المسيح شخصية تاريخية
المسيح شخصية تاريخية
وقبل أن نتعمق في دراسة قضية لاهوت المسيح، نرى لزاماً علينا أن نفند ادعاء القائلين بأن شخصية المسيح شخصية خرافية، والواقع أن ادعاء من هذا الطراز يعلن عن جهالة قائلة. ليس فقط من الناحية الدينية، بل من الناحية العلمية التاريخية كذلك.ونقول أولاً إن المسيح الذي وُلد في بيت لحم من مريم العذراء، لم يظهر هناك بغير مقدمات، وإنما سبق ظهوره الكثير من النبوات التي ملأت صفحات العهد القديم من سفر التكوين إلى سفر ملاخي، وقد أشاعت هذه النبوات بصراحة ألفاظها، والتحديد الكامل لمعالم الشخصية التي تحدثت عنها روح انتظار هذه الشخصية الفريدة التي حددت النبوات أنها ستولد من عذراء، وستولد في «بيت لحم» بالذات .
والمسيح حين وُلد في العالم وُلد في «ملء الزمان» كما قال بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية: «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلا ٤: ٤ و٥).
وتعني الكلمة «ملء الزمان» الوقت الذي تهيأ فيه العالم لاستقبال المسيح، ويؤيد التاريخ أنه في وقت ولادة المسيح كان في العالم شعوب ثلاثة هي صاحبة النفوذ في ذلك العصر: الرومان، واليونان، واليهود. وقبيل ميلاد المسيح هيأ الرومان عالماً مشتبكاً، فبدلاً من وجود شعوب منفصلة متباعدة تتبادل الريب والشكوك ألفى المسيح عالماً ممهداً خلواً من الحواجز والعقبات، إذ كانت روما قد أدمجت الدول المتنافسة في أمبراطورية واحدة، وشقت الطرق الرومانية كل رقاع العالم المتمدن، وصانت قوة القياصرة السلام العالمي، وهكذا تهيأت الطريق لمجيء الملك السماوي، وتهيأت الطرق لرسله ليحملوا رسالة حبه للعالم الفسيح.
أما اليونان فعند اقتراب اليوم الذي جاء فيه المسيح فقد قاموا وهم لا يدرون بنصيبهم في إعداد الطريق أمام الملك الآتي، وذلك لأن اللغة اليونانية الجميلة اللينة كانت قد أصبحت اللغة الرئيسية في الأمبراطورية فتعلمت كل الشعوب المحيطة بحوض البحر الأبيض اللغة اليونانية، وصارت اليونانية هي اللغة الرسمية في كل العالم المتمدن فتهيأت الأداة لنقل إنجيل المسيح الجليل.
أما اليهود فقد كان عملهم هو الاحتفاظ بأقوال الله والنبوات التي تتحدث عن مجيء المخلص الموعود كما قال بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية: «إِذاً مَا هُوَ فَضْلُ ٱلْيَهُودِيِّ، أَوْ مَا هُوَ نَفْعُ ٱلْخِتَانِ؟ كَثِيرٌ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ! أَمَّا أَّوَلاً فَلأَنَّهُمُ ٱسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ ٱللّٰهِ» (رو ٣: ١ و٢)، ولقد كان سبي اليهود إلى بلاد العالم هو الطريق لنقل هذه النبوات إلى سائر الشعوب، وهكذا تهيأ العالم لمجيء المسيح الكريم.
وإنه لمما يدعو إلى التفكير أن نرى هذه الشعوب الثلاثة وقد اتحدت وهي لا تدري لإعداد الطريق قبيل مجيء المسيح، وفي هذا أقوى دليل على وجود يد إلهية تسيطر على أحداث التاريخ لتصيغ منها ما يتفق مع البرنامج الإلهي للعالم.
وهناك أكثر من دليل يرضى عنه العقل، ويصادق عليه المنطق السليم، لتأكيد أن المسيح شخصية حقيقية عاشت على مسرح التاريخ.
فالمسيح شخصية تاريخية حقيقية لأن كتاب العهد القديم وهو الكتاب المقدس عند اليهود الذين رفضوا المسيح في مجيئه الأول، يعلن بوضوح عن ميلاده ويرسم معالم شخصيته التي نراها في جلالها في كتابات العهد الجديد: عشرات النبوات جاءت عن المسيح في العهد القديم متحدثة بدقة متناهية عن ميلاده، ورسالته، وطريقة موته، وقيامته، وصعوده إلى السماء، ومجيئه الثاني ليملك على هذه الأرض. وكانت معاني هذه النبوات واضحة تماماً في صيغتها ومفهومها للدارسين لها، لنأخذ على سبيل المثال نبوة منها وهي الخاصة بمكان ميلاد المسيح.. فتعال معي لنقرأ ما ذكره إنجيل متى: «َلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ٱلْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ ٱلْمَلِكُ ٱضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ ٱلشَّعْبِ، وَسَأَلَهُمْ: أَيْنَ يُولَدُ ٱلْمَسِيحُ؟ فَقَالُوا لَهُ: فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، لأَنَّهُ هٰكَذَا مَكْتُوبٌ بِٱلنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ ٱلصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ» (مت ٢: ١ - ٦).
والنبي الذي ذكر اسم المدينة التي سيولد فيها المسيح هو ميخا النبي الذي عاش قبل ميلاد المسيح بسبعمائة سنة، وهذه بالحرف كلمات نبوته: «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا ٥: ٢).
هذه واحدة من النبوات التي تمت بحرفيتها في المسيح، وليس يعقل كما أنه ليس من المستطاع أن يرسم كُتّاب العهد الجديد، وهم في غالبيتهم شرذمة من غير العلماء أو المثقفين، وصورة تنطبق كل الانطباق على الصورة التي تنبأ بها العهد القديم، لو لم يكن المسيح شخصية حقيقية رأوها، وعاشروها ولمسوها، ولهذا تحدثوا عنها بيقين كما قال يوحنا الرسول تلميذ المسيح الحبيب: «اَلَّذِي كَانَ مِنَ ٱلْبَدْءِ، ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ، ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، ٱلَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ... ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ» (١ يو ١: ١ و٣).
ومع هذا كله فإننا نجد ظاهرة جديرة بالعناية والتفكير في الكتاب المقدس هي ظاهرة الكلمات الصريحة التي تتحدث عن اختيار الله لإسرائيل وتفضيلهم على الشعوب الأخرى التي عاصرتهم، ثم الحديث عن اللعنات والغضب الإلهي الذي أدركهم، فلماذا اهتم الكتاب المقدس بالتاريخ اليهودي، والديانة اليهودية، والشعب اليهودي. وما علة اختيار الله لهم، ثم تشتيتهم وصب اللعنات عليهم بسبب عصيانهم؟ (تثنية ٢٨: ١٥ - ٦٨) والجواب الوحيد الذي نجده في الكتاب المقدس ويرضى عنه العقل بارتياح: هو أن الله قد اختار هذا الشعب في القديم، وكرمهم هذا التكريم، لأن المسيح مخلص العالم كان مزمعاً أن يأتي منهم كما كتب بولس الرسول قائلاً: «إِنَّ لِي حُزْناً عَظِيماً وَوَجَعاً فِي قَلْبِي لاَ يَنْقَطِعُ! فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُوماً مِنَ ٱلْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، ٱلَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَهُمُ ٱلتَّبَنِّي وَٱلْمَجْدُ وَٱلْعُهُودُ وَٱلاشْتِرَاعُ وَٱلْعِبَادَةُ وَٱلْمَوَاعِيدُ، وَلَهُمُ ٱلآبَاءُ، وَمِنْهُمُ ٱلْمَسِيحُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلٰهاً مُبَارَكاً إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ» (رو ٩: ٢ - ٥).
فلكي يتمم الله ما قاله بخصوص المسيح، اختار هذا الشعب، وتحفظ عليه، وأحاطه بالعناية حتى جاء منه المسيح مخلص العالم، وفي هذا أصدق دليل على أن المسيح شخصية حقيقية.
والمسيح شخصية تاريخية حقيقية بدليل وجود المسيحية:
لا جدال في أن المسيحية ديانة شائعة بين أكثر من ثلث سكان الكرة الأرضية. فمن ذا الذي أوجد هذا الدين المؤثر المنتشر العجيب؟
لقد أوجد «بوذا» البوذية، وأوجد «كنفوشيوس» الكنفوشية، وأوجد «زرادشت Zoroaster» الزرادشتية. وإذا تابعنا التفكير المنطقي السليم الذي يحتم أن يكون لكل دين مؤسس أو نبي أو زعيم، وجب أن نؤمن بوجود مؤسس للمسيحية هو بلا شك شخص المسيح الكريم.
وقد قال «العقاد» في هذا الصدد ما يلي: «متى حدث في تاريخ الأديان أن أشتاتاً مبعثرة من الشعائر والمراسم تلفق نفسها وتخرج في صورة مذهب مستقل دون أن يعرف أحد كيف تلفقت، وكيف انفصلت كل منها عن عبادتها الأولى، ومن هو صاحب الرغبة وصاحب المصلحة في هذه الدعوة، وكيف برز هذا العامل التاريخي الديني على حين فجأة قبل أن ينقضي جيل واحد، ولماذا كان يخفى مصادر الشعائر والمراسم الأولى ولا يعلنها إلا منسوبة إلى شخص المسيح؟.. إن الدعوة المسيحية فيها وجهة نظر متناسقة وقوام شخصي مرسوم.. وقد جاءت في أوانها وفاقاً لمطالب زمانها بحيث تكون الغرابة أن يخلو الزمن من رسول يقوم بالدعوة ويصلح لأمانتها، لا أن يوجد الرسول ونستغرب أن يكون، ولو أن مؤلفاً بعد ذلك العصر أراد أن يخلق رسولاً يوافق رسالته المنشودة لوقف به الخيال دون ذلك التوفيق المطبوع».
فالمسيحية بوجودها القوي، وكيانها الرائع، وتأثيرها البالغ الذي أحدثته في العالم إذ أخرجته من بربريته وحبه للدماء، وأشرقت عليه بأنوار المحبة النازلة من السماء دليل عملي على حقيقة شخصية المسيح.
أجل لقد صار العالم بعد المسيحية غير العالم الذي كان قبلها، فقد رفعت المسيحية قدر المرأة، بعد أن كانت سلعة من سقط المتاع تُشترى وتُباع، صار لها اعتبارها وكرامتها.. وألغت المسيحية تعدد الزوجات. فأعطت بذلك للأسرة استقراراً وأمناً، كذلك جعلت الفرد يشعر بقيمته فلم يعد وجهاً ضائعاً بين الوجوه في زحام الحياة، بل عرف أنه كيان مستقل يهتم به الله ويرعاه «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو ٣: ١٦).
ووجود المسيحية بهذا التأثير الفعال دليل واضح على حقيقة وجود المسيح، أما إذا أردنا أن ننكر شخصية المسيح التاريخية فهذا يوجب علينا أن ننكر كذلك بوذا، وكنفوشيوس، وزرادشت، وغيرهم من مؤسسي الديانات الموجودة في أرضنا، بل يوجب علينا أن نجد علة ترضى عنها عقولنا لوجود المسيحية، وأن نفسر كيف انتصرت المسيحية، وقد لاقى أتباعها الكثير من صنوف الاضطهاد والعذاب والاستشهاد، وكانوا في غالبيتهم شرذمة من الجهلاء والضعفاء، وعلى الوثنية التي كانت تحميها الدولة الرومانية بقوتها العسكرية، مع أن المسيحية في انتصارها وانتشارها لم يقم أتباعها بغزوة من الغزوات، ولم يشهروا سيفاً، ولم يستخدموا ضغطاً مادياً لإرغام الناس على اعتناقها والإيمان بمسيحها.
ويقيناً أننا لن نستطيع أن نجد تعليلاً لكل ما احدثته المسيحية من تغيير في عالمنا إلا باعترافنا أنه حدث بتأثير شخص حقيقي عاش فعلاً على هذه الأرض، وأن هذا الشخص هو المسيح الكريم.
وهناك دليل آخر يؤكد أن المسيح شخصية تاريخية هو دليل المبادئ السامية التي نطق بها: ولقد تعلمنا من نظرية «الأواني المستطرقة» أن السائل لا يرتفع إلى أعلى من المستوى الذي انحدر منه.. وعلى هذا القياس نسأل: أين هو الإنسان البشري الذي يقدر أن يقول ما قاله المسيح في كلماته «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ» (مت ٥: ٢٧ و٢٨) أو أن يقول «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلأَيْمَنِ فَحَّوِلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً» (مت ٥: ٣٨ و٣٩) أو أن يرفع من قدر الفقير حتى وأنت تتصدق عليه فيقول: «اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَّوِتْ قُدَّامَكَ بِٱلْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ ٱلْمُرَاؤُونَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي ٱلأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ ٱلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (مت ٦: ١ - ٤). أو أن يجعل الصلاة صلة خفية بين الإنسان وخالقه، ليست لمجرد التظاهر، بل للتعبد بنقاء وطهر فيقول «وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَٱلْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا ٱلشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَٱدْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا ٱلْكَلاَمَ بَاطِلاً كَٱلأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ» (مت ٦: ٥ - ٨).
إن المبادئ السامية التي نطق بها المسيح، وسجلتها الأناجيل هي أصدق دليل على أن شخصية المسيح شخصية تاريخية حقيقية، إذ ليس في وسع إنسان بشري مهما كانت عبقريته، أو سمت أخلاقياته أن ينطق بمثل هذه المبادئ، وأن يسلط علينا نوره الفاحص ليرينا شر قلوبنا، ونجاسة تصرفاتنا.
بقي علينا أن نرد على الذين يقولون بأن المؤرخين والكتاب الذين عاشوا في الوقت الذي عاش فيه المسيح ودعا لشريعته لم يذكروا أي شيء عنه بالمرة، فنقول أن أصحاب هذا الادعاء ينسون أو يتناسون أن المسيحية عاشت في القرون الثلاثة الأولى للميلاد في وسط اضطهاد لا مثيل له، وكان المسيحيون يعتبرون طائفة مغضوباً عليها من حكام الدولة الرومانية، ومن كهنة الديانة اليهودية.. فأي مؤرخ كان يجرؤ في مثل هذه الظروف أن يكتب بإفاضة عن المسيحية سيما وأن أتباعها كانوا في غالبيتهم من الفقراء المشردين الذين عاشوا في سراديب القبور Catacombs ولم يكن لهم تأثيراً يُذكر في أمور هذا العالم الشرير.
ومع ذلك فإننا نجد لمحات في كتب التاريخ القديم، جاءت في صيغ لا تعرض أصحابها للاضطهاد والتعذيب، نذكرها للشكاك لا لاعتقادنا بأهميتها، فإن عندنا العهد الجديد من الكتاب المقدس وفيه كل الصدق وكل اليقين بخصوص حقيقة المسيح، وإنما نذكرها لنسكت بها اعتراض المعترضين.
فقد جاء في تاريخ «فلافيوس يوسيفوس» المؤرخ اليهودي الذي عاش بين سنة ٣٧ - ٧٠ ميلادية هذا الكلمات: «إنه في ذلك العهد عاش يسوع، وهو إنسان قديس حكيم - إن جاز أن نسميه إنساناً، لأنه كان يصنع معجزات كثيرة، وكان معلماً لأناس يقبلون الحق بسرور، كان هو المسيح. ولما حكم عليه بيلاطس بالصلب، بناء على طلب الرؤساء بيننا. لم يتركه الذين أحبوه أولاً، لأنه ظهر لهم حياً بعد ثلاثة أيام، كما سبق الأنبياء فأنبأوا عنه. وجماعة المسيحيين الذين سموا باسمه ما زالت باقية حتى هذا اليوم».
وقد ذكر الأستاذ محمد أبو زهرة في كتابه «محاضرات في النصرانية (الطبعة الثانية ١٩٤٩) ما يلي: «جاء في كتاب تاريخ الحضارة. قد كتب بلين، وكان والياً في آسيا إلى الأمبراطور تراجان (الذي دام حكمه من سنة ٩٨ - ١١٧ ميلادية) كتاباً يدل على الطريقة التي كان يعامل بها المسيحيون قال: «جريت مع من اتهموا بأنهم نصارى على الطريقة الآتية، وهو أني أسألهم إذا كانو مسيحيون فإذا أقروا أعيد عليهم السؤال ثانية وثالثة مهدداً بالقتل، فإن أصروا أنفذ عقوبة الإعدام فيهم مقتنعاً بأن غلطهم الشنيع، وعنادهم الشديد، يستحقان هذه العقوبة، وقد وجهت التهمة إلى كثيرين بكتب لم تذيل بأسماء أصحابها فأنكروا أنهم مسيحيين، وكرروا الصلاة للأرباب الذين ذكرت أسماءهم أمامهم، وقدموا الخمور والبخور لتمثال أتيت به عمداً مع تمائيل الأرباب، بل أنهم شتموا المسيح، ويُقال أن من الصعب إكراه المسيحيين الحقيقيين، ومنهم من اعترفوا بمسيحيتهم، ولكنهم كانوا يثبتون بأن جريمتهم في أنهم اجتمعوا في بعض الأيام قبل طلوع الشمس على عبادة المسيح على أنه رب، وعلى إنشاد الترانيم إكراماً له، وتعاهدوا فيما بينهم لا على ارتكاب جرم، بل على ألا يسرقوا، ولا يقتلوا، ولا يزنوا وأن يوفوا بعهودهم».
وذكر أيضاً «ديل وإيلين روتين» في كتابهما «هل نستطيع أن نعرف؟» المطبوع سنة ١٩٦٨ ما سجله المؤرخ «تاسيتوس Tacitus» وهو أعظم المؤرخين اللاتينيين وقد عاش في النصف الأول من القرن الثاني، وكتب عن الشائعات التي حامت من ان نيرون نفسه كان المسؤول عن الحريق الهائل الذي التهم روما سنة ٦٤ ميلادية فقال:
«لكن لم يكن باستطاعة كل العزاء الذي يمكن أن يأتي من إنسان، ولا كل الهدايا التي يمكن أن يمنحها الأمير، ولا كل التكفير الذي يمكن أن يقدم للآلهة، أن يساعد نيرون على نفي الاعتقاد الشائع بأنه هو الذي أمر بهذا الحريق. لذلك رغبة منه في طمس الإشاعة، اتهم كذباً وعاقب بأقسى أنواع العذاب أولئك الأشخاص الذين كانوا يدعون مسيحيين، والذين أبغضوا بسبب تكاثرهم الهائل، وقد حكم بالموت على المسيح مؤسس هذا الاسم، ومات كمجرم بيد بيلاطس البنطي والي اليهودية، فانتشرت مرة أخرى البدعة الوبيلة، ليس في اليهودية وحدها حيث بدأت، بل في مدينة رومية كلها أيضاً».
ومع كل ما تقدم من وثائق تاريخية صحيحة المصادر، فإنه يمكن لمن يريد الرجوع إلى كتب التاريخ أن يقرأ ما سجله «ثالوس» حوالي سنة ٥٢ ميلادية، وسيتونيوس، ولوسيان، فكلهم أكدوا حقيقة وجود المسيح والمسيحية.
وكل شهادات التاريخ تؤكد أن المسيح شخصية حقيقية، وأن المسيحيين الذين عاشوا في القرن الأول للميلاد كانوا يجتمعون لعبادته على أنه رب، وعلى إنشاد الترانيم لحمده، مما يؤكد أن المسيحيين في القرن الأول للميلاد آمنوا بالمسيح على أنه «الله الابن» الذي تجسد لفدائهم، وفي هذا ما يهدم ادعاء المدعين بأن عقيدة ألوهية المسيح دخيلة على المسيحية، وقد لاقى المسيحيون في القرون الثلاثة الأولى للميلاد بسبب عبادتهم للمسيح، واعترافهم به إلهاً مباركاً كائناً على الكل أفظع أنواع العذاب، حتى لقد كانوا يضعون بعضهم في جلود الحيوانات ويطرحونهم للكلاب فتنهشهم، وصلبوا بعضهم، وألبسوا بعضهم ثياباً مطلية بالقار، وجعلوهم مشاعل يُستضاء بها. وكان الأمبراطور نيرون نفسه يسير في ضوء تلك المشاعل الإنسانية.
لقد كان المسيح شخصية حقيقية فرض نفسه على الزمن، وانتشر تأثيره إلى ما وراء حدود فلسطين، فوصل إلى أوروبا وآسيا، وبعض أجزاء أفريقيا، ووصلت أخباره إلى بلاد العرب وذاعت في القرن السادس للميلاد، واحتلت جزءاً غير قليل من القرآن الذي يؤمن به المسلمون، نكتفي هنا بذكر ما جاء منها في سورة مريم بهذه الكلمات: «وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَٱتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُّزِي إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنْسِيّاً فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلّزَكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» (سورة مريم ١٩: ١٦ - ٣٤).
ليست هناك تعليقات: