رواية الباكورة الشهية - 10

الفصل العاشر

اجتمع القاضي وأصحابه المذكورون في غد اليوم، وتداولوا ملياً فيما كان بينهم وبين العلماء المتنصرين. وأخيراً قال حسن أفندي العطار: «لا أرى يا إخوان طلب أولئك الرجال إلا طلباً عادلاً، فمن الظلم أن يلاموا بدون أن يبين لهم بطلان ما قد تقرر في عقولهم. وهل يليق بنا رفض طلب عادل كهذا؟ ألا يعد بعد ذلك دليل العجز والضعف؟ لا لا يا إخوان علينا أن نكون على استعداد دائم لدحض كل تعليم ومعتقد يقاوم ديننا بسلاح الدليل والبرهان، وإلا فأي محل للمفاخرة بما لا نقدر أن نبين حقيقته فعندي من الواجب منازلة هؤلاء الرجال في ميدان المناظرة بكل جد وثبات وإخلاص ووداعة، علنا نستطيع أن نبين لهم غلطهم، وبذلك نكون قد أرحنا الضمير وأبرأنا الذمة». فاستصوب الجميع هذا الرأي وعينوا للذهاب إليهم ليلة الأربعاء ثامن صفر. فأبلغوا ذلك المتنصرين فتوكلوا على الله واستعدوا إلى ذلك اليوم بالصوم والصلاة. ولما كانت تلك الليلة اجتمع العلماء المذكورون في غرفة أعدت لهم في المجلس، ودعوا إليهم المتنصرين فحضروا، وبعد أن جلسوا وحيا بعضهم بعضاً قال القاضي: «لما رأينا أيها الأحباب إيجاب طلبكم واجباً، حضرنا الآن بذات الإخلاص الذي تعهدونه فينا، فأصرح الآن بحرية هذا الاجتماع، أي أنه لكل من الفريقين المتناضرين الحرية التامة لإبداء رأيه والمحاماة عنه، وله أن يعترض أو يسأل مع مراعاة حرمة الأدب والحشمة ومن الواجب أيضاً في هذا الاجتماع غض الطرف عن كل هفوة تحدث أثناء المناظرة مما ينتظر وقوعه من قبيل الضعف الإنساني. فتفضلوا إن شئتم يا إخوان قولوا ما بدا لكم».
فأجاب الشيخ علي بعد أن شكر حضرات العلماء على إجابة ملتمسهم، وحضرة قاضي أفندي على ما فاه به من درر الألطاف وما خوله من الحرية لهذا الاجتماع: «بما أننا نحن المعتزلون الدين الإسلامي، وحضراتكم الساعون وراءنا لردنا إليه، فيكون لحضراتكم أن تسألوا عن علة ذلك وسببه».
فقال القاضي: «حسناً فلتختر كل من الفئتين شخصاً ليتناظرا فيما يريدان من المسائل، بشرط أن يكون البقية في سكوت ما دام في ميدان المناظرة». فاختارت الفئة الأولى قاضي أفندي والأخرى الشيخ علي.
فقال القاضي: «أما علة هجركم الإسلامية وذهابكم إلى النصرانية فهذا قد سمعناه منكم غير مرة، فلا حاجة بعد للسؤال عنه، غير أني أسألك يا شيخ علي: «ألا يستطيع الرحمن خلاص البشر إلا بإرساله ابنه هذا، على فرض أن لله ابناً كما تزعمون، ليتخذ جسدنا ويعيش عيشتنا ويقتل بأيدي الأشرار الأثمة؟». أجاب الشيخ علي: «كل شيء يستطاع لديه تعالى إلا مناقضة صفاته وخرق كماله». فقال «نعم، ولكن ما تعني بذلك؟». فقال الشيخ علي: «أعني من كونه سبحانه وتعالى عادلاً كما هو قدير، فقدرته لا تخرق عدله، فإذا رحم يرحم بالحق والعدل».
القاضي: «وهل يسأل الله عما يفعل؟ إذا أجرى أمراً فمن يقول له هذا عدل أو غير عدل أو هذا ينافي صفاته؟».
علي: «نعم لا يسأل سبحانه عما يفعل. ولكن أعماله لا تنكد على كمال صفاته، فلا يمكن أن يجري مرحمة ما إلا بموجب الحق والعدل. أليس الأمر كذلك يا مولاي؟».
القاضي: «من كل بد وعلى كل حال».
علي: «إذ قد سلمتم حضرتكم بأن الله لا يسأل عما يفعل، لا يسبغ مراحمه إلا بالحق والعدل، فعليه أقول: لا يبرر الله الأثيم ولا يخلص الإنسان المجرم لديه تعالى إلا بطريقة الحق والعدل. وما لسبيل إلى معرفة هذه الطريقة وما الوسيلة إليها؟».
القاضي: «وما حاجتنا إلى معرفة هذه الطريقة؟ فسواء عرفناها أم لا، يجري الله أعماله بموجب كماله ومطلق سلطانه».
علي: «إنّ احتياج الإنسان إلى معرفة طريق خلاصه أبين من أن يبين: أولاً - ليعرف جود الله الفائق وحبه له ليستطيع أن يحبه ويشكره كما ينبغي. ثانياً - ليتقدم إليه تعالى بذات الطريقة التي أعدها له، ويدخل الباب الذي فتحه له، وإلا فما الداعي لإنزاله تعالى كتابه العزيز تماماً على التي هي أحسن وهدى ونوراً؟ ألا أن نفس الكتاب هو إعلان طريقة رحمة الله وعفوه؟ فالقول: ما حاجتنا إلى معرفة طريق الخلاص هو كالقول ما حاجتنا إلى كتاب منزل من لدنه تعالى؟».
القاضي: «حسناً أن الله سبحانه وتعالى من حيثية العدل يقاص الخاطئ في هذه الدنيا بالتجارب والبلايا، وإن لم يف ذلك حق العدل يقاصه زمناً محدوداً في جهنم وفاء لحق العدل، ثم يسبغ عليه رحمته فينقذه ويدخله جنات الخلد والنعيم».
علي: «إن ما أتيتم به حضرتكم لا ينطبق على عدله تعالى ولا يوافق حالة الإنسان كما سترون وهنا أسأل حضرتكم ماذا يستوجب الإنسان المعتدي دائماً على شريعة الله الغير المحدود واللامتناهي في العظمة والقداسة؟».
القاضي: «يستوجب النيران الجهنمية حتى يوفي حق العدل ويحصل من ثم على العفو والرحمة».
علي: «قد قلت فيما تقدم أن ذلك لا ينطبق على عدله تعالى ووعدت بالبينات. وهنا أسأل حضرتكم: ألا يستوجب المجرم إلى الحضرة الغير المتناهية قصاصاً غير متناه؟».
القاضي: «أتعني حضرتكم خلود الخاطئ في جهنم، مؤمناً كان أم كافراً؟».
علي: «أعني من حيثية استحقاق المجرم لا من حيثية كونه مؤمناً أو كافراً؟ ألا يستوجب قصاصاً غير متناه وهو مجرم بحق الله غير المتناهي؟».
القاضي: «لا أفتكر أن المجرم إلى الله غير المتناهي سبحانه وتعالى يستوجب قصاصاً بلا نهاية بل قصاصاً شديداً مديداً مقدار جرائمه وآثامه وإلاّ فأين الرحمة؟».
علي: «أرجو سيدي إمعان البصيرة في هذه المسألة الدقيقة، الرحمة في عرف أهل اللغة ما هي إلا الصفح عن الذنب والعفو من القصاص، فإذا عفت الحكومة عن مجرم نقول ذلك رحمة منها، ولكن إذا قاصته بالحبس لأجل ما ثم أخرجته لا نقول أنه أخرج من سجنه رحمة أو عفواً، كلا. وعليه لا محل للقول برحمة الله على من قام بقصاص خطاياه وفاء لعدله تعالى. فنحن إذا لم نزل في حاجة إلى معرفة ينبوع الرحمة الإلهية القائمة بالعفو لا بالقصاص. ولنرجع إلى النظر لقول حضرتكم أن الخاطئ بحق الله غير المتناهي لا يستوجب قصاصاً غير متناه، فأقول حضرتكم قاض تقضي على المجرمين، فهل في شرعكم يا مولاي أن جزاء مجرم من نوع واحد ضد أشخاص متفاوتي القدر والمقام ينبغي أن يكون متساوياً بالنسبة والمقدار؟ هل جزاء من يشتم الوالي كجزاء من يشتم السلطان وجزاء من يشتم السلطان كجزاء من يشتم نبي الإسلام؟».
القاضي: «كلا، من يشتم النبي يقتل، ومن يشتم السلطان يجاز جزاء شديداً دون ذلك، ومن يشتم الوالي جزاؤه أقل وهلم جراً».
علي: «لقد لزمتكم الحجة يا مولاي وسقطت دعواكم سقوطاً لا نهوض لها منه (قال المفتي همساً: نعم وأي سقوط) وبيانه إذا كان قصاص المجرم الواحد بحق المخلوقات متفاوناً بنسبة تفاوتهم في القدر والمقام، فعليه يكون قصاص المجرم بحق الذات الإلهية غير المحدودة واللامتناهية في الشرف والعظمة بلا حد ولا نهاية. ثم إذا كان القصاص واجباً عدلاً عند ولاء العالم المقامين منه تعالى، فكم بالحري لدى ملك الملوك وحاكم الحكام. نعم هو رحيم وعادل. فكما أنه أرحم الراحمين هكذا هو أعدل العادلين، وإذ ذاك أين الطريقة يا مولاي لانفجار ينبوع الرحمة مع بقاء العدل غير مثلوم؟».
القاضي: «لا يعلم تلك الطريقة إلا ربك الذي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء».
علي: «لا يؤاخذني سيدي إن قلت أن قولكم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء مباين جداً لقولكم السالف أن الخاطئ بعد ما يقوم بقصاص ذنوبه في جهنم وفاء للعدل يرحمه الله وينقذه إلى آخر القول لأن المغفرة ما هي إلا المسامحة بالذنب والعفو عما يستوجبه المذنب من القصاص. أما تلك الطريقة، أي طريقة اتفاق العدل والرحمة في الله سبحانه، فمن المعلوم أنه ليس في وسع العقل الإنساني استكشافها ولذلك سبحانه من فرط لطفه أعلنها لخلقه المذنبين في كتاب مبين».
القاضي: «هات بيان ذلك إن استطعت».
علي: «لا يخفى على سيدي أن التوراة تنبئ جلياً وتشير إلى هذه الطريقة العجيبة، والإنجيل يخبر بكل جلاء ووضح عن صيرورتها. ولأنه ليس في وسعي الآن سرد ما جاء في التوراة بهذا الخصوص، أجتزئ بأن أقول أنها تنبئ كثيراً عن هذه الطريقة التي هي المسيح الفادي للبر لكل من يؤمن بجلاء وصراحة مدهشتين، لا سيما ما جاء في نبوة إشعياء في الأصحاح التاسع والثالث والخمسين. ففي الأول تصفه وصفاً عجيباً ولداً وابناً ورئيساً مشيراً عجيباً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام وفي الآخر أنه ضُرب لأجل ذنب شعبه وأنه مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا، والرب وضع عليه إثم جميعنا. إلى أن يقول جعل نفسه ذبيحة إثم بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها وتعين زمان مجيئه وطريقة ولادته ومكانها ونسبه وأعماله والمقاومة التي سيصادفها من شعبه ونوع موته وغايته ونتيجته كما تقدم. وتشير إليه بأنواع الرموز والكنايات، الأمور التي لو نزعت من التوارة لكانت حرّفاً بلا معنى كبيدر قش خال من الحنطة».
القاضي: «لا جرم أنك متيقن سلامة التوارة من التحريف والتغيير ولذا نترك البحث بهذا الشأن وأقول ما الرموز في التوراة إلى عيسى المسيح كفادي الخطاة؟».
علي: «هي كثيرة ومتسعة، أجتزء منها بذكر أجلّها، وهو رسم الذبائح الدموية ضحايا لله ككفّارة عن الخطية وكون هذه العادة جارية من عند أبينا آدم، وقد تداولها كل الآباء الصالحين حتى موسى، كما لا يخفى الذي أنزل عليه التوارة رسوم تلك الضحايا المتنوعة والتعليم يكون وضعها إنما هو كفّارة عن الخطية، وكلها (ولا سيما ذبيحة يوم الكفّارة عاشر تشرين أول) وخروف الفصح يشير إلى حمل الله رافع خطية العالم، الذي كان عتيداً أن يأتي ويسفك دمه قرباناً لله وفداء للإنسان، كما أنبأ أنبياء الله القديسون. وهل يسر الله بسفك دم الحيوانات وإحراقها ويرتضي بها كفدية عن نفس الإنسان؟ وهل من العدل أن يقاص الحيوان عن الإنسان والبهيم عن العاقل والزائل عن الخالد؟ هذا ولدى اختبار عوائد الأمم في كل الأقطار ترى أن أجل وأهم أنواع العبادة عندهم تقديم الضحايا الدموية لآلهتهم الباطلة، حتى من فرط اعتبارهم ذلك آل الأمر بهم إلى تقديم الضحايا البشرية لتلك المعبودات الباطلة. وبما أن ذلك خارج كما لا يخفى عن دائرة الاستنباط البشري، يستدل به عن اتصال هذه العادة إليهم بالتداول من السلف إلى الخلف وكونه في الأصل وضعاً إلهياً. ثم كيف يعلل عن تعميم هذه العادة عند أمم العالم مع اختلاف لغاتهم وعوائدهم، وعن غاية المولى سبحانه في إعطاء هذه الرسوم، إلا أنها تشير إلى ما هو أهم وأسمى بما لا يقاس، ولدى مقابلتها مع نبوة الله وإعلانه في التوراة والإنجيل تتجلى لنا غايتها، وهي الإشارة إلى فادي الخطاة، وإلى دم كريم كان عتيداً أن يسفك فداء العالم».
فأومأ من ثم القاضي إلى الشيخ عبد الحميد ان يأخذ عنه قليلاً في المناظرة، فقال ذلك: «من ينكر قدمية هذه العادة وكونها في الأصل وضعاً إلهيا؟ ولكنني أرى من الجسارة البحث عن علة إعطاء الله هذا الرسم للإنسان وسببه».
علي: «لما كان سبحانه لا يأتي أمراً ولا يشرع شرعاً بدون سبب وغاية، وكان للعقل الموهوب من لدنه تعالى للإنسان حق البحث عن سبب كل ما يعرض له من المحسوسات، ساغ له محاولة الاستطلاع عن سبب إعطاء هذا الرسم للإنسان وغايته».
عبد الحميد: «حسناً، وكيف يمكننا أن نفسر تلك الرسوم على نحو ما ذكرت، لأنه ربما كان السبب والغاية فيها لديه تعالى خلاف ما يفتكر زيد ويفسر عمرو؟».
علي: «نعم ليس في إمكان العقل البشري أن يدرك بذاته العلة بإعطاء المولى جل شأنه رسم الضحايا الدموية ولا المراد بها كما نوهت قبلاً، وإنما ذلك لا يقيد العقل عن التفكر به والجزم بأنه لا بد له من غاية كبرى عند الله واضعه. وإذ لا بد من أن يدركه العجز عن بلوغ المنى يلتمس الإرشاد من علة العلل، الذي لما كان قصده بتلك الرسوم تدريب العقل وإعداده إلى المسيح، لم يتركها بدون سبب لتبيان المراد بها، بل أعلن كما تقدم ذكره في كتاب مبين العلة الموجبة لإعطائها والغاية المحوية فيها. فبأي مسوغ شرعي يحق الإغضاء عنها والاكتفاء بالقشر دون اللب؟».
قال القاضي: «دعونا الآن من هذا الحديث، واسمحوا لي أن أسأل الشيخ علي هذا السؤال: يا شيخ إن الله واحد أحد فرد صمد، فمالكم تقولون آب وابن؟ أيلد الله؟ حاشا، وإنى يمكن التوفيق بين التعدد والوحدة؟ ذلك لعمري من المحال».
علي: «أيعلم بذات الله سبحانه سواه؟».
القاضي: «كلا لا يعلم بذاته سبحانه إلا هو، منزه عن الكيفية والكمية. والسبب أسمى من أن يتصور في الأذهان وأبعد من أن تدركه الأفهام».
علي: «حسناً إذا كان لا يعلم بذاته سبحانه سوى ذاته، ولا يعرف ما هو إلا هو، فأنى يحق لنا إنكار ما قد أعلنه لنا عن ذاته بداعي عدم صلاحية تلك النسبة لجلاله تعالى؟ وما أدراك أن من عقله الإنسان عن ذاته تعالى هو ناقص لا محالة، ويحتاج إلى تكميل بإعلان خاص من لدنه جل وعلا».
القاضي: «أين أعلن الله أنه واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد؟ وهل الحكيم الرحمن يعلن للإنسان ما يضاد قوى عقله؟».
علي: «ليس يا مولاي في تعليم التوحيد والتثليث في الله عز وجل ما يضاد العقل، وليس من المحال أن الله العجيب الفائق إدراكنا والبعيد عن تصوراتنا يكون جوهراً واحداً في ثلاثة أقانيم. فعدم إمكان العقل إدراك كيفية واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد لا يجعل كيانه محالاً فيمن قد تعالى وسما عن خلقه سمواً بلا كيف ولا حد ولا قياس. هذا وأنا نرى في بعض مخلوقاته ما يقرب إلى عقولنا فهم هذه الحقيقة الإلهية. من ذلك الشمس، فالشمس واحد في ثلاثة، أي جرم وشعاع وحرارة، وليس هي ثلاث شموس بل شمس واحدة. والإنسان ذو نفس وجسد وهو واحد لا اثنان. ومع كون الأمر فينا وواقعاً تحت حواسنا لا نستطيع إدراك كيفيته، فكيف نستطيع أن ندرك كيفية ما قد تفرد عن براياه؟ سبحانه ما أعلى شأنه. وقولك أين أعلن الله أنه واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد؟ فأجيب: لم يعلن ذلك حرّفياً على هذا النسق، غير أن إعلان التثليث والتوحيد في التوراة والإنجيل على طرق وأنواع شتى أبين من أن يبين. وأظن أكثرها لا تخفى على فضيلتكم لا سيما قول المسيح لتلاميذه: «عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس».
فلما انتهى من ذلك كان سكوت بضع دقائق والقاضي قابض على لحيته وقد علا وجهه حمرة الانحصار.
قال المفتي: «ألتمس من حضرة قاضي أفندي الرخصة للتكلم قليلاً مع الشيخ علي». ثم قال: «لا يخفى على حضرتكم قوله تعالى في القرآن الشريف «قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد». ومعشر النصارى تعتقد أن الآب والد والابن مولود، ولذلك قالوا آب وابن، وهذا يقضي بالحداثة كما لايخفى، لأن القول بالولادة يستلزم حدوثها في وقت ما، وعليه لا يكون عيسى المسيح سوى مخلوق حادث وليس إلهاً أزلياً كما يزعمون. والقول أنه إله من إله وجوهر منه تعالى هو من غريب الخبط والخلط مناف لقوله تعالى ولذوق العقل. بناء عليه لا أصدق أن هذا التعليم جاء في كتابه تعالى بل هو لا جرم مدخل عليه من ذوي الأوهام والوساوس» .
علي: «أما الزعم أن تعليم التثليث في الله مناف للعقل فهذا قد دحضته في جوابي السالف، فلا حاجة إلى مراجعته. وقولكم أنه مدخل على الكتاب فهل في مقدرة إنسان ما إثبات هذه الدعوى، ومطالع الكتاب بوقار وإخلاص يرى أن هذا التعليم حقيقة راهنة فيه وراسخة بهذا المقدار حتى لا يمكن دحضها إلا بدحضه إن أمكن وهو محال. ولا يخفى أن هذه الحقيقة ترى من أول وهلة في الكتاب وفي أول فصل فيه بقوله تعالى: «نعمل الإنسان كشبهنا» وإن قلتم من قبيل التعظيم دحض قولكم بقوله تعالى «هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر». ففي ذلك كما لا يخفى دليل على وجود أقانيم في ذاته تعالى، وأسفار الأنبياء تصف المسيح على أنواع شتى، كرب وملاك العهد وملك الملوك، وعلى الخصوص النبي إشعياء، فإنه يصفه وصفاً غريباً قاطعاً كل ريب بلاهوته ومطلق سلطانه بقوله: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ. لِنُمُّوِ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ» (إشعياء ٩: ٦ و٧). فلو كانت التوراة توراة النصارى، ربما كان لزعمكم رواج ما، ولكنها لحسن الحظ توراة أمة تنكر ليس فقط لاهوت المسيح بل إرساليته من الله. وأي أرب لليهود بإدخال تعليم غريب كهذا على توراتهم؟ فقد اتضح أن هذا التعليم هو إعلان الله لا ريب فيه، وما الإنجيل الأخير إتمام الله أقوال أنبيائه القديسين بخصوص ابنه الوحيد الذي جاء وكمل كل شيء بصلبه للموت نفسه فداء نفوس المؤمنين. والتسمية آب وابن وإن دلت على الولادة هي على خلاف عادة المخلوقات وخلاف ما يخطر في بال الإنسان غير قابلة التكييف والتنويع. والقول أنه كان مولوداً قبل كل الدهور لا يدل على حدوث ذلك في زمن ما، بل يُراد به كما لا يخفى أزلية الابن كالآب، ولا محل للقول كيف وكيف هو مثل قولنا الحرارة مولودة أو متولدة من الشمس، والكتاب والعلم يفيداننا أنه حين وجدت الشمس وجدت حرارتها معها في آن واحد ولا يبعد أن الله سبحانه سمى لنا أقانيمه هكذا لنفهم على وجه قياسي الحب والإلفة والوحدة الكائنة في ذاته تعالى. نعم إن هذا التعليم الإلهي عسر قبوله وهضمه لمن قد ربي ونشأ على تعليم آخر ولمن لم يتدرب جدياً بكتابه تعالى، غير أنه لحسن الحظ أيضاً يوجد اتحاد بين الكتاب والقرآن في مسألة التثليث والتوحيد.
المفتي: «عجباً لقولك هذا، أفي القرآن مثل هذا التعليم؟».
علي: «نعم موجود».
المفتي: «هات أرنا ذلك ولك الفضل».
علي: «انظر ما جاء في سورة آل عمران ٣ : ٤٥ «إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ» فلا يخفى على حضرتكم أن القول يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح يبين لا محالة شخصية الكلمة وذاتيتها وكلمة منه دليل راهن ان المولود من مريم ذات من الله عز وجل وهذه التسمية والنسبة هي نفس ما جاء في الإنجيل أن المسيح كلمة الله كما ترى في إنجيل يوحنا ١: ١ و١٤ وفي سفر الرؤيا ١٩: ١٣ حيث يقال: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ. وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا»، «وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ «كَلِمَةَ ٱللّٰهِ». والمراد من ذلك أن الكلمة المتجسد من مريم هو أزلي، جوهر من جوهره تعالى، والقول «كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» يدل في الأول كونه أقنوماً في الله، وفي الثاني أنه جوهر من جوهره وذاته تعالى. وما يستحق الاعتبار هو مع أن لفظة كلمة بصيغة التأنيث تذكر في كل الإنجيل والقرآن لدى الكلام عن التجسد بصيغة المذكر، دلالة على الشخصية الجوهرية لا العرضية، فما الفرق إذا روحياً بين القولين؟» .
حينئذ عدل الشيخ عبد الحميد جلوسه وقال: «التمس من حضرة مفتي أفندي أن يسمح لي أن أقول شيئاً لجناب الشيخ علي، ألا تعلم حضرتكم أنه لا يستطيع تأويل القرآن إلا الله والراسخون في العلم، وإذ ذاك فلا يسوغ لنا اقتحام هذا الأمر الخطير، بل الأجدر بنا الاعتماد على تفاسير أشهر الأئمة كالإمام البيضاوي والإمام الرازي رضي الله عنهما. والأحرى بنا الاقتصار على ما أنزل فيه بخصوص عيسى عليه السلام: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» أي هو إنساناً وليس إلهاً كما يزعم النصارى وأيضاً كما ترى في سورة المائدة «وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» (سورة المائدة ٥: ١١٦).
علي: «لا يخفى على سيدي أن الإنسان ما خلق عاقلاً إلا ليعقل ما لديه، ويفرق بين الحق والباطل والجيد والرديء. وحاشا لله أن ينزل وحياً لا يفهم إلا من أفراد ممن أنزل إليهم. إذا كان الإنسان لا يرسل لإنسان آخر كتاباً ما إلا ويستطيع ذاك فهمه قصد العمل بموجبه، فكم بالحري الرحمن عز شأنه لا يوحي إلى خلقه إلا بما أمكنهم فهمه، وإلا فكيف يمتثلون ويطيعون ما لا يفقهون المراد به. وتفسير بعض العلماء لكتاب موحى به من الله لا يكون وحياً، وإذ ذاك فلا يعتمد عليه، لأنه ربما أخطأوا بتفسيره في أمور كثيرة، فالمرجع إذا إلى الكتاب الموحى به والمعتقد بإنزاله، وعليه لا تغنينا تلك التفاسير مهما كانت جيدة عن استعمال عقولنا السليمة في فهم وإدراك المراد بذاك الكتاب. ولا نقدر أن نحمل المفسر مسئوليتنا لله تعالى في كف العقل وحجزه عن فهم كلامه، إذ الغاية الكبرى في منحنا إياه هي إدراك وجود واجب الوجود ومعرفة مشيئته وقصده تعالى فيما أوحاه إليها. نعم يلزم الإنسان معرفة قواعد اللغة المكتوب فيها ذلك الكتاب ليفهم كلامه من حيثية الإعراب والفصاحة التي لا ينكر أنها تساعد على إدراك معنى الكلام. غير أن معظم الحاجة إليها فيما هو أوفر إشكالاً وأكثر إبهاماً وهو نادر، ويمكن الاستغناء عنه. إنما أكثر سور القرآن وآياته مفهومة لدى العاقل الفطن، وأي كلام أحلى وأبين من الآيات التي نحن بصددها فيما يختص بالمسيح ابن مريم، وهي تحاكي مثلاً قولي لابني الصغير: اللبن من الشاة والثمر من الشجر. فهل يحتاج الأمر لفهم كلامي إلى علماء راسخين يفسرون له كلامي حسب قواعد اللغة؟ لا، وهكذا القول أن عيسى المسيح بدون أب بشري وأنه كلمة من الله وروح منه يستطيع فهم المراد منه كل مسلم سالم العقل حر الفكر. وهل يجدر بالعقل الاكتفاء بالهمهمة والدمدمة في تلاوة القرآن بدون مراعاة قوى عقله في فهم غايته ومعناه، منزلاً نفسه منزلة الببغاء التي تتكلم ولا تفهم ما تقول؟ وكيف إذا يؤمن المسلمون في هذه البلاد الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر، وهم لا يفهمون القرآن، كون أكثرهم ليس فقط غير راسخين في العلم بل أميون لا علم لهم. هذا وأقول من قبيل الجسارة أننا أيها الفاضل ذوو علم ودراية وافية في كنه اللغة وآدابها، وعندنا تفاسير الإمامين اللذين ذكرتهما، ولكن بغض النظر عن تفاسير ذينك العالمين ونقول: لماذا لا يجوز لي ولك مثلاً استعمال عقولنا في فهم القرآن وتفسيره كأولئك الغابرين؟ ثم إن نسخ لاهوت عيسى المسيح في بعض آيات القرآن لا يسلبنا حقنا التمسك أو بالأقل محاولة الوقوف على مفاد هذه الآيات الثمينة المنطقية على مفاد التوارة والإنجيل دون تلك».
حينئذ قال المفتي الشيخ عبد الحميد: «أترجاكم سيدي اسمحوا لي بالرجوع إلى المناظرة مع الشيخ علي: أرى يا شيخ أنك قد تجاوزت الحد في تأويل قوله تعالى حتى طبقته على مفاد إنجيل النصارى من خصوص قوله بلاهوت عيسى، والحال يبان أن مراده تعالى بالآية خلاف ذلك، لأنه وإن يكن الضمير (في منه) راجعاً إلى الله لا يفيد كون ذلك على سبيل الحصر أن الكلمة عيسى المسيح ذات من ذاته بل موجد منه لا جوهر من جوهره ولا ذات من ذاته. كيف يا ترى؟».
علي: «لو كان المراد بالآية كما قلتم ما اقتضى لكيانها على هذا النسق، بل كانت على نسق ما بشر الله إبراهيم بابنه اسحق، وما بشر به الملاك زكريا، إذ قال ضيف إبراهيم: «قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» (سورة الحجر ١٥: ٥٣) ولزكريا «فَنَادَتْهُ ٱلمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ ٱلصَّالِحِينَ» (سورة آل عمران ٣: ٣٩) وإنما إذ كان المبشر به لمريم ذات من ذات الله سبحانه وجوهر من جوهره، قيل في القرآن: يا مريم أن الله يبشرك بكلمة منه، لا بغلام عليم، ولا بنبي من الصالحين كما بشر زكريا وإبراهيم. فما أسمى الفرق بين هذه البشرى وتلك. ومما يؤيد ذلك أيضاً ما جاء في سورة النساء «إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه». أي رسول يا ترى نسب هذا النسب؟ ولم تكتف الآية بنعته بالرسالة، بل أبانت لنا أنه كلمة الله. ولكي لا نوهم خلاف المقصود بلفظة «كلمة الله» اتبعتها بما يزيل كل إشكال وهو «روح منه» لكي نفهم أن عيسى المسيح ليس هو كرسول اعتيادي بل كابن مرسل من لدن أبيه إلى عالم الدنيا. هذا هو مفهوم هذه الآيات القرآنية طبقاً لمفاد الإنجيل، قصد بها ذلك أو لم يقصد. فما الفرق بين القول «جوهر من جوهر الله» أو روح منه أو روح الله كما ورد في الحديث في كتاب الإمام الغزالي (جزء ٣ وجه ١٦٦). إلا أن ذلك شيء واحد. ومما يزيد ذلك تأييداً ولادته على خلاف مجرى الطبيعة، دون كل البشر. فمن كان هكذا بلا آب بشري وله هذه النسبة السامية إلى الله دون كل الأنبياء والمرسلين، ألا يحق أن يقال له ابن الله كما جاء في الإنجيل؟ واسمحوا لي أن أبدي لديكم ما قاله لي مرة أحد علماء المسيحيين منذ نحو أربع سنوات في أثناء محاورة جرت بيننا. بينما أنا أتكلم في فضل محمد على سائر الأنبياء والمرسلين، وأنه سيد ولد آدم كما جاء في كتاب الإمام الغزالي جزء أول وجه ٣٣٥ وجزء ثالث وجه ١٦٢، ضحك. فقلت: ما أضحكك؟ قال: لا شيء. قلت: لا بالله تخبرني السبب. قال: أضحكني الغرض الأعمى الذي لا يدع صاحبه يبصر إلا ما كان لجهته». قلت: «أتنسب لي الغرض يا ذمي. فما تغرضني؟» قال: «تفضيلك محمد على سائر أنبياء الله وجعله سيد البشر، خلافاً لمفاد قرآنكم وحديثكم اللذين يرفعان عيسى المسيح فوق درجات سائر الأنبياء والمرسلين». قلت: «هات بينا ذلك إن كنت من الصادقين». قال: «إن لذلك ست بينات. أربع من القرآن واثنتان في الحديث». «جيد أورد لنا ذلك». قال: «أما القرآنية فهي:
  • (الأولى) أنه يدعو عيسى المسيح كلمة الله وروح منه، ومحمداً رسولاً من الله، وعلى كل فروح الشخص أفضل من رسوله بما لا يقاس.
  • (الثانية) ولادته على خلاف ناموس الطبيعة، الأمر الذي يجذب فكر الحاذق البصير إلى القول بأنه لو لم يكن هذا الشخص عجيب النسبة لله وفائق الشرف ما حبل به على هذا النوع العجيب.
  • (الثالثة) عمله معجزات لم يسبقه ولا خلفه فيها نبي أو مرسل.
  • (الرابعة) عدم التصريح والتلميح بأن عيسى المسيح أثم في شيء ما، ومع أن القرآن يذكر استغفار أعاظم الآباء والأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وغفران الله لهم، وغفرانه لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ووضعه عنه وزره الذي أنقض ظهره (سورة الفتح ٤٨: ٢ وسورة ألم نشرح ٩٤: ٢ و٣) ولم يذكر قط أن عيسى المسيح استغفر ربه استغفاراً ما، أو أن ربه غفر له. فيتضح من ذلك أن عيسى المسيح شخص منفرد لا محالة عن الأنبياء كافة بالذات والكمال وأفضلهم جميعاً.
وأما الحديثية فيه: (الأولى) ما جاء في كتاب الحديث للإمام مسلم في الجزء الخامس وجه ١٢٦ عن محمد أنه قال يوماً لعائشة «ما من مولود يولد لابن آدم إلا نخسه الشيطان عند ولادته فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه» فعليه يكون الشيطان نخس جميع الأنبياء عند ولادتهم، ومن الجملة محمداً، إلا المسيح وأمه. فعلى كل يكون عدم تجاسر إبليس الرجيم على مسه دليل سموه الفائق على الملا كافة أخياراً وأشراراً.
(الثانية) ما روى في كتاب الإمام الغزالي جزء ثالث وجه ٣٨ أنه لما ولد عيسى ابن مريم عليه السلام أتت الشياطين إبليس فقالت: «قد أصبحت الأصنام منكسة الرؤوس، فقال هذا حادث قد حدث. مكانكم. فطار حتى أتى خافقي الأرض فلم يجد شيئاً، ثم وجد عيسى عليه السلام قد ولد، وإذا الملائكة حافين به، فرجع إليهم فقال أن نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا حاضرها إلا هذا. فآيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة ولكن ائتوا بني آدم من قبل العجلة والخفة. فهذه القضايا الست في صحفكم الدينية، جدير بها أن ترفع منزلة المسيح في قلوبكم درجات فوق محمد، بل أيضاً أن توجه أفكار كل مسلم عاقل نظير حضرتكم إلى التأمل بهذه الامتيازات الغريبة العجيبة التي امتاز بها المسيح عيسى عن كل بني آدم، وتجذبه من ثم للسؤال العادل: لماذا يا ترى خص ابن مريم بهذه الامتيازات الغريبة، وما السر في تسميته كلمة الله وروحه، وما هذه النسبة الإلهية، وما علة ولادته من دون أب بشري وإحفافه بجيش من ملائكة الله كي لا يدنو منه الرجيم، وما سبب عصمته من الخطأ والإثم دون جميع البشر؟ هل يسلم العقل أن هذه الأمور بلا طائل؟ نعم يا سيدي لا تجدون في القرآن بياناً لعلة هذه الامتيازات العجيبة، غير أنه يدلكم عليها الكتاب التوراة والإنجيل اللذين أنزلهما الله نوراً وهدى على طائفتي اليهود والنصارى. الكتاب هو ولا سواه يتكفل بإعطاء الجواب الشافي لهذا السؤال. فنحن ممتنون لمحمد على هذه الشهادة الثمينة، والحق أقول لك يا سيدي الشيخ، لو كنت مسلماً نظيرك ما كنت أقدر أن أجد بداً عن هذا السؤال لدى اطلاعي على هذه القضايا المهمة، ولا كنت أجد راحة لفكري إلا بعد حصولي على جواب له يروي الغليل. والعجب كيف أن كثيرين من علمائكم يتغاضون عن مثل هذه القضايا الكلية الأهمية ملقينها وراء ظهورهم، كأن الإغضاء عنها هو الجواب الفاصل لها. قلت يكفي يا ذمي. وأعدك أني سأنظر في ذلك إن شاء الله. ثم افترقنا وقلبي ملتهب من جراء متانة تلك الحجج، التي حقاً قد أثرت فيّ تأثيراً كلياً، وشغلت عقلي زماناً وكأني بصوت مستمر يناديني ما ترى يا علي؟ ما فكرك في هذه القضايا؟ ما سرها وعلتها؟».
قال حسن أفندي العطار: «استرخص من حضرة مفتي أفندي ان شاء أن أتكلم شيئاً. أجابه تفضل. قد استوعبنا مقالتك يا سيدي الشيخ، فأقول نعم أن القضايا المشار إليها لا تخلو من علة وسر مجهولين لا يعلمهما إلا الله، بما أنه لم يعلن ذلك في القرآن فالأسلم ترك الأمر لله. وأما أن نعتمد في ذلك على الكتاب بناء على شهادة الرسول له، فهذا لا يسوغ بعد ما لعبت به أيادي المحرّفين والمفسدين».
قال الشيخ أحمد عبد الهادي: «لا ريب أن الشيخ علي قد تعب، فليسمح لي أن أجاوب عنه جناب حسن أفندي». قال ذلك إليك. قال: قد برهن الشيخ علي في مناظرته مع حضرة مفتي أفندي بوجيز العبارة على عدم تحريف التوراة. وعدم تحريفها يقضي بعدم تحريف الإنجيل، لاتفاقهما معاً في القصد والغاية، كما لا يخفى على المدقق النبيه. ومع ذلك لا بأس من الجولان أيضاً قليلاً في هذا الباب، لأن بالإعادة إفادة، وبتكرار جر الحبل زيادة التأثير، فقل إن شئت ما دليل تحريف الكتاب؟ قال أن لتحريفه عدة أدلة منها:
  • (أولاً) قوله بلاهوت عيسى عليه السلام حال كونه إنساناً تحت الآلام نظيرنا، جاع وعطش وتعب وحزن وتألم واستغاث ومات حسب زعمه.
  • (ثانياً) إنكار اليهود ذلك (أي لاهوت عيسى) كونهم أهل الكتاب، فلو أخبرهم إياه كتابهم ما وسعهم إنكارهم إياه.
  • (ثالثا) وجود مناقضات عديدة فيه، فإنك كثيراً ما ترى قصة تناقض قصة وآية تناقض أخرى.
عبد الهادي: أرجوكم أن تذكروا ما شئتم من هذه المناقضات، وفيما بعد أقدم إن شاء الله لجنابكم الجواب عن هذه الأدلة الثلاثة:
حسن: أقتصر على ذكر بعض مناقضات في الإنجيل، منها:
إن متّى يذكر أعميين عند أريحا سألا يسوع البصر. ومرقس ولوقا يذكران أعمى فقط. ومتّى يقول أن المسيح لما قرب من بيت فاجي أرسل تلميذين ليأتياه بأتان وجحش معها، وأنهما فعلا ذلك وركب عليهما يسوع. وفي مرقس ولوقا يذكر جحشاً فقط. وفي سفر الأعمال في فصل ٩: ٧ يقال عن بولس رسول المسيح في تجلي الرؤيا عليه على طريق دمشق «وَأَمَّا ٱلرِّجَالُ ٱلْمُسَافِرُونَ مَعَهُ فَوَقَفُوا صَامِتِينَ، يَسْمَعُونَ ٱلصَّوْتَ وَلاَ يَنْظُرُونَ أَحَداً». وفي فصل ٢٢: ٩ يقول عن فم بولس: «وَٱلَّذِينَ كَانُوا مَعِي نَظَرُوا ٱلنُّورَ وَٱرْتَعَبُوا، وَلٰكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ ٱلَّذِي كَلَّمَنِي». و يقال في رسائل بولس أن التبرير بالإيمان فقط لا بالأعمال وأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه، وأن إبراهيم وراحاب تبررا بالإيمان. وفي رسالة يعقوب قال: «تَرَوْنَ إِذاً أَنَّهُ بِٱلأَعْمَالِ يَتَبَرَّرُ ٱلإِنْسَانُ، لاَ بِٱلإِيمَانِ وَحْدَهُ. (وأن إبراهيم أبانا تبرر بالأعمال) كَذٰلِكَ رَاحَابُ». وهذا يكفي للبصير ليرى ما قد اعترى الكتاب المقدس من التحريف والتغيير، حتى أضحى هكذا يناقض بعضه بعضاً. فكيف سأل المسيح أعميان أو أعمى واحد؟ وكيف ركب حيوانين بل حيواناً واحداً؟ وكيف سمع أولئك الرجال الصوت ولم يسمعوه ونظروا ولم ينظروا؟ وأن البر بالإيمان فقط لا بالأعمال وبالأعمال والإيمان؟ لعمري أن هذا الخلط الغريب من أعظم الأدلة على تحريف الكتاب.
عبد الهادي: «أما قول الإنجيل بلاهوت عيسى فهذا قد استوفى الكلام بشأنه في ما قد جرى من الحديث بين حضرة المفتي والشيخ علي، واستبان أن التوراة والقرآن يشهدان له بهذه النسبة الإلهية شهادتين مستوفيتين الواحدة سابقة والأخرى لاحقة من كتابي أمتين لا تتقدان بشيء من لاهوته. فلا حاجة لمراجعة ما قد بدا ووضح. فقط عليّ أن أجيب جنابكم على مسألة كونه كإنسان كان تحت آلام نظيرنا جاع وعطش وتعب إلى آخر القول، فلا يخفى على سيدي ضرورة ظهور هذه الأعراض فيه برهاناً لتمام إنسانيته، كما أن معجزاته الخارقة وكماله وسمو طهارته وصلاحه وعلمه الماضي والحاضر والمستقبل هو برهان لاهوته. وهذا كما لا يخفى ممكن لدى من كل شيء ممكن لديه. وهل من اعتراض على الله عز وجل إذا شاء أن يتخذ بابنه الوحيد صورة عبد لإجراء أمر خطير لم تر حكمته الإلهية إجراءه بدون ذلك؟ أما نكران اليهود لاهوت المسيح الذي اعتبرتموه حضرتكم دليلاً على تحريف الكتاب فهو كما لا يخفى من الأدلة الراهنة على عدم تحريفه، كما قد ألمع إلى ذلك الشيخ علي فيما سلف، لأنه لو سمح للبشر بتحريف الكتاب حسب أهوائهم، لكان اليهود لا ريب حرّفوا وغيّروا الآيات النبوية التي تنبئ عن المسيح كإله وإنسان، واصفة إياه وناسبة له ذات الصفات والنسبة المعلنة في الإنجيل، لا سيما ما كان بخصوص رفضهم إياه وبيعه بثلاثين من الفضة وإماتته. وبالأقل كانوا اعتمدوا ذلك التحريف بعد أن تمموا كل شيء من جهة رفضه وصلبه. ولكن لحسن الحظ لم يمدوا يدهم قط لمحو وتحريف أصغر نبوة بخصوصه، بل لم تزل في توراتهم كما أنزلت، شاهدة على شر كفرهم به، وبرهاناً للأمم أنها محفوظة بقدرة من أنزلها رغماً عن أهواء الإنسان وفساده. فمن بعد كل هذا من يقول بتحريف التوراة ولا يأثم إلى منزلها تعالى؟
أما القضايا التي اعتبرتموها حضرتكم مناقضات ومن ثم اتخذتموها لتحريف الإنجيل فأقول:
(أولاً) أن هذه المذكرات ليست في الأمور الأولية التي عليها مدار الإيمان المسيحي.
(ثانياً) لدى التدقيق فيها لا ترى البتة مناقضات كما سترى بالأعميان في متّى لا ينفيهما أعمى مرقس ولوقا ولا أحدهما. وإنما ذكر البشير الأول اثنين والبشيرين الآخرين واحداً، فكما يتحصل من العقل أن أحدهما كان أكثر شهرة، أو ربما هو المتكلم فقط، فاكتفى كل من مرقس ولوقا بذكر الأشهر، وهذا لا ينفي أنه كان معه آخر. ومثل ذلك الأتان والجحش، فإن المقصود الجحش إنما يرجح لكونه رخصاً غير مروض لزم إحضار أمه معه، وأن المسيح تارة كان يركب الأتان وطوراً ابنها ولما أشرف على أورشليم كان راكباً الجحش فاكتفى البشيران مرقس ولوقا بذكر ما هو أكثر أهمية وقصداً، وهو الجحش، بخلاف متّى فإنه رأى التدقيق في هذه القضية ولا مناقضة بينهم. ومسألة رؤيا بولس فهي خلاف ما يتوهمها الإنسان لأول وهلة لأن في القضية الأولى يقول «يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً» وفي الأخرى «نظروا النور ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمني». فيظهر لدى التمعن في هاتين القضيتين أنهم في الأولى سمعوا صوتاً مبهماً كالصوت الذي جاء من السماء جواباً للمسيح في أورشليم، فسمعه الحاضرون ولم يفهموه، وبعضهم لم يميزوه عن الرعد (لاحظ يوحنا ١٢: ٢٨ و٢٩) ولم يسمعوا صوت الذي كلمني في الثانية، أي لم يسمعوا الكلام ولم يفهموا كلمة ما من الصوت. فكأنه بالنظر إلى ذلك هو عدم سماع «ولم ينظروا أحداً» ونظروا النور فلا يرى في ذلك شبه التناقض كون النور مادة لا شخصاً «والأحد» هنا يدل على الشخصية لا على المادية. هذا وهب أن بياني هذا غير مرو، أسأل حضرتكم هل ترون في شبه المناقضات هذا ما يدل على تحريفه من أصله، أو على قصد لهم في جعل الآيات المتنوعة على هذه الكيفية؟
حسن: «كلا لأنه لو قصد ذلك منهم لكانوا بالأولى أزالوا مثل هذا الإشكال».
عبد الهادي: «دمت سالماً سيدي، وإذا كان أهل الكتاب ما قصدوا تحريفه هكذا على نوع يجلب لهم هذا التعب، فيكون ما يوجد فيه من شبه التناقض دليل بقائه على ما أوحي به وما كتبه الرسل الملهمون. وعن مسألة الخلاف الظاهر بين بولس ويعقوب أقول: لا يخفى أن هذا الخلاف هو ظاهري فقط لا معنوي، وهو ناشئ عن اختلاف أفكار المكتوب إليهم، فكما يرى من فحوى رسائل بولس إلى رومية وغلاطية أن أفكار المؤمنين في هاتين البلدتين أن الإنسان يتبرر لدى الله بأعماله، ولا سيما الأعمال الناموسية حسب التوراة أو بالإيمان والأعمال معاً. فكتب لهم بولس ما كتب ليريهم أن الإنسان فاسد بالطبع ومجرم إلى الله، وإذ ذاك كان محكوماً عليه من الناموس وكيف يبرره الناموس من ذنوبه وجرائمه مكتوبة في دفتر علمه تعالى؟ وأن الخلاص من الخطية ونتائجها هو فقط بعفو الله ورحمته لا باستحقاق الإنسان الأثيم. وأن التبرير من دين العدل إنما هو بالوفاء وهذا الوفاء قد حصل بالفداء الشرعي بدم حمل الله الذي قدم لله بلا عيب لأجلنا لكي يبرر كل من يؤمن به. فقال لهم أن الإنسان يتبرر بالإيمان لا بالاعمال، بخلاف الذين كتب إليهم يعقوب إذ كان قد شاع بينهم أن الإنسان يخلص ويتبرر من جرائمه بمجرد الإيمان بدون لزوم إلى التقوى والطهارة، وأنه لا حرج على المؤمن مهما فعل وارتكب من أعمال الفظاعة والقساوة، ناسين أن إيماناً كهذا ميت في ذاته، وليس هو بالحقيقة إيماناً. فكتب إليهم الرسول مبيناً شر غلطهم هذا، وموضحاً لهم أن التقوى بحفظ وصايا الله هي دليل الإيمان بالله بقوله: «أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ (أي ذلك غير ممكن) وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي» (يعقوب ٢: ١٨) أي أن الأعمال شاهد الإيمان ودليله، فالإيمان بالله واليوم الآخر والثواب والعقاب ما هو إلا التصديق القلبي والتأكيد اليقيني بهذه الحقائق. والأعمال الصالحة هي ما قاد إليه هذا الإيمان، فالإيمان ينشئ حب الله ومخافته، وهذه تجعل من كانت فيه تقياً لا محالة. وعليه كتب ما ترون: أن الإنسان يتبرر بالأعمال لا بالإيمان وحده، أي بالإيمان الحي العامل بالمحبة كما يقول بولس، فيكون الإيمان هو الأصل والأعمال هي الأثمار، وما من ثمر بدون أصل. فالله يبرر من كان مؤمناً إيماناً حياً منشئاً في قلب ذلك المؤمن حب الله. فمؤمن كهذا إن مات دقيقة إيمانه بدون عمل صالح في سالف حياته يخلص بإيمانه، وإن عاش في الدنيا يسير مع الله بإيمانه. فترون أن لا خلاف حقيقي بين القولين، بل الخلاف الظاهري ناشئ كما من خلاف رأي كل من المكتوب إليهم، وهذه الحقيقة تزداد وضوحاً وبهاء لعيني قارئ كتاب الله بالاحترام والوقار الواجبين له» .
قال القاضي: «إن ما قد أتيت به جنابك يا شيخ أحمد لا يرى أنه حل مستوف لهذه الاعتراضات، ما خلا إنكار اليهود لاهوت المسيح وإرساليته من الله، وأرى أننا لم نصب في اتخاذ ذلك دليلاً على تحريف الكتاب. فإن كان عندك بعد أوفى مما ذكرت فأت به، وإلا لزمك الإذعان بتحريف بعضه على الأقل».
فتبسم الشيخ أحمد وقال: «لقد سلم مناظري الكريم تواً فيما تقدم أن أهل الكتاب لو قصدوا تحريف كتابهم لكانوا بالأولى أزالوا مثل هذا الإشكال. وكل عاقل يرى أن بقاء شبه تناقض في بعض آياته هكذا لهو دليل بقائه كما كتب من الملهمين بكتابته. ولا أرتاب بكون حضرتكم رأيتم سداد هذه الحجة، غير أنه يلوح لي أنكم ترغبون في إفراغ قوة الدفاع عن ثلم سلامة كتابه العزيز فلا بأس. وعليه أطرح لديكم هذا السؤال: إذا كان الكتاب على زعم المسلمين تحرّف فهل تحرّف قبل محمداً أو بعده؟».
فتوقف القاضي برهة عن الجواب ثم قال: «ألا تعدل الآن يا شيخ عن هذا السؤال؟». أجاب. «كلا يا سيدي، لا يمكنني العدول عنه. لكن إذا شئتم قفل باب المناظرة الآن فالأمر لكم».
فاحمر وجه القاضي خجلاً حتى سال العرق من جبينه، والتفت إلى أصحابه كأنه يريد امداده برأيهم، فهمس إليه عبد الرحيم أفندي أن يقول بعد محمد. فأجابه لا أقدر الآن على مجاوبة هذا السؤال بوجه ما. هو سؤال لا كالأسئلة. فإن شئت جنابك أن تجاوب عليه فالأمر إليك. فقال المذكور لا غرو أنه قد تحرّف بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم.
عبد الهادي: «من المعلوم أن محمداً نبي المسلمين نبغ في القرن السابع للتاريخ المسيحي، حيث كان معظم السلطة السياسية في العالم بيد المسيحيين، وكان إذ ذاك المسيحيون مؤلفين من قبائل شتى مختلفي اللغات والألسنة، والكتاب موجود بأيدي كل قبيلة منهم بلغتهم الخاصة. وقبل ذلك العصر بكثير بعد القرن الأول أخذت الأمة المسيحية تتشعب إلى فرق وطوائف مختلفة بعضها عن بعض مذهباً وطقساً. كالآريوسيين والبولسيين سكان أرمينيا، وما شاكلهم وثارت بينهم شرر العدوان والشحناء، حتى بلغت أعظم مبلغ. وكان الكتاب طبيعياً بيد كل فريق منهم، وكانوا يناظرون بعضهم بعضاً بقضاياه وآياته، ولم يشبه تغيير ولا تحريف ما مدة تلك الأجيال كما أقررتم، وكما يتضمن شهادة القرآن له. فإذا كانوا لم يحرّفوه قبل محمد، حال كونهم كما ذكرت متضادين متباعدين رأيا ومذهباً وطقساً فهل يمكن والحالة هذه إجماعهم فيما بعد على تحريفه؟».
عبد الرحيم: «قد يمكن ذلك».
عبد الهادي: «ما كنت أنتظر من ذكائكم هذا الجواب، ما دليل اتفاقهم على تحريف الكتاب، وهم منذ انشقاقهم لم يزالوا في التضاد والخلاف الديني، بل أن الخرق كان على توالي السنين والأجيال في حال الاتساع والتعاظم. فإجماعهم بالفرض على تحريفه يقضي لا محالة بعدولهم عن الخلاف ورجوعهم إلى طائفة واحدة ذات رأي واحد وطقس واحد بموجب ذلك الكتاب المحرّف منهم. ولكن بقائهم على ما هم عليه من الخلاف والمباينة، مع وجود الكتاب عند جميعهم بلغاتهم المختلفة منذ افتراقهم بدون أدنى فرق، دليل راهن على عدم تحريفه وعلى عدم القصد بذلك، فلا جرم أن الإقرار بعدم تحريف الكتاب قبل محمد يستلزم كما لا يخفى الإقرار بعدم تحريفه فيما بعد، وأسأل حضرتكم: هل يشرع الإنسان في عمل ما بدون غاية ما؟».
عبد الرحيم: «كلا ما من عاقل يباشر أمراً بدون غاية».
عبد الهادي: «فهل إذا يقدم محرّفو الكتاب على تحريفه بدون فائدة لهم؟».
عبد الرحيم: «كلا لا بد لهم من فائدة عظيمة».
عبد الهادي: «حسناً، ما هي تلك الفائدة؟».
عبد الرحيم: «لا أعلمها. هل من الضرورة أن تعرف غاية كل أمر يباشره الناس؟».
عبد الهادي: «كلا وإنما لا يخفى عليكم إذا ادعي على جماعة ما بكونهم محرّفين كتاباً منزّلاً إليهم، بالنظر إلى قضايا كذا وكذا، ثم لدى النظر إلى تلك القضايا وجد عدم موافقتها إياهم، بل بالعكس مضادة آرائهم وأعمالهم، لزم المدعي من ثم بيان غاية لهم فيما يدعي وإلا سقطت دعواه - أليس كذا يا قاضي أفندي؟ - قال: بلى أنا بالنيابة عن عبد الرحيم أفندي أقول: هل عندك بيان عدم وجود غاية في الكتاب لأهله بتحريفه؟».
عبد الهادي: «إذا أتيت بذلك هل تسلمون حضرتكم بسلامة الكتاب من التحريف؟».
القاضي: «لا نقدر على هذا الوعد، ولكن نرى حينئذ فيما يجب».
عبد الهادي: «وأي غاية ترى في الكتاب لتحريفه ممن كثير من تعاليمهم وطقوسهم وضروب عبادتهم مناف للكتاب على خط مستقيم وألا يرى البصير أنه لو خطر على بال أهل الكتاب تحريف كتابهم بعد تشعبهم وافتراقهم، كما يزعم سيد عبد الرحيم، لكان لا غرو أن كل فريق منهم حرّفه على نوع يسند مدعاه ورأيه وشكل عبادته. وبالأقل كانوا نزعوا منه الوصايا والنواهي الشديدة على اتخاذ الصور والتماثيل وعبادة المخلوقات الغائص فيها أكثر وأعظم الفرق النصرانية ولكن الحمد الله لم يمدوا أيديهم إليه قصد إفساد كهذا، بل هو باق في أيدهم ومعابدهم شاهداً على انحرافهم عنه، كما تشهد التوراة بيد اليهود على إنكارهم مسيح الله المبارك. ومن يرى وقوف كل من الفرق النصرانية بالمرصاد لزملائهم منذ افتراقهم، ينجلي له سبب عظيم من الأسباب المانعة لتحريف الكتاب. فقد اتضح إذا عدم تحريف الكتاب وعدم السبيل إلى تحريفه وعدم الغاية بذلك. فهذه الأمور الثلاثة: نكران اليهود إتيان المسيح عيسى من الله حال كون توراتهم تشهد له كما تقدم. وعدم تحريف الكتاب قبل محمد. ووجود ما يدل فيه على عدم مداخلة الحكمة البشرية في أمره هي من أقطع الأدلة على سلامته من شائبة التغيير والتحريف. ولا يبقى للإنسان سبيل أن يطعن فيها بوجه من الوجوه. فما أشبه الكتاب ببوصلة الملاحين كيفما قلبتها ترى طرفيها متجهين نحو القطبين، هكذا كيفما قلبت الكتاب وأدرته لا تراه إلا كعمود للحق، وطرفه الواحد في الأرض والآخر في السماء، لا يستطاع تحويلهما إلى جهة أخرى».
حينئذ قال القاضي. «كفى الآن يا إخوان، قد أطلنا الوقت جداً وقد صارت الساعة سبعاً ونصفاً تقريباً، فلننصرف إذ يبان أن لا فائدة من الحديث مع هؤلاء الأحباب. فما أجمل ما جاء في كتابه تعالى «أنه لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء». ثم قاموا وانصرفوا.
وفيما هم ذاهبون في طريقهم قال الشيخ عبد الحميد: «أفتكر يا إخوان أنه كان غلط منا القول أن تحريف الكتاب كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه مسلم إذا كان ما تحرّف حتى ظهور النبي فلا يمكن أن يحرّف فيما بعد لعلل شتى. كان الأوفق أن نقول أنه تحرّف قبل زمان الرسول».
أجابه حسن أفندي: «هنا البلاء الأدهم. وبأي غطاء تغطي يا مولاي الآيات القرآنية المبينة صحة الكتاب الموجود يومئذ بيد اليهود والنصارى، وأين نخفيها عن عيون علماء مسلمين متنصرين؟ فكيف عنّ لك هذا الفكر يا سيدي؟».
عبد الحميد: «عنّ لي مما جاء في قوله تعالى في سورة المائدة ٥: ٤١ «يَا أَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ» إلى آخر الآية فهؤلاء المحرّفون هم أهل الكتاب» .
المفتي: «إليك يا سيدي عن هذه الآية فإنها بعيدة عن المطلوب وأن الإمام الفخر الرازي بتفسير هذه الآية يبين كون هذا التحريف المشار إليه من النبي صلى الله عليه وسلم هو إنكارهم بعض ما في كتابهم، لا تغييرهم إياه منه بقوله: «يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ» أي من بعد أن وضعه الله واضعه أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرّم حرامه. قال المفسرون: أن رجلاً وامرأة من أشراف خيبر زنيا، وكان حد الزنا في التوراة الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فأرسلوا الزانيين إذا أحصنا وقالوا أن أمركم بالجلد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا. فلما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك نزل جبرائيل بالرجم، فأبوا أن يأخذوا به، فقال جبرائيل عليه السلام أجعل بينك وبينهم ابن صوريا. فقال الرسول: هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض. فرضوا به حكماً. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم «أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون، والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟» قال ابن صوريا: «نعم». الرازي بمراد الآية إذا هو تحريف اليهود بعض الكلم من الكتاب بأفواههم لا بذات التوراة كما ترى أيضاً في تأويل آية ٤٦ من سورة النساء وهي «مِنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ» إلى آخر الآية إذ يقول في كيفية هذا التحريف وجوه (أحدهما) أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر مثل تحريف اسم (ربعة) بوضعهم «طويل» مكانه ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الجلد بدله، ونظيره قوله تعالى «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله». فإن قيل كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور؟ قلنا: لعله يقال أن القوم كانوا قليلين والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلق فقدروا على هذا التحريف. (والثاني) أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ من معنى الحق إلى معنى الباطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم وهذا هو الأصح. (والثالث) أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به. فإذا خرجوا من عنده حرّفوا كلامه (كتاب الإمام الفخر الرازي وجه ٣٣٨ و٤٩٨). فيتضح من ذلك أن هذا التحريف في الآيتين المذكورتين هو لفظي شفاهي لا كتابي، فلا يسوغ لمسلم بعد القول بتحريف الكتاب قبل محمد والآيات البينة على صحة سلامة الكتاب في عصر القرآن عديدة، لم يتهم القرآن أهل الكتاب بتحريفه، بل يكتم ما كان لجهة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى في سورة البقرة آية ١٤٦ «ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَريقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» وما جاء في سورة آل عمران آية ٧١ «يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» فانظروا هاتين الآيتين لبراءة الكتاب من تهمة التغيير والتحريف. هذا ولم يتهم القرآن جميعهم بكتمان ما كان لجهته صلى الله عليه وسلم بل فريقاً منهم. فأي محل إذا للقول أن الكتاب تحرّف قبل محمد؟ وما الهرب من ذلك القول إلى هذا إلا كمن يهرب من العقرب إلى الأفعى» .
فخجل الشيخ المذكور وأقر بخطأ فكره هذا، ثم افترقوا كل إلى حال سبيله.

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.