ٩: ٣ - ٩).
وتفاصيل القصة تؤكد أن المسيح حي في السماء.
فقد ظهر بنوره الوضاح لشاول
وناداه باسمه
وأراه أنه صعب عليه أن يحاربه.
ويقيناً أن من يحارب المسيح يجرح نفسه. إنه تماماً كمن يرفس مناخس الخيل، يمتلئ جسمه بالجراح ولا تتأثر المناخس وأمام نور المسيح، وتحت تأثير صوته قال شاول الطرسوسي: «يا رب ماذا تريد أن أفعل؟».
عجيب أن يقول شاول للمسيح «يا رب» فشاول رجل يهودي، فريسي، يعرف كتابه المقدس جيداً ويذكر كلمات سفر الخروج: «أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي» (خر ٢٠: ٢ و٣). ما الذي حدث لك يا شاول حتى تنادي المسيح قائلاً: «يا رب» ويردعلينا شاول بالكلمات: «لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ، بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْبِرُّ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ. لأَعْرِفَهُ، وَقُّوَةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ» (في ٣: ٧ - ١٠).
لقد تيقنت أن تلاميذ المسيح لم يسرقوا جسده، لقد قام وقبره خال من جسده، ولذا أشرق علي بنوره من السماء، لقد آمنت أنه «ابن الله الحي» «فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلا ٢: ٢٠).
دخل شاول المدينة كما أوصاه الرب، وكما كلم الرب يسوع شاول من السماء، كلم حنانيا في رؤيا لمقابلة شاول. فلما جاء حنانيا إليه قال له «أَيُّهَا ٱلأَخُ شَاوُلُ، قَدْ أَرْسَلَنِي ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلَّذِي ظَهَرَ لَكَ فِي ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي جِئْتَ فِيهِ، لِكَيْ تُبْصِرَ وَتَمْتَلِئَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَلِلْوَقْتِ وَقَعَ مِنْ عَيْنَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قُشُورٌ، فَأَبْصَرَ فِي ٱلْحَالِ، وَقَامَ وَٱعْتَمَدَ» (أع ٩: ١٧ و١٨). وهكذا تجدد شاول، وصار إناء مختاراً ليحمل اسم المسيح أمام أمم وملوك وبني إسرائيل.
وتجديد شاول اليهودي المتعصب، المجدف والمضطهد والمفتري، وحديث المسيح معه من السماء، واعترافه بلاهوت المسيح، هذا كله يحمل أصدق الدليل على أن المسيح هو «ابن الله» و «الله الابن».
ونستمر في سفر أعمال الرسل لنرى الرب يسوع المسيح:
- عاملاً بروحه في السامرة (أع ٨).
- وفي قلب الوزير الحبشي (أع ٨).
- وفي قلب كرنيليوس ومن حضروا في بيته (أع ١٠).
- ونراه يشفي إينياس (أع ٩: ٣٢ - ٣٥).
- ويقيم التلميذة الخادمة طابيثا (أع ٩: ٣٦ - ٤٢).
- ويزعزع أساسات سجن فيلبي ويجدد حافظ السجن (أع ١٦: ١٩ - ٣٤).
- وينقذ بولس في قلب العاصفة (أع ٢٧: ١٤ - ٤٤).
وما زال إلى اليوم يغير قلوب الذين يقبلونه مخلصاً في أنحاء الأرض، وينير بروحه قلوب وعقول المؤمنين به، ويرشدهم إلى أنفع الاكتشافات والاختراعات العلمية لخير البشرية، فقد أرشد «أديسون» لاكتشاف الكهرباء، وأرشد «فلمنج» لابتكار البنسلين الذي أنقذ حياة الملايين. وأرشد العلماء المسيحيين لابتكار كل ما هو لخير الإنسان. فعلى أساس سلطان المسيح وتأثير اسمه على الأرواح والأجساد بعد صعوده إلى السماء أنا أومن أنه «الله».
(١٣) أنا أومن بأن المسيح هو الله على أساس أنه ديان البشر أجمعين: يقول داود في المزمور: «وَتُخْبِرُ ٱلسَّمَاوَاتُ بِعَدْلِهِ، لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلدَّيَّانُ» (مز ٥٠: ٦). وإذ نقلب صفحات الكتاب نجد أن الديان هو المسيح، ونصل إلى نتيجة حتمية هي أن المسيح هو الله لأنه هو الديان.
استمع إلى كلماته التي قالها لليهود: «لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلابْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» (يو ٥: ٢٢ و٢٣).
واصغ إلى كلمات بولس للقديسين في رومية: «مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً، ٱلَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا!» (رو ٨: ٣٤).
وأمل أذنك إلى حديثه للأثينيين في «أريوس باغوس» وهو يقول: «فَٱللّٰهُ ٱلآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ. لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ، مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (أع ١٧: ٣٠ و٣١). وأخيراً اسمعه يكتب لتيموثاوس في أخريات أيامه: «فَإِنِّي أَنَا ٱلآنَ أُسْكَبُ سَكِيباً، وَوَقْتُ ٱنْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ. قَدْ جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ، حَفِظْتُ ٱلإِيمَانَ، وَأَخِيراً قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ ٱلْبِرِّ، ٱلَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلرَّبُّ ٱلدَّيَّانُ ٱلْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضاً» (٢ تي ٤: ٦ - ٨).
- ويعرف دارس الكتاب المقدس أن المسيح هو الذي سيحاسب المفديين أمام كرسيه «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً» (٢ كو ٥: ١٠).
- وأنه سيحاسب الشعوب الحية عند مجيئه أمام كرسي مجده: «وَمَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ ٱلرَّاعِي ٱلْخِرَافَ مِنَ ٱلْجِدَاءِ» (مت ٢٥: ٣١ و٣٢).
- وهو الذي سيدين الأموات أمام العرش الأبيض العظيم: «ثُمَّ رَأَيْتُ عَرْشاً عَظِيماً أَبْيَضَ، وَٱلْجَالِسَ عَلَيْهِ ٱلَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلسَّمَاءُ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ! وَرَأَيْتُ ٱلأَمْوَاتَ صِغَاراً وَكِبَاراً وَاقِفِينَ أَمَامَ ٱللّٰهِ، وَٱنْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ. وَٱنْفَتَحَ سِفْرٌ آخَرُ هُوَ سِفْرُ ٱلْحَيَاةِ، وَدِينَ ٱلأَمْوَاتُ مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلأَسْفَارِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ» (رؤ ٢٠: ١١ و١٢).
وإذا قارنا بين كلمات المسيح: «لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن» وبين الكلمات القائلة: «ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله.. ودين الأموات بحسب أعماله» تأكدنا أن المسيح هو الله الديان، الذي وقف أمامه إبراهيم وناداه بأنه «ديان كل الأرض» (تك ١٨: ٢٥)، والذي قال عن نفسه «كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِٱسْمِكَ صَنَعْنَا قُّوَاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي ٱلإِثْمِ» (مت ٧: ٢٢ و٢٣). فعلى أساس أن المسيح هو ديان كل الأرض فأنا أومن أنه «الله».
(١٤) أنا أومن بأن المسيح هو الله لأنه مفتاح الكتاب المقدس كله وموضعه المركزي:
- فهو في سفر التكوين نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تك ٣: ١٥)، وهو في الخروج حمل الفصح (خر ١٢: ١ - ١٤)، وهو في اللاويين في مختلف صور الذبائح والقرابين (لاويين ١ - ٤)، وهو في العدد الحية المرفوعة في البرية (عدد ٢١: ٨) مع (يو ٣: ١٤)، وهو في إشعياء البديل الحامل لخطايانا (إش ٥٣: ٦) وهكذا حتى نراه في ملاخي شمس البر (ملاخي ٤: ٢).
- وكل شخصيات الكتاب المقدس ترمز إليه، فهابيل يرينا إياه البار المذبوح، وإسحق يرينا إياه الحامل للصليب والمطيع لإرادة الآب، وموسى يرينا إياه في حلمه وحكمته، وإيليا يرينا إياه في قوته وصرامته.
- والعهد الجديد كله مكرس له، فمتى يبدأ إنجيله بالكلمات: «كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (مت ١: ١) ومرقس يبدأ إنجيله بالكلمات: «فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ» (لو ٢٤: ٥٢). ويوحنا يبدأ إنجيله بالكلمات: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يو ١: ١).
- ورسائل الرسل متمركزة في الحديث عنه وسفر رؤيا يوحنا هو إعلان مجده وملكه.
- وكاتب الرسالة إلى العبرانيين يرينا أن المسيح أعظم من الملائكة (عب ١: ٤)، وأن الملائكة تسجد له (عب ١: ٢٦)، وأنه أعظم من موسى (عب ٣: ٣)، وأن الفرق بينه وبين موسى كالفرق بين الخادم وابن البيت فموسى «خادم» أما المسيح «فابن على بيته» (عب ٣: ٥ و٦)، وأنه أعظم من هرون (عب ٧: ١١) لأنه رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق.
- كما يؤكد الرب بكلماته أنه «أعظم من يونان» (مت ١٢: ٤١) و «أعظم من سليمان» (مت ١٢: ٤٢) و «أعظم من الهيكل» مت ١٢: ٦ ولي هناك من هو أعظم من الهيكل إلا رب الهيكل نفسه.
- وكذلك يعلن الرسل عبوديتهم للمسيح: فمع أن بولس يوصي المؤمنين قائلاً: «قَدِ ٱشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ، فَلاَ تَصِيرُوا عَبِيداً لِلنَّاسِ» (١ كو ٧: ٢٣) فهو يعلن عبوديته للمسيح بالكلمات: «بولس عبد ليسوع المسيح» (رو ١: ١) وإعلانه هذا يؤكد بوضوح بأن المسيح هو الله، وكذلك يعلن بطرس عن عبوديته للمسيح بالكلمات: «سِمْعَانُ بُطْرُسُ عَبْدُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَرَسُولُهُ» (٢ بط ١: ١)، وكذلك يقول يعقوب «يَعْقُوبُ، عَبْدُ ٱللّٰهِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (يع ١: ١) فيعلن بكلماته عبوديته للآب والابن، وفي ذات الوقت مساواة الابن بالآب.
هذه هي الأسس التي نبنى عليها إيماننا بأن المسيح هو الله، فالمسيح هو رب التاريخ، وهو مركز النبوات، فمن أجله تنبأ الأنبياء، وجاء المرسلون يعدون الطريق لمجيئه. وكتب الكتاب المقدس من سفر التكوين إلى سفر رؤيا يوحنا.
يحتفظ لنا التاريخ بقصة رجل أمريكي سافر إلى فرنسا، ومن هناك اشترى خريطة مفككة للأمريكتين، قال له بائعها: إن أذكى الناس لا يستطيع تركيب هذه الخريطة في أقل من ساعتين. وحمل الأب الخريطة لولديه، وتحداهما إن استطاعا تركيبها في نصف ساعة فإنه يعطي لكل منهما خمسين دولاراً.. وكم كانت دهشة الرجل عظيمة حين عاد الولدان بالخريطة كاملة بعد عشر دقائق.
قال الأب لولديه: أخبراني عن السر!!
قال الولدان: لقد رأينا في ظهر الخريطة صورة لرأس إبراهام لنكولن، فجمعنا الصورة فتكونت الخريطة في الحال.
والكتاب المقدس يظل كتاباً مغلقاً، يصعب على قارئه فهم محتوياته، حتى نرى على صفحاته «وجه المسيح المنير» الذي رآه يوحنا وكتب عنه قائلاً: «ثُمَّ رَأَيْتُ ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَٱلْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِيناً وَصَادِقاً، وَبِٱلْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ. وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلاَّ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ «كَلِمَةَ ٱللّٰهِ». وَٱلأَجْنَادُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بِيضٍ، لاَبِسِينَ بَّزاً أَبْيَضَ وَنَقِيّاً. وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ ٱلأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ ٱللّٰهِ ٱلْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ ٱسْمٌ مَكْتُوبٌ: مَلِكُ ٱلْمُلُوكِ وَرَبُّ ٱلأَرْبَابِ» (رؤيا ١٩: ١١ - ١٦).
بحق قال عنه شلينج: «المسيح ليس هو المعلم فقط كما يقول البعض ولا هو المؤسس بل هو المسيحية ذاتها» وقال عنه واحد من كبار المفكرين وهو يتحدث إلى مجموعة من أصدقائه: «لو دخل نابوليون إلى هنا لوقفنا أمامه إجلالاً باعتباره قائد عسكري عبقري، ولو دخل شكسبير لانحنينا أمامه احتراماً لتحليله الرائع لنفسية الإنسان البشري... لكن لو دخل المسيح لركعنا في حضرته سجداً أمام مجد لاهوته البهي».
أجل لقد ظهر في تجسد «ابن الله» وموته على الصليب ما يؤكد عظمة قيمة الإنسان.. أو كما قال قديس جليل.
«يموت النبات ليحيا الحيوان، ويموت الحيوان ليحيا الإنسان فلا بد من موت «البديل» لنوال الحياة» .
ولذا فلما رأى الله الإنسان وقد مات روحياً بالخطية، أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ودان الخطية في الجسد، ليعطي حياة أبدية للإنسان الذي يؤمن بهذا العمل العظيم، ويؤكد في ذات الوقت قيمة الإنسان العظمى، هذه القيمة التي كاد الإنسان أن يفقد إحساسه بها، من فرط ما رأى تفاهة نفسه أمام الموت، وأمام كوراث الطبيعة، وأمام هذا الكون العظيم.
ليست هناك تعليقات: