الثالوث في الإسلام

الثابت أن الإسلام حارب تعليماً يقر بتعدد الآلهة. وها هي النصوص التي بها حارب هذا التعليم الباطل:
«وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ ٱنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ» (سورة النساء ٤: ١٧١).
«وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ» (سورة المائدة ٥: ١١٦).
«لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ» (سورة المائدة ٥: ٧٣).
فواضح من هذه الآيات أنها تحارب تعليماً يحمل معنى الإشراك بالله وتعدد الآلهة وبما أن المسيحية لا تعلم بالإشراك ولا بتعدد الآلهة، بدليل قول المسيح: «لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (متّى ٤: ١٠).
فالثابت إذن أن الإسلام يحارب ثالوثاً غير ثالوث المسيحية. وتعليماً غير تعليمها، وعقيدة غير عقيدتها والظاهر أن حملات الإسلام على تعليم الإشراك بالله، كانت موجهة ضد بدعة ظهرت زمن بداية الدعوة الإسلامية وهذه البدعة لم يحاربها الإسلام وحده، بل حاربتها المسيحية بعنف حتى قضت عليها، كما سبق أن قلت في الرد على سؤال سابق.
ومرة أخرى أقول، إن المسيحية لا تعلم بتعدد الآلهة ولا تقول بأن المسيح إله من دون الله. بل تؤمن بأن الآب والابن إله واحد. بلا تعدد ولا افتراق وقد أكد المسيح ذلك بقوله: «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا ١٠: ٣٠). ولا تعلم المسيحية بأن مريم المباركة آلهة ومريم نفسها لم تدع لنفسها الألوهية، بل صرحت بأن الله مخلّصها (لوقا ١: ٤٧).
أما قول القرآن «لقد كفر الذي قالوا أن الله ثالث ثلاثة» التي يستند إليها أعداء المسيحية، فقد قيلت بطائفة المرقونيين، الذين لفظتهم الكنيسة وحرمت أتباعهم، لأنهم علموا بتثليث باطل. ونادوا بثلاثة آلهة هم:
أ - عادل، أنزل التوراة
ب - صالح، نسخ التوراة والإنجيل
ج - شرير، وهو إبليس
كما أن الإسلام حارب طائفتي المانوية والديصانية اللتين تقولا بإلهين. أحدهما للخير، وهو جوهر النور. والثاني للشر، وهو جوهر الظلمة.
وقد كانت هذه الطوائف وأشباهها شر ما منيت به المسيحية، قبل الإسلام وما بعده. ولا يزال حكمها في الكنيسة حكم المذاهب الخارجية في الإسلام، الذين عدلوا عن الكتاب والسنة. كالطائفة القائلة بأن الله حل في الحاكم بأمر الله الفاطمي.
إذن فالإسلام لم يحارب عقيدة الثالوث المسيحية الصحيحة، كما يتوهم البعض. ولهذا لا أعتبر آي القرآن المقاوم لتعدد الآلهة، كان موجهاً إلى المسيحية الحقة.
وحين نتتبع هذا الموضوع في الكتب الإسلامية، نرى أن علماء المسلمين، المعتبرين كأنبياء، قد بحثوا في عقيدة الثالوث المسيحية، وثبتوا لها فكرتها الصحيحة. وحسبي أن أورد في ما يلي ما جاء في نسخة قديمة لكتاب «أصول الدين» لأبي الخير بن الطيب، الذي عاصر حجة الإسلام الإمام أبا حامد الغزالي. قال:
«قال بعض المسيحيين لأبي الخير بن الطيب أن الإنجيل بقوله اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس قد أوجب الاعتقاد بثلاثة آلهة. فأجابه لا ريب في أن لباب الشريعة المسيحية هو الإنجيل، ورسائل بولس الرسول وأخبار الحواريين. وهذه الكتب وأقوال علماء النصارى المثبتة في آفاق الأرض تشهد بتوحيدهم، وبما أن أسماء الآب والابن والروح القدس، إنما هي خواص لذاته الواحدة. ولولا حب الإيجاز، لأتيت على إثبات عقيدتهم مفصلاً. ولكنني مع ذلك اقتضب من أقوالهم الناطقة بصحة معتقدهم ووقيم إيمانهم ما لا يخلو من فائدة. فأقول يرى النصارى أن الباري تعالى جوهر واحد موصوف بالكمال. وله خواص ذاتية كشف المسيح عنها القناع. وهي الآب والابن والروح القدس. ويشيرون بالجوهر ذاته الذي يسمونه الباري ذا العقل المجرد إلى الآب. وبالجوهر نفسه الذي يسمونه ذا العقل العاقل ذاته إلى الابن. وبالجوهر عينه الذي يسمونه ذا العقل المعقول من ذاته إلى الروح القدس. ويريدون بالجوهر هنا، ما قام بنفسه مستغنياً عن الظرف».
وقد أشار الإمام العلامة أبو حامد محمد الغزالي إلى عقيدة المسيحيين في كتابه «الرد الجميل» فقال: يعتقد النصارى أنّ ذات الباري تعالى واحدة في الجوهر، ولها اعتبارات:
فإن اعتبر وجودها غير معلق على غيره، فذلك الوجود المطلق هو ما يسمونه بأقنوم الآب.
وإن اعتبر معلقاً على وجود آخر، كالعلم المعلق على وجود العالم. فذلك الوجود المقيد، هو ما يسمونه بأقنوم الابن، أو الكلمة.
وإن اعتبر معلقاً على كون عاقليته معقولة منه. فذلك الوجود المقيد هو ما يسمونه بأقنوم الروح القدس، لأن ذات الباري معقوله منه.
والحاصل من هذا التعبير الاصطلاحي، أن الذات الإلهية واحدة في الجوهر، وإن تكن منعوتة بصفات الأقانيم.
وقال أيضاً:
إن الذات الإلهية من حيث هي مجردة لا موصوفة، عبارة عن معنى العقل. وهو المسمى بأقنوم الآب.
وإن اعتبرت من حيث هي عاقلة ذاتها. فبهذا الاعتبار عبارة عن معنى العاقل، وهو المسمى بأقنوم الابن أو الكلمة.
وإن اعتبرت من حيث ذاتها معقولة منها. فهذا الاعتبار عبارة عن معنى المعقول. وهو المسمى بأقنوم الروح القدس.
وعلى هذا الاصطلاح يكون العقل عبارة عن ذات الله فقط، والآب مرادف له.
والعاقل عبارة عن ذاته. بمعنى أنها عاقلة ذاتها، والابن أو الكلمة مرادف له.
والمعقول عبارة عن الإله المعقولة ذاته منه، وروح القدس مرادف له.
ثم عقب قائلاً: «إذا صحت هذه المعاني فلا مشاقة في الألفاظ ولا في اصطلاح المتكلمين».
أما الإمام فخر الدين الرازي، فيستعرض عقيدة المسيحيين الخاصة بالثالوث على الوجه التالي:
«أما المتكلمون فحكوا عن النصارى أنهم يقولون جوهر واحد. ثلاثة أقانيم آب وابن وروح القدس. وهذه الثلاثة إله واحد. كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة وعنوا بالذات الآب، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة. وقالوا: إن الآب إله، والابن إله، والروح القدس إله. والكل إله واحد» (التفسير الكبير جزء ١٢ صفحة ١٠٢).
وقال صاحب كتاب اليواقيت ما نصه: قال سيدي علي بن وفا: «المسلَّم أن الذات شيء واحد، لا كثرة فيه ولا تعدد. وإنما قالت المعتزلة عن تعدد القدماء من جهة تعيينها بالصفات. وذلك إنما هو تعدد اعتباري. والاعتباري لا يقدح في الوحدة الحقيقية، كفرع الشجرة بالنسبة لاصلها أو كالأصابع بالنظر إلى الكف».
وجاء في كتاب المواقف صفحة ٣٨٥ ما نصه «ولا يلتبس عليك أن الأشاعرة لما أثبتوا لله صفات حقيقية، لم يكن هو تبسيطاً حقيقياً واحداً من جميع جهاته».
وجاء في كتاب الملل والنحل ما نصه «إن أبا هذيل حمدان شيخ المعتزلة ومقدم الطائفة ومقرر الطريقة والمناظر عليها قال أن الباري تعالى عالم يعلم، وعلمه ذاته وقادر مقدرة، وقدرته ذاته وحي بحياة، وحياته ذاته. ولعل أبا هذيل اقتبس هذا من الفلاسفة الذين اعتقدوا أن ذات الباري واحدة، لا كثرة فيها بوجه. وإنما الصفات ليست وراء الذات معان قائمة بذاته، بل هي ذاته والفرق بين قول القائل «عالم يعلم هو ذاته» هو أن الأول نفى الصفة، والثاني أن إثبات ذاته هو بعينه صفة، أو إثبات صفة هي بعينها ذات وإن أثبت أبو هذيل لهذه الصفات وجودها للذات، فهي بعينها أقانيم النصارى» .
وقال ابن سينا الملقب بالرئيس: «إن واجب الوجود عقل وعاقل ومعقول، وإنه يعقل ذاته والأشياء. وصفاته الإيجابية والسلبية لا توجب كثرة في ذاته. ثم قال العقل يقال على كل مجرد من المادة. وإذا كان مجرداً بذاته، فهو عقل لذاته. وواجب الوجود مجرد بذاته عن المادة، فهو عقل لذاته. وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته فهو معقول لذاته. وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة فهو عاقل لذاته. وكونه عاقلاً ومعقولاً. لا يوجب أن يكون اثنين في الذات. ولا اثنين في الاعتبار».
وقال: «ثم لما لم يكن جمال وبهاء فوق أن يكون الماهية عقلية صرفة وخبرية، محضة برية من المواد وانحناء النقص، واحدة من كل جهة ولم يسلم ذلك بكنهه إلا واجب الوجود. فهو الجمال المحض، والبهاء المحض، وكل جمال وبهاء وملائم وخير فهو محبوب معشوق، وكل ما كان الإدراك أشد اكتناهاً والمدرك أجمل ذاتاً. فحب القوة المدركة له، وعشقه له، والتذاذه به كان أشد وأكثر. فهو أفضل مدرك لأفضل مدرك. وهو عاشق لذاته، ومعشوق لذاته، عشق من غيره أم لم يعشق. وأنت تعلم أن إدراك العقل للمعقول، أقوى من إدراك الحس للمحسوس، لأن العقل إنما يدل الأمر الباقي، ويتحد به، ويصير هو هو. ويدركه بكنهه لا بظاهره، وكذلك الحس».
ومقتضى قول ابن سينا، وهو أن الله عقل وعاقل ومعقول، أو قول أبو هذيل أن الله علم وعالم ومعلوم أن الله مركب. لأن العقل البشري لا يتصور كيف يكون الله عقلاً وعاقلاً ومعقولاً، ولا يكون مركباً. ومع ذلك فهو واحد بسيط منزه عن التركيب. وليس القصد من إيراد مثل هذا الكلام، أن الأقانيم الإلهية الثلاثة، هم عقل وعاقل ومعقول، أو علم وعالم ومعلوم. فإن كتاب الله علمنا أن الله كائن في ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس، وعبر عن الابن بالكلمة الأزلي الخالق. فلا يجوز أن نقول غير ذلك. وإنما أوردت كلام بعض علماء الإسلام للرد على سائلي بأن المسيحيين لا يعتقدون بالتعدد أو التركيب في ذات الله الواحد. ولا يتوهمن أحد أن الأقانيم مجرد تجليات مختلفة للذات العلية. بل أن العقيدة المسيحية تعني أن الذات الواحدة كائنة في ثلاثة أقانيم. وأن التعبير عن الأقنوم الثاني بالابن، لا يعني ولادة بشرية كالمعروف عند عامة الناس، بل هو كلمة تشير إلى النسبة الأزلية، التي بين الأقنوم الأول والثاني. وكذلك لفظة انبثاق مستعارة للإشارة إلى النسبة الأزلية بين الأقنوم الثالث والأقنومين الأول والثاني.
أما لفظة الكلمة التي أطلقت على المسيح في الكتاب المقدس واقتبسها الإسلام، فهي تدل على وحدة الأقنومين الأول والثاني. ولو أن المسلم يتأمل بعمق نص القرآن، يدرك أن لفظة «كلمة الله» صفة أزلية قائمة بذاته تعالى، ليس بحرف ولا بصوت، منزهة عن التقدم والتأخر.
وخلاصة القول أن ذات الله واحدة في ثلاثة أقانيم متساوون في القدرة والعظمة والمجد. فكما أن صفاته منزهة عن التفاوت. فكذلك الأقانيم والسائل توهم أنه توجد ثلاث ذوات في الله وهذا خطأ.
فبكلمة أخرى أن اللاهوت، لا يحد ولا يحصر. مما يجعلنا نؤمن أن الكلمة الأزلي لما اتخذ جسداً، لم يصر محدوداً ولا متناهياً لأنه روح غير محدود ولا متناه. ولا يقبل الزيادة أو النقصان. بمعنى أن التجسد، لم يغير أو يحول الطبيعة الإلهية من الأزلية والسرمدية وعدم التغير والتناهي إلى الحدوث بأن جعلها كالممكنات، حاشا وكلا، وكذلك لا يوجد أي تمييز بين الأقانيم في الذات. لأن ذاتهم واحدة ولا في زمن الوجود. لأن كلا منهم أزلي ولهم علم واحد ومشيئة واحدة. وعقل واحد. ولم يقل أي مسيحي أن في اللاهوت ثلاثة عقول. وله ثلاث إرادات. وثلاث قوات. بل الأقانيم متساوون في القدرة والعمل، فقد قال المسيح مهما عمل الآب فهذا يعمله الابن (يوحنا ٥: ١٩). وقال رسول الأمم بولس: «هٰكَذَا أَيْضاً أُمُورُ ٱللّٰهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ ٱللّٰهِ» (١ كورنثوس ٢: ١١). فلا امتياز في الصفات والكمالات الإلهية فالابن تجسد وقدم نفسه كفّارة. والروح القدس يجدد قلوبنا. والآب أرسل الابن. والكل ذات واحدة متصفة بصفات الكمال. ولا شك أن هذا فوق إدراكنا. وقد قال الرسول عن الله «مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ ٱلْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ ٱلٱسْتِقْصَاءِ! «لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟» (رومية ١١: ٣٣ و٣٤).
ولا ريب في أن الإسلام يعترف بهذه الحقيقة، بدليل قول الشيخ محي الدين في كتاب الباب صفحة ٣٢٢ «من خاض في الذات بفكره فهو عاص لله ولرسوله وما أمر الله تعالى بالخوض في معرفة ذاته لا النافي ولا المثبت وذاك لأن العبد إذا عجز عن معرفة كنه نفسه، فعن معرفة كنه الحق تعالى من باب أولى».
وقال في الصفحة ٣٧٣ «أعلم أن الحق تعالى لا يدرك بالنظر الفكري أبداً، وليس عندنا أكبر من ذنب الخائضين في ذات الله بفكرهم. فإنهم قد أتوا بأقصى درجات الجهل».

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.