حتمية فداء الله للإنسان
إننا نعتقد بحتمية الإيمان بأن المسيح هو الله على أساس إيماننا بحتمية
فداء الله للإنسان، ونؤمن بحتمية الفداء على أساس إيماننا بعدل الله ورحمة
الله.
فالله إله عادل كما يقول داود النبي: «لأَنَّ ٱلرَّبَّ عَادِلٌ وَيُحِبُّ ٱلْعَدْلَ» (مز ١١: ٧) وهو في ذات الوقت إله رحيم كما نقرأ: «ٱلرَّبُّ إِلٰهٌ رَحِيمٌ وَرَأُوفٌ، بَطِيءُ ٱلْغَضَبِ وَكَثِيرُ ٱلإِحْسَانِ وَٱلْوَفَاءِ. حَافِظُ ٱلإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ ٱلإِثْمِ وَٱلْمَعْصِيَةِ وَٱلْخَطِيَّةِ. وَلٰكِنَّهُ لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً» (خر ٣٤: ٦ - ٧).
ومع أنه جل شأنه قادر على كل شيء، إلا أنه ملتزم بالعمل في حدود صفاته، ولا يمكن أن يكون سبحانه غير هذا إلا إذا تصورنا إلهاً فوضوياً يتصرف بغير مبادئ أو قوانين، وهو تصور خاطئ تعالى الله عنه علواً كبيراً.
فالغفران الإلهي للإنسان الخاطئ يحتم أن يوفق الله بين عدله ورحمته، وهذا هو أساس إيماننا بحتمية الفداء.
ذلك لأنه إذا غفر الله خطية الإنسان على أساس رحمته وحدها، لاستهان الإنسان بعدالة الله ووصاياه، وأصبح فعل الخطية سهلاً لديه، إذ يرى أن الله لم يتكلف شيئاً لمنحه غفراناً لخطاياه.
وإذا نفذ الله في الإنسان حكمه ضد خطاياه على أساس عدله وحده، لرأى الإنسان «الله» إلهاً جباراً منتقماً، ولأصبح بتأثير إحساسه بقسوة الله عنيداً، قاسياً، بليد الشعور ولاستمر في عناده ومعاصيه حتى الهلاك.
وإذن فلا بد من الفادي ولا بد من الفداء.
واين يمكن أن يوجد الفادي الذي يرضى عدل الله، ويعلن رحمته؟
إنه لا يمكن أن يكون مجرد إنسان؟
لأن الإنسان خاطئ بطبيعته وتصرفاته كما يقرر ذلك داود في المزمور بالكلمات: «اَلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي ٱلْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ ٱللّٰهِ؟ ٱلْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعاً، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (مز ١٤: ٢ و٣) وكما يقول في موضع آخر «إِنَّمَا بَاطِلٌ بَنُو آدَمَ. كَذِبٌ بَنُو ٱلْبَشَرِ. فِي ٱلْمَوَازِينِ هُمْ إِلَى فَوْقُ. هُمْ مِنْ بَاطِلٍ أَجْمَعُون» (مزمور ٦٢: ٩) وكما يقول ميخا النبي عن شعب الله القديم: «أَحْسَنُهُمْ مِثْلُ ٱلْعَوْسَجِ وَأَعْدَلُهُمْ مِنْ سِيَاجِ ٱلشَّوْكِ» (ميخا ٧: ٤) وكما قال بولس الرسول: «لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رو ٣: ٢٢ و٢٣)
ليس بين البشر إذاً من هو لفداء البشرية...
فلا إبراهيم الخليل، ولا موسى الكليم، ولا إشعياء النبي، ولا إيليا، ولا إرميا ولا أي واحد من الأنبياء كان باستطاعته فداء الإنسان، لأنهم جميعاً بشر، «في الموازين هم إلى فوق».
ولنبدأ قضية الفداء من أولها حتى نقف على كل دقائقها...
عندما خلق الله آدم وحواء ميزهما بميزة «حرية الإرادة» وأمرهما جل شأنه بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، وكان هذا الأمر الإلهي لامتحان حرية إرادة الإنسان، وسقط الإنسان في الامتحان بإغراء الشيطان الذي تكلم في الحية وأغرى حواء بالأكل من الشجرة المحرمة «َأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ» (تك ٣: ٦).
ومع أننا لا نعلم شيئاً عن طبيعة ثمر شجرة «معرفة الخير والشر» إلا أننا نعلم أن تغييراً كيميائياً قد حدث في دم آدم وحواء نتيجة الأكل من هذا الثمر، فلوث هذا الدم بجراثيم الخطية والإثم «فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان» (تك ٣: ٧)، وبغير شك أن ما حدث في دم آدم وحواء من تغيير كان بمثابة تسمم لهذا الدم نتج عنه الموت كما قال الله لآدم «وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تك ٢: ١٧)، وبالتناسل انتقل هذا الدم الملوث بالخطية إلى جميع ذرية آدم، وهذا هو التعليل الكتابي لوجود الميل الطبيعي لعمل الشر في كل إنسان، إذ قد لوث ثمر شجرة معرفة الخير والشر دم الإنسان بجراثيم الخطية وانتقلت هذه الجراثيم بالتناسل إلى ذرية آدم، فأصبح كل إنسان يولد بطبيعة ساقطة يسميها الكتاب المقدس «الإنسان العتيق» (أفسس ٤: ٢٢) نسبة إلى آدم «الإنسان القديم» و «الأب الاول» للبشرية ويسميها كذلك «الخطية الساكنة في الجسد» (رومية ٧: ١٦ و١٧) باعتبار أن الخطية الموروثة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من طبيعة الإنسان وأخضعت جسده للموت.
وهذا ما قرره بولس الرسول في كلماته: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رو ٥: ١٢) وما أكده داود في كلماته: «هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُّوِرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مز ٥١: ٥).
هكذا سقط الإنسان الذي خلقه الله على أحسن تقويم، لكن الخطية نزلت به إلى أسفل سافلين، فانحدرت البشرية إلى مهاوي الشر والرذيلة، التي نراها في الحروب، والخيانات والنجاسة، والتفرقة العنصرية والكراهية، إلى نهاية قائمة الخطايا السوداء.
والآن ماذا يفعل الله بذلك الإنسان الشرير الأثيم، الذي أصبحت نفسه أمارة بالسوء؟!
كيف يوفق جل شأنه بين عدله الذي يطالبه بتوقيع القصاص على الإنسان وهو قصاص رهيب أبدي عظيم، يتناسب مع عدله وقداسته، نراه في كلماته: «هَا كُلُّ ٱلنُّفُوسِ هِيَ لِي. نَفْسُ ٱلأَبِ كَنَفْسِ ٱلاِبْنِ. كِلاَهُمَا لِي. اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال ١٨: ٤) «لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رو ٦: ٢٣) والموت في مفهوم الكتاب المقدس لا يعني مجرد خروج الروح من الجسد، بل يعني الوجود الأبدي بعيداً عن الله، كما قيل عن المرأة المتنعمة: «وَأَمَّا ٱلْمُتَنَعِّمَةُ فَقَدْ مَاتَتْ وَهِيَ حَيَّةٌ» (١ تي ٥: ٦) وكما وصف بولس الرسول حالة الخطاة قائلاً: «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا» (أفسس ٢: ١) وكذلك كما وصفهم بالكلمات: «إِذْ هُمْ مُظْلِمُو ٱلْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ ٱللّٰهِ» (أفسس ٤: ١٨).
أجل كيف يوفق الله بين عدله الذي يطالبه بتوقيع القصاص وبين رحمته التي تطالبه بأن يصفح عن خطية الإنسان؟
وحين نسأل كيف يوفق الله بين عدله ورحمته، فيكون «باراً» و «يبرر» الإنسان الأثيم، نحن لا ننتقص من قدرته جل شأنه، ولا نضعه سبحانه وتعالى في موقف الإنسان الضعيف الذي وجد نفسه فجأة في مأزق دقيق، فأخذ يضرب يميناً وشمالاً لعله يجد مخرجاً، حاشا.
فالواقع أن الله لم يفاجأ بسقوط الإنسان في الخطية وعصيانه لأمره، لأنه كان يعلم مقدماً بهذا السقوط كما قال يعقوب: «مَعْلُومَةٌ عِنْدَ ٱلرَّبِّ مُنْذُ ٱلأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ» (أع ١٥: ١٨) وكان قد رتب مقدماً فداء الإنسان كما يقرر بطرس الرسول قائلاً: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ» (١ بطرس ١: ١٨ - ٢٠).
والفداء ليس بدعاً في المسيحية، لكنه موجود بصور مختلفة في جميع الأديان، ووجوده في الديانات الوثنية والسماوية يدل على وحدة مصدره مع ما حدث في مفهومه من خلاف نتيجة ابتعاد الإنسان عن الحق الذي أعلنه له الله.
ففي الوثنية فداء انحرف به الإنسان حتى صار يقدم أولاده فداء عن نفسه، وقد حرم الله الذبائح البشرية إذ كلم شعبه القديم قائلاً: «مَتَى دَخَلْتَ ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي يُعْطِيكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ، لاَ تَتَعَلَّمْ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولٰئِكَ ٱلأُمَمِ. لاَ يُوجَدْ فِيكَ مَنْ يُجِيزُ ٱبْنَهُ أَوِ ٱبْنَتَهُ فِي ٱلنَّارِ» (تث ١٨: ٩ و١٠).
وفي اليهودية فداء يظهر في كلمات موسى للعبرانيين في القديم: «وَيَكُونُ مَتَى أَدْخَلَكَ ٱلرَّبُّ أَرْضَ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ كَمَا حَلَفَ لَكَ وَلآبَائِكَ وَأَعْطَاكَ إِيَّاهَا، أَنَّكَ تُقَدِّمُ لِلرَّبِّ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ، وَكُلَّ بِكْرٍ مِنْ نِتَاجِ ٱلْبَهَائِمِ ٱلَّتِي تَكُونُ لَكَ. ٱلذُّكُورُ لِلرَّبِّ. وَلٰكِنَّ كُلَّ بِكْرِ حِمَارٍ تَفْدِيهِ بِشَاةٍ. وَإِنْ لَمْ تَفْدِهِ فَتَكْسِرُ عُنُقَهُ. وَكُلُّ بِكْرِ إِنْسَانٍ مِنْ أَوْلاَدِكَ تَفْدِيهِ» (خر ١٣: ١١ - ١٣).
وفي الإسلام فداء كما يسجل الدكتور أحمد الشرباصي في كتابه «الفداء في الإسلام» فيقول: «القرآن هو أساس الإسلام ودستوره.. يلفت أبصارنا وبصائرنا إلى وجود التضحية والفداء منذ مطلع الخليقة. فهو يحدثنا في سورة المائدة فيقول: «وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ آدَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ» (المائدة ٥: ٢٧). وفي القربان هنا معنى التضحية والفداء، لأن القربان هو ما يتقرب به الإنسان إلى الله، وصار في التعارف اسماً للنسيكة، أي الذبيحة وجمعه قرابين» .
- و «مادة» الفداء في لغة العرب تدل على جعل شيء مكان شيء حمي له، تقول: فديته أفديه كأنك تحميه بنفسك أو بشيء يعوض عنه، فيقال فديته بمالي، وفديته بأبي وأمي، كأنه اشتراه بما قدم، ومن هنا جاءت كلمة «الفدية» وهي ما يقي به الإنسان نفسه من مال يبذله في عبادة قصر فيها، ككفارة اليمين، أو كفارة الصوم، أو غيرها.
- والفداء أيضاً فكاك الأسير، والمفاداة هي أن تفتك الأسير بأسير مثله.
- وهناك كلمات تُستعمل بمعنى كلمة الفداء، مثل كلمة «البذل» وإن كانت كلمة «البذل» تدل في أصلها على «ترك صيانة الشيء» ولعل السر في هذا الاستعمال أن الإنسان حين يفدي عقيدته أو أمته بنفسه، يكون كأنه قد ترك صيانة نفسه فقدمها رخيصة من أجل ما يؤمن به.
وكذلك تستعمل كلمة «التضحية» بمعنى الفداء، والضحية أو الأضحية في الشرع هي الذبيحة التي يقدمها الإنسان لمقصد ديني، ولعل استعمال كلمة «التضحية» بمعنى الفداء كان على تشبيه الإنسان الذي يقدم روحه فداء لعقيدته، بمن يذبح هذه الروح ويجعلها ضحية وفداء، وعلى هذا جاء في شأن الذبيح اسماعيل: «وفديناه بذبح عظيم» أي جعلنا هذا المذبوح فداء له، وخلصناه به من الذبح ا. ه.
فالفداء كما شرحه الدكتور الشرباصي يتمثل في تقديم القربان الذي يتقرب به الإنسان إلى الله، ففي القربان معنى التضحية والفداء، وهو يعني «جعل شيء مكان شيء حمى له» وهو «شراء شيء بما تقدمه عوضاً عنه» وهو «فكاك الأسير بمثله» وهو «خلاص من كان سيذبح بواسطة ذبيح سواه».
ومن طبيعة الإنسان أن يعظم الفداء إذ تتجلى فيه أعلى مراتب التضحية.
منذ سنوات ذكرت صحيفة الأهرام خبراً تحت عنوان «الأم التي ماتت من البرد لتنقذ طفلها» فقالت: «ضحت الأم بحياتها لتنقذ طفلها البالغ من العمر عشرة أشهر من الموت برداً».
وقعت هذه القصة المؤثرة في مدينة «بوسنيا» التي تحيط بها الجبال. في يوجوسلافيا كانت «اليجابيسيك» في طريقها إلى زوجها ومعها طفلها الصغير وابنتها «إيفيتا» التي تبلغ من العمر الثالثة عشرة من عمرها، عندما هاجمتهم عاصفة ثلجية شديدة، فسارعت الأم بخلع ثوبها الوحيد ولفت الطفل به واحتضنته في صدرها العاري، بينما جرت «إيفيتا» تصرخ طالبة النجدة دون جدوى، وعندما عادت الفتاة وجدت أمها ميتة وقد تحجرت أصابعها فوق الطفل وهي تضمه في قوة إلى صدرها.
ويقف الإنسان معجباً بتضحية هذه الأم، مع أنها تضحية إنسان لأجل إنسان تتضاءل تماماً أمام «الذبح العظيم» الذي فدى به الله الإنسان، عندما سلم ابنه الوحيد للموت على الصليب.
ومنذ وقت ليس ببعيد كتب أحدهم كتاباً بعنوان «كيف.. ولماذا» ؟ ذكر فيه عدة أسئلة تتعلق بقضية الفداء فقال: «لنا أن نسأل كيف يحاسب المسيح على خطيئة لم يرتكبها؟ وأي شريعة ترضى بذلك؟.. ثم إذا كان الصلب والقتل هو للتكفير عن خطيئة آدم وذريته.. فلنا أن نسأل ما موقف البشر منذ آدم إلى عهد المسيح؟.. هل كانوا في عذاب إلى أن افتداهم بنفسه؟ ثم يا ترى ما موقف البشر بعد المسيح؟.. وإلى الآن.. وإلى أن تقوم الساعة؟ هل يشملهم فداءه أم يكون الفداء فقط لمن سبقوه؟ فإذا كان يشملهم فكل من أخطأ لن يحاسب، فيستوي القاتل والمقتول.. والسارق والمسروق.. وهذا أمر يتنافى مع ما جاء به الدين.. أي دين.. ويجافي ما في الأناجيل نفسها. وإذا كان لا يشملهم فهل يأتي فداء آخر؟ أم لا يأتي.. فإذا لم يأت.. لا تتحقق بذلك العدالة بين البشر قبل المسيح وبعده.. وإذا كان سيأتي فداء.. فلماذا يظل بعض الناس في ظل عذابهم مما فعلوا بعد الموت مدداً أطول من غيرهم تتناسب وبعد مدة موتهم عن قيام الفداء؟ ثم كيف يقدم الله سبحانه وتعالى الفداء ليكون سبباً للمغفرة. أليس هو الذي يملك المغفرة وحده؟ فإن شاء غفر وإن شاء لا يغفر.. أرأيت إنساناً أخطأ ابنه أو تابعه.. فبدلاً من أن يعتذر المخطئ. أو يفرض صاحب الحق عليه الجزاء نجده يختار غيره من الصالحين الطاهرين المستقيمين فيوقع عليه أقسى العقاب.. الصلب والقتل جزاء جرم ارتكبه من لا يعرفه ولا دخل له في ذنبه. والقياس مع الفارق.. الفارق الكبير جداً ولهذا فإن عقيدة الكفارة والفداء أصبحت موضع بحث وجدل بين المسيحيين أنفسهم، وظهرت بعض الآراء التي تعارض هذه العقيدة منها ما يقوله «روي ديسكون سميث» في كتابه «ضوء جديد على البعث» ونصه: «لا يوجد متدين مهما كان مذهبه أو فرقته يعتقد أن الله العظيم قد أرسل ابنه الوحيد إلى هذه البشرية التي لا توازي في مجموعها منذ بدء الخلق إلى نهايته كوكباً من الكواكب المتناهية في الصغر لكي يعاني موتاً وحشياً فوق الصليب لترضيه النقمة الإلهية، ولكي يساعد جلالته على أن يغفر للبشرية على شرط أن تعلن البشرية اعترافها بهذا العمل الهمجي الذي لا يستسيغه عقل ألا وهو الداء» ا. ه.
ونجيب على أسئلة الكاتب فيما يلي من سطور فنقول:
كيف يحاسب المسيح على خطيئة لم يرتكبها؟ وأي شريعة ترضى بذلك؟ فنقول لو كان المسيح مجرد إنسان بريء قد احتمل العقوبة عن الإنسان الأثيم لكانت قصة الصلب أفظع مأساة همجية سجلها التاريخ، ولما رأينا في صليب المسيح أية معاني تبين حب الله للإنسان، بل العكس لكان هذا الصلب إعلاناً عن ظلم الله الذي أراد أن يحل مشكلة الخطيئة ويوفق بين عدله ورحمته وإذ به بدل الإنسان لمذنب الأثيم.
لكننا نرى في الكتاب المقدس أن المسيح ليس مجرد إنسان بل أنه ابن الله الأزلي خالق الإنسان، ومع كونه «ابن الله» و «الله الابن» ارتضى طوعاً واختياراً أن يموت عوضاً عن الإنسان الذي هو خالقه لكي يفدي بموته الإنسان، وقد تمثلت في موته على الصليب كل معاني الفداء.
- فبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب استطاع الإنسان أن يتقرب إلى الله كما قال بولس الرسول: «وَلٰكِنِ ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ» (أفسس ٢: ١٣).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب وجد الإنسان الحمى الذي يحتمي به من عدل الله كما نقرأ في الكلمات: «إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ» (رو ٨: ١).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب اشترى المسيح الإنسان كما نقرأ في ترنيمة سفر رؤيا يوحنا الموجهة إلى شخص المسيح الكريم «مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ» (رؤ ٥: ٩).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب تحرر الأسير كما قال بفمه المبارك: «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ» (لو ٤: ١٨).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب نجا الإنسان من الموت الأبدي إذ حمل المسيح الموت عنه كما قال بولس الرسول «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ، إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُعَيَّنِ لأَجْلِ ٱلْفُجَّارِ» (رو ٥: ٦).
وقد تمثل البذل في قمته الشامخة في فداء المسيح للبشر، فقد ترك المسيح صيانة نفسه فقدم ذاته فدية عن كثيرين كما قال بفمه المبارك: «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مر ١٠: ٤٥)، وهو قد فعل ذلك ليس رغماً عنه بل طواعية واختياراً كما قال في كلماته الوضاءة: «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يو ١٠: ١٧ و١٨).
أما الشريعة التي رضيت بموت المسيح، فهي شريعة حب الله للناس الخطاة، وشريعة الحب فوق كل قانون بشري: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو ٣: ١٦). «فَإِنَّهُ بِٱلْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ ٱلصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رو ٥: ٧ و٨).
ونصل الآن إلى الجزء الثاني من أسئلة مؤلف كتاب «كيف ولماذا؟» وفيه يقول: ما موقف البشر منذ أيام آدم إلى عهد المسيح؟ هل كانوا في عذاب إلى أن افتداهم بنفسه؟ وما موقف البشر بعد المسيح؟.. وإلى أن تقوم الساعة.. هل يشملهم فداءه؟
ونجيب قائلين: «إن جميع الذين غفر الله خطاياهم منذ آدم إلى عهد المسيح، نالوا هذا الغفران بدم المسيح الكريم، تماماً كالذين نالوا الغفران بعد موت المسيح، والذين سوف ينالونه حتى تقوم الساعة. ذلك أنه من البديهيات الأولية أنه لا يوجد عند الله ماضي، وحاضر ومستقبل في حساب الزمن، فالمستقبل كاللوح المفتوح معروف ومكشوف لعيني الله العارف بكل شيء كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذٰلِكَ ٱلَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا» (عب ٤: ١٣) وكما قال داود النبي: «يَا رَبُّ، قَدِ ٱخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ... لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا لأَنَّكَ أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي... لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي ٱلْخَفَاءِ وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَّوَرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا» (مز ١٣٩: ١ و٢ و٤ و١٣ - ١٦) وتؤكد هذه الكلمات أن الله يعرف تفاصيل حياة كل إنسان قبل أن يولد ذلك الإنسان كما قال الله لإرميا النبي: «قَبْلَمَا صَّوَرْتُكَ فِي ٱلْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ ٱلرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيّاً لِلشُّعُوبِ» (إر ١: ٥).
وبهذه المعرفة السابقة وضع الله خطايا البشر على يسوع المسيح لكي يتمتع بفدائه الذين يؤمنون بهذا الفداء كما قال إشعياء النبي: «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إش ٥٣: ٦).
ذكر الدكتور «توم مالون» راعي كنيسة عمانوئيل المعمدانية ببونتياك - بأمريكا هذه القصة قال: «حضرت سيدة إلى غرفة الصلاة ذات ليلة، وكانت مشكلتها بخصوص الغفران.. إنها لم تكن متيقنة من نوالها الخلاص. قالت: دكتور مالون.. هذا ما يزعجني.. إنني أستطيع أن أرى كيف يمكن أن يغفر لي الرب خطاياي التي فعلتها في الماضي، وقد تقدمت الليلة لقبول المسيح ونوال الخلاص. ولكني أعلم أنني ما زلت أعيش في عالم الخطية، وأعيش مع زوج غير مخلّص، وأشتغل في عالم أناس غير مخلصين، فما الذي سأفعله بخطاياي التي سأعملها مستقبلاً»؟ هكذا عبرت عن المشكلة التي تقلق الكثيرين.. ماذا عن الخطايا التي أرتكبها بعد؟ كيف أحصل على غفران هذه الخطايا؟ قلت لها: «عندما مات المسيح منذ حوالي ألفي سنة كانت كل خطاياك مستقبلة، أعني خطاياك التي سقطت فيها في الماضي كانت مستقبلة، ولم تكوني قد سقطت فيها بعد لأنك لم تكوني قد أتيت إلى العالم بعد.. وعندما مات المسيح على صليب الجلجثة مات لأجل خطايا القائمتين «خطايا الماضي» و «خطايا المستقبل» وهكذا فإن غفران الله «كامل وتام».
إن المؤمن المتجدد الذي فعل خطية عليه أن يبادر بالاعتراف بها أمام الله وإلا فقد شركته معه «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (١ يو ١: ٩).
والآن لماذا تقول هذه الآية: إن الله «أمين وعادل» بدلاً من أن تقول «إن اعترفنا بخطايانا فهو رحيم ورؤوف حتى يغفر لنا خطايانا»؟ إن السبب هو أن المسيح عندما مات على الصليب، حمل كل خطاياي الحاضرة والمستقبلة ذلك لأن خطاياي كلها كانت مستقبلة حين مات المسيح... وعندما أعترف لله بخطاياي، فلكي يكون الآب أميناً مع ابنه الذي سدد مطاليب العدل الإلهي بموته على الصليب لا بد أن يغفر لي كل ما أعترف به من خطايا. إن هذه الآية خاصة بالمؤمن الذي أخطأ ضد الله بعد أن نال الخلاص.
الآن لكي نؤكد أن جميع الذين نالوا الغفران وخلصوا منذ آدم إلى عهد المسيح، نالوه بدم المسيح الكريم، يجب أن نعود إلى القصة من البداية، فعندما سقط آدم وحواء كساهما الله بجلد حيوان بريء ذبحه ليأخذ جلده لسترهما كما تقول الكلمات «وَصَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لآدَمَ وَٱمْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا» (تك ٣: ٢١) وبهذه الكيفية أعلن الله للإنسان منذ سقوطه أن الوسيلة الوحيد لخلاصه وستر عريه هي «دم البديل» وبهذا عرف «آدم» أن الدم وحده هو الطريق الوحيد للستر، وأنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!» (عب ٩: ٢٢).
وقبل أن يطرد الله آدم وامرأته من جنة عدن أسمعهما حديثه إلى الحية وكان يحمل في كلماته الوعد بمجيء المخلص المجيد، فقال للحية: «وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تك ٣: ١٥). وهكذا خرج آدم وامرأته من الجنة بعد أن تأكدا أن الفداء والخلاص «بالدم» وأن ذلك الدم هو «دم المخلص الموعود» الذي سيولد بطريقة معجزية لا كما يولد سائر البشر بل يولد من عذراء لم يمسسها بشر، ولذا يُسمى نسل المرأة، وقد تم وعد الله في شخص المسيح كما قال بولس الرسول «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلا ٤: ٤ و٥).
ويعلن لنا الكتاب المقدس أن «آدم» قد لقن مبدأ «الفداء بالدم» لذريته، وأكد لهم «مجيء الفادي الكريم» معلناً لهم أن «أجرة الخطية هي موت» وأنه لا يمكن لإنسان أن يخلص من هذا الموت بالصوم، أو الصلاة، أو تعذيب النفس بالحرمان، أو الإحسان إلى إنسان مسكين، لان طريق الخلاص الوحيد هو «الفداء بالدم» دم طاهر كريم يفدي دم الإنسان الملوث بجراثيم الخطية والإثم.
ويرينا العهد القديم أن مبدأ الفداء «بالبديل» هو مبدأ إلهي، فبعد أن وُلد اسحق لإبراهيم بطريقة معجزية، إذ ولدته أمه بعد أن انتهى كل رجاء بشري في أن تلد كما نقرأ في الكلمات: «بِٱلإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضاً أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ، وَبَعْدَ وَقْتِ ٱلسِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ ٱلَّذِي وَعَدَ صَادِقاً» (عب ١١: ١١)، طلب الله من إبراهيم أن يقدم إسحق ابنه محرقة له، معتبراً إياه الابن الوحيد لإبراهيم باعتباره الابن الذي كان في قصد الله أن يعطيه له من سارة امرأته حسب إرادته الصالحة، فقال له «خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ ٱلَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ ٱلْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ ٱلْجِبَالِ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ» (تك ٢٢: ٢) وكان هذا الطلب الإلهي لامتحان إبراهيم.. وقد نجح إبراهيم في الامتحان عن طريق «الإيمان» كما نقرأ «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ - قَدَّمَ ٱلَّذِي قَبِلَ ٱلْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ» (عب ١١: ١٧ و١٨).
ولما وضع إبراهيم اسحق على المذبح، وأخذ السكين ليذبحه، ناداه ملاك الرب من السماء وقال «لا تمد يدك إلى الغلام.. لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني».
وهنا تسترعي انتباهنا في المشهد هذه الكلمات: «فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكاً فِي ٱلْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ ٱلْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضاً عَنِ ٱبْنِهِ» (تك ٢٢: ١٣).
ونرى في هذه الكلمات أن «الكبش» جاء بتدبير إلهي، وأنه مات «عوضاً أو «بديلاً» عن «اسحق» ففداء المسيح للبشرية على الصليب هو تدبير الله العزيز الحكيم» إذ فوق الصليب مات المسيح بدافع حبه «عوضاً» عن الإنسان الخاطئ كما قال بولس الرسول: «ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلا ٢: ٢٠)، وفي المسيح يمكننا أن نرى «الذبح العظيم» لأن أي حيوان يقدم فدية عن البشر لا يمكن أن يكون ذبحاً عظيماً.
لقد قدم الله مواعيده الصادقة بمجيء الفادي، وبالإيمان في مواعيد الله المؤكدة لمجيء الفادي خلص المؤمنون قبل عهد المسيح. أجل بهذا الإيمان خلص «هابيل» الابن الثاني لآدم، وتقبل الله قربانه الذي تقرب به إليه كما نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلّٰهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ ٱللّٰهُ لِقَرَابِينِهِ» (عب ١١: ٤) وهكذا نقرأ في سفر التكوين «فَنَظَرَ ٱلرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ» (تك ٤: ٤).
لكن منذ مطلع الخليقة وقد حاول الإنسان أن يبتدع لنفسه ديناً من قلبه الأثيم، ومن وحي غروره، فظن أنه يستطيع أن يخلص من خطاياه بحسناته وأعمال يديه، وكان الرائد الأول للديانة الإنسانية هو «قايين» الذي لم يتقبل الله قربانه، وذلك لثلاثة أسباب:
أولها: إن طريقه لم يكن طريق الإيمان، فهو لم يصدق الله ولم يؤمن بمواعيده بمجيء المخلص. ثانياً: أنه أراد أن يرضي الله ويخلص من خطاياه بأعمال يديه، فقدم «مِنْ أَثْمَارِ ٱلأَرْضِ قُرْبَاناً لِلرَّبِّ» (تك ٤: ٣) ولكن الله رفض قربانه لأنه كان من عمل إنسان لوثته الخطية من باطن قدمه إلى هامته. وثالثها: أنه قدم قربانه من ثمار أرض لعنها الله بسبب خطية الإنسان (تك ٣: ١٧).
ويسجل سفر التكوين هذا الرفض الإلهي لقربان قايين بالكلمات: «وَلٰكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ» (تك ٤: ٥).
لقد كانت ديانة «قايين» ديانة شيطانية، ورغم غطاء الأعمال الصالحة الذي أراد «قايين» أن يستر به نفسه العارية، فقد انكشف الغطاء عن نفس مجرمة، إذ قام على أخيه هابيل وذبحه، وعن هذا يقول يوحنا الرسول «لَيْسَ كَمَا كَانَ قَايِينُ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ وَذَبَحَ أَخَاهُ. وَلِمَاذَا ذَبَحَهُ؟ لأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ شِرِّيرَةً، وَأَعْمَالَ أَخِيهِ بَارَّةٌ» (١ يو ٣: ١٢).
وهكذا يتبين لنا في وضوح وجلاء أنه منذ عهد آدم كان الخلاص بالدم، وإذ نسير مع تدرج التاريخ نرى الله يرسل أنبياءه لشعبه العظيم لكي يذكروا هذا الشعب بمجيء الفادي الكريم، بل نراه يأمر شعبه القديم بتقديم مختلف الذبائح والقرابين، وكل ذبيحة ترمز إلى ناحية من نواحي عمل المسيح الذي أتمه بموته على الصليب (إقرأ الأصحاحات الأولى من سفر اللاويين.
وقد كان مقدم «القربان» أو «الذبيحة» يضع يده على رأس المحرقة، كأنه يعلن أن خطاياه قد انتقلت إليها، وكان الكاهن يذبح الذبيحة ليؤكد لمقدمها أن «أجرة الخطية هي موت»، ثم يضع الذبيحة بعد ذبحها فوق الحطب الذي على نار المذبح ليؤكد لمقدمها أن الخطية أنتجت الموت الجسدي، والطرح في جهنم النار في ذات الوقت كما نقرأ في سفر رؤيا يوحنا: «وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ ٱلنَّارِ» (رؤ ٢٠: ١٥) (اقرأ لاويين ١: ٤ - ٩).
وهكذا أعلن الله في كتابه الكريم أن المسيح سيولد من عذراء (إشعياء ٧: ١٤)، وأنه سيولد في مدينة بيت لحم (ميخا ٥: ٢) وأنه سيموت مثقوب اليدين والرجلين على الصليب (مزمور ٢٢: ١٦) وأنه سيُدفن في قبر رجل غني (إشعياء ٥٣: ٩)، وأن موته سيكون لحمل خطية كثيرين (إشعياء ٥٣: ٥ و٦ و١١ و١٢) وأنه سيقوم من بين الأموات بعد ثلاثة أيام (متى ١٢: ٤٠ و١٦: ٢١).
وبهذه النبوات رسم الكتاب المقدس منذ القديم صورة مضيئة للمسيح صانع الفداء العظيم. هذا المسيح الذي به دخل المؤمنون إلى مكان راحتهم فلم يذهبوا إلى العذاب كما ظن مؤلف ذلك الكتاب. هذا المسيح الذي جعله الله «آية» إذ وُلد من عذراء لم يمسسها بشر، و «رحمة منه» إذ بموته رحم الله البشر الآثمين، وإلا فأي رحمة جاء بها المسيح لو لم يكن قد مات من أجل خطايانا على الصليب؟
هذا يأتي بنا إلى آخر أسئلة مؤلف كتاب: «كيف ولماذا؟» وهو يقول في هذا السؤال: ثم كيف يقدم الله سبحانه وتعالى الفداء ليكون سبباً للمغفرة؟ أليس هو الذي يملك المغفرة وحده؟ فإن شاء غفر وإن شاء لا يغفر؟
ونجيب قائلين: إنه كان لا بد من الفداء للغفران، ليكون الله «باراً» و «يبرر» الذين يؤمنون! يقول دكتور توم مالون: «كيف يمكن لله أن يغفر خطايا الإنسان؟» لا بد أن يكون هناك أساساً للغفران.. إذا ارتكب صبي خطأ ما وأحضروه لأبيه، فإن الوالد الشرير الضعيف هو الذي يقول لابنه على غير أساس وبدون توقيع عقوبة عليه «حسناً يا ولدي، لا تفكر في هذا الأمر مرة ثانية، لقد سامحتك».
إن غفراناً من هذا الطراز لا بد أن يخرج للعالم جيلاً مستهتراً بكل مبادئ الأخلاق والقوانين.. لكننا الآن نقف أمام إله قدوس، قال عنه الكتاب المقدس: «عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا ٱلشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ ٱلنَّظَرَ إِلَى ٱلْجَوْرِ» (حب ١: ١٣).
هنا الله القدوس... إله النور.. إله العدل.. الإله الكلي الطهارة وأمامه الإنسان الخاطئ، الفاسد، النجس، الضعيف. فكيف يمكن أن يتلاقى الله القدوس مع الإنسان النجس؟
أين الأساس الذي بموجبه يقول الله للإنسان: «مغفورة لك خطاياك»؟ كيف يكون الله «باراً» و «يبرر» في ذات الوقت الإنسان الشرير؟
دعني أصور لك الأمر، لنفرض أننا في قاعة المحكمة، وها هو مجرم جريمته القتل يقف في قفص الاتهام، وها هي هيئة المحكمة تدخل فيسود هدوء عجيب.. لكن أنظر ها هو القاضي يقول للمجرم الأثيم: «إننا نعلم أنك ارتكبت الجريمة، ولكننا سنغفر لك، هذه مشيئتنا ورغبتنا على غير أساس من القانون، فلا تعد تفكر في جريمتك على الإطلاق».
إن الحاضرين في المحكمة سيصرخون: أي قاضي مستهتر هذا القاضي الذي يغفر للقاتل على غير أساس للغفران؟ وأي مجتمع هذا الذي يفقد سطوة القانون؟
والآن ما هو الأساس الذي بموجبه يغفر الله خطايا الناس، وكلها أكبر من جريمة القتل لأنها موجهة ضد الله القدوس الخالق العظيم؟
هنا يشرح بولس الرسول بالروح القدس حكمة الله فيقول: «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ ٱللّٰهِ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، بِرُّ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلّزَمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رو ٣: ٢١ - ٢٦).
أجل لقد غفر الله للإنسان على أساس موت المسيح على الصليب حسب غنى نعمته «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس ١: ٧) وأمام عظمة هذا العمل الفدائي الإلهي هتف بولس الرسول قائلاً: «يَا لَعُمْقِ غِنَى ٱللّٰهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ ٱلْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ ٱلاسْتِقْصَاءِ» (رو ١١: ٣٣).
«فَإِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُّوَةُ ٱللّٰهِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: سَأُبِيدُ حِكْمَةَ ٱلْحُكَمَاءِ وَأَرْفُضُ فَهْمَ ٱلْفُهَمَاءِ. أَيْنَ ٱلْحَكِيمُ؟ أَيْنَ ٱلْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ ٱللّٰهُ حِكْمَةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ؟ لأَنَّهُ إِذْ كَانَ ٱلْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ ٱللّٰهِ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ بِٱلْحِكْمَةِ، ٱسْتَحْسَنَ ٱللّٰهُ أَنْ يُخَلِّصَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ ٱلْكِرَازَةِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (١ كورنثوس ١: ١٨ - ٢٤).
أجل لقد ظهرت في فداء المسيح «قوة الله» المنتصرة على الشيطان (كولوسي ٢: ١٤ و١٥). وكما ظهرت «حكمة الله» التي على أساسها أعطي للإنسان الغفران.
فالذبائح الدموية في العهد القديم لم تكن سوى رمز للذبيح الأعظم، لكنها في ذاتها لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَاراً كَثِيرَةً تِلْكَ ٱلذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، ٱلَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ ٱلْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ ٱلْخَطِيَّةَ. وَأَمَّا هٰذَا (أي المسيح) فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ ٱلْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى ٱلأَبَدِ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ» (عب ١٠: ١١ و١٢).
وقديماً قال داود وهو يترجى رحمة الله: «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى» (مز ٥١: ١٦) وكذلك قال المزمور التاسع والاربعون «ٱلأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ٱلإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ ٱللّٰهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ، فَغَلِقَتْ إِلَى ٱلدَّهْرِ» (مز ٤٩: ٧ و٨)، وقال ميخا النبي أيضاً: «بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى ٱلرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلَهِ ٱلْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ ٱلرَّبُّ بِأُلُوفِ ٱلْكِبَاشِ، بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟» (ميخا ٦: ٦ و٧).
ومن كل هذه الكلمات نرى أن الإنسان منذ القديم قد أدرك عجز الذبائح الحيوانية، وعجزه عن فداء نفسه إذ أن الحيوان مهما كانت فصيلته لا يمكن أن يعادل في قيمته الإنسان، كما أن الإنسان الخاطئ لا يقدر أن يفدي نفسه أو أن يفديه سواه من البشر الخطاة، ولذا تمنى الإنسان منذ القديم أن يجد المصالح الذي يصالحه مع الله، كما عبر أيوب وهو في عمق آلامه وبلواه قائلاً: «لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَاناً مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ فَنَأْتِي جَمِيعاً إِلَى ٱلْمُحَاكَمَةِ. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا!» (أي ٩: ٣٢ و٣٣).
لقد تمنى أيوب أن يجد مصالحاً يضع يده على يده كإنسان، ويضع يده على يد الله كإله، أو في تعبير أدق تمنى أن يتجسد «الله» في صورة إنسان، لكي يصالحه مع نفسه.
وفي تجسد المسيح وموته على الصليب تمت المصالحة التي تمناها أيوب وهو يتكلم بلسان الإنسان الباحث عن الطريق إلى الله، كما قال بولس الرسول: «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ. إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (٢ كو ٥: ١٨ - ٢١). وكما قرر في رسالته إلى تيموثاوس قائلاً: «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ» (١ تي ٢: ٥ و٦).
ويقول دكتور كامبل مورجان أستاذ الكتاب المقدس: إن الكلمة اليونانية (Antiulutron) المترجمة إلى «فدية» لا توجد في كل العهد الجديد إلا في هذه الآية، وفوق ذلك فإنها كلمة غير معروفة في اللغة اليونانية الكلاسيكية، ويبدو لي أحياناً أن الروح القدس قد قاد بولس لصياغة كلمة جديدة باستخدامه لهذه الكلمة.
وعند فحص الكلمة «فدية» نرى أنها تشير إلى عمل بواسطته رفعت الخطية التي فصلت بين الله والإنسان بل إلى عمل رفع الإنسان من منطقة الوجود العقلي إلى منطقة الوجود الروحي، وهذا يعني أن المسيح قد أعاد بفدائه إمكانية الشركة المباشرة بين الله والناس، يجد أن الشر الذي أعمى عينيه، وأفقده الاحساس السليم بالله، قد أُزيل، وأن التعامل المباشر بينه وبين الله أصبح اختباراً عملياً في حياته، فنوال بركات الفداء مشروط بالتوبة الحقيقية عن الخطية، والإيمان القلبي الشخصي بيسوع المسيح «تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (أع ٢: ٣٨) وهذا الإيمان القلبي يحدث تغييراً حقيقياً في الحياة والاتجاهات كما قال بولس الرسول: «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (٢ كو ٥: ١٧).
ففداء المسيح لا يشجع الخاطئ على الاستمرار في خطاياه بل على العكس يغير حياته، ويعطيه قلباً جديداً يتجه إلى الله.
وإذا قال مؤلف كتاب كيف ولماذا؟ إن الصلب كان عملاً همجياً ووحشياً، أجبناه: أجل لقد كان كذلك من جانب الإنسان، الإنسان الذي ظهر في قمة شره يوم اختار باراباس اللص للحرية، وطلب من بيلاطس أن يصلب يسوع المسيح القدوس، ولقد كان المسيح له المجد قادراً على حماية نفسه والتنحي عن الصليب، لكنه ارتضى أن يموت طوعاً نيابة عن البشر، ولأنه خالق البشر بل خالق كل الأشياء ففي قدرته إذاً أن يفدي خليقته لأنه يزيد عنها قيمة لو وضعت أمامه في كفة الميزان، لذا كان في دمه الكفاية للتكفير عن خطايا العالم كله كما قال عنه يوحنا الرسول «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (١يو ٢: ٢) أجل كان هو «الذبح العظيم» الذي فدى بدمه الإنسان.
وقد عرف الله مقدماً وحشية الإنسان وهمجيته، عرف «أَنَّ كُلَّ تَصَّوُرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ» (تك ٦: ٥) ولكنه حوّل بحكمته شر الإنسان وهمجيته لخير البشرية الرازحة تحت أثقال أوزارها كما قرر بطرس في كلماته القائلة: «هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أع ٢: ٢٣) وهذه هي الحكمة الإلهية التي أوضحها بولس بالكلمات: «وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (١ كو ١: ٢٣ و٢٤).
لقد سمح الله القادر على كل شيء للناس الضعفاء أن يكونوا المحكمة، والقاضي، والمحلفين، والنيابة، ومنفذي القانون، حتى ينفذوا في ابنه حكم الموت الذي كان لا بد أن ينفذ فيهم، وحتى يروا مدى فظاعة ما فعلته الخطية بهم إذ جعلتهم يصلبون ابن الله الذي أحسن إليهم، وذلك عندما يتأكدون من حقيقة الشخص الذي مات لأجلهم.
وفي القديم عامل أبناء يعقوب أخاهم يوسف بالشر فباعوه عبداً للتجار الاسماعيليين، الذين باعوه بدورهم إلى «فوطيفار» في مصر، ولكن الله حول شرهم لخير يوسف وخير الناس وخيرهم. ولما أتوا إليه بعد موت أبيه قائلين «أَبُوكَ أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ قَائِلاً: هٰكَذَا تَقُولُونَ لِيُوسُفَ: آهِ! ٱصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ عَبِيدِ إِلٰهِ أَبِيكَ... فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: لاَ تَخَافُوا. لأَنَّهُ هَلْ أَنَا مَكَانَ ٱللّٰهِ؟ أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرّاً، أَمَّا ٱللّٰهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْراً، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا ٱلْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْباً كَثِيراً» (تك ٥٠: ١٦ - ٢٠).
هكذا كان أيضاً في «صلب المسيح» قصد به صالبوه شراً، وقصد به الله فداء أبدياً، ولأن الفادي لا بد أن يكون إلهاً وإنساناً في وقت واحد لكي يتمم بحق عملية الفداء، إذ لا يعقل ولا يُستساغ أن يكون الحيوان أياً كان نوعه أو فصيلته فداء للإنسان، ولأن الفداء أمر حتمي لينال به الإنسان الغفران. فلهذا السبب يتحتم الإيمان بأن المسيح هو الله.
(٣ ) السبب الثالث لحتمية الإيمان بأن المسيح هو الله، هو حتمية إعلان الله عن ذاته للإنسان: من أول مبادئ علم اللاهوت، إن فكرة الإنسان عن الإله الذي يعبده تطبع أثرها العميق في حياته العملية، لأن الناس يتمثلون في حياتهم اليومية بالإله الذي يعبدونه كما قال كاتب المزمور في الكلمات: «لِمَاذَا يَقُولُ ٱلأُمَمُ: «أَيْنَ هُوَ إِلٰهُهُمْ؟» إِنَّ إِلٰهَنَا فِي ٱلسَّمَاءِ. كُلَّمَا شَاءَ صَنَعَ. أَصْنَامُهُمْ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي ٱلنَّاسِ. لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ. لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. لَهَا مَنَاخِرُ وَلاَ تَشُمُّ. لَهَا أَيْدٍ وَلاَ تَلْمِسُ. لَهَا أَرْجُلٌ وَلاَ تَمْشِي، وَلاَ تَنْطِقُ بِحَنَاجِرِهَا. مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا، بَلْ كُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا» (مز ١١٥: ٢ - ٨).
لذا فمنذ البدء تاق الإنسان أن يرى الله وتجسد شوقه في كلمات قديسي القدم، فقال أيوب: «مَنْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ!» (أي ٢٣: ٣) وقال موسى: «أَرِنِي مَجْدَكَ» (خر ٣٣: ١٨) وقال إشعياء: «لَيْتَكَ تَشُقُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ» (إش ٦٤: ١) وقال فيلبس: «أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا» (يو ١٤: ٨).
وشوق الإنسان لرؤية الله ليس أمراً غريباً، فلقد خلق الله الإنسان على صورته، وقبل أن يسقط الإنسان في الخطية كانت له علاقة مباشرة مع الله، فلقد كان الله يأتي إليه في الجنة، ويبدو أن الإنسان في برارته قد رأى الله، فلما سقط أثرت الخطية في ذهنه، وتشوهت الصورة الحقيقية التي كانت في فكره عن الله، فكان لا بد أن يعمل الله شيئاً ليعيد صورته الصحيحة إلى ذهن الإنسان، وقديماً عبر المرنم العبري عن شوقه إلى الله بالكلمات: «كَمَا يَشْتَاقُ ٱلإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ هٰكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا ٱللّٰهُ» (مز ٤٢: ١).
وقد يقول قائل: إننا نستطيع أن نرى الله في الطبيعة التي خلقها ويقيناً أن «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مز ١٩: ١) لكن قدرة الله الظاهرة في الطبيعة تشعر الإنسان بتفاهته، بل تشعره ببعد الله عنه وعدم اهتمامه به كما عبر دواد عن ذلك بالكلمات «إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، ٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ ٱلَّتِي كَّوَنْتَهَا، فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ!» (مز ٨: ٣ و٤).
إذاً فقد كان من المحتم أن يتجسد الله ليعلن للإنسان أنه قريب منه، ويظهر له عنايته به، ويؤكد له اهتمامه بدقائق حياته، ويشبع في ذات الوقت أشواق قلبه.
وتجسد الله كان دائماً هو رجاء الإنسان، فالوثنيون آمنوا بإمكان تجسد الله فقالوا عن بولس وبرنابا: «إِنَّ ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا» (أع ١٤: ١١).
واليهود آمنوا بإمكانية ظهور الله في الجسد فنحن نقرأ في سفر التكوين عن ظهور الرب لإبراهيم في الكلمات: «وَظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ ٱلنَّهَارِ» (تك ١٨: ١).
وكذلك نقرأ عن ظهور الله لمنوح وامرأته في صورة رجل في الكلمات: «فَأَسْرَعَتِ ٱلْمَرْأَةُ وَرَكَضَتْ وَأَخْبَرَتْ رَجُلَهَا: هُوَذَا قَدْ تَرَاءَى لِيَ ٱلرَّجُلُ» وبعد أن صعد الرجل في لهيب المذبح إلى السماء، أدرك منوح أن ذلك الرجل كان هو الله ظاهراً في صورة رجل فقال لامرأته «نمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱللّٰهَ» (قض ١٣: ١٠ و٢٢).
وقد كتب الدكتور «أحمد زكي» في عدد ديسمبر سنة ١٩٥٦ من مجلة الهلال في مقال بعنوان «الله والناس» هذه الكلمات:
«إن العامة تستجيب للأشياء بمقدار ما تحسها، وغير المحسوس أقل في وعيهم درجة، ولو ملأ السماء والأرض.
وفي سبيل إيضاح المبهم، وتجسيد ما لا يتجسد، نسبت الأديان جميعاً إلى الله ما يأتلف والتجسيد، تقريباً لمعنى الله من أفهام العامة، والعامة بعد هم جمهور الناس في كل زمان، وإلى زماننا هذا.
وأعطى القرآن لله يداً:
«إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» (سورة الفتح ٤٨: ١٠).
وأعطى القرآن لله وجهاً:
«كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ» (سورة الرحمن ٥٥: ٢٦ و٢٧).
وأعطى القرآن لله عيناً:
«قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُّوٌ لِي وَعَدُّوٌ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» (سورة طه ٢٠: ٣٦ - ٣٩).
وما كان لله يد تأخذ وتعطي
وما كان لله وجه يبقى وقد فنيت الوجوه
وما كان لله عين ترى، ثم لا ترى
إنه التجسيد الذي لا بد منه» ا.ه
كانت الأم تعلم طفلها أن الله موجود في السماء، وذات يوم تطلع الصغير إلى السماء وبكى، فلما سألته أمه عن سر بكائه قال:
«أريد يا ماما أن يفتح الله السماء وينزل لكي أراه».
ولقد تجسد «الله» في المسيح لكي يعلن عن ذاته وصفاته للناس كما قال بولس «وَبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (١ تي ٣: ١٦).
في كتاب ظهر سنة ١٩٦٦ تهجم أحدهم على عقيدة التجسد فقال: «لو كان المسيح إلهاً حقاً لكان ظهور الله في تلك الصورة البشرية داعية إلى التشويش على التفكير الإنساني في سبيل التعرف على الله إذ أن الله بظهوره في تلك الصورة المجسدة قد أعلن ذاته، وكشف للناس عن وجهه، وصار قريباً مدانياً لهم، بعد أن ظل دهوراً طويلة، محجباً عنهم، في بهائه وجلاله، لا تناله الأبصار ولا تحتويه العقول!
فهذا الإعلان - في الواقع - فوق أنه داعية لشرود العقل، وتشتت الفكر في ذات الله - هو إعلان يقلل من شأن الله، وينقص قدره ويذهب بالكثير من جلاله وعظمته، وما تتلقى النفوس من مشاعر الولاء والخضوع لله الكبير المتعال. حين تنظر إليه من وراء حجاب!
فالنفس البشرية طلعة، تتوقد اشواقها إلى المجهول، وتتحرك نزعاتها إلى عالم الغيب، فإذا انكشف لها المجهول، أو ظهر لها الغيب سكنت نزعاتها، وبردت أشواقها نحو هذا الشيء، الذي كانت تسعى إليه وتجد في البحث عنه!
«ولو ظهر الله للناس عياناً - على يقين استحالته - لسقطت هيبته من النفوس بعد حين، ولجاء اليوم الذي يصبح «الله» وهو يغدو ويروح بين الناس، كواحد من الناس!» ا.ه
وكلمات من هذا الطراز تصدق على البشر لكنها لا تصدق على الله، لان البشر تزداد هيبتهم حين يختفون وراء حجاب، وتسقط هيبتهم حين يندمجون بين الناس فتظهر عيوبهم وخطاياهم، أما الله جل وعلا فإن هيبته تزداد في أي صورة يظهر بها للناس ولذا فعندما جاء يهوذا التلميذ الخائن، والجند، والخدام من عند رؤساء الكهنة والفريسين بمشاعل ومصابيح وسلاح للقبض على المسيح نقرأ حينئذ الكلمات «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟» أَجَابُوهُ: «يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ». قَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ». وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أَنَا هُوَ» رَجَعُوا إِلَى ٱلْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى ٱلأَرْضِ» (يو ١٨: ٤ - ٦).
فهل رأيت متهماً يذهب الجنود للقبض عليه، فيتراجعون أمام بهاء مجده، ويسقطون أمام جلاله على الأرض؟
لقد حدثنا التاريخ عن القبض على نابليون، وعن موت الدكتاتور الإيطالي «موسوليني» الذي داسه شعبه بالأقدام... فلم نر جنوداً في مركز القوة يسقطون أمام واحد منهما على الأرض... لكن المسيح له المجد، أسقط ببهائه ومجد لاهوته الجنود الذين جاؤوا للقبض عليه، لكي يعلن لنا أنه سلم ذاته للموت ليس عجزاً منه بل طوعاً واختياراً لفدائنا.
وحجة القائل أن تجسد الله يسقط هيبته، حجة باطلة، فالناس سوف يقضون أبديتهم مع الله وفي رحابه، يرونه ويتحدثون إليه ويزدادون خشوعاً قدامه وإجلالاً لشخصه تبارك اسمه.
إن الطبيعة تعلمنا أنه من الممكن للأعلى أن ينزل إلى الأدنى، بينما يستحيل على الأدنى أن يرتقي من ذاته إلى الأعلى. يقول «م. ه. فنلي» في كتابه «منطق الإيمان» : «إننا نقسم العالم حولنا إلى ممالك ثلاث: المملكة المعدنية، والمملكة النباتية، والمملكة الحيوانية، والمعدني لن يرتقي ليدخل الممكلة النباتية، لكن النباتي ينحدر إلى المعدني ليستمد منه غذاءه كنبات.. والنباتي بدوره أيضاً لن يتعدى حدود مملكته إلى المملكة الحيوانية، ولكن الحيواني يتنازل فيجعل مما دونه طعاماً له فيصبح النباتي عندئذ جزءاً من نظام أعلى منه، هكذا الإنسان يقف متحيراً عاجزاً عن اكتشاف أسرار عالم الروح، إلا إذا نزل «الروحاني فأظهر نفسه للإنسان» وهذا تماماً ما فعله الله حينما تنازل وأظهر نفسه في شخص يسوع المسيح» .
وهذا هو ما قاله الكتاب المقدس عن حقيقة تجسد الله في شخص المسيح الكريم.
ففي إنجيل يوحنا نقرأ: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً... اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو ١: ١ و١٤ و١٨).
وفي ذات الإنجيل يقول فيلبس للمسيح: «يا سيد أرنا الآب وكفانا» فيرد عليه قائلاً: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا ٱلآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ» (يو ١٤: ٨ - ١٠).
ويكتب بولس الرسول إلى القديسين في كورنثوس قائلاً: «فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً، وَلٰكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ. لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ » (٢ كو ٤: ٥ و٦).
ومرة ثانية يكتب لهم: «ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (٢ كو ٥: ١٩).
إننا لا نستطيع أن نرى الله في وجه الملاك ميخائيل أو الملاك جبرائيل، ولا نستطيع أن نرى الله في وجه موسى أو إشعياء.
لكننا نستطيع أن نرى الله في «وجه يسوع المسيح» كما قال بفمه المبارك «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو ١٤: ٩).
منذ القديم سأل البشر: من هو الله؟
سألوا: هو هو إله قدوس؟
وجاء المسيح إلى أرضنا فرأينا في شخصه القدوس أن الله «قدوس» كما قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (عب ٧: ٢٦).
سألوا: هل الله قادر على كل شيء؟ هل يمكنه أن ينتصر على الطبيعة؟ والمرض؟ وأن يهزم الموت؟ وأن يحطم قوات الظلام؟
ورأينا المسيح يسكت البحر، ويشفي الأبرص، ويقيم لعازر من القبر، ويحرر الناس من سلطان الشيطان.
سألوا: هل يحب الله بني الإنسان؟
وجاء المسيح ليعلن لنا حب الله لبني الإنسان قائلاً: «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (يو ٣: ١٧ و١٨).
وهكذا رأينا الله في كل صفاته وسجاياه معلناً ذاته في شخص ابنه يسوع المسيح كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ» (عب ١: ١).
وهنا لا بد أن نقول أن هناك فرقاً كبيراً بين الإيمان بأن المسيح هو «الله» والإيمان بأن المسيح «شخص إلهي»، فالفرق بين «لاهوت المسيح Deity» وبين «إلهية المسيح Divinity» فرق كبير، فقد يكون المرء إلهياً دون أن يكون إلهاً. وسنوضح هذا حين نشرح الآيات الخاصة بلاهوت المسيح، لكننا هنا نكتفي بضرورة العناية باختيار ألفاظنا في الحديث عن المسيح في عالم امتلأ بالأفكار العصرية عن شخصه الكريم فالعصريون يؤمنون «بإلهية المسيح» بمعنى أنه «شخص إلهي» ولكنهم لا يؤمنون بلاهوت المسيح بمعنى أنه «الابن» الذي ظهر في الجسد.
لقد سمى المسيح باسم «الكلمة Logos» والحديث عن هذا الاسم يحتاج إلى مجلدات لكننا نكتفي هنا بالقول بأن هذا الاسم «الكلمة» يعني:
(١) القوة الخالقة «بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ» (مز ٣٣: ٦) «وَقَالَ ٱللّٰهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ» (تك ١: ٣) ويعني (٢) «الفكر أو العقل الإلهي» ويعني (٣) القوة الحافظة والحاملة لهذا الوجود (عب ١: ٣) ويعني (٤) التعبير المفهوم عن الله لذهن الإنسان.
سأل شاب مستر جرينفيلد هذا السؤال: هل تقدر أن تفسر لي: لماذا سمي يسوع المسيح «الكلمة»؟
أجاب مستر جرينفيلد: «أعتقد أن الكلام واسطة التفاهم بين البشر، والمسيح هو «الكلمة» لأنه واسطة التفاهم بين الله والناس» (١ تي ٢: ٥).
هنا قد يعترض أحدهم بالقول: كيف تتصور أن يرضى الله بأن يتجسد في صورة الإنسان، وأن يسمح للناس أن يلطموه على وجهه، ويبصقوا عليه، ويجلدوه، ويصلبوه على صليب؟
وأقول: إن الله قد سمح للناس أن يفعلوا به كل هذا، ليظهر لهم مدى عمق الشر في قلوبهم.. هل يمكنك أن تتصور إنساناً يجول محسناً على الفقراء، شافياً المرضى، ماسحاً للدموع من عيون الحزانى، فاعلاً كل ما هو جليل وجميل. ثم يجتمع عليه الناس فيضربوه ويقتلونه.. بأي حكم تحكم على هؤلاء الناس، وأي تصور تراه للشر الأسود الجاثم في قلوبهم؟!!
هكذا جاء المسيح يطعم الجياع، ويشفي المرضى، ويقيم الموتى، فاختار الناس الحرية والحياة للص اسمه «باراباس» وقادوا المسيح إلى الموت على الصليب، وهكذا أظهر الله مدى ما فعلته الخطية بالناس إذ عضوا اليد التي أطعمتهم، وضربوا الفم الذي حدثهم بالخير والحق والجمال، وقتلوا ذاك الذي وهبهم الصحة والبركة والحياة.
لكن أحدهم قد يصيح قائلاً: كلا ما قتلوه! لقد قتلوا شخصاً شبيهاً به..: قتلوا يهوذا تلميذه الخائن الذي ألقى عليه الله شبه المسيح أما المسيح فقد نجا من موت الصليب.
ونرد على هذا الادعاء مستعينين بأفكار «م.ه. فنلي» مع ما كتبناه في مجلة الأخبار السارة سنة ١٩٥٩ في هذا الموضوع فنقول:
(١) إنه من التجديف الصريح على الله أن نظن بأنه وهو الأمين المنزه عن الكذب قد خدع الناس، فغير شكل «يهوذا» إلى شكل المسيح، وبذلك غرر بملايين البشر على مدى القرون، الأمر الذي يقود الناس إلى الاعتقاد أن الله لن يعاقب الناس أيضاً على ما اقترفوه من خداع فقد سبقهم - حاشا جل شأنه - في عمل أكبر خدعة في التاريخ هي خدعة تغيير شكل يهوذا إلى شكل المسيح.
(٢) لا يستسيغ العقل أن يقبل بأن أتباع المسيح وحوارييه قد رضوا بالموت في سبيله من أجل خدعة لا أصل لها في حقيقة الإيمان المسيحي، إذ أنهم كانون يموتون بالملايين ورجاءهم الوحيد هو إعلانهم الجهري بأن المسيح مات لأجلهم على الصليب.
(٣) من المستحيل أن يكون الشخص الذي صُلب على الصليب شخصاً غير المسيح، فالأقوال السبعة التي نطق بها المصلوب تؤكد حقيقة شخصيته، ولا يعقل أن ينادي يهوذا الخائن الأثيم الله القدوس العظيم قائلا: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو ٢٣: ٣٤) فالتاريخ يسجل عن الذين ماتوا موت الصليب أنهم سمموا الهواء النقي بشتائمهم القذرة، وتجديفهم الشنيع، أما ذاك المصلوب فقد رددت الأرجاء صدى انتصاره الساحق في معركة الصليب حين قال: «قَدْ أُكْمِلَ» (يو ١٩: ٣٠)
وفي اللغة اليونانية الأصلية تتألف هذه العبارة من كلمة واحدة هي «تتلستي» وكانت كلمة شائعة الاستعمال في الحياة التجارية فعند تسديد «كمبيالة» لاستحقاق دفعها كان المستفيد يكتب على وجهها كلمة «تتلستي» التي تعني «سددت، انتهت، كملت، ألغيت» إذن فلم تكن صرخة المسيح وهو يصارع الموت اشتغاثة يائس تثير الشجن. استسلم بعدها إلى «إغماء» طويل كما يدعي العصريون بل بالحري كانت هتاف منتصر سدد مطاليب عدل الله ومحى صك الخطايا عن كل من يقبلوه، وإذن فلم يكن المصلوب يهوذا بل كان المسيح الفادي الكريم.
(٤) إن العهد القديم سبق فأنبأ عن تسليم يهوذا للمسيح وعن مصيره الأبدي فقال: «فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيراً، وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ... َوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ... أَحَبَّ ٱللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِٱلْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ» (مز ١٠٩: ٦ - ٢٠ اقرأ أعمال ١: ١٦ - ٢٠). وقال في موضع آخر، أيضاً: «رَجُلُ سَلاَمَتِي، ٱلَّذِي وَثَقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ» (مز ٤١: ٩) وقد تحدث المسيح عن يهوذا قبل أن يسلمه بقليل فقال: «إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ» (مت ٢٦: ٢٤).
(٥) حضرت «مريم أم يسوع» ساعة الصلب وجاز في نفسها سيف الألم كما أنبأها «سمعان الشيخ» (لو ٢: ٢٥) فلو كان «يهوذا» هو الذي صُلب وشبه لليهود أنه المسيح إذن لأحس «قلب الأم» بهذه الحقيقة ولذهبت لتوها تخبر التلاميذ أن الذي على الصليب ليس هو ابنها يسوع المسيح.
(٦) كان صلب المسيح موضوع النبوات، وقد تمت النبوات فيه فمن المستحيل أن يكون الذي صُلب هو يهوذا، فيهوذا لم يمت مصلوباً لكننا نقرأ عنه الكلمات: «حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ... ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ» (مت ٢٧: ٣ و٥) فكيف يكون يهوذا قد مات مصلوباً، ومات مخنوقاً في ذات الوقت!؟
(٧) تؤكد الظواهر التي حدثت في الطبيعة وقت صلب المسيح، بأن المصلوب لا يمكن أن يكون يهوذا، بل لم يكن مجرد إنسان لأنها ظواهر خارقة لم تحدث قط عند صلب إنسان، وقد سجلها متى بالكلمات: «وَمِنَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. وَنَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِيلِي إِيلِي، لَمَا شَبَقْتَنِي (أَيْ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) فَقَوْمٌ مِنَ ٱلْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا. وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ. وَأَمَّا ٱلْبَاقُونَ فَقَالُوا: ٱتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ. فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ. وَإِذَا حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ قَدِ ٱنْشَقَّ إِلَى ٱثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَٱلأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَٱلصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، وَٱلْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ ٱلْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا ٱلْمَدِينَةَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ. وَأَمَّا قَائِدُ ٱلْمِئَةِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا ٱلّزَلْزَلَةَ وَمَا كَانَ، خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (مت ٢٧: ٤٥ - ٥٤).
فهذه الظواهر الخارقة.. زلزلة الأرض.. تشقق الصخور.. شق حجاب الهيكل. لا يمكن أن تكون قد حدثت مصادفة، ولا يمكن أن تحدث عند موت إنسان مجرم أثيم كيهوذا.. وعلى هذا نؤكد بيقين بأن المصلوب كان المسيح «ابن الله».
(٨) تؤكد ظهورات المسيح بعد القيامة أنه هو الذي صلب، إذ عندما شك توما في قيامته وقال للتلاميذ رفقائه: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يو ٢٠: ٢٥)
جاء يسوع: «ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً. أَجَابَ تُومَا: رَبِّي وَإِلٰهِي. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو ٢٠: ٢٧ - ٢٩).
ومع ظهور المسيح لتوما ولآخرين، ظهر كذلك «لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ» (١ كو ١٥: ٦) مما يؤكد بما لا يعطي مجالاً للشك قيامته المجيدة.
هكذا يظهر لنا بيقين أن الذي صلب على الصليب لم يكن يهوذا الاسخريوطي التلميذ الخائن، الذي خنق نفسه على غصن شجرة فثقل جسمه عليه وسقط فانسكبت أحشاؤه كلها (أعمال ١: ١٨). ولم يكن أي شخص آخر ألقى الله عليه شبه المسيح بل أن الذي صلب حقاً ويقيناً كان هو المسيح، «ابن الله» الإعلان الكامل الذي أعلن فيه ذاته وحبه وقدرته للإنسان. وهكذا يتحتم علينا الإيمان بأن المسيح هو الله.
فالله إله عادل كما يقول داود النبي: «لأَنَّ ٱلرَّبَّ عَادِلٌ وَيُحِبُّ ٱلْعَدْلَ» (مز ١١: ٧) وهو في ذات الوقت إله رحيم كما نقرأ: «ٱلرَّبُّ إِلٰهٌ رَحِيمٌ وَرَأُوفٌ، بَطِيءُ ٱلْغَضَبِ وَكَثِيرُ ٱلإِحْسَانِ وَٱلْوَفَاءِ. حَافِظُ ٱلإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ ٱلإِثْمِ وَٱلْمَعْصِيَةِ وَٱلْخَطِيَّةِ. وَلٰكِنَّهُ لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً» (خر ٣٤: ٦ - ٧).
ومع أنه جل شأنه قادر على كل شيء، إلا أنه ملتزم بالعمل في حدود صفاته، ولا يمكن أن يكون سبحانه غير هذا إلا إذا تصورنا إلهاً فوضوياً يتصرف بغير مبادئ أو قوانين، وهو تصور خاطئ تعالى الله عنه علواً كبيراً.
فالغفران الإلهي للإنسان الخاطئ يحتم أن يوفق الله بين عدله ورحمته، وهذا هو أساس إيماننا بحتمية الفداء.
ذلك لأنه إذا غفر الله خطية الإنسان على أساس رحمته وحدها، لاستهان الإنسان بعدالة الله ووصاياه، وأصبح فعل الخطية سهلاً لديه، إذ يرى أن الله لم يتكلف شيئاً لمنحه غفراناً لخطاياه.
وإذا نفذ الله في الإنسان حكمه ضد خطاياه على أساس عدله وحده، لرأى الإنسان «الله» إلهاً جباراً منتقماً، ولأصبح بتأثير إحساسه بقسوة الله عنيداً، قاسياً، بليد الشعور ولاستمر في عناده ومعاصيه حتى الهلاك.
وإذن فلا بد من الفادي ولا بد من الفداء.
واين يمكن أن يوجد الفادي الذي يرضى عدل الله، ويعلن رحمته؟
إنه لا يمكن أن يكون مجرد إنسان؟
لأن الإنسان خاطئ بطبيعته وتصرفاته كما يقرر ذلك داود في المزمور بالكلمات: «اَلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي ٱلْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ ٱللّٰهِ؟ ٱلْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعاً، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (مز ١٤: ٢ و٣) وكما يقول في موضع آخر «إِنَّمَا بَاطِلٌ بَنُو آدَمَ. كَذِبٌ بَنُو ٱلْبَشَرِ. فِي ٱلْمَوَازِينِ هُمْ إِلَى فَوْقُ. هُمْ مِنْ بَاطِلٍ أَجْمَعُون» (مزمور ٦٢: ٩) وكما يقول ميخا النبي عن شعب الله القديم: «أَحْسَنُهُمْ مِثْلُ ٱلْعَوْسَجِ وَأَعْدَلُهُمْ مِنْ سِيَاجِ ٱلشَّوْكِ» (ميخا ٧: ٤) وكما قال بولس الرسول: «لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رو ٣: ٢٢ و٢٣)
ليس بين البشر إذاً من هو لفداء البشرية...
فلا إبراهيم الخليل، ولا موسى الكليم، ولا إشعياء النبي، ولا إيليا، ولا إرميا ولا أي واحد من الأنبياء كان باستطاعته فداء الإنسان، لأنهم جميعاً بشر، «في الموازين هم إلى فوق».
ولنبدأ قضية الفداء من أولها حتى نقف على كل دقائقها...
عندما خلق الله آدم وحواء ميزهما بميزة «حرية الإرادة» وأمرهما جل شأنه بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، وكان هذا الأمر الإلهي لامتحان حرية إرادة الإنسان، وسقط الإنسان في الامتحان بإغراء الشيطان الذي تكلم في الحية وأغرى حواء بالأكل من الشجرة المحرمة «َأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ» (تك ٣: ٦).
ومع أننا لا نعلم شيئاً عن طبيعة ثمر شجرة «معرفة الخير والشر» إلا أننا نعلم أن تغييراً كيميائياً قد حدث في دم آدم وحواء نتيجة الأكل من هذا الثمر، فلوث هذا الدم بجراثيم الخطية والإثم «فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان» (تك ٣: ٧)، وبغير شك أن ما حدث في دم آدم وحواء من تغيير كان بمثابة تسمم لهذا الدم نتج عنه الموت كما قال الله لآدم «وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تك ٢: ١٧)، وبالتناسل انتقل هذا الدم الملوث بالخطية إلى جميع ذرية آدم، وهذا هو التعليل الكتابي لوجود الميل الطبيعي لعمل الشر في كل إنسان، إذ قد لوث ثمر شجرة معرفة الخير والشر دم الإنسان بجراثيم الخطية وانتقلت هذه الجراثيم بالتناسل إلى ذرية آدم، فأصبح كل إنسان يولد بطبيعة ساقطة يسميها الكتاب المقدس «الإنسان العتيق» (أفسس ٤: ٢٢) نسبة إلى آدم «الإنسان القديم» و «الأب الاول» للبشرية ويسميها كذلك «الخطية الساكنة في الجسد» (رومية ٧: ١٦ و١٧) باعتبار أن الخطية الموروثة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من طبيعة الإنسان وأخضعت جسده للموت.
وهذا ما قرره بولس الرسول في كلماته: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رو ٥: ١٢) وما أكده داود في كلماته: «هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُّوِرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مز ٥١: ٥).
هكذا سقط الإنسان الذي خلقه الله على أحسن تقويم، لكن الخطية نزلت به إلى أسفل سافلين، فانحدرت البشرية إلى مهاوي الشر والرذيلة، التي نراها في الحروب، والخيانات والنجاسة، والتفرقة العنصرية والكراهية، إلى نهاية قائمة الخطايا السوداء.
والآن ماذا يفعل الله بذلك الإنسان الشرير الأثيم، الذي أصبحت نفسه أمارة بالسوء؟!
كيف يوفق جل شأنه بين عدله الذي يطالبه بتوقيع القصاص على الإنسان وهو قصاص رهيب أبدي عظيم، يتناسب مع عدله وقداسته، نراه في كلماته: «هَا كُلُّ ٱلنُّفُوسِ هِيَ لِي. نَفْسُ ٱلأَبِ كَنَفْسِ ٱلاِبْنِ. كِلاَهُمَا لِي. اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال ١٨: ٤) «لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رو ٦: ٢٣) والموت في مفهوم الكتاب المقدس لا يعني مجرد خروج الروح من الجسد، بل يعني الوجود الأبدي بعيداً عن الله، كما قيل عن المرأة المتنعمة: «وَأَمَّا ٱلْمُتَنَعِّمَةُ فَقَدْ مَاتَتْ وَهِيَ حَيَّةٌ» (١ تي ٥: ٦) وكما وصف بولس الرسول حالة الخطاة قائلاً: «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا» (أفسس ٢: ١) وكذلك كما وصفهم بالكلمات: «إِذْ هُمْ مُظْلِمُو ٱلْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ ٱللّٰهِ» (أفسس ٤: ١٨).
أجل كيف يوفق الله بين عدله الذي يطالبه بتوقيع القصاص وبين رحمته التي تطالبه بأن يصفح عن خطية الإنسان؟
وحين نسأل كيف يوفق الله بين عدله ورحمته، فيكون «باراً» و «يبرر» الإنسان الأثيم، نحن لا ننتقص من قدرته جل شأنه، ولا نضعه سبحانه وتعالى في موقف الإنسان الضعيف الذي وجد نفسه فجأة في مأزق دقيق، فأخذ يضرب يميناً وشمالاً لعله يجد مخرجاً، حاشا.
فالواقع أن الله لم يفاجأ بسقوط الإنسان في الخطية وعصيانه لأمره، لأنه كان يعلم مقدماً بهذا السقوط كما قال يعقوب: «مَعْلُومَةٌ عِنْدَ ٱلرَّبِّ مُنْذُ ٱلأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ» (أع ١٥: ١٨) وكان قد رتب مقدماً فداء الإنسان كما يقرر بطرس الرسول قائلاً: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ» (١ بطرس ١: ١٨ - ٢٠).
والفداء ليس بدعاً في المسيحية، لكنه موجود بصور مختلفة في جميع الأديان، ووجوده في الديانات الوثنية والسماوية يدل على وحدة مصدره مع ما حدث في مفهومه من خلاف نتيجة ابتعاد الإنسان عن الحق الذي أعلنه له الله.
ففي الوثنية فداء انحرف به الإنسان حتى صار يقدم أولاده فداء عن نفسه، وقد حرم الله الذبائح البشرية إذ كلم شعبه القديم قائلاً: «مَتَى دَخَلْتَ ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي يُعْطِيكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ، لاَ تَتَعَلَّمْ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولٰئِكَ ٱلأُمَمِ. لاَ يُوجَدْ فِيكَ مَنْ يُجِيزُ ٱبْنَهُ أَوِ ٱبْنَتَهُ فِي ٱلنَّارِ» (تث ١٨: ٩ و١٠).
وفي اليهودية فداء يظهر في كلمات موسى للعبرانيين في القديم: «وَيَكُونُ مَتَى أَدْخَلَكَ ٱلرَّبُّ أَرْضَ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ كَمَا حَلَفَ لَكَ وَلآبَائِكَ وَأَعْطَاكَ إِيَّاهَا، أَنَّكَ تُقَدِّمُ لِلرَّبِّ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ، وَكُلَّ بِكْرٍ مِنْ نِتَاجِ ٱلْبَهَائِمِ ٱلَّتِي تَكُونُ لَكَ. ٱلذُّكُورُ لِلرَّبِّ. وَلٰكِنَّ كُلَّ بِكْرِ حِمَارٍ تَفْدِيهِ بِشَاةٍ. وَإِنْ لَمْ تَفْدِهِ فَتَكْسِرُ عُنُقَهُ. وَكُلُّ بِكْرِ إِنْسَانٍ مِنْ أَوْلاَدِكَ تَفْدِيهِ» (خر ١٣: ١١ - ١٣).
وفي الإسلام فداء كما يسجل الدكتور أحمد الشرباصي في كتابه «الفداء في الإسلام» فيقول: «القرآن هو أساس الإسلام ودستوره.. يلفت أبصارنا وبصائرنا إلى وجود التضحية والفداء منذ مطلع الخليقة. فهو يحدثنا في سورة المائدة فيقول: «وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ آدَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ» (المائدة ٥: ٢٧). وفي القربان هنا معنى التضحية والفداء، لأن القربان هو ما يتقرب به الإنسان إلى الله، وصار في التعارف اسماً للنسيكة، أي الذبيحة وجمعه قرابين» .
- و «مادة» الفداء في لغة العرب تدل على جعل شيء مكان شيء حمي له، تقول: فديته أفديه كأنك تحميه بنفسك أو بشيء يعوض عنه، فيقال فديته بمالي، وفديته بأبي وأمي، كأنه اشتراه بما قدم، ومن هنا جاءت كلمة «الفدية» وهي ما يقي به الإنسان نفسه من مال يبذله في عبادة قصر فيها، ككفارة اليمين، أو كفارة الصوم، أو غيرها.
- والفداء أيضاً فكاك الأسير، والمفاداة هي أن تفتك الأسير بأسير مثله.
- وهناك كلمات تُستعمل بمعنى كلمة الفداء، مثل كلمة «البذل» وإن كانت كلمة «البذل» تدل في أصلها على «ترك صيانة الشيء» ولعل السر في هذا الاستعمال أن الإنسان حين يفدي عقيدته أو أمته بنفسه، يكون كأنه قد ترك صيانة نفسه فقدمها رخيصة من أجل ما يؤمن به.
وكذلك تستعمل كلمة «التضحية» بمعنى الفداء، والضحية أو الأضحية في الشرع هي الذبيحة التي يقدمها الإنسان لمقصد ديني، ولعل استعمال كلمة «التضحية» بمعنى الفداء كان على تشبيه الإنسان الذي يقدم روحه فداء لعقيدته، بمن يذبح هذه الروح ويجعلها ضحية وفداء، وعلى هذا جاء في شأن الذبيح اسماعيل: «وفديناه بذبح عظيم» أي جعلنا هذا المذبوح فداء له، وخلصناه به من الذبح ا. ه.
فالفداء كما شرحه الدكتور الشرباصي يتمثل في تقديم القربان الذي يتقرب به الإنسان إلى الله، ففي القربان معنى التضحية والفداء، وهو يعني «جعل شيء مكان شيء حمى له» وهو «شراء شيء بما تقدمه عوضاً عنه» وهو «فكاك الأسير بمثله» وهو «خلاص من كان سيذبح بواسطة ذبيح سواه».
ومن طبيعة الإنسان أن يعظم الفداء إذ تتجلى فيه أعلى مراتب التضحية.
منذ سنوات ذكرت صحيفة الأهرام خبراً تحت عنوان «الأم التي ماتت من البرد لتنقذ طفلها» فقالت: «ضحت الأم بحياتها لتنقذ طفلها البالغ من العمر عشرة أشهر من الموت برداً».
وقعت هذه القصة المؤثرة في مدينة «بوسنيا» التي تحيط بها الجبال. في يوجوسلافيا كانت «اليجابيسيك» في طريقها إلى زوجها ومعها طفلها الصغير وابنتها «إيفيتا» التي تبلغ من العمر الثالثة عشرة من عمرها، عندما هاجمتهم عاصفة ثلجية شديدة، فسارعت الأم بخلع ثوبها الوحيد ولفت الطفل به واحتضنته في صدرها العاري، بينما جرت «إيفيتا» تصرخ طالبة النجدة دون جدوى، وعندما عادت الفتاة وجدت أمها ميتة وقد تحجرت أصابعها فوق الطفل وهي تضمه في قوة إلى صدرها.
ويقف الإنسان معجباً بتضحية هذه الأم، مع أنها تضحية إنسان لأجل إنسان تتضاءل تماماً أمام «الذبح العظيم» الذي فدى به الله الإنسان، عندما سلم ابنه الوحيد للموت على الصليب.
ومنذ وقت ليس ببعيد كتب أحدهم كتاباً بعنوان «كيف.. ولماذا» ؟ ذكر فيه عدة أسئلة تتعلق بقضية الفداء فقال: «لنا أن نسأل كيف يحاسب المسيح على خطيئة لم يرتكبها؟ وأي شريعة ترضى بذلك؟.. ثم إذا كان الصلب والقتل هو للتكفير عن خطيئة آدم وذريته.. فلنا أن نسأل ما موقف البشر منذ آدم إلى عهد المسيح؟.. هل كانوا في عذاب إلى أن افتداهم بنفسه؟ ثم يا ترى ما موقف البشر بعد المسيح؟.. وإلى الآن.. وإلى أن تقوم الساعة؟ هل يشملهم فداءه أم يكون الفداء فقط لمن سبقوه؟ فإذا كان يشملهم فكل من أخطأ لن يحاسب، فيستوي القاتل والمقتول.. والسارق والمسروق.. وهذا أمر يتنافى مع ما جاء به الدين.. أي دين.. ويجافي ما في الأناجيل نفسها. وإذا كان لا يشملهم فهل يأتي فداء آخر؟ أم لا يأتي.. فإذا لم يأت.. لا تتحقق بذلك العدالة بين البشر قبل المسيح وبعده.. وإذا كان سيأتي فداء.. فلماذا يظل بعض الناس في ظل عذابهم مما فعلوا بعد الموت مدداً أطول من غيرهم تتناسب وبعد مدة موتهم عن قيام الفداء؟ ثم كيف يقدم الله سبحانه وتعالى الفداء ليكون سبباً للمغفرة. أليس هو الذي يملك المغفرة وحده؟ فإن شاء غفر وإن شاء لا يغفر.. أرأيت إنساناً أخطأ ابنه أو تابعه.. فبدلاً من أن يعتذر المخطئ. أو يفرض صاحب الحق عليه الجزاء نجده يختار غيره من الصالحين الطاهرين المستقيمين فيوقع عليه أقسى العقاب.. الصلب والقتل جزاء جرم ارتكبه من لا يعرفه ولا دخل له في ذنبه. والقياس مع الفارق.. الفارق الكبير جداً ولهذا فإن عقيدة الكفارة والفداء أصبحت موضع بحث وجدل بين المسيحيين أنفسهم، وظهرت بعض الآراء التي تعارض هذه العقيدة منها ما يقوله «روي ديسكون سميث» في كتابه «ضوء جديد على البعث» ونصه: «لا يوجد متدين مهما كان مذهبه أو فرقته يعتقد أن الله العظيم قد أرسل ابنه الوحيد إلى هذه البشرية التي لا توازي في مجموعها منذ بدء الخلق إلى نهايته كوكباً من الكواكب المتناهية في الصغر لكي يعاني موتاً وحشياً فوق الصليب لترضيه النقمة الإلهية، ولكي يساعد جلالته على أن يغفر للبشرية على شرط أن تعلن البشرية اعترافها بهذا العمل الهمجي الذي لا يستسيغه عقل ألا وهو الداء» ا. ه.
ونجيب على أسئلة الكاتب فيما يلي من سطور فنقول:
كيف يحاسب المسيح على خطيئة لم يرتكبها؟ وأي شريعة ترضى بذلك؟ فنقول لو كان المسيح مجرد إنسان بريء قد احتمل العقوبة عن الإنسان الأثيم لكانت قصة الصلب أفظع مأساة همجية سجلها التاريخ، ولما رأينا في صليب المسيح أية معاني تبين حب الله للإنسان، بل العكس لكان هذا الصلب إعلاناً عن ظلم الله الذي أراد أن يحل مشكلة الخطيئة ويوفق بين عدله ورحمته وإذ به بدل الإنسان لمذنب الأثيم.
لكننا نرى في الكتاب المقدس أن المسيح ليس مجرد إنسان بل أنه ابن الله الأزلي خالق الإنسان، ومع كونه «ابن الله» و «الله الابن» ارتضى طوعاً واختياراً أن يموت عوضاً عن الإنسان الذي هو خالقه لكي يفدي بموته الإنسان، وقد تمثلت في موته على الصليب كل معاني الفداء.
- فبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب استطاع الإنسان أن يتقرب إلى الله كما قال بولس الرسول: «وَلٰكِنِ ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ» (أفسس ٢: ١٣).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب وجد الإنسان الحمى الذي يحتمي به من عدل الله كما نقرأ في الكلمات: «إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ» (رو ٨: ١).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب اشترى المسيح الإنسان كما نقرأ في ترنيمة سفر رؤيا يوحنا الموجهة إلى شخص المسيح الكريم «مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ» (رؤ ٥: ٩).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب تحرر الأسير كما قال بفمه المبارك: «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ» (لو ٤: ١٨).
- وبواسطة ذبيحة المسيح على الصليب نجا الإنسان من الموت الأبدي إذ حمل المسيح الموت عنه كما قال بولس الرسول «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ، إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُعَيَّنِ لأَجْلِ ٱلْفُجَّارِ» (رو ٥: ٦).
وقد تمثل البذل في قمته الشامخة في فداء المسيح للبشر، فقد ترك المسيح صيانة نفسه فقدم ذاته فدية عن كثيرين كما قال بفمه المبارك: «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مر ١٠: ٤٥)، وهو قد فعل ذلك ليس رغماً عنه بل طواعية واختياراً كما قال في كلماته الوضاءة: «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يو ١٠: ١٧ و١٨).
أما الشريعة التي رضيت بموت المسيح، فهي شريعة حب الله للناس الخطاة، وشريعة الحب فوق كل قانون بشري: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو ٣: ١٦). «فَإِنَّهُ بِٱلْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ ٱلصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رو ٥: ٧ و٨).
ونصل الآن إلى الجزء الثاني من أسئلة مؤلف كتاب «كيف ولماذا؟» وفيه يقول: ما موقف البشر منذ أيام آدم إلى عهد المسيح؟ هل كانوا في عذاب إلى أن افتداهم بنفسه؟ وما موقف البشر بعد المسيح؟.. وإلى أن تقوم الساعة.. هل يشملهم فداءه؟
ونجيب قائلين: «إن جميع الذين غفر الله خطاياهم منذ آدم إلى عهد المسيح، نالوا هذا الغفران بدم المسيح الكريم، تماماً كالذين نالوا الغفران بعد موت المسيح، والذين سوف ينالونه حتى تقوم الساعة. ذلك أنه من البديهيات الأولية أنه لا يوجد عند الله ماضي، وحاضر ومستقبل في حساب الزمن، فالمستقبل كاللوح المفتوح معروف ومكشوف لعيني الله العارف بكل شيء كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذٰلِكَ ٱلَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا» (عب ٤: ١٣) وكما قال داود النبي: «يَا رَبُّ، قَدِ ٱخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ... لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا لأَنَّكَ أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي... لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي ٱلْخَفَاءِ وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَّوَرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا» (مز ١٣٩: ١ و٢ و٤ و١٣ - ١٦) وتؤكد هذه الكلمات أن الله يعرف تفاصيل حياة كل إنسان قبل أن يولد ذلك الإنسان كما قال الله لإرميا النبي: «قَبْلَمَا صَّوَرْتُكَ فِي ٱلْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ ٱلرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيّاً لِلشُّعُوبِ» (إر ١: ٥).
وبهذه المعرفة السابقة وضع الله خطايا البشر على يسوع المسيح لكي يتمتع بفدائه الذين يؤمنون بهذا الفداء كما قال إشعياء النبي: «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إش ٥٣: ٦).
ذكر الدكتور «توم مالون» راعي كنيسة عمانوئيل المعمدانية ببونتياك - بأمريكا هذه القصة قال: «حضرت سيدة إلى غرفة الصلاة ذات ليلة، وكانت مشكلتها بخصوص الغفران.. إنها لم تكن متيقنة من نوالها الخلاص. قالت: دكتور مالون.. هذا ما يزعجني.. إنني أستطيع أن أرى كيف يمكن أن يغفر لي الرب خطاياي التي فعلتها في الماضي، وقد تقدمت الليلة لقبول المسيح ونوال الخلاص. ولكني أعلم أنني ما زلت أعيش في عالم الخطية، وأعيش مع زوج غير مخلّص، وأشتغل في عالم أناس غير مخلصين، فما الذي سأفعله بخطاياي التي سأعملها مستقبلاً»؟ هكذا عبرت عن المشكلة التي تقلق الكثيرين.. ماذا عن الخطايا التي أرتكبها بعد؟ كيف أحصل على غفران هذه الخطايا؟ قلت لها: «عندما مات المسيح منذ حوالي ألفي سنة كانت كل خطاياك مستقبلة، أعني خطاياك التي سقطت فيها في الماضي كانت مستقبلة، ولم تكوني قد سقطت فيها بعد لأنك لم تكوني قد أتيت إلى العالم بعد.. وعندما مات المسيح على صليب الجلجثة مات لأجل خطايا القائمتين «خطايا الماضي» و «خطايا المستقبل» وهكذا فإن غفران الله «كامل وتام».
إن المؤمن المتجدد الذي فعل خطية عليه أن يبادر بالاعتراف بها أمام الله وإلا فقد شركته معه «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (١ يو ١: ٩).
والآن لماذا تقول هذه الآية: إن الله «أمين وعادل» بدلاً من أن تقول «إن اعترفنا بخطايانا فهو رحيم ورؤوف حتى يغفر لنا خطايانا»؟ إن السبب هو أن المسيح عندما مات على الصليب، حمل كل خطاياي الحاضرة والمستقبلة ذلك لأن خطاياي كلها كانت مستقبلة حين مات المسيح... وعندما أعترف لله بخطاياي، فلكي يكون الآب أميناً مع ابنه الذي سدد مطاليب العدل الإلهي بموته على الصليب لا بد أن يغفر لي كل ما أعترف به من خطايا. إن هذه الآية خاصة بالمؤمن الذي أخطأ ضد الله بعد أن نال الخلاص.
الآن لكي نؤكد أن جميع الذين نالوا الغفران وخلصوا منذ آدم إلى عهد المسيح، نالوه بدم المسيح الكريم، يجب أن نعود إلى القصة من البداية، فعندما سقط آدم وحواء كساهما الله بجلد حيوان بريء ذبحه ليأخذ جلده لسترهما كما تقول الكلمات «وَصَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لآدَمَ وَٱمْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا» (تك ٣: ٢١) وبهذه الكيفية أعلن الله للإنسان منذ سقوطه أن الوسيلة الوحيد لخلاصه وستر عريه هي «دم البديل» وبهذا عرف «آدم» أن الدم وحده هو الطريق الوحيد للستر، وأنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!» (عب ٩: ٢٢).
وقبل أن يطرد الله آدم وامرأته من جنة عدن أسمعهما حديثه إلى الحية وكان يحمل في كلماته الوعد بمجيء المخلص المجيد، فقال للحية: «وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تك ٣: ١٥). وهكذا خرج آدم وامرأته من الجنة بعد أن تأكدا أن الفداء والخلاص «بالدم» وأن ذلك الدم هو «دم المخلص الموعود» الذي سيولد بطريقة معجزية لا كما يولد سائر البشر بل يولد من عذراء لم يمسسها بشر، ولذا يُسمى نسل المرأة، وقد تم وعد الله في شخص المسيح كما قال بولس الرسول «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلا ٤: ٤ و٥).
ويعلن لنا الكتاب المقدس أن «آدم» قد لقن مبدأ «الفداء بالدم» لذريته، وأكد لهم «مجيء الفادي الكريم» معلناً لهم أن «أجرة الخطية هي موت» وأنه لا يمكن لإنسان أن يخلص من هذا الموت بالصوم، أو الصلاة، أو تعذيب النفس بالحرمان، أو الإحسان إلى إنسان مسكين، لان طريق الخلاص الوحيد هو «الفداء بالدم» دم طاهر كريم يفدي دم الإنسان الملوث بجراثيم الخطية والإثم.
ويرينا العهد القديم أن مبدأ الفداء «بالبديل» هو مبدأ إلهي، فبعد أن وُلد اسحق لإبراهيم بطريقة معجزية، إذ ولدته أمه بعد أن انتهى كل رجاء بشري في أن تلد كما نقرأ في الكلمات: «بِٱلإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضاً أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ، وَبَعْدَ وَقْتِ ٱلسِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ ٱلَّذِي وَعَدَ صَادِقاً» (عب ١١: ١١)، طلب الله من إبراهيم أن يقدم إسحق ابنه محرقة له، معتبراً إياه الابن الوحيد لإبراهيم باعتباره الابن الذي كان في قصد الله أن يعطيه له من سارة امرأته حسب إرادته الصالحة، فقال له «خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ ٱلَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ ٱلْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ ٱلْجِبَالِ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ» (تك ٢٢: ٢) وكان هذا الطلب الإلهي لامتحان إبراهيم.. وقد نجح إبراهيم في الامتحان عن طريق «الإيمان» كما نقرأ «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ - قَدَّمَ ٱلَّذِي قَبِلَ ٱلْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ» (عب ١١: ١٧ و١٨).
ولما وضع إبراهيم اسحق على المذبح، وأخذ السكين ليذبحه، ناداه ملاك الرب من السماء وقال «لا تمد يدك إلى الغلام.. لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني».
وهنا تسترعي انتباهنا في المشهد هذه الكلمات: «فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكاً فِي ٱلْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ ٱلْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضاً عَنِ ٱبْنِهِ» (تك ٢٢: ١٣).
ونرى في هذه الكلمات أن «الكبش» جاء بتدبير إلهي، وأنه مات «عوضاً أو «بديلاً» عن «اسحق» ففداء المسيح للبشرية على الصليب هو تدبير الله العزيز الحكيم» إذ فوق الصليب مات المسيح بدافع حبه «عوضاً» عن الإنسان الخاطئ كما قال بولس الرسول: «ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلا ٢: ٢٠)، وفي المسيح يمكننا أن نرى «الذبح العظيم» لأن أي حيوان يقدم فدية عن البشر لا يمكن أن يكون ذبحاً عظيماً.
لقد قدم الله مواعيده الصادقة بمجيء الفادي، وبالإيمان في مواعيد الله المؤكدة لمجيء الفادي خلص المؤمنون قبل عهد المسيح. أجل بهذا الإيمان خلص «هابيل» الابن الثاني لآدم، وتقبل الله قربانه الذي تقرب به إليه كما نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلّٰهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ ٱللّٰهُ لِقَرَابِينِهِ» (عب ١١: ٤) وهكذا نقرأ في سفر التكوين «فَنَظَرَ ٱلرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ» (تك ٤: ٤).
لكن منذ مطلع الخليقة وقد حاول الإنسان أن يبتدع لنفسه ديناً من قلبه الأثيم، ومن وحي غروره، فظن أنه يستطيع أن يخلص من خطاياه بحسناته وأعمال يديه، وكان الرائد الأول للديانة الإنسانية هو «قايين» الذي لم يتقبل الله قربانه، وذلك لثلاثة أسباب:
أولها: إن طريقه لم يكن طريق الإيمان، فهو لم يصدق الله ولم يؤمن بمواعيده بمجيء المخلص. ثانياً: أنه أراد أن يرضي الله ويخلص من خطاياه بأعمال يديه، فقدم «مِنْ أَثْمَارِ ٱلأَرْضِ قُرْبَاناً لِلرَّبِّ» (تك ٤: ٣) ولكن الله رفض قربانه لأنه كان من عمل إنسان لوثته الخطية من باطن قدمه إلى هامته. وثالثها: أنه قدم قربانه من ثمار أرض لعنها الله بسبب خطية الإنسان (تك ٣: ١٧).
ويسجل سفر التكوين هذا الرفض الإلهي لقربان قايين بالكلمات: «وَلٰكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ» (تك ٤: ٥).
لقد كانت ديانة «قايين» ديانة شيطانية، ورغم غطاء الأعمال الصالحة الذي أراد «قايين» أن يستر به نفسه العارية، فقد انكشف الغطاء عن نفس مجرمة، إذ قام على أخيه هابيل وذبحه، وعن هذا يقول يوحنا الرسول «لَيْسَ كَمَا كَانَ قَايِينُ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ وَذَبَحَ أَخَاهُ. وَلِمَاذَا ذَبَحَهُ؟ لأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ شِرِّيرَةً، وَأَعْمَالَ أَخِيهِ بَارَّةٌ» (١ يو ٣: ١٢).
وهكذا يتبين لنا في وضوح وجلاء أنه منذ عهد آدم كان الخلاص بالدم، وإذ نسير مع تدرج التاريخ نرى الله يرسل أنبياءه لشعبه العظيم لكي يذكروا هذا الشعب بمجيء الفادي الكريم، بل نراه يأمر شعبه القديم بتقديم مختلف الذبائح والقرابين، وكل ذبيحة ترمز إلى ناحية من نواحي عمل المسيح الذي أتمه بموته على الصليب (إقرأ الأصحاحات الأولى من سفر اللاويين.
وقد كان مقدم «القربان» أو «الذبيحة» يضع يده على رأس المحرقة، كأنه يعلن أن خطاياه قد انتقلت إليها، وكان الكاهن يذبح الذبيحة ليؤكد لمقدمها أن «أجرة الخطية هي موت»، ثم يضع الذبيحة بعد ذبحها فوق الحطب الذي على نار المذبح ليؤكد لمقدمها أن الخطية أنتجت الموت الجسدي، والطرح في جهنم النار في ذات الوقت كما نقرأ في سفر رؤيا يوحنا: «وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ ٱلنَّارِ» (رؤ ٢٠: ١٥) (اقرأ لاويين ١: ٤ - ٩).
وهكذا أعلن الله في كتابه الكريم أن المسيح سيولد من عذراء (إشعياء ٧: ١٤)، وأنه سيولد في مدينة بيت لحم (ميخا ٥: ٢) وأنه سيموت مثقوب اليدين والرجلين على الصليب (مزمور ٢٢: ١٦) وأنه سيُدفن في قبر رجل غني (إشعياء ٥٣: ٩)، وأن موته سيكون لحمل خطية كثيرين (إشعياء ٥٣: ٥ و٦ و١١ و١٢) وأنه سيقوم من بين الأموات بعد ثلاثة أيام (متى ١٢: ٤٠ و١٦: ٢١).
وبهذه النبوات رسم الكتاب المقدس منذ القديم صورة مضيئة للمسيح صانع الفداء العظيم. هذا المسيح الذي به دخل المؤمنون إلى مكان راحتهم فلم يذهبوا إلى العذاب كما ظن مؤلف ذلك الكتاب. هذا المسيح الذي جعله الله «آية» إذ وُلد من عذراء لم يمسسها بشر، و «رحمة منه» إذ بموته رحم الله البشر الآثمين، وإلا فأي رحمة جاء بها المسيح لو لم يكن قد مات من أجل خطايانا على الصليب؟
هذا يأتي بنا إلى آخر أسئلة مؤلف كتاب: «كيف ولماذا؟» وهو يقول في هذا السؤال: ثم كيف يقدم الله سبحانه وتعالى الفداء ليكون سبباً للمغفرة؟ أليس هو الذي يملك المغفرة وحده؟ فإن شاء غفر وإن شاء لا يغفر؟
ونجيب قائلين: إنه كان لا بد من الفداء للغفران، ليكون الله «باراً» و «يبرر» الذين يؤمنون! يقول دكتور توم مالون: «كيف يمكن لله أن يغفر خطايا الإنسان؟» لا بد أن يكون هناك أساساً للغفران.. إذا ارتكب صبي خطأ ما وأحضروه لأبيه، فإن الوالد الشرير الضعيف هو الذي يقول لابنه على غير أساس وبدون توقيع عقوبة عليه «حسناً يا ولدي، لا تفكر في هذا الأمر مرة ثانية، لقد سامحتك».
إن غفراناً من هذا الطراز لا بد أن يخرج للعالم جيلاً مستهتراً بكل مبادئ الأخلاق والقوانين.. لكننا الآن نقف أمام إله قدوس، قال عنه الكتاب المقدس: «عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا ٱلشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ ٱلنَّظَرَ إِلَى ٱلْجَوْرِ» (حب ١: ١٣).
هنا الله القدوس... إله النور.. إله العدل.. الإله الكلي الطهارة وأمامه الإنسان الخاطئ، الفاسد، النجس، الضعيف. فكيف يمكن أن يتلاقى الله القدوس مع الإنسان النجس؟
أين الأساس الذي بموجبه يقول الله للإنسان: «مغفورة لك خطاياك»؟ كيف يكون الله «باراً» و «يبرر» في ذات الوقت الإنسان الشرير؟
دعني أصور لك الأمر، لنفرض أننا في قاعة المحكمة، وها هو مجرم جريمته القتل يقف في قفص الاتهام، وها هي هيئة المحكمة تدخل فيسود هدوء عجيب.. لكن أنظر ها هو القاضي يقول للمجرم الأثيم: «إننا نعلم أنك ارتكبت الجريمة، ولكننا سنغفر لك، هذه مشيئتنا ورغبتنا على غير أساس من القانون، فلا تعد تفكر في جريمتك على الإطلاق».
إن الحاضرين في المحكمة سيصرخون: أي قاضي مستهتر هذا القاضي الذي يغفر للقاتل على غير أساس للغفران؟ وأي مجتمع هذا الذي يفقد سطوة القانون؟
والآن ما هو الأساس الذي بموجبه يغفر الله خطايا الناس، وكلها أكبر من جريمة القتل لأنها موجهة ضد الله القدوس الخالق العظيم؟
هنا يشرح بولس الرسول بالروح القدس حكمة الله فيقول: «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ ٱللّٰهِ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، بِرُّ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلّزَمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رو ٣: ٢١ - ٢٦).
أجل لقد غفر الله للإنسان على أساس موت المسيح على الصليب حسب غنى نعمته «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس ١: ٧) وأمام عظمة هذا العمل الفدائي الإلهي هتف بولس الرسول قائلاً: «يَا لَعُمْقِ غِنَى ٱللّٰهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ ٱلْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ ٱلاسْتِقْصَاءِ» (رو ١١: ٣٣).
«فَإِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُّوَةُ ٱللّٰهِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: سَأُبِيدُ حِكْمَةَ ٱلْحُكَمَاءِ وَأَرْفُضُ فَهْمَ ٱلْفُهَمَاءِ. أَيْنَ ٱلْحَكِيمُ؟ أَيْنَ ٱلْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ ٱللّٰهُ حِكْمَةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ؟ لأَنَّهُ إِذْ كَانَ ٱلْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ ٱللّٰهِ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ بِٱلْحِكْمَةِ، ٱسْتَحْسَنَ ٱللّٰهُ أَنْ يُخَلِّصَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ ٱلْكِرَازَةِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (١ كورنثوس ١: ١٨ - ٢٤).
أجل لقد ظهرت في فداء المسيح «قوة الله» المنتصرة على الشيطان (كولوسي ٢: ١٤ و١٥). وكما ظهرت «حكمة الله» التي على أساسها أعطي للإنسان الغفران.
فالذبائح الدموية في العهد القديم لم تكن سوى رمز للذبيح الأعظم، لكنها في ذاتها لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَاراً كَثِيرَةً تِلْكَ ٱلذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، ٱلَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ ٱلْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ ٱلْخَطِيَّةَ. وَأَمَّا هٰذَا (أي المسيح) فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ ٱلْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى ٱلأَبَدِ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ» (عب ١٠: ١١ و١٢).
وقديماً قال داود وهو يترجى رحمة الله: «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى» (مز ٥١: ١٦) وكذلك قال المزمور التاسع والاربعون «ٱلأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ٱلإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ ٱللّٰهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ، فَغَلِقَتْ إِلَى ٱلدَّهْرِ» (مز ٤٩: ٧ و٨)، وقال ميخا النبي أيضاً: «بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى ٱلرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلَهِ ٱلْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ ٱلرَّبُّ بِأُلُوفِ ٱلْكِبَاشِ، بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟» (ميخا ٦: ٦ و٧).
ومن كل هذه الكلمات نرى أن الإنسان منذ القديم قد أدرك عجز الذبائح الحيوانية، وعجزه عن فداء نفسه إذ أن الحيوان مهما كانت فصيلته لا يمكن أن يعادل في قيمته الإنسان، كما أن الإنسان الخاطئ لا يقدر أن يفدي نفسه أو أن يفديه سواه من البشر الخطاة، ولذا تمنى الإنسان منذ القديم أن يجد المصالح الذي يصالحه مع الله، كما عبر أيوب وهو في عمق آلامه وبلواه قائلاً: «لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَاناً مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ فَنَأْتِي جَمِيعاً إِلَى ٱلْمُحَاكَمَةِ. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا!» (أي ٩: ٣٢ و٣٣).
لقد تمنى أيوب أن يجد مصالحاً يضع يده على يده كإنسان، ويضع يده على يد الله كإله، أو في تعبير أدق تمنى أن يتجسد «الله» في صورة إنسان، لكي يصالحه مع نفسه.
وفي تجسد المسيح وموته على الصليب تمت المصالحة التي تمناها أيوب وهو يتكلم بلسان الإنسان الباحث عن الطريق إلى الله، كما قال بولس الرسول: «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ. إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (٢ كو ٥: ١٨ - ٢١). وكما قرر في رسالته إلى تيموثاوس قائلاً: «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ» (١ تي ٢: ٥ و٦).
ويقول دكتور كامبل مورجان أستاذ الكتاب المقدس: إن الكلمة اليونانية (Antiulutron) المترجمة إلى «فدية» لا توجد في كل العهد الجديد إلا في هذه الآية، وفوق ذلك فإنها كلمة غير معروفة في اللغة اليونانية الكلاسيكية، ويبدو لي أحياناً أن الروح القدس قد قاد بولس لصياغة كلمة جديدة باستخدامه لهذه الكلمة.
وعند فحص الكلمة «فدية» نرى أنها تشير إلى عمل بواسطته رفعت الخطية التي فصلت بين الله والإنسان بل إلى عمل رفع الإنسان من منطقة الوجود العقلي إلى منطقة الوجود الروحي، وهذا يعني أن المسيح قد أعاد بفدائه إمكانية الشركة المباشرة بين الله والناس، يجد أن الشر الذي أعمى عينيه، وأفقده الاحساس السليم بالله، قد أُزيل، وأن التعامل المباشر بينه وبين الله أصبح اختباراً عملياً في حياته، فنوال بركات الفداء مشروط بالتوبة الحقيقية عن الخطية، والإيمان القلبي الشخصي بيسوع المسيح «تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (أع ٢: ٣٨) وهذا الإيمان القلبي يحدث تغييراً حقيقياً في الحياة والاتجاهات كما قال بولس الرسول: «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (٢ كو ٥: ١٧).
ففداء المسيح لا يشجع الخاطئ على الاستمرار في خطاياه بل على العكس يغير حياته، ويعطيه قلباً جديداً يتجه إلى الله.
وإذا قال مؤلف كتاب كيف ولماذا؟ إن الصلب كان عملاً همجياً ووحشياً، أجبناه: أجل لقد كان كذلك من جانب الإنسان، الإنسان الذي ظهر في قمة شره يوم اختار باراباس اللص للحرية، وطلب من بيلاطس أن يصلب يسوع المسيح القدوس، ولقد كان المسيح له المجد قادراً على حماية نفسه والتنحي عن الصليب، لكنه ارتضى أن يموت طوعاً نيابة عن البشر، ولأنه خالق البشر بل خالق كل الأشياء ففي قدرته إذاً أن يفدي خليقته لأنه يزيد عنها قيمة لو وضعت أمامه في كفة الميزان، لذا كان في دمه الكفاية للتكفير عن خطايا العالم كله كما قال عنه يوحنا الرسول «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (١يو ٢: ٢) أجل كان هو «الذبح العظيم» الذي فدى بدمه الإنسان.
وقد عرف الله مقدماً وحشية الإنسان وهمجيته، عرف «أَنَّ كُلَّ تَصَّوُرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ» (تك ٦: ٥) ولكنه حوّل بحكمته شر الإنسان وهمجيته لخير البشرية الرازحة تحت أثقال أوزارها كما قرر بطرس في كلماته القائلة: «هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أع ٢: ٢٣) وهذه هي الحكمة الإلهية التي أوضحها بولس بالكلمات: «وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (١ كو ١: ٢٣ و٢٤).
لقد سمح الله القادر على كل شيء للناس الضعفاء أن يكونوا المحكمة، والقاضي، والمحلفين، والنيابة، ومنفذي القانون، حتى ينفذوا في ابنه حكم الموت الذي كان لا بد أن ينفذ فيهم، وحتى يروا مدى فظاعة ما فعلته الخطية بهم إذ جعلتهم يصلبون ابن الله الذي أحسن إليهم، وذلك عندما يتأكدون من حقيقة الشخص الذي مات لأجلهم.
وفي القديم عامل أبناء يعقوب أخاهم يوسف بالشر فباعوه عبداً للتجار الاسماعيليين، الذين باعوه بدورهم إلى «فوطيفار» في مصر، ولكن الله حول شرهم لخير يوسف وخير الناس وخيرهم. ولما أتوا إليه بعد موت أبيه قائلين «أَبُوكَ أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ قَائِلاً: هٰكَذَا تَقُولُونَ لِيُوسُفَ: آهِ! ٱصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ عَبِيدِ إِلٰهِ أَبِيكَ... فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: لاَ تَخَافُوا. لأَنَّهُ هَلْ أَنَا مَكَانَ ٱللّٰهِ؟ أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرّاً، أَمَّا ٱللّٰهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْراً، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا ٱلْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْباً كَثِيراً» (تك ٥٠: ١٦ - ٢٠).
هكذا كان أيضاً في «صلب المسيح» قصد به صالبوه شراً، وقصد به الله فداء أبدياً، ولأن الفادي لا بد أن يكون إلهاً وإنساناً في وقت واحد لكي يتمم بحق عملية الفداء، إذ لا يعقل ولا يُستساغ أن يكون الحيوان أياً كان نوعه أو فصيلته فداء للإنسان، ولأن الفداء أمر حتمي لينال به الإنسان الغفران. فلهذا السبب يتحتم الإيمان بأن المسيح هو الله.
(٣ ) السبب الثالث لحتمية الإيمان بأن المسيح هو الله، هو حتمية إعلان الله عن ذاته للإنسان: من أول مبادئ علم اللاهوت، إن فكرة الإنسان عن الإله الذي يعبده تطبع أثرها العميق في حياته العملية، لأن الناس يتمثلون في حياتهم اليومية بالإله الذي يعبدونه كما قال كاتب المزمور في الكلمات: «لِمَاذَا يَقُولُ ٱلأُمَمُ: «أَيْنَ هُوَ إِلٰهُهُمْ؟» إِنَّ إِلٰهَنَا فِي ٱلسَّمَاءِ. كُلَّمَا شَاءَ صَنَعَ. أَصْنَامُهُمْ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي ٱلنَّاسِ. لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ. لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. لَهَا مَنَاخِرُ وَلاَ تَشُمُّ. لَهَا أَيْدٍ وَلاَ تَلْمِسُ. لَهَا أَرْجُلٌ وَلاَ تَمْشِي، وَلاَ تَنْطِقُ بِحَنَاجِرِهَا. مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا، بَلْ كُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا» (مز ١١٥: ٢ - ٨).
لذا فمنذ البدء تاق الإنسان أن يرى الله وتجسد شوقه في كلمات قديسي القدم، فقال أيوب: «مَنْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ!» (أي ٢٣: ٣) وقال موسى: «أَرِنِي مَجْدَكَ» (خر ٣٣: ١٨) وقال إشعياء: «لَيْتَكَ تَشُقُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ» (إش ٦٤: ١) وقال فيلبس: «أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا» (يو ١٤: ٨).
وشوق الإنسان لرؤية الله ليس أمراً غريباً، فلقد خلق الله الإنسان على صورته، وقبل أن يسقط الإنسان في الخطية كانت له علاقة مباشرة مع الله، فلقد كان الله يأتي إليه في الجنة، ويبدو أن الإنسان في برارته قد رأى الله، فلما سقط أثرت الخطية في ذهنه، وتشوهت الصورة الحقيقية التي كانت في فكره عن الله، فكان لا بد أن يعمل الله شيئاً ليعيد صورته الصحيحة إلى ذهن الإنسان، وقديماً عبر المرنم العبري عن شوقه إلى الله بالكلمات: «كَمَا يَشْتَاقُ ٱلإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ هٰكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا ٱللّٰهُ» (مز ٤٢: ١).
وقد يقول قائل: إننا نستطيع أن نرى الله في الطبيعة التي خلقها ويقيناً أن «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مز ١٩: ١) لكن قدرة الله الظاهرة في الطبيعة تشعر الإنسان بتفاهته، بل تشعره ببعد الله عنه وعدم اهتمامه به كما عبر دواد عن ذلك بالكلمات «إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، ٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ ٱلَّتِي كَّوَنْتَهَا، فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ!» (مز ٨: ٣ و٤).
إذاً فقد كان من المحتم أن يتجسد الله ليعلن للإنسان أنه قريب منه، ويظهر له عنايته به، ويؤكد له اهتمامه بدقائق حياته، ويشبع في ذات الوقت أشواق قلبه.
وتجسد الله كان دائماً هو رجاء الإنسان، فالوثنيون آمنوا بإمكان تجسد الله فقالوا عن بولس وبرنابا: «إِنَّ ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا» (أع ١٤: ١١).
واليهود آمنوا بإمكانية ظهور الله في الجسد فنحن نقرأ في سفر التكوين عن ظهور الرب لإبراهيم في الكلمات: «وَظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ ٱلنَّهَارِ» (تك ١٨: ١).
وكذلك نقرأ عن ظهور الله لمنوح وامرأته في صورة رجل في الكلمات: «فَأَسْرَعَتِ ٱلْمَرْأَةُ وَرَكَضَتْ وَأَخْبَرَتْ رَجُلَهَا: هُوَذَا قَدْ تَرَاءَى لِيَ ٱلرَّجُلُ» وبعد أن صعد الرجل في لهيب المذبح إلى السماء، أدرك منوح أن ذلك الرجل كان هو الله ظاهراً في صورة رجل فقال لامرأته «نمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱللّٰهَ» (قض ١٣: ١٠ و٢٢).
وقد كتب الدكتور «أحمد زكي» في عدد ديسمبر سنة ١٩٥٦ من مجلة الهلال في مقال بعنوان «الله والناس» هذه الكلمات:
«إن العامة تستجيب للأشياء بمقدار ما تحسها، وغير المحسوس أقل في وعيهم درجة، ولو ملأ السماء والأرض.
وفي سبيل إيضاح المبهم، وتجسيد ما لا يتجسد، نسبت الأديان جميعاً إلى الله ما يأتلف والتجسيد، تقريباً لمعنى الله من أفهام العامة، والعامة بعد هم جمهور الناس في كل زمان، وإلى زماننا هذا.
وأعطى القرآن لله يداً:
«إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» (سورة الفتح ٤٨: ١٠).
وأعطى القرآن لله وجهاً:
«كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ» (سورة الرحمن ٥٥: ٢٦ و٢٧).
وأعطى القرآن لله عيناً:
«قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُّوٌ لِي وَعَدُّوٌ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» (سورة طه ٢٠: ٣٦ - ٣٩).
وما كان لله يد تأخذ وتعطي
وما كان لله وجه يبقى وقد فنيت الوجوه
وما كان لله عين ترى، ثم لا ترى
إنه التجسيد الذي لا بد منه» ا.ه
كانت الأم تعلم طفلها أن الله موجود في السماء، وذات يوم تطلع الصغير إلى السماء وبكى، فلما سألته أمه عن سر بكائه قال:
«أريد يا ماما أن يفتح الله السماء وينزل لكي أراه».
ولقد تجسد «الله» في المسيح لكي يعلن عن ذاته وصفاته للناس كما قال بولس «وَبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (١ تي ٣: ١٦).
في كتاب ظهر سنة ١٩٦٦ تهجم أحدهم على عقيدة التجسد فقال: «لو كان المسيح إلهاً حقاً لكان ظهور الله في تلك الصورة البشرية داعية إلى التشويش على التفكير الإنساني في سبيل التعرف على الله إذ أن الله بظهوره في تلك الصورة المجسدة قد أعلن ذاته، وكشف للناس عن وجهه، وصار قريباً مدانياً لهم، بعد أن ظل دهوراً طويلة، محجباً عنهم، في بهائه وجلاله، لا تناله الأبصار ولا تحتويه العقول!
فهذا الإعلان - في الواقع - فوق أنه داعية لشرود العقل، وتشتت الفكر في ذات الله - هو إعلان يقلل من شأن الله، وينقص قدره ويذهب بالكثير من جلاله وعظمته، وما تتلقى النفوس من مشاعر الولاء والخضوع لله الكبير المتعال. حين تنظر إليه من وراء حجاب!
فالنفس البشرية طلعة، تتوقد اشواقها إلى المجهول، وتتحرك نزعاتها إلى عالم الغيب، فإذا انكشف لها المجهول، أو ظهر لها الغيب سكنت نزعاتها، وبردت أشواقها نحو هذا الشيء، الذي كانت تسعى إليه وتجد في البحث عنه!
«ولو ظهر الله للناس عياناً - على يقين استحالته - لسقطت هيبته من النفوس بعد حين، ولجاء اليوم الذي يصبح «الله» وهو يغدو ويروح بين الناس، كواحد من الناس!» ا.ه
وكلمات من هذا الطراز تصدق على البشر لكنها لا تصدق على الله، لان البشر تزداد هيبتهم حين يختفون وراء حجاب، وتسقط هيبتهم حين يندمجون بين الناس فتظهر عيوبهم وخطاياهم، أما الله جل وعلا فإن هيبته تزداد في أي صورة يظهر بها للناس ولذا فعندما جاء يهوذا التلميذ الخائن، والجند، والخدام من عند رؤساء الكهنة والفريسين بمشاعل ومصابيح وسلاح للقبض على المسيح نقرأ حينئذ الكلمات «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟» أَجَابُوهُ: «يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ». قَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ». وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أَنَا هُوَ» رَجَعُوا إِلَى ٱلْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى ٱلأَرْضِ» (يو ١٨: ٤ - ٦).
فهل رأيت متهماً يذهب الجنود للقبض عليه، فيتراجعون أمام بهاء مجده، ويسقطون أمام جلاله على الأرض؟
لقد حدثنا التاريخ عن القبض على نابليون، وعن موت الدكتاتور الإيطالي «موسوليني» الذي داسه شعبه بالأقدام... فلم نر جنوداً في مركز القوة يسقطون أمام واحد منهما على الأرض... لكن المسيح له المجد، أسقط ببهائه ومجد لاهوته الجنود الذين جاؤوا للقبض عليه، لكي يعلن لنا أنه سلم ذاته للموت ليس عجزاً منه بل طوعاً واختياراً لفدائنا.
وحجة القائل أن تجسد الله يسقط هيبته، حجة باطلة، فالناس سوف يقضون أبديتهم مع الله وفي رحابه، يرونه ويتحدثون إليه ويزدادون خشوعاً قدامه وإجلالاً لشخصه تبارك اسمه.
إن الطبيعة تعلمنا أنه من الممكن للأعلى أن ينزل إلى الأدنى، بينما يستحيل على الأدنى أن يرتقي من ذاته إلى الأعلى. يقول «م. ه. فنلي» في كتابه «منطق الإيمان» : «إننا نقسم العالم حولنا إلى ممالك ثلاث: المملكة المعدنية، والمملكة النباتية، والمملكة الحيوانية، والمعدني لن يرتقي ليدخل الممكلة النباتية، لكن النباتي ينحدر إلى المعدني ليستمد منه غذاءه كنبات.. والنباتي بدوره أيضاً لن يتعدى حدود مملكته إلى المملكة الحيوانية، ولكن الحيواني يتنازل فيجعل مما دونه طعاماً له فيصبح النباتي عندئذ جزءاً من نظام أعلى منه، هكذا الإنسان يقف متحيراً عاجزاً عن اكتشاف أسرار عالم الروح، إلا إذا نزل «الروحاني فأظهر نفسه للإنسان» وهذا تماماً ما فعله الله حينما تنازل وأظهر نفسه في شخص يسوع المسيح» .
وهذا هو ما قاله الكتاب المقدس عن حقيقة تجسد الله في شخص المسيح الكريم.
ففي إنجيل يوحنا نقرأ: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً... اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو ١: ١ و١٤ و١٨).
وفي ذات الإنجيل يقول فيلبس للمسيح: «يا سيد أرنا الآب وكفانا» فيرد عليه قائلاً: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا ٱلآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ» (يو ١٤: ٨ - ١٠).
ويكتب بولس الرسول إلى القديسين في كورنثوس قائلاً: «فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً، وَلٰكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ. لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ » (٢ كو ٤: ٥ و٦).
ومرة ثانية يكتب لهم: «ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (٢ كو ٥: ١٩).
إننا لا نستطيع أن نرى الله في وجه الملاك ميخائيل أو الملاك جبرائيل، ولا نستطيع أن نرى الله في وجه موسى أو إشعياء.
لكننا نستطيع أن نرى الله في «وجه يسوع المسيح» كما قال بفمه المبارك «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو ١٤: ٩).
منذ القديم سأل البشر: من هو الله؟
سألوا: هو هو إله قدوس؟
وجاء المسيح إلى أرضنا فرأينا في شخصه القدوس أن الله «قدوس» كما قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (عب ٧: ٢٦).
سألوا: هل الله قادر على كل شيء؟ هل يمكنه أن ينتصر على الطبيعة؟ والمرض؟ وأن يهزم الموت؟ وأن يحطم قوات الظلام؟
ورأينا المسيح يسكت البحر، ويشفي الأبرص، ويقيم لعازر من القبر، ويحرر الناس من سلطان الشيطان.
سألوا: هل يحب الله بني الإنسان؟
وجاء المسيح ليعلن لنا حب الله لبني الإنسان قائلاً: «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (يو ٣: ١٧ و١٨).
وهكذا رأينا الله في كل صفاته وسجاياه معلناً ذاته في شخص ابنه يسوع المسيح كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ» (عب ١: ١).
وهنا لا بد أن نقول أن هناك فرقاً كبيراً بين الإيمان بأن المسيح هو «الله» والإيمان بأن المسيح «شخص إلهي»، فالفرق بين «لاهوت المسيح Deity» وبين «إلهية المسيح Divinity» فرق كبير، فقد يكون المرء إلهياً دون أن يكون إلهاً. وسنوضح هذا حين نشرح الآيات الخاصة بلاهوت المسيح، لكننا هنا نكتفي بضرورة العناية باختيار ألفاظنا في الحديث عن المسيح في عالم امتلأ بالأفكار العصرية عن شخصه الكريم فالعصريون يؤمنون «بإلهية المسيح» بمعنى أنه «شخص إلهي» ولكنهم لا يؤمنون بلاهوت المسيح بمعنى أنه «الابن» الذي ظهر في الجسد.
لقد سمى المسيح باسم «الكلمة Logos» والحديث عن هذا الاسم يحتاج إلى مجلدات لكننا نكتفي هنا بالقول بأن هذا الاسم «الكلمة» يعني:
(١) القوة الخالقة «بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ» (مز ٣٣: ٦) «وَقَالَ ٱللّٰهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ» (تك ١: ٣) ويعني (٢) «الفكر أو العقل الإلهي» ويعني (٣) القوة الحافظة والحاملة لهذا الوجود (عب ١: ٣) ويعني (٤) التعبير المفهوم عن الله لذهن الإنسان.
سأل شاب مستر جرينفيلد هذا السؤال: هل تقدر أن تفسر لي: لماذا سمي يسوع المسيح «الكلمة»؟
أجاب مستر جرينفيلد: «أعتقد أن الكلام واسطة التفاهم بين البشر، والمسيح هو «الكلمة» لأنه واسطة التفاهم بين الله والناس» (١ تي ٢: ٥).
هنا قد يعترض أحدهم بالقول: كيف تتصور أن يرضى الله بأن يتجسد في صورة الإنسان، وأن يسمح للناس أن يلطموه على وجهه، ويبصقوا عليه، ويجلدوه، ويصلبوه على صليب؟
وأقول: إن الله قد سمح للناس أن يفعلوا به كل هذا، ليظهر لهم مدى عمق الشر في قلوبهم.. هل يمكنك أن تتصور إنساناً يجول محسناً على الفقراء، شافياً المرضى، ماسحاً للدموع من عيون الحزانى، فاعلاً كل ما هو جليل وجميل. ثم يجتمع عليه الناس فيضربوه ويقتلونه.. بأي حكم تحكم على هؤلاء الناس، وأي تصور تراه للشر الأسود الجاثم في قلوبهم؟!!
هكذا جاء المسيح يطعم الجياع، ويشفي المرضى، ويقيم الموتى، فاختار الناس الحرية والحياة للص اسمه «باراباس» وقادوا المسيح إلى الموت على الصليب، وهكذا أظهر الله مدى ما فعلته الخطية بالناس إذ عضوا اليد التي أطعمتهم، وضربوا الفم الذي حدثهم بالخير والحق والجمال، وقتلوا ذاك الذي وهبهم الصحة والبركة والحياة.
لكن أحدهم قد يصيح قائلاً: كلا ما قتلوه! لقد قتلوا شخصاً شبيهاً به..: قتلوا يهوذا تلميذه الخائن الذي ألقى عليه الله شبه المسيح أما المسيح فقد نجا من موت الصليب.
ونرد على هذا الادعاء مستعينين بأفكار «م.ه. فنلي» مع ما كتبناه في مجلة الأخبار السارة سنة ١٩٥٩ في هذا الموضوع فنقول:
(١) إنه من التجديف الصريح على الله أن نظن بأنه وهو الأمين المنزه عن الكذب قد خدع الناس، فغير شكل «يهوذا» إلى شكل المسيح، وبذلك غرر بملايين البشر على مدى القرون، الأمر الذي يقود الناس إلى الاعتقاد أن الله لن يعاقب الناس أيضاً على ما اقترفوه من خداع فقد سبقهم - حاشا جل شأنه - في عمل أكبر خدعة في التاريخ هي خدعة تغيير شكل يهوذا إلى شكل المسيح.
(٢) لا يستسيغ العقل أن يقبل بأن أتباع المسيح وحوارييه قد رضوا بالموت في سبيله من أجل خدعة لا أصل لها في حقيقة الإيمان المسيحي، إذ أنهم كانون يموتون بالملايين ورجاءهم الوحيد هو إعلانهم الجهري بأن المسيح مات لأجلهم على الصليب.
(٣) من المستحيل أن يكون الشخص الذي صُلب على الصليب شخصاً غير المسيح، فالأقوال السبعة التي نطق بها المصلوب تؤكد حقيقة شخصيته، ولا يعقل أن ينادي يهوذا الخائن الأثيم الله القدوس العظيم قائلا: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو ٢٣: ٣٤) فالتاريخ يسجل عن الذين ماتوا موت الصليب أنهم سمموا الهواء النقي بشتائمهم القذرة، وتجديفهم الشنيع، أما ذاك المصلوب فقد رددت الأرجاء صدى انتصاره الساحق في معركة الصليب حين قال: «قَدْ أُكْمِلَ» (يو ١٩: ٣٠)
وفي اللغة اليونانية الأصلية تتألف هذه العبارة من كلمة واحدة هي «تتلستي» وكانت كلمة شائعة الاستعمال في الحياة التجارية فعند تسديد «كمبيالة» لاستحقاق دفعها كان المستفيد يكتب على وجهها كلمة «تتلستي» التي تعني «سددت، انتهت، كملت، ألغيت» إذن فلم تكن صرخة المسيح وهو يصارع الموت اشتغاثة يائس تثير الشجن. استسلم بعدها إلى «إغماء» طويل كما يدعي العصريون بل بالحري كانت هتاف منتصر سدد مطاليب عدل الله ومحى صك الخطايا عن كل من يقبلوه، وإذن فلم يكن المصلوب يهوذا بل كان المسيح الفادي الكريم.
(٤) إن العهد القديم سبق فأنبأ عن تسليم يهوذا للمسيح وعن مصيره الأبدي فقال: «فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيراً، وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ... َوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ... أَحَبَّ ٱللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِٱلْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ» (مز ١٠٩: ٦ - ٢٠ اقرأ أعمال ١: ١٦ - ٢٠). وقال في موضع آخر، أيضاً: «رَجُلُ سَلاَمَتِي، ٱلَّذِي وَثَقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ» (مز ٤١: ٩) وقد تحدث المسيح عن يهوذا قبل أن يسلمه بقليل فقال: «إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ» (مت ٢٦: ٢٤).
(٥) حضرت «مريم أم يسوع» ساعة الصلب وجاز في نفسها سيف الألم كما أنبأها «سمعان الشيخ» (لو ٢: ٢٥) فلو كان «يهوذا» هو الذي صُلب وشبه لليهود أنه المسيح إذن لأحس «قلب الأم» بهذه الحقيقة ولذهبت لتوها تخبر التلاميذ أن الذي على الصليب ليس هو ابنها يسوع المسيح.
(٦) كان صلب المسيح موضوع النبوات، وقد تمت النبوات فيه فمن المستحيل أن يكون الذي صُلب هو يهوذا، فيهوذا لم يمت مصلوباً لكننا نقرأ عنه الكلمات: «حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ... ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ» (مت ٢٧: ٣ و٥) فكيف يكون يهوذا قد مات مصلوباً، ومات مخنوقاً في ذات الوقت!؟
(٧) تؤكد الظواهر التي حدثت في الطبيعة وقت صلب المسيح، بأن المصلوب لا يمكن أن يكون يهوذا، بل لم يكن مجرد إنسان لأنها ظواهر خارقة لم تحدث قط عند صلب إنسان، وقد سجلها متى بالكلمات: «وَمِنَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. وَنَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِيلِي إِيلِي، لَمَا شَبَقْتَنِي (أَيْ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) فَقَوْمٌ مِنَ ٱلْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا. وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ. وَأَمَّا ٱلْبَاقُونَ فَقَالُوا: ٱتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ. فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ. وَإِذَا حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ قَدِ ٱنْشَقَّ إِلَى ٱثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَٱلأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَٱلصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، وَٱلْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ ٱلْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا ٱلْمَدِينَةَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ. وَأَمَّا قَائِدُ ٱلْمِئَةِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا ٱلّزَلْزَلَةَ وَمَا كَانَ، خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (مت ٢٧: ٤٥ - ٥٤).
فهذه الظواهر الخارقة.. زلزلة الأرض.. تشقق الصخور.. شق حجاب الهيكل. لا يمكن أن تكون قد حدثت مصادفة، ولا يمكن أن تحدث عند موت إنسان مجرم أثيم كيهوذا.. وعلى هذا نؤكد بيقين بأن المصلوب كان المسيح «ابن الله».
(٨) تؤكد ظهورات المسيح بعد القيامة أنه هو الذي صلب، إذ عندما شك توما في قيامته وقال للتلاميذ رفقائه: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يو ٢٠: ٢٥)
جاء يسوع: «ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً. أَجَابَ تُومَا: رَبِّي وَإِلٰهِي. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو ٢٠: ٢٧ - ٢٩).
ومع ظهور المسيح لتوما ولآخرين، ظهر كذلك «لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ» (١ كو ١٥: ٦) مما يؤكد بما لا يعطي مجالاً للشك قيامته المجيدة.
هكذا يظهر لنا بيقين أن الذي صلب على الصليب لم يكن يهوذا الاسخريوطي التلميذ الخائن، الذي خنق نفسه على غصن شجرة فثقل جسمه عليه وسقط فانسكبت أحشاؤه كلها (أعمال ١: ١٨). ولم يكن أي شخص آخر ألقى الله عليه شبه المسيح بل أن الذي صلب حقاً ويقيناً كان هو المسيح، «ابن الله» الإعلان الكامل الذي أعلن فيه ذاته وحبه وقدرته للإنسان. وهكذا يتحتم علينا الإيمان بأن المسيح هو الله.
ليست هناك تعليقات: