الثالوث في الإسلام
١ - الثالوث في الإسلام
لعل الخلاف الأكبر في الحوار بين المسيحيّة والإسلام، هو الخلاف القائم على اعتقاد المسيحيين بألوهية المسيح، الأمر الذي يحسبه الإسلام كفراً. وقد اعترض عليه بعدة آيات من القرآن، أبرزها أربع، وردت في سورة المائدة، وآية خامسة في سورة النساء:- «لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً» (المائدة ٥: ١٧).
- «لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ» (المائدة ٥: ٧٢).
- «لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (المائدة ٥: ٧٣).
- «وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ» (المائدة ٥: ١١٦).
- «يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ ٱنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَى بِٱللَّهِ وَكِيلاً» (النساء ٤: ١٧١).
لعل من يقرأ المائدة ٥: ١١٦ يتصور أن المسيحيين يؤلهون مريم العذراء، وهذا غير صحيح. والواقع أن السؤال الموجَّه إلى المسيح هنا، نشأ من وجود أهل بدعة عند ظهور الإسلام. وهم أناس وثنيون حاولوا الالتصاق بالكنيسة، فنادوا ببدعة مفادها أن مريم العذراء إلهة. ويقول المؤرّخون إنهم استعاضوا بها عن الزهرة التي كانوا يعبدونها قبلاً. وقد أطلقوا على أنفسهم اسم «المريميين» وأشار اليهم العلاّمة أحمد المقريزي في كتابه «القول الإبريزي» صفحة ٢٦. وذكرهم ابن حَزْم في كتابه «الملل والاهواء والنحل» صفحة ٤٨. ولكن هذه البدعة بعيدة كل البُعد عن المسيحيّة. وليس هناك مسيحي واحد يؤمن بها. وقد انبرى العلماء المسيحيون وقتها لمقاومة هذه الضلالة بكل الحجج الكتابية والعقلية، ولم ينته القرن السابع حتى كانت قد تلاشت.
وكذلك المسيحيّة لا تعلّم بأن المسيح إله من دون الله، بل تؤمن بأن الآب والابن إله واحد، بلا تعدّد ولا افتراق. وقد أكّد المسيح ذلك بقوله: «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ... أَنِّي فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ» (يوحنا ١٠: ٣٠، ١٤: ١١).
أما قول القرآن: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة» والذي يستند عليه أعداء المسيحيّة، فقد قيلت بطائفة «المرقونيين» الذين لفظتهم الكنيسة وحرمت أتباعهم، لأنهم علَّموا بتثليث باطل، ونادوا بثلاثة آلهة وهم:
(أ) عادل، أنزل التوارة (ب) صالح، نسخ التوراة (ج) شرير، وهو إبليس
كما أن الإسلام في نصوصه هذه، حارب طائفتي المانوية والديصانية اللتين تقولان بإلهين أحدهما للخير وهو جوهر النور، والثاني للشر وهو جوهر الظلمة.
إذاً فالإسلام لم يحارب عقيدة الثالوث المسيحيّة الصحيحة، كما يتوهم البعض. ولهذا لا أعتبر أن آيات القرآن المقاومة لتعدد الألهة كانت موجَّهة ضد المسيحيّة.
وحين نتتبع هذا الموضوع في الكتب الإسلامية، نرى أن علماء المسلمين بحثوا في عقيدة الثالوث وهذه هي تعليقاتهم على قول القرآن: «ولا تقولوا ثلاثة» (النساء ٤: ١٧١).
١ - تفسير الزمخشري: «يقولون: هو جوهر واحد، ثلاثة أقانيم».
«إن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون: هو جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون بأقنوم الآب الذات وبأقنوم الابن العلم وبأقنوم روح القدس الحياة - فتقديره (الله ثلاثة). وإلاَّ فتقديره (الآلهة ثلاثة). والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة وأن المسيح ولدُ الله من مريم. ألا ترى إلى قوله: «أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله»! وحكاية الله أوثق من حكاية غيره» .
وقد علَّق كاتب مسيحي حكيم على تفسير الزمخشري بقوله: «نعم، إن حكاية الله أوثق من حكاية غيره. لكن القرآن حكى في تلك الآية لتفسير «الثلاثة» مقالة بعض النصارى من جهال العرب في تثليثهم الكافر الذي كفَّرته المسيحيّة قبل القرآن. فجاء الزمخشري وجعل من ذلك التثليث المنحرف تثليث المسيحيّة ظلماً وعدواناً، مع أنه ينقل التثليث المسيحي الصحيح بتعبيره الصريح: «الله ثلاثة: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم». ولماذا يشك في صحة قولهم الذي يورده عنهم، وينسب اليهم قولاً كافراً هم منه براء؟ انه يفتري على القرآن وعلى المسيحية إذ يقول: «وحكاية الله أوثق من حكاية غيره».
٢ - تفسير البيضاوي: «الله ثلاثة أقانيم: الآب والابن وروح القدس».
«ولا تقولوا: ثلاثة! أي الآلهة ثلاثة: الله والمسيح وأمه. ويشهد عليه قوله: «أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟» - أو «الله ثلاثة» إن صحَّ انهم يقولون: الله ثلاثة أقانيم، الآب والابن وروح القدس، ويريدون بالآب الذات وبالابن العلم وبروح القدس الحياة» .
والمسيحيون يسألون البيضاوي وأمثاله: لماذا هذا الشك من مقالتهم التي بها يجهرون؟ ولماذا الافتراء عليهم بنسبة مقالة كافرة من بعض جهال الجاهلية، إلى المسيحيّة جمعاء، وهي منها براء؟
فالبيضاوي ينقل أيضاً صيغة التثليث الصحيح ولا يكفِّرها، بل يكذب عليها مثل غيره، اعتماداً على ظاهر القرآن في ما لا يعني المسيحيّة بشيء.
٣ - تفسير الرازي: «صفات ثلاث - فهذا لا يمكن انكاره».
الرازي مفسّر متكلّم. وهو يتعرّض لصيغة التثليث المسيحي ويطبق عليها تكفير القرآن «للثلاثة»، لتفسيره الخاطىء:
قوله (ثلاثة) خبر مبتدأ محذوف. ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدأ على وجوه:
الأول: ما ذكرناه، أي ولا تقولوا الأقانيم ثلاثة. المعنى لا تقولوا: إن الله سبحانه هو واحد بالجوهر، ثلاثة بالأقانيم. واعلم أن مذهب النصارى مجهول جداً، والذي يتحصل منه أنهم أثبتوا ذاتاً موصوفة بصفات ثلاث. إلاَّ أنهم سمُّوها صفات، وهي في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها. فلهذا المعنى قال: «ولا تقولوا: ثلاثة. انتهوا». فأما إن حملنا «الثلاثة» على أنهم يُثبتون صفات ثلاث فهذا لا يمكن إنكاره. وكيف لا نقول ذلك، ونحن نقول: «هو الله الملك القدوس السلام العالِم الحي القادر المريد». ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر. ولا معنى لتعدد الصفات إلاَّ ذلك. فلو كان القول بتعدّد الصفات كفر، لزم ردّ جميع القرآن، ولزوم ردّ العقل، من حيث نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالماً، غير المفهوم من كونه حياً.
الثاني: آلهتنا ثلاثة، كما قال الزجّاج مستشهداً بآية المائدة (٥: ١١٦).
الثالث: قال الفرّاء: «هم ثلاثة كقوله: «سيقولون: ثلاثة». وذلك لأن ذكر عيسى ومريم مع الله بهذه العبارة يوهم كونهما إلهين» .
ويعلق الكاتب المسيحي الحكيم، الذي اقتبسنا منه بقوله: «ونحن لا يعنينا التفسير اللغوي للمبتدأ المحذوف. إنما يهمنا تفسير الرازي لمقالة المسيحيين في التثليث. فهو يرد «الأقانيم الثلاثة» لأنها في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها». وهذا هو غلطه في فهم العقيدة المسيحيّة. فليست الأقانيم الثلاثة في الله «ذوات قائمة بأنفسها»، انما ذوات قائمة في جوهر الله الفرد».
والتثليث المسيحي هو كما وصفه الرازي: «أنهم أثبتوا ذاتاً موصوفة بصفات ثلاث». والمسيحيون يسمون هذه الصفات الإلهية الثلاث: الأبوة والبنوّة والروحانية في الله «أقانيم» لتمييزها عن سائر صفات الله. فتلك الأقانيم الثلاثة هي صلات ذاتية كيانية - لا محض صفاتية - وهي قائمة في الجوهر الإلهي الفرد. لذلك نردّ على الرازي قوله: «فأما إن حملنا الثلاثة - ويجب أن نحملها - على أنهم يثبتون صفات ثلاث، فهذا لا يمكن إنكاره... فلو كان القول بتعدد الصفات كفر، لزم رد جميع القرآن، ولزم رد العقل».
فالمسيحيون يثبتون في الله ذاتاً موصوفة بصلات ذاتية كيانية ثلاث، يسمّونها الآب والكلمة والروح. هذا هو التثليث المسيحي الصحيح الذي لمحه الرازي وابتعد عنه لعقدة في نفسه.
وهذا ما يثبته المسيحيون من صلات ذاتية، أو صفات كيانية، في الله. فمن أنكرها لزمه ردّ القرآن، ولزمه رد العقل، لأن هذا التثليث الصحيح من صميم التوحيد.
٤ - تفسير الغزالي: وهو ينصف المسيحيّة في عقيدتها التثليثية. قال حجة الإسلام الإمام الغزالي في كتابه «الرد الجميل» ص ٤٣، يحلّل التثليث المسيحي: يعتقدون أن ذات الباري واحدة. ولها اعتبارات:
١ - «فإن اعتُبرت مقيَّدة بصفة لا يتوقف وجودها على تقدم وجود صفة قبلها كالوجود، فذلك المسمَّى عندهم بأقنوم الآب. وان اعتُبرت موصوفة بصفة يتوقف وجودها على تقدم وجود صفة قبلها، كالعلم - فإن الذات يتوقف اتّصافها بالعِلم على اتّصافها بالوجود - فذلك المسمَّى عندهم بأقنوم الابن أو الكلمة. وان اعتُبرت بقيد كون ذاتها معقولة لها، فذلك المسمَّى عندهم بأقنوم روح القدس».
«فيقوم اذن من الآب معنى الوجود، ومن الكلمة أو الابن معنى العلم، ومن روح القدس كون ذات الباري معقولة له. هذا حاصل هذا الاصطلاح فتكون ذات الإله واحدة في الموضوع، موصوفة بكل أقنوم من هذه الأقانيم».
٢ - «ومنهم من يقول: ان الذات، إن اعتُبرت من حيث هي ذات، لا باعتبار صفة البتة، فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن العقل المجرد، وهو المسمَّى عندهم بأقنوم الآب. وان اعتُبرت من حيث هي عاقلة لذاتها، فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن معنى العاقل، وهو المسمى بأقنوم الابن أو الكلمة. وإن اعتُبرت بقيد كون ذاتها معقولة لها، فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن معنى المعقول، وهو المسمى بأقنوم روح القدس».
«فعلى هذا الاصطلاح يكون العقل عبارة عن ذات الله فقط، والآب مرادفاً له، والعاقل عبارة عن ذاته بقيد كونها عاقلة لذاتها، والابن أو الكلمة مرادف له، والمعقول عن الإله عبارة عن الإله الذي ذاته معقولة له، وروح القدس مرادف له».
«هذا اعتقادهم في الأقانيم: وإذا صحَّت المعاني فلا مشاحة في الألفاظ، ولا في اصطلاح المتكلمين».
ويعلّق الكاتب الحكيم على أقوال الغزالي فيقول: «فالغزالي يشهد للمسيحيين بالتوحيد. ويشهد لهم بصحة اصطلاحهم في تفسير التثليث في التوحيد، بناءً على الاعتبارين اللذين ساقهما عنهم: الأول على اعتبار الأقانيم في الله صفات ذاتية، في الذات الإلهية الواحدة، والثاني على اعتبار الأقانيم في الله أفعالاً ذاتية في الذات الإلهية الواحدة».
«والقول الصحيح الذي يجمع الأفعال الذاتية والصفات الذاتية، في الله الواحد الأحد، كونها صلات كيانية بين الله الآب وكلمته وروحه، في الجوهر الإلهي الفرد».
وقد أنصف الغزالي التثليث المسيحي في هذا الحكم: «إذا صحت المعاني فلا مشاحة في الألفاظ، ولا في اصطلاح المتكلمين». والمعاني قد صحَّت، بحسب التنزيل الإنجيلي، والكلام المسيحي الذي يفصّله.
الأشعرية
هي مذهب أهل السنّة والجماعة في الإسلام. ومقالتها في مشكل الذات والصفات
في الله، هي أصحّ تعبير لحقيقة الأقانيم الثلاثة في الله.
كانت الصفاتية تقول: «صفات الله هي غير ذاته»، مما يقود إلى القول بقديمين. فجاءت المعتزلة تقول: «صفات الله هي عين ذاته» مما يقود إلى التعطيل في الله. وقامت الأشعرية تقول بمنزلة بين المنزلتين: «الصفات في الله ليست هي عين الذات، ولا هي غيرها، إنما هي في منزلة بين المنزلتين». وكيف يكون ذلك؟ هذا سر الله في ذاته. «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً» (الإسراء ١٧: ٨٥).
والتعبير الأشعري، وهو قول الإسلام في الذات والصفات، أصحّ تعبير للتثليث المسيحي: إن الأقانيم الثلاثة في الله الواحد الأحد صفات ذاتية، بل صلات كيانية «ليست هي عين الذات ولا هي غيرها، انما هي في منزلة بين المنزلتين».
وإذا قيل: كيف يكون ذلك؟ أُجيب بما قاله الإمام مالك في «ٱلرَّحْمَانُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَى» (طه ٢٠: ٥ ). قال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة».
فإذا كان السؤال عن تعبير قرآني مجازي بدعة، فكم بالحري السؤال عن صلات الله الأقنومية في ذاته؟ لذلك يكفر من يحوّل الكلام في الذات والأقانيم إلى عملية حسابية، فيقول: كيف يكون الواحد ثلاثة؟ كلا ليس الواحد ثلاثة، على اعتبار واحد، وعلى صعيد واحد، انما الله واحد في ذاته مثلث في صفاته، أو صلاته الذاتية أي أقانيمه الثلاثة. وليس في هذا ما يتعارض مع النقل الكريم، ولا مع العقل السليم.
هذا هو التثليث الصحيح، في التوحيد الخالص.
وهذا التثليث الإنجيلي في التوحيد الكتابي ليس بالتثليث المنحرف الكافر الذي يكفّره القرآن بمقالته في «الثلاثة»، وصيغها الأربعة، وقد كفرتها المسيحيّة من قبله.
لذلك فتكفير التثليث المسيحي باسم التوحيد القرآني، هو افتراء على التوحيد وعلى القرآن، وجهل بالإنجيل والعقيدة المسيحيّة.
ان التثليث المسيحي في التوحيد الخالص هو تفسير مُنزَل لحياة الحي القيوم في ذاته الصمدانية، فلا خلاف على الاطلاق بين التوحيد القرآني والتثليث الإنجيلي، في التوحيد الكتابي المتواتر في التوراة والإنجيل والقرآن.
كانت الصفاتية تقول: «صفات الله هي غير ذاته»، مما يقود إلى القول بقديمين. فجاءت المعتزلة تقول: «صفات الله هي عين ذاته» مما يقود إلى التعطيل في الله. وقامت الأشعرية تقول بمنزلة بين المنزلتين: «الصفات في الله ليست هي عين الذات، ولا هي غيرها، إنما هي في منزلة بين المنزلتين». وكيف يكون ذلك؟ هذا سر الله في ذاته. «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً» (الإسراء ١٧: ٨٥).
والتعبير الأشعري، وهو قول الإسلام في الذات والصفات، أصحّ تعبير للتثليث المسيحي: إن الأقانيم الثلاثة في الله الواحد الأحد صفات ذاتية، بل صلات كيانية «ليست هي عين الذات ولا هي غيرها، انما هي في منزلة بين المنزلتين».
وإذا قيل: كيف يكون ذلك؟ أُجيب بما قاله الإمام مالك في «ٱلرَّحْمَانُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَى» (طه ٢٠: ٥ ). قال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة».
فإذا كان السؤال عن تعبير قرآني مجازي بدعة، فكم بالحري السؤال عن صلات الله الأقنومية في ذاته؟ لذلك يكفر من يحوّل الكلام في الذات والأقانيم إلى عملية حسابية، فيقول: كيف يكون الواحد ثلاثة؟ كلا ليس الواحد ثلاثة، على اعتبار واحد، وعلى صعيد واحد، انما الله واحد في ذاته مثلث في صفاته، أو صلاته الذاتية أي أقانيمه الثلاثة. وليس في هذا ما يتعارض مع النقل الكريم، ولا مع العقل السليم.
هذا هو التثليث الصحيح، في التوحيد الخالص.
وهذا التثليث الإنجيلي في التوحيد الكتابي ليس بالتثليث المنحرف الكافر الذي يكفّره القرآن بمقالته في «الثلاثة»، وصيغها الأربعة، وقد كفرتها المسيحيّة من قبله.
لذلك فتكفير التثليث المسيحي باسم التوحيد القرآني، هو افتراء على التوحيد وعلى القرآن، وجهل بالإنجيل والعقيدة المسيحيّة.
ان التثليث المسيحي في التوحيد الخالص هو تفسير مُنزَل لحياة الحي القيوم في ذاته الصمدانية، فلا خلاف على الاطلاق بين التوحيد القرآني والتثليث الإنجيلي، في التوحيد الكتابي المتواتر في التوراة والإنجيل والقرآن.
في
سنة ٩٠٥ هـ عُقد في الأزهر اجتماع ضمَّ الشيخ بدر الدين العلائي الحنفي،
والشيخ زكريا، والشيخ برهان الدين بن أبي شريف، والشيخ ابراهيم المواهبي
الشاذلي، وجماعة. وصنَّف الشيخ ابراهيم رسالة هذا نصها:
بُحث في الاجتماع موضوع معيّة الله معنا، فقال الشيخ بدر الدين العلائي والشيخ زكريا والشيخ برهان: «بل هو معنا بأسمائه وصفاته لا بذاته». فقال الشيخ ابراهيم: «بل هو معنا بذاته وصفاته». فسألوه: «ما الدليل على ذلك؟». فأجاب: «قوله في القرآن «والله معكم» ومعلوم أن الله علم على الذات. فيجب اعتقاد المعيّة الذاتية ذوقاً وعقلاً، لثبوتها نقلاً وعقلاً» . فقالوا له: «أوضح لنا ذلك». فقال: «حقيقة المعيّة مصاحبة شيء لآخر، سواء واجبين كذات الله تعالى مع صفاته، أو جائزين كالإنسان مع مثله. أو واجباً وجائزاً، وهو معيّة الله تعالى لخَلقه بذاته وصفاته، المفهومة من قوله في القرآن «والله معكم». ومن نحو «إن الله مع المحسنين» و «إن الله مع الصابرين». وذلك لما قدمناه من أن مدلول الاسم الكريم «الله» إنما هو الذات اللازمة لها الصفات المتعيّنة، لتعلقها بجميع الممكنات... وقد قال العلاّمة الغزنوي في شرح عقائد النسفي، إن قول المعتزلة وجمهور النجارية: إن الحق تعالى بكل مكان بعلمه وقدرته وتدبيره، دون ذاته، باطل. لأنه لا يلزم أن من علم مكاناً أن يكون في ذلك بالعِلم فقط، إلا إن كانت صفاته تنفكّ عن ذاته، كما هو صفة علم الخلق لا علم الحق» . فسألوه: «فهل وافقك أحد غير الغزنوي في ذلك؟» فقال: «نعم، ذكر شيخ الإسلام ابن اللبان في قوله: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ» (سورة الواقعة ٥٦: ٨٥) إن في هذه الآية دليلاً على أقربيّته تعالى من عبده قرباً حقيقياً، كما يليق بذاته لتعاليه عن المكان. إذ لو كان المراد بقربه تعالى من عبده، قربه بالعلم أو بالقدرة أو بالتدبير، مثلاً لقال ولكن لا تعلمون ونحوه. فلما قال: «ولكن لا تبصرون» دلَّ على أن المراد به القُرب الحقيقي المدرك بالبصر، لو كشف الله عن بصرنا. فإن من المعلوم أن البصر لا يتعلق لإدراكه بالصفات المعنوية، وإنما يتعلق بالحقائق المرئية. قال وكذلك القول في قوله «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ» (ق ٥٠: ١٦) هو يدل أيضاً على ما قلناه، لأن «أفعل» من قرب يدل على الاشتراك في اسم القرب، وإن اختلف الكيف، ولا اشتراك بين قرب الصفات وحبل الوريد، لأن قرب الصفات معنوي، وقرب حبل الوريد حسي، ففي نسبة أقربيته تعالى إلى الإنسان من حبل الوريد، الذي هو حقيقي، دليل على أن قربه تعالى حقيقي، أي بالذات اللازم لها الصفات» .
وقال الشيخ ابراهيم: «وبما قررناه لكم انتفى أن يكون المراد قربه تعالى منا بصفاته دون ذاته. وان الحق الصريح هو قربه منا بالذات أيضاً، إذ الصفات لا تعقل مجردة عن الذات المتعالي كما مرَّ». فقال له العلائي: «فما قولكم في قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ» (سورة الحديد ٥٧: ٤) فإنه يوهم ان الله تعالى في مكان؟ فقال الشيخ ابراهيم: «لا يلزم من ذلك في حقه تعالى المكان، لأن «أين» في الآية انما أُطلقت لإفادة معيّة الله تعالى للمخاطَبين في الأين اللازم لهم، لا له تعالى كما قدمنا، فهو مع صاحب «أين» بلا «أين».
فدخل عليهم الشيخ العارف بالله تعالى سيدي محمد المغربي الشاذلي، شيخ الجلال السيوطي. فقال: «ما جمعكم هنا؟» فذكروا له المسألة، فقال: «تريدون علم هذا الأمر ذوقاً أو سماعاً»؟ أجابوا: «سماعاً». فقال: «معيّة الله أزلية، ليس لها ابتداء. وكانت الأشياء كلها ثابتة في علمه أزلاً يقيناً بلا بداية، لأنها متعلقة به تعلُّقاً يستحيل عليه العدم، لاستحالة وجود علمه الواجب وجوده بغير معلوم، واستحالة طريان تعلقه بها لما يلزم عليه من حدوث علمه تعالى بعد أن لم يكن. وكما أن معيته تعالى أزلية، كذلك هي أبدية، ليس لها انتهاء. فهو تعالى معها، بعد حدوثها من العدم عيناً». فأدهش الحاضرين بما قاله، فقال لهم: «اعتمدوا ما قررته لكم في المعيّة واعتمدوه، ودعوا ما ينافيه، تكونوا منزِّهين لمولاكم حق التنزيه، ومخلصين لعقولكم من شبهات التشبيه. وإن أراد أحدكم أن يعرف هذه المسألة ذوقاً، فليسلّم قيادَه لي، أخرجه عن وظائفه وثيابه وماله وأولاده، وأدخله الخلوة، وأمنعه النوم وأكل الشهوات، وأنا أضمن له وصوله إلى علم هذه المسألة ذوقاً وكشفاً». قال الشيخ ابراهيم: «فما تجرأ أحد أن يدخل معه في ذلك العهد». ثم قام الشيخ زكريا والشيخ برهان والجماعة فقبّلوا يده وانصرفوا.
إنّ أقوال هؤلاء العلماء الأفاضل عن معيّة الله توضح ان حقيقة المعيَّة هي مصاحبة شيء لآخر، سواء كانا واجبين كذات الله مع صفاته، أو جائزين كوجود الإنسان مع مثله، أو واجباً وجائزاً، وهو معية الله تعالى لخلقه بذاته وصفاته المفهومة من قول القرآن «والله معكم» أو من قول الكتاب المقدس: «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا)» (متى ١: ٢٣). أو من قول المسيح: «أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى ٢٨: ٢٠). وإذ تقرر ذلك أقول: إن حلول اللاهوت في الناسوت جائز. فليس كمعية الواجب للجائز. بل هو أسمى بما لا يُقاس. وإنما أوردت المعية لتوضيح هذه المسألة، أو تقريبها لعقولنا. فإن الاسلام يعترف بمعية الله لخلقه بذاته وصفاته، وهو أمر فوق عقل البشر. إذاً كيف يرفض عامة المسلمين اعتقاد المسيحيين بتجسد الكلمة؟
بُحث في الاجتماع موضوع معيّة الله معنا، فقال الشيخ بدر الدين العلائي والشيخ زكريا والشيخ برهان: «بل هو معنا بأسمائه وصفاته لا بذاته». فقال الشيخ ابراهيم: «بل هو معنا بذاته وصفاته». فسألوه: «ما الدليل على ذلك؟». فأجاب: «قوله في القرآن «والله معكم» ومعلوم أن الله علم على الذات. فيجب اعتقاد المعيّة الذاتية ذوقاً وعقلاً، لثبوتها نقلاً وعقلاً» . فقالوا له: «أوضح لنا ذلك». فقال: «حقيقة المعيّة مصاحبة شيء لآخر، سواء واجبين كذات الله تعالى مع صفاته، أو جائزين كالإنسان مع مثله. أو واجباً وجائزاً، وهو معيّة الله تعالى لخَلقه بذاته وصفاته، المفهومة من قوله في القرآن «والله معكم». ومن نحو «إن الله مع المحسنين» و «إن الله مع الصابرين». وذلك لما قدمناه من أن مدلول الاسم الكريم «الله» إنما هو الذات اللازمة لها الصفات المتعيّنة، لتعلقها بجميع الممكنات... وقد قال العلاّمة الغزنوي في شرح عقائد النسفي، إن قول المعتزلة وجمهور النجارية: إن الحق تعالى بكل مكان بعلمه وقدرته وتدبيره، دون ذاته، باطل. لأنه لا يلزم أن من علم مكاناً أن يكون في ذلك بالعِلم فقط، إلا إن كانت صفاته تنفكّ عن ذاته، كما هو صفة علم الخلق لا علم الحق» . فسألوه: «فهل وافقك أحد غير الغزنوي في ذلك؟» فقال: «نعم، ذكر شيخ الإسلام ابن اللبان في قوله: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ» (سورة الواقعة ٥٦: ٨٥) إن في هذه الآية دليلاً على أقربيّته تعالى من عبده قرباً حقيقياً، كما يليق بذاته لتعاليه عن المكان. إذ لو كان المراد بقربه تعالى من عبده، قربه بالعلم أو بالقدرة أو بالتدبير، مثلاً لقال ولكن لا تعلمون ونحوه. فلما قال: «ولكن لا تبصرون» دلَّ على أن المراد به القُرب الحقيقي المدرك بالبصر، لو كشف الله عن بصرنا. فإن من المعلوم أن البصر لا يتعلق لإدراكه بالصفات المعنوية، وإنما يتعلق بالحقائق المرئية. قال وكذلك القول في قوله «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ» (ق ٥٠: ١٦) هو يدل أيضاً على ما قلناه، لأن «أفعل» من قرب يدل على الاشتراك في اسم القرب، وإن اختلف الكيف، ولا اشتراك بين قرب الصفات وحبل الوريد، لأن قرب الصفات معنوي، وقرب حبل الوريد حسي، ففي نسبة أقربيته تعالى إلى الإنسان من حبل الوريد، الذي هو حقيقي، دليل على أن قربه تعالى حقيقي، أي بالذات اللازم لها الصفات» .
وقال الشيخ ابراهيم: «وبما قررناه لكم انتفى أن يكون المراد قربه تعالى منا بصفاته دون ذاته. وان الحق الصريح هو قربه منا بالذات أيضاً، إذ الصفات لا تعقل مجردة عن الذات المتعالي كما مرَّ». فقال له العلائي: «فما قولكم في قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ» (سورة الحديد ٥٧: ٤) فإنه يوهم ان الله تعالى في مكان؟ فقال الشيخ ابراهيم: «لا يلزم من ذلك في حقه تعالى المكان، لأن «أين» في الآية انما أُطلقت لإفادة معيّة الله تعالى للمخاطَبين في الأين اللازم لهم، لا له تعالى كما قدمنا، فهو مع صاحب «أين» بلا «أين».
فدخل عليهم الشيخ العارف بالله تعالى سيدي محمد المغربي الشاذلي، شيخ الجلال السيوطي. فقال: «ما جمعكم هنا؟» فذكروا له المسألة، فقال: «تريدون علم هذا الأمر ذوقاً أو سماعاً»؟ أجابوا: «سماعاً». فقال: «معيّة الله أزلية، ليس لها ابتداء. وكانت الأشياء كلها ثابتة في علمه أزلاً يقيناً بلا بداية، لأنها متعلقة به تعلُّقاً يستحيل عليه العدم، لاستحالة وجود علمه الواجب وجوده بغير معلوم، واستحالة طريان تعلقه بها لما يلزم عليه من حدوث علمه تعالى بعد أن لم يكن. وكما أن معيته تعالى أزلية، كذلك هي أبدية، ليس لها انتهاء. فهو تعالى معها، بعد حدوثها من العدم عيناً». فأدهش الحاضرين بما قاله، فقال لهم: «اعتمدوا ما قررته لكم في المعيّة واعتمدوه، ودعوا ما ينافيه، تكونوا منزِّهين لمولاكم حق التنزيه، ومخلصين لعقولكم من شبهات التشبيه. وإن أراد أحدكم أن يعرف هذه المسألة ذوقاً، فليسلّم قيادَه لي، أخرجه عن وظائفه وثيابه وماله وأولاده، وأدخله الخلوة، وأمنعه النوم وأكل الشهوات، وأنا أضمن له وصوله إلى علم هذه المسألة ذوقاً وكشفاً». قال الشيخ ابراهيم: «فما تجرأ أحد أن يدخل معه في ذلك العهد». ثم قام الشيخ زكريا والشيخ برهان والجماعة فقبّلوا يده وانصرفوا.
إنّ أقوال هؤلاء العلماء الأفاضل عن معيّة الله توضح ان حقيقة المعيَّة هي مصاحبة شيء لآخر، سواء كانا واجبين كذات الله مع صفاته، أو جائزين كوجود الإنسان مع مثله، أو واجباً وجائزاً، وهو معية الله تعالى لخلقه بذاته وصفاته المفهومة من قول القرآن «والله معكم» أو من قول الكتاب المقدس: «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا)» (متى ١: ٢٣). أو من قول المسيح: «أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى ٢٨: ٢٠). وإذ تقرر ذلك أقول: إن حلول اللاهوت في الناسوت جائز. فليس كمعية الواجب للجائز. بل هو أسمى بما لا يُقاس. وإنما أوردت المعية لتوضيح هذه المسألة، أو تقريبها لعقولنا. فإن الاسلام يعترف بمعية الله لخلقه بذاته وصفاته، وهو أمر فوق عقل البشر. إذاً كيف يرفض عامة المسلمين اعتقاد المسيحيين بتجسد الكلمة؟
بالرغم
من أن الإسلام يحسب عبادة المسيح غلواً في الدين، فإن القرآن يضفي على
المسيح صفات وكرامات تجعله فوق البشر. وهذه الميزات تنبع من سيرته، ومن
رسالته، ومن شخصيته الفائقة. وحين نقارن بين هذه الميزات التي ذكرها القرآن
للرسل والأنبياء نرى أنه لم يُعط أحداً منهم، حتى محمداً شيئاً من ميزات
المسيح.
١ - الحبل والولادة العجيبان: جاء في القرآن: «وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَٱتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً» (مريم ١٩: ١٦ - ٢٣).
جاء في كتاب التفسير الكبير للإمام الرازي، انه كان لمريم في منزل زوج أختها زكريا محراب على حدة تسكنه. وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها، فتمنَّت على الله أن تجد خلوة في الجبل، فانفرج السقف لها. فخرجت إلى المغارة فجلست في المشرفة وراء الجبل. ولما جلست في ذلك أرسل الله إليها الروح. واختلف المفسرون في هذا الروح. فقال الأكثرون إنه جبريل عليه السلام. وقال أبو مسلم إنه الروح الذي تصور في بطنها بشراً. والأول أقرب، لأن جبريل عليه السلام يُسمَّى روحاً، وإنما تمثَّل لها في صورة إنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه.
لما علم جبريل خوفها، قال لها: أنا رسول ربك - ليزول عنها الخوف - جئت لأهب لك غلاماً زكياً، أي طاهراً. فتعجّبت مما بشرها به لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل. فقالت أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر؟ فأجابها جبريل: كذلك قال ربك هو عليّ هين.
وقال القرآن: «وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ» (التحريم ٦٦: ١٢).
قال الإمام الرازي: «اختلفوا في النافخ فقال البعض: كان النفخ من الله تعالى، لقوله: «فنفخنا فيه من روحنا» وظاهر أن النافخ هو الله تعالى. وقال آخرون هو جبريل عليه السلام، لأن الظاهر من قول جبريل «لأهب لك». ثم اختلفوا في كيفية ذلك النفخ على عدة أقوال: (الأول) قول وهب إنه نفخ في جيبها حتى وصلت إلى الرحم. (الثاني) في ذيلها فوصلت إلى الفرج. (الثالث) قول السدي أخذ بكمها فنفخ في جنب درعها فدخلت النفخة صدرها فحملت. فجاءتها أختها امرأة زكريا تزورها فالتزمتها. فلما التزمتها علمت أنها حبلى وذكرت مريم حالها، فقالت امرأة زكريا: إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك. فذلك قوله تعالى: «مصدقاً بكلمة من الله». (الرابع) ان النفخة كانت في فيها فوصلت إلى بطنها في الحال» .
وقال: «اختلفوا في مدة حملها على وجوه: (الأول) قول ابن عباس إنها كانت تسعة أشهر، كما في سائر النساء بدليل أن الله تعالى ذكر مدائحها في هذا الموضوع. فلو كانت عادتها في مدة حملها بخلاف النساء لكان ذلك أَوْلى بالذكر. (الثاني) إنها كانت ثمانية أشهر، ولم يعش مولود وُضع لثمانية أشهر إلا عيسى ابن مريم. (الثالث) وهو قول عطاء وأبي العالية والضحاك، سبعة أشهر. (الرابع) انها كانت ستة أشهر. (الخامس) ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصُوِّر في ساعة، ووضعته في ساعة. (السادس) وهو قول ابن عباس أيضاً، كانت مدة الحمل ساعة واحدة. ويمكن الاستدلال عليه من وجهين: (الأول) قوله تعالى: «فحملته فانتبذت به، فأجاءها المخاض، فناداها من تحتها» والفاء للتعقيب، فدلَّت هذه الفاءات على أن كل واحد من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل، وذلك يوجب كون مدة الحمل ساعة واحدة. (الثاني) ان الله تعالى قال في وصفه: «إن مثَل عيسى عند الله كمثَل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» فثبت ان عيسى كما قال الله تعالى له: «كن فيكون» هذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل، وإنما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة» (التفسير الكبير جزء ٢١ ص ١٩٧ - ٢٠٢).
وعلق البيضاوي على ولادة المسيح المعجزية، فقال: «تلك ميزة تفرَّد بها المسيح على العالمين والمرسَلين. لأنه وُلد من دون أن تضمه الأصلاب والأرحام الطوامس».
١ - الحبل والولادة العجيبان: جاء في القرآن: «وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَٱتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً» (مريم ١٩: ١٦ - ٢٣).
جاء في كتاب التفسير الكبير للإمام الرازي، انه كان لمريم في منزل زوج أختها زكريا محراب على حدة تسكنه. وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها، فتمنَّت على الله أن تجد خلوة في الجبل، فانفرج السقف لها. فخرجت إلى المغارة فجلست في المشرفة وراء الجبل. ولما جلست في ذلك أرسل الله إليها الروح. واختلف المفسرون في هذا الروح. فقال الأكثرون إنه جبريل عليه السلام. وقال أبو مسلم إنه الروح الذي تصور في بطنها بشراً. والأول أقرب، لأن جبريل عليه السلام يُسمَّى روحاً، وإنما تمثَّل لها في صورة إنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه.
لما علم جبريل خوفها، قال لها: أنا رسول ربك - ليزول عنها الخوف - جئت لأهب لك غلاماً زكياً، أي طاهراً. فتعجّبت مما بشرها به لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل. فقالت أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر؟ فأجابها جبريل: كذلك قال ربك هو عليّ هين.
وقال القرآن: «وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ» (التحريم ٦٦: ١٢).
قال الإمام الرازي: «اختلفوا في النافخ فقال البعض: كان النفخ من الله تعالى، لقوله: «فنفخنا فيه من روحنا» وظاهر أن النافخ هو الله تعالى. وقال آخرون هو جبريل عليه السلام، لأن الظاهر من قول جبريل «لأهب لك». ثم اختلفوا في كيفية ذلك النفخ على عدة أقوال: (الأول) قول وهب إنه نفخ في جيبها حتى وصلت إلى الرحم. (الثاني) في ذيلها فوصلت إلى الفرج. (الثالث) قول السدي أخذ بكمها فنفخ في جنب درعها فدخلت النفخة صدرها فحملت. فجاءتها أختها امرأة زكريا تزورها فالتزمتها. فلما التزمتها علمت أنها حبلى وذكرت مريم حالها، فقالت امرأة زكريا: إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك. فذلك قوله تعالى: «مصدقاً بكلمة من الله». (الرابع) ان النفخة كانت في فيها فوصلت إلى بطنها في الحال» .
وقال: «اختلفوا في مدة حملها على وجوه: (الأول) قول ابن عباس إنها كانت تسعة أشهر، كما في سائر النساء بدليل أن الله تعالى ذكر مدائحها في هذا الموضوع. فلو كانت عادتها في مدة حملها بخلاف النساء لكان ذلك أَوْلى بالذكر. (الثاني) إنها كانت ثمانية أشهر، ولم يعش مولود وُضع لثمانية أشهر إلا عيسى ابن مريم. (الثالث) وهو قول عطاء وأبي العالية والضحاك، سبعة أشهر. (الرابع) انها كانت ستة أشهر. (الخامس) ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصُوِّر في ساعة، ووضعته في ساعة. (السادس) وهو قول ابن عباس أيضاً، كانت مدة الحمل ساعة واحدة. ويمكن الاستدلال عليه من وجهين: (الأول) قوله تعالى: «فحملته فانتبذت به، فأجاءها المخاض، فناداها من تحتها» والفاء للتعقيب، فدلَّت هذه الفاءات على أن كل واحد من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل، وذلك يوجب كون مدة الحمل ساعة واحدة. (الثاني) ان الله تعالى قال في وصفه: «إن مثَل عيسى عند الله كمثَل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» فثبت ان عيسى كما قال الله تعالى له: «كن فيكون» هذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل، وإنما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة» (التفسير الكبير جزء ٢١ ص ١٩٧ - ٢٠٢).
وعلق البيضاوي على ولادة المسيح المعجزية، فقال: «تلك ميزة تفرَّد بها المسيح على العالمين والمرسَلين. لأنه وُلد من دون أن تضمه الأصلاب والأرحام الطوامس».
(أ)
«لأهب لك غلاماً زكياً»
قال: الزكي يفيد أموراً ثلاثة: (الأول) أنه الطاهر من الذنوب. (الثاني)
أنه ينمو على التزكية، لأنه يُقال فيمن لا ذنب له زكي. (الثالث) النزاهة
والطهارة.
(ب) العبارة «لنجعله آية للناس ورحمة» أي لنجعل ولادته آية للناس، إذ وُلد من غير ذكر. ورحمة منا، أي يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات، حتى تكون دلائل صدقه أبهر، ويكون قبول قوله أقرب.
وعلق الإمام أبو جعفر الطبري على قوله: «غلاماً زكياً» فقال: «الغلام الزكي هو الطاهر من الذنوب. وكذلك تقول العرب: غلام زاك وزكي وعال وعلي».
٢ - كونه مباركاً: نقرأ في سورة مريم عن لسان المسيح: «وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ» (مريم ١٩: ٣١).
قال الإمام أبو جعفر الطبري عن يونس بن عبد الأعلى عن سفيان: «أن تفسير «جعلني مباركاً» هو جعلني معلّماً للخير» . وقال السيوطي: «وجعلني مباركاً أين ما كنت» أي «نفَّاعاً للناس».
٣ - كونه مؤيداً بالروح القدس: «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (البقرة ٢: ٨٧ و٢٥٣).
قال ابن عباس: «ان روح القدس، هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى» - وقال أبو مسلم: «ان روح القدس الذي أُيِّدَ به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى».
ونقرأ في النساء ٤: ١٧١: «إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ».
وخلاصة هذه الآيات أن الله أعطى عيسى في ذاته روحاً، وأن هذا الروح يؤيّده في شخصيته.
٤ - رفعته عند وفاته: «إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا» (آل عمران ٣: ٥٥).
قال الإمام الرازي: «لتفسير هذه الآية عدة وجوه منها: (الوجه الأول) المراد بالرفعة، «إني رافعك» إلى محل كرامتي. وجعل ذلك رفعاً إليه للتضخيم والتعظيم. ومثلها قوله إني ذاهب إلى ربي (هذه العبارة مستعارة من الإنجيل). (الوجه الثاني) في التأويل أن يكون قوله «ورافعك إليَّ» معناه أنه يرفعه إلى مكان لا يملك أحد الحكم عليه فيه. لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام، أما في السموات فلا حاكم في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله» .
٥ - عصمته في رسالته كما في سيرته: يتوهم البعض أن العصمة في الرسالة تقترن حتماً بالعصمة في السيرة. ولكن نصوص القرآن تنقض هذا الوهم. إذ نقرأ في سوره الكثير من النصوص التي تفيد أن أنبياء أخطأوا، قبل الرسالة وبعدها. أما المسيح في القرآن، فسيرته معصومة كرسالته، فقد شُهد له أنه زكي. قال الإمام البيضاوي في تفسير كلمة زكي: «إن عيسى كان مترقياً من سن إلى سن».
٦ - تفرُّد رسالته بالبينات: فكما انفردت رسالته عن الرسالات جميعاً بتأييد الروح القدس، هكذا انفردت أيضاً بالبيّنات وباستجماعها، كما لم تجتمع لغيره، إذ نقرأ في البقرة ٢: ٢٥٣: «وقد آتينا عيسى البيّنات» والبيّنات هي العجائب.
قال الإمام البيضاوي: «لقد خصَّه الله بالتعيين وجعل معجزاته سبب تفضيله على الرسل، لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره».
٧ - تفرّد المسيح في اليوم الآخر: يتفرد المسيح - كما صوَّره القرآن - في حمله وولادته وطفولته ومعجزاته وموته ورفعه على سائر الأنبياء والمرسلين. بل أن القرآن خصَّه بأخريات لم تُنسَب لنبي قط حتى قال القرآن فيه «وإنه لَعِلْمٌ للساعة» أي أن نزوله إلى الدنيا مرة أخرى نذير بقيام الساعة. يقول الجلالان: «وإنه - عيسى - لعِلْمٌ للساعة تُعلم بنزوله». وقال البيضاوي: «وانه لَعلمٌ للساعة لأن حدوثها ونزوله من أشراط الساعة. يُعلم به دُنوُّها. وقريء «لَعَلَمٌ» وهو العلامة» . وقال الزمخشري: «وانه «لعلم» للساعة أي شرط من أشرطها تُعلم به» .
كذلك نقرأ في كتب الصحاح المعتمدة أمثال البخاري ومسلم أبواباً خصَّصت عشرات الأحاديث الموصولة السند عن نزول المسيح ابن مريم، وأعطته مكانة لم تُعْط لنبي من الأنبياء.
روي عن محمد: «يكون عيسى عليه السلام في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً».
وروي عنه أيضاً: «ليُدْركن المسيح ابن مريم رجالاً من أمتي مثلكم أو خيراً منكم».
وفي الحديث أيضاً: «ينزل عيسى ابن مريم فيتزوج ويُولد له ولد ويمكث خمساً وأربعين سنة ويدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر»!!
وروي أيضاً في الحديث الصحيح: «الأنبياء إخوة. أمهاتهم شتى ودينهم واحد. وأنا أوْلى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي. فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، كأن رأسه تقطر ولم يصبه بلل»!!.
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن.. لماذ خصَّ الإسلام المسيح بهذه المكانة التي ميَّزته عن سائر أنبياء القرآن؟ وما هي الحكمة التي يراها المسلمون في نزول المسيح في ذلك الوقت دون غيره من المرسلين أولي العزم؟!
أجاب على هذا السؤال الإمام القرطبي في كتابه «التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة». يقول في ص ٧٦٤: «يحتمل أن المسيح قد وجد في الإنجيل فضل أمة محمد (ص)، فدعا الله عزَّ وجلّ أن يجعله من أمة محمد (ص) فاستجاب الله تعالى دعاءه ورفعه إلى السماء إلى أن ينزله آخر الزمان مجدداً لما درس من دين الإسلام، فوافق خروج الدجال فقتله»!!!
«ويحتمل أن يكون إنزاله مدة لدنو أجله، لا لقتال الدجّال لأنه لا ينبغي لمخلوق من التراب أن يموت في السماء لكن أمره يجري على ما قال الله تعالى: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى» (طه ٢٠: ٥٥) فينزله الله تعالى ليقبره في الأرض مدة يراه فيها من يقرب منه ويسرع به من نأي عنه، ثم يقبضه فيتولى المؤمنون أمره ويصلّون عليه ويُدفن حيث دُفن الأنبياء» !!
ويحتمل أن يكون ذلك لأن اليهود همَّت بقتله وصلبه وجرى أمرهم معه على ما بيّنه الله تعالى في كتابه وهم أبداً يدَّعون أنهم قتلوه وينسبونه في السحر وغيره إلى ما كان الله يراه ونزَّهه منه. ولا يزالون في ضلالهم هذا حتى تقترب الساعة، فيظهر الدجال وهو أسحر السحرة ويبايعه اليهود، فيكونون يومئذ جنده، معتقدين أنهم ينتقمون به من المسلمين. فإذا صار أمرهم إلى هذا أنزله الله الذي عندهم انهم قد قتلوه.
وهذه كلها احتمالات قدّمها الإمام القرطبي، وهي رصيد جديد من الأقوال الظنية، والاجتهادات الفردية التي لا سند لها سوى النصوص المبهمة من القرآن والسنّة التي تناولت حياة المسيح.
٨ - انه الشفيع المقرَّب: حين نتأمل في الزُّمر ٣٩: ٤٤، نرى أن القرآن يحصر الشفاعة بالله وحده إذ يقول: «لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً». ومع ذلك، فإن أحد نصوص القرآن يلمح إلى كون الشفاعة أيضاً من امتيازات المسيح، فيقول: «إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ» (آل عمران ٣: ٤٥).
قال الجلالان في تفسير هذه الآية: «وجيهاً في الدنيا بالنبوة، وفي الآخرة بالشفاعة والدرجات العُلى، ومن المقرَّبين عند الله».
وأخرج الإمام الطبري عن ابن حميد، عن سلمة، عن ابن اسحاق، عن محمد بن جعفر، قال: «وجيهاً في الدنيا، أي ذو وجاهة ومنزلة عند الله في الدنيا وفي الآخرة. و «من المقربين» يعني أنه ممن يقربه يوم القيامة، فيُسكنه في جواره ويُدنيه منه» .
وقال الإمام الرازي: «وجيهاً في الدنيا» بسبب أنه يُستجاب دعاؤه، ويحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص. ووجيه في الآخرة انه يجعله شفيع أمته. أما قوله «ومن المقربين» ففيه وجوه: (الأول) أنه تعالى جعل ذلك بالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم في هذه الصفة. (الثاني) أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه سيُرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة.
(ب) العبارة «لنجعله آية للناس ورحمة» أي لنجعل ولادته آية للناس، إذ وُلد من غير ذكر. ورحمة منا، أي يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات، حتى تكون دلائل صدقه أبهر، ويكون قبول قوله أقرب.
وعلق الإمام أبو جعفر الطبري على قوله: «غلاماً زكياً» فقال: «الغلام الزكي هو الطاهر من الذنوب. وكذلك تقول العرب: غلام زاك وزكي وعال وعلي».
٢ - كونه مباركاً: نقرأ في سورة مريم عن لسان المسيح: «وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ» (مريم ١٩: ٣١).
قال الإمام أبو جعفر الطبري عن يونس بن عبد الأعلى عن سفيان: «أن تفسير «جعلني مباركاً» هو جعلني معلّماً للخير» . وقال السيوطي: «وجعلني مباركاً أين ما كنت» أي «نفَّاعاً للناس».
٣ - كونه مؤيداً بالروح القدس: «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (البقرة ٢: ٨٧ و٢٥٣).
قال ابن عباس: «ان روح القدس، هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى» - وقال أبو مسلم: «ان روح القدس الذي أُيِّدَ به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى».
ونقرأ في النساء ٤: ١٧١: «إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ».
وخلاصة هذه الآيات أن الله أعطى عيسى في ذاته روحاً، وأن هذا الروح يؤيّده في شخصيته.
٤ - رفعته عند وفاته: «إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا» (آل عمران ٣: ٥٥).
قال الإمام الرازي: «لتفسير هذه الآية عدة وجوه منها: (الوجه الأول) المراد بالرفعة، «إني رافعك» إلى محل كرامتي. وجعل ذلك رفعاً إليه للتضخيم والتعظيم. ومثلها قوله إني ذاهب إلى ربي (هذه العبارة مستعارة من الإنجيل). (الوجه الثاني) في التأويل أن يكون قوله «ورافعك إليَّ» معناه أنه يرفعه إلى مكان لا يملك أحد الحكم عليه فيه. لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام، أما في السموات فلا حاكم في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله» .
٥ - عصمته في رسالته كما في سيرته: يتوهم البعض أن العصمة في الرسالة تقترن حتماً بالعصمة في السيرة. ولكن نصوص القرآن تنقض هذا الوهم. إذ نقرأ في سوره الكثير من النصوص التي تفيد أن أنبياء أخطأوا، قبل الرسالة وبعدها. أما المسيح في القرآن، فسيرته معصومة كرسالته، فقد شُهد له أنه زكي. قال الإمام البيضاوي في تفسير كلمة زكي: «إن عيسى كان مترقياً من سن إلى سن».
٦ - تفرُّد رسالته بالبينات: فكما انفردت رسالته عن الرسالات جميعاً بتأييد الروح القدس، هكذا انفردت أيضاً بالبيّنات وباستجماعها، كما لم تجتمع لغيره، إذ نقرأ في البقرة ٢: ٢٥٣: «وقد آتينا عيسى البيّنات» والبيّنات هي العجائب.
قال الإمام البيضاوي: «لقد خصَّه الله بالتعيين وجعل معجزاته سبب تفضيله على الرسل، لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره».
٧ - تفرّد المسيح في اليوم الآخر: يتفرد المسيح - كما صوَّره القرآن - في حمله وولادته وطفولته ومعجزاته وموته ورفعه على سائر الأنبياء والمرسلين. بل أن القرآن خصَّه بأخريات لم تُنسَب لنبي قط حتى قال القرآن فيه «وإنه لَعِلْمٌ للساعة» أي أن نزوله إلى الدنيا مرة أخرى نذير بقيام الساعة. يقول الجلالان: «وإنه - عيسى - لعِلْمٌ للساعة تُعلم بنزوله». وقال البيضاوي: «وانه لَعلمٌ للساعة لأن حدوثها ونزوله من أشراط الساعة. يُعلم به دُنوُّها. وقريء «لَعَلَمٌ» وهو العلامة» . وقال الزمخشري: «وانه «لعلم» للساعة أي شرط من أشرطها تُعلم به» .
كذلك نقرأ في كتب الصحاح المعتمدة أمثال البخاري ومسلم أبواباً خصَّصت عشرات الأحاديث الموصولة السند عن نزول المسيح ابن مريم، وأعطته مكانة لم تُعْط لنبي من الأنبياء.
روي عن محمد: «يكون عيسى عليه السلام في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً».
وروي عنه أيضاً: «ليُدْركن المسيح ابن مريم رجالاً من أمتي مثلكم أو خيراً منكم».
وفي الحديث أيضاً: «ينزل عيسى ابن مريم فيتزوج ويُولد له ولد ويمكث خمساً وأربعين سنة ويدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر»!!
وروي أيضاً في الحديث الصحيح: «الأنبياء إخوة. أمهاتهم شتى ودينهم واحد. وأنا أوْلى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي. فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، كأن رأسه تقطر ولم يصبه بلل»!!.
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن.. لماذ خصَّ الإسلام المسيح بهذه المكانة التي ميَّزته عن سائر أنبياء القرآن؟ وما هي الحكمة التي يراها المسلمون في نزول المسيح في ذلك الوقت دون غيره من المرسلين أولي العزم؟!
أجاب على هذا السؤال الإمام القرطبي في كتابه «التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة». يقول في ص ٧٦٤: «يحتمل أن المسيح قد وجد في الإنجيل فضل أمة محمد (ص)، فدعا الله عزَّ وجلّ أن يجعله من أمة محمد (ص) فاستجاب الله تعالى دعاءه ورفعه إلى السماء إلى أن ينزله آخر الزمان مجدداً لما درس من دين الإسلام، فوافق خروج الدجال فقتله»!!!
«ويحتمل أن يكون إنزاله مدة لدنو أجله، لا لقتال الدجّال لأنه لا ينبغي لمخلوق من التراب أن يموت في السماء لكن أمره يجري على ما قال الله تعالى: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى» (طه ٢٠: ٥٥) فينزله الله تعالى ليقبره في الأرض مدة يراه فيها من يقرب منه ويسرع به من نأي عنه، ثم يقبضه فيتولى المؤمنون أمره ويصلّون عليه ويُدفن حيث دُفن الأنبياء» !!
ويحتمل أن يكون ذلك لأن اليهود همَّت بقتله وصلبه وجرى أمرهم معه على ما بيّنه الله تعالى في كتابه وهم أبداً يدَّعون أنهم قتلوه وينسبونه في السحر وغيره إلى ما كان الله يراه ونزَّهه منه. ولا يزالون في ضلالهم هذا حتى تقترب الساعة، فيظهر الدجال وهو أسحر السحرة ويبايعه اليهود، فيكونون يومئذ جنده، معتقدين أنهم ينتقمون به من المسلمين. فإذا صار أمرهم إلى هذا أنزله الله الذي عندهم انهم قد قتلوه.
وهذه كلها احتمالات قدّمها الإمام القرطبي، وهي رصيد جديد من الأقوال الظنية، والاجتهادات الفردية التي لا سند لها سوى النصوص المبهمة من القرآن والسنّة التي تناولت حياة المسيح.
٨ - انه الشفيع المقرَّب: حين نتأمل في الزُّمر ٣٩: ٤٤، نرى أن القرآن يحصر الشفاعة بالله وحده إذ يقول: «لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً». ومع ذلك، فإن أحد نصوص القرآن يلمح إلى كون الشفاعة أيضاً من امتيازات المسيح، فيقول: «إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ» (آل عمران ٣: ٤٥).
قال الجلالان في تفسير هذه الآية: «وجيهاً في الدنيا بالنبوة، وفي الآخرة بالشفاعة والدرجات العُلى، ومن المقرَّبين عند الله».
وأخرج الإمام الطبري عن ابن حميد، عن سلمة، عن ابن اسحاق، عن محمد بن جعفر، قال: «وجيهاً في الدنيا، أي ذو وجاهة ومنزلة عند الله في الدنيا وفي الآخرة. و «من المقربين» يعني أنه ممن يقربه يوم القيامة، فيُسكنه في جواره ويُدنيه منه» .
وقال الإمام الرازي: «وجيهاً في الدنيا» بسبب أنه يُستجاب دعاؤه، ويحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص. ووجيه في الآخرة انه يجعله شفيع أمته. أما قوله «ومن المقربين» ففيه وجوه: (الأول) أنه تعالى جعل ذلك بالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم في هذه الصفة. (الثاني) أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه سيُرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة.
١ - الخَلْق: جاء في المائدة ٥: ١١٠:
«إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا
عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ
إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ
وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ
وَٱلإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ
بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي».
قال ابن العربي في تفسير هذه الآية: «لقد خصّ الله عيسى بكونه روحاً وأضاف النفخ في خلقه من الطين. ولم يضف نفخاً في إعطاء الحياة لغير عيسى، بل لنفسه تعالى».
٢ - النطق عند الولادة: حين ولدت مريم ابنها تناولها قومها بالتأنيب ظناً بأنها حبلت به سفاحاً «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً» (مريم ١٩: ٢٩، ٣٠).
قال الإمام الرازي: «إن زكريا أتى مريم عند مناظرة اليهود إياها، فقال لعيسى: اِنطق بحجتك إن كنت أُمرت بها، فقال عيسى: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً».
٣ - إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص: يقول القرآن بلسان المسيح: «وَأُبْرِئُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِي ٱلْمَوْتَى بِإِذْنِ ٱللَّهِ» (آل عمران ٣: ٤٩). ومن المعروف أن الأكمه هو من وُلد أعمى، والبرص هو المرض الخطير المعروف، والمرضان من الأدواء التي يتعذر شفاؤها على البشر.
قال وهب بن منبّه: «بينما كان عيسى يلعب مع الصبيان إذ وثب غلام على صبي فوكزه برجله فقتله، فألقاه بين يدي عيسى وهو ملطخ بالدم. فطلع الناس عليه، فاتهموه به. فأخذوه وانطلقوا به إلى قاضي مصر. فقالوا هذا قتل. فسأله القاضي، فقال عيسى: لا. لا أدري من قتله، وما أنا بصاحبه. فأرادوا أن يبطشوا بعيسى، فقال لهم: ائتوني بالغلام، فقالوا ماذا تريد؟ قال أسأله من قتله؟ فقالوا: كيف يكلمك وهو ميت؟ فأخذوه وأتوا به إلى الغلام القتيل، فأقبل عيسى على الدعاء فأحياه الله».
وعن الكلبي أنه قال: «كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بـ : «يا حي يا قيوم». وأحيا عاذر (يقصد لعازر) وكان صديقاً له. ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حياً. ومر على ابن ميت لعجوز، فدعا الله فنزل عن سريره ورجع إلى أهله وولد له» .
٤ - العِلم بالغيب: قال القرآن بلسان المسيح: «وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» (آل عمران ٣: ٤٩).
روى السُّدي أن عيسى كان يلعب مع الصبيان ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم. وكان يخبر الصبي: أن أمك قد خبأت لك كذا. فيرجع الصبي إلى أهله يبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء. ثم قالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر. وجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم. فقالوا له: ليسوا في البيت. فقال: فمن في هذا البيت؟ قالوا: خنازير. قال عيسى: «كذلك يكونون». فإذا هم خنازير.
٥ - إنزال المائدة من السماء: جاء في المائدة ٥: ١١٢ - ١١٤: «إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ قَالَ ٱتَّقُوا ٱللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱلَّلهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَاِئدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَّوَلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ».
لقد اختلف الأئمة في صفة نزول المائدة وكيفيتها وما كان عليها، فروى قتادة عن جابر عن ياسر بن عمار عن محمد أنه قال: «أُنزلت المائدة عليها خبز ولحم. وذلك أنهم سألوا عيسى طعاماً يأكلون منه ولا ينفد. فقال لهم إني فاعل ذلك، وانها مقيمة لكم ما لم تخبئوا أو تخونوا. فإن فعلتم ذلك عُذِّبتم. فما مضى يومهم حتى خانوا وخبّأوا، فرُفعت المائدة ومُسخوا قردة وخنازير».
وقال ابن عباس: «قال عيسى لبني اسرائيل: صوموا ثلاثين يوماً، ثم سَلُوا الله ما شئتم فيعطيكموه. فصاموا ثلاثين يوماً. فلما فرغوا قالوا: يا عيسى، اننا صمنا فجُعنا، فادْعُ الله أن ينزّل مائدة من السماء. فلبس عيسى المسوح وافترش الرماد، ثم دعا الله فأقبلت الملائكة بمائدة، يحملون عليها سبعة أرغفة وسبعة أحْوات ووضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم».
قال ابن العربي في تفسير هذه الآية: «لقد خصّ الله عيسى بكونه روحاً وأضاف النفخ في خلقه من الطين. ولم يضف نفخاً في إعطاء الحياة لغير عيسى، بل لنفسه تعالى».
٢ - النطق عند الولادة: حين ولدت مريم ابنها تناولها قومها بالتأنيب ظناً بأنها حبلت به سفاحاً «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً» (مريم ١٩: ٢٩، ٣٠).
قال الإمام الرازي: «إن زكريا أتى مريم عند مناظرة اليهود إياها، فقال لعيسى: اِنطق بحجتك إن كنت أُمرت بها، فقال عيسى: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً».
٣ - إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص: يقول القرآن بلسان المسيح: «وَأُبْرِئُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِي ٱلْمَوْتَى بِإِذْنِ ٱللَّهِ» (آل عمران ٣: ٤٩). ومن المعروف أن الأكمه هو من وُلد أعمى، والبرص هو المرض الخطير المعروف، والمرضان من الأدواء التي يتعذر شفاؤها على البشر.
قال وهب بن منبّه: «بينما كان عيسى يلعب مع الصبيان إذ وثب غلام على صبي فوكزه برجله فقتله، فألقاه بين يدي عيسى وهو ملطخ بالدم. فطلع الناس عليه، فاتهموه به. فأخذوه وانطلقوا به إلى قاضي مصر. فقالوا هذا قتل. فسأله القاضي، فقال عيسى: لا. لا أدري من قتله، وما أنا بصاحبه. فأرادوا أن يبطشوا بعيسى، فقال لهم: ائتوني بالغلام، فقالوا ماذا تريد؟ قال أسأله من قتله؟ فقالوا: كيف يكلمك وهو ميت؟ فأخذوه وأتوا به إلى الغلام القتيل، فأقبل عيسى على الدعاء فأحياه الله».
وعن الكلبي أنه قال: «كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بـ : «يا حي يا قيوم». وأحيا عاذر (يقصد لعازر) وكان صديقاً له. ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حياً. ومر على ابن ميت لعجوز، فدعا الله فنزل عن سريره ورجع إلى أهله وولد له» .
٤ - العِلم بالغيب: قال القرآن بلسان المسيح: «وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» (آل عمران ٣: ٤٩).
روى السُّدي أن عيسى كان يلعب مع الصبيان ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم. وكان يخبر الصبي: أن أمك قد خبأت لك كذا. فيرجع الصبي إلى أهله يبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء. ثم قالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر. وجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم. فقالوا له: ليسوا في البيت. فقال: فمن في هذا البيت؟ قالوا: خنازير. قال عيسى: «كذلك يكونون». فإذا هم خنازير.
٥ - إنزال المائدة من السماء: جاء في المائدة ٥: ١١٢ - ١١٤: «إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ قَالَ ٱتَّقُوا ٱللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱلَّلهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَاِئدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَّوَلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ».
لقد اختلف الأئمة في صفة نزول المائدة وكيفيتها وما كان عليها، فروى قتادة عن جابر عن ياسر بن عمار عن محمد أنه قال: «أُنزلت المائدة عليها خبز ولحم. وذلك أنهم سألوا عيسى طعاماً يأكلون منه ولا ينفد. فقال لهم إني فاعل ذلك، وانها مقيمة لكم ما لم تخبئوا أو تخونوا. فإن فعلتم ذلك عُذِّبتم. فما مضى يومهم حتى خانوا وخبّأوا، فرُفعت المائدة ومُسخوا قردة وخنازير».
وقال ابن عباس: «قال عيسى لبني اسرائيل: صوموا ثلاثين يوماً، ثم سَلُوا الله ما شئتم فيعطيكموه. فصاموا ثلاثين يوماً. فلما فرغوا قالوا: يا عيسى، اننا صمنا فجُعنا، فادْعُ الله أن ينزّل مائدة من السماء. فلبس عيسى المسوح وافترش الرماد، ثم دعا الله فأقبلت الملائكة بمائدة، يحملون عليها سبعة أرغفة وسبعة أحْوات ووضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم».
حين
ندرس آيات القرآن، نرى أن عدداً منها يتكلم عن الروح القدس وعن عمله في
تأييد المسيح. وكان يمكن أن يتلاقى الفكر الإسلامي عن الروح المبارك مع
الفكر المسيحي لولا ذهاب أكثرية علماء الإسلام في تفاسيرهم إلى القول إن
الروح القدس هو الملاك جبريل. في ما يلي بعض آيات القرآن التي جاء فيها ذكر
الروح المبارك.
١ - «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (البقرة٢: ٢٥٣).
قال الحسن في تفسير الآية: «القدس هو الله تعالى، وروحه جبريل عليه السلام، ومعنى القول، أعنَّاه بجبريل في أول أمره، وفي وسطه وفي آخره. أما أول الأمر فلقوله: فنفخنا فيه من روحنا. وأما في وسطه، فإن جبريل عليه السلام علّمه العلوم وحفظه من الأعداء. وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام، ورفعه إلى السماء».
وقال ابن عباس: «ان روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى».
وقال أبو مسلم: «إن روح القدس الذي أُيِّد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه، وأبانه عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى».
٢ - «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (البقرة ٢: ٨٧).
قال الإمام الرازي: اختلفوا في الروح على وجوه، أحدها أنه جبريل عليه السلام. وإنما سُمِّي بذلك لوجوه: (الأول) أن المراد من روح القدس، الروح المقدس. كما يقال حاتم الجود ورجل صدق. فوصف جبريل بذلك تشريفاً له وبياناً لعلوّ مرتبته عند الله تعالى. (الثاني) سُمّي جبريل عليه السلام بذلك لأنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح، فإنه المتولي لإنزال الوحي إلى الأنبياء، والمكلّفون بذلك يحيون في دينهم. (الثالث) انه الغالب عليه الروحانية كذلك سائر الملائكة. غير أن روحانيته أكمل وأتم. (الرابع) سُمّي جبريل عليه السلام روحاً، لأنه ما ضمّته أصلاب الفحول وأرحام الأمهات. (الخامس) المراد بروح القدس الإنجيل، كما قال القرآن «روحاً من أمرنا». (السادس) انه الروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى. فنسب روح عيسى عليه السلام إلى نفسه تعظيماً له وتشريفاً، كما يُقال لبيت الله وناقة الله (عن الربيع).
وأعلم أن اطلاق اسم الروح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى الاسم الأعظم مجاز، لأن الروح هو الريح المترددة في مخارق الإنسان ومنافذه. ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك، إلا أنه سُمِّي كل واحد من هذه الثلاثة بالروح على سبيل التشبيه. من حيث أن الروح كما أنه سبب لحياة الرجل فكذلك جبريل عليه السلام سبب لحياة القلوب بالعلوم، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها. والاسم الأعظم سبب لأن يتوسل به إلى تحصيل الأغراض. إلا أن المشابهة بين مُسمَّى الروح وبين جبريل أتمّ لوجوه: (احدها) لأن جبريل عليه السلام مخلوق من هواء نوارني لطيف، فكانت المشابهة أتمّ، فكان إطلاق اسم الروح على جبريل أَوْلى. (وثانيها) ان هذه التسمية فيه أظهر منها فيما عداه. (وثالثها) ان قوله تعالى: «وأيّدناه بروح القدس» يعني قوّيناه، والمراد من هذه التقوية الإعانة. وإسناد الإعانة إلى جبريل حقيقة. وإسنادها إلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز، فكان ذلك أَوْلى. (ورابعها) وهو ان اختصاص عيسى بجبريل من أحد وجوه الاختصاص، بحيث لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك، لأنه هو الذي بشر مريم بولادتها، وإنما وُلد عيسى من نفخة جبريل، وهو الذي ربّاه في جميع الأحوال، وكان يسير معه حيث سار، وكان معه حين صعد إلى السماء (التفسير الكبير ج ٣ ص ١٧٧، ١٧٨).
٣ - «رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ ذُو ٱلْعَرْشِ يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ» (غافر ٤٠: ١٥).
يقول الإمام الرازي: اختلف العلماء في المراد بهذا الروح. والصحيح أن المراد هو الوحي. وحاصل الكلام فيه أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية. فإذا كان الوحي سبباً لحصول هذه الأرواح، سُمّي بالروح، فإن الروح سبب لحصول هذه الحياة الروحانية.
وأعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي، والوحي إنما يتم في أربعة أركان: (فأولها) الرسل وهو الله سبحانه وتعالى. فلهذا أضاف إلقاء الوحي إلى نفسه فقال «يلقي الروح». (والركن الثاني) الإرسال والوحي وهو الذي سمّاه بالروح. (والركن الثالث) أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة، وهو المشار إليه في هذه الآية بقوله: «من أمره». فالركن الروحاني يُسمَّى أمراً. قال تعالى: «وأوحى في كل سماء أمرها». (والركن الرابع) الأنبياء الذين يلقي الله الوحي وهو المشار اليه بقوله «من يشاء من عباده». (والركن الخامس) تعيين الغرض والمقصود الأصلي من إلقاء الوحي إليهم، وذلك هو أن الأنبياء عليهم السلام يصرفون الخلق عن عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ويحملونهم على الإعراض عن هذه الجسمانيات والإقبال على الروحانيات، وإليه الإشارة بقوله: «لينذر يوم التلاق» فهذا ترتيب عجيب يدل على هذه الإشارات العالية من علوم المكاشفات الإلهية» (التفسير الكبير ج ٢٧ ص ٤٤ - ٤٥).
٤ - «أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» (المجادلة ٥٨: ٢٢).
قال أهل التفسير: «في تفسير هذه العبارات قولان: (الأول) قال ابن عباس: «نصرهم على عددهم، وسَمّى تلك النصرة روحاً لأن بها يحيي أمرهم». (الثاني) قال السدي: «الضمير في قوله «منه» عائد إلى الإيمان، والمعنى انه أيدهم بروح من الإيمان» .
٥ - «مِنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (المعارج ٧٠: ٣ و٤).
قال أهل التفسير: اعلم ان عادة الله تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم، كما في قوله: «يوم يقوم الروح والملائكة صفاً». وهذا يقتضي أن الروح أعظم من الملائكة قدراً.
وقال بعض المكاشفين: «ان الروح نور عظيم، هو أقرب الأنوار إلى جلال الله ومنه تتشعّب أرواح سائر الملائكة. والبشر في آخر درجات منازل الأرواح، بين الطرفين مراتب الأرواح الملكية ومدارج منازل الأرواح القدسية، ولا يعلم كميتها إلا الله. وأما ظاهر المتكلمين فهو أن الروح هو جبريل عليه السلام» (التفسير الكبير ج ٣٠ ص ١٢٢).
٦ - «يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً» (النبأ ٧٨: ٣٨).
اختلفوا في الروح في هذه الآية. فعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال.
وعن ابن عباس: هو ملك أعظم من الملائكة خلقاً. وعن مجاهد: خلق على صورة بني آدم. وعن الضحّاك والشعبي: هو جبريل عليه السلام.
ومن هذه كلها ترى أن تعبير «الروح القدس» من متشابه القرآن.
١ - فقد يعني الملاك جبريل كما في قوله: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِٱلْحَقِّ» (النحل ١٦: ١٠٢). «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُّواً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ» (البقرة ٢: ٩٧).
٢ - وقد يعني «روح القدس» الذي أيَّد المسيح في شخصيته أو دعوته ومعجزاته «وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس». يقول الجلالان: «الروح المقدسة جبريل لطهارته يسير معه حيث سار» وغيرهما يرون فيه ليس فقط الروح المؤيد له في دعوته ومعجزاته، بل الروح المؤيد له في شخصيته. ولم يكن مستقلاً عن ذاته: «روح عيسى، ووصفها به لطهارته من مسّ الشيطان، أو لكرامته على الله تعالى، أو لأنه لم تضمَّه الأصلاب ولا الأرحام الطوامس، أو الإنجيل، أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى» (البيضاوي في تفسيره للبقرة ٨٧). فروح القدس الذي أيَّد به الله المسيح هو «الاسم الأعظم». والاسم دليل الذات، والفعل برهان الذات، فإحياء الموتى، والمقدرة على الخلق هما من خصائص الذات الإلهية والاسم الأعظم. فروح القدس المحيي إما هو روح عيسى، وإما هو «الاسم الأعظم» ذات في الله غير الله، والمسيح كلمة الله، فهو «مما استأثر بعلمه».
٣ - فروح القدس «الروح» على الإطلاق هو روح من الله، في الله، يتمتع معه بالاسم الأعظم. وهذا هو تعليم الإنجيل أيضاً.
وتأييد الله للمسيح به، «لا يفارقه ساعة» «يسير معه حيث سار» دليل على صلة خاصة ذاتية بين روح القدس والله، وبين روح القدس والمسيح كلمة الله، وتلك هي صورة التثليث المسيحي تتجلى لنا من تعابير القرآن نفسها.
١ - «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (البقرة٢: ٢٥٣).
قال الحسن في تفسير الآية: «القدس هو الله تعالى، وروحه جبريل عليه السلام، ومعنى القول، أعنَّاه بجبريل في أول أمره، وفي وسطه وفي آخره. أما أول الأمر فلقوله: فنفخنا فيه من روحنا. وأما في وسطه، فإن جبريل عليه السلام علّمه العلوم وحفظه من الأعداء. وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام، ورفعه إلى السماء».
وقال ابن عباس: «ان روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى».
وقال أبو مسلم: «إن روح القدس الذي أُيِّد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه، وأبانه عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى».
٢ - «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (البقرة ٢: ٨٧).
قال الإمام الرازي: اختلفوا في الروح على وجوه، أحدها أنه جبريل عليه السلام. وإنما سُمِّي بذلك لوجوه: (الأول) أن المراد من روح القدس، الروح المقدس. كما يقال حاتم الجود ورجل صدق. فوصف جبريل بذلك تشريفاً له وبياناً لعلوّ مرتبته عند الله تعالى. (الثاني) سُمّي جبريل عليه السلام بذلك لأنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح، فإنه المتولي لإنزال الوحي إلى الأنبياء، والمكلّفون بذلك يحيون في دينهم. (الثالث) انه الغالب عليه الروحانية كذلك سائر الملائكة. غير أن روحانيته أكمل وأتم. (الرابع) سُمّي جبريل عليه السلام روحاً، لأنه ما ضمّته أصلاب الفحول وأرحام الأمهات. (الخامس) المراد بروح القدس الإنجيل، كما قال القرآن «روحاً من أمرنا». (السادس) انه الروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى. فنسب روح عيسى عليه السلام إلى نفسه تعظيماً له وتشريفاً، كما يُقال لبيت الله وناقة الله (عن الربيع).
وأعلم أن اطلاق اسم الروح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى الاسم الأعظم مجاز، لأن الروح هو الريح المترددة في مخارق الإنسان ومنافذه. ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك، إلا أنه سُمِّي كل واحد من هذه الثلاثة بالروح على سبيل التشبيه. من حيث أن الروح كما أنه سبب لحياة الرجل فكذلك جبريل عليه السلام سبب لحياة القلوب بالعلوم، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها. والاسم الأعظم سبب لأن يتوسل به إلى تحصيل الأغراض. إلا أن المشابهة بين مُسمَّى الروح وبين جبريل أتمّ لوجوه: (احدها) لأن جبريل عليه السلام مخلوق من هواء نوارني لطيف، فكانت المشابهة أتمّ، فكان إطلاق اسم الروح على جبريل أَوْلى. (وثانيها) ان هذه التسمية فيه أظهر منها فيما عداه. (وثالثها) ان قوله تعالى: «وأيّدناه بروح القدس» يعني قوّيناه، والمراد من هذه التقوية الإعانة. وإسناد الإعانة إلى جبريل حقيقة. وإسنادها إلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز، فكان ذلك أَوْلى. (ورابعها) وهو ان اختصاص عيسى بجبريل من أحد وجوه الاختصاص، بحيث لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك، لأنه هو الذي بشر مريم بولادتها، وإنما وُلد عيسى من نفخة جبريل، وهو الذي ربّاه في جميع الأحوال، وكان يسير معه حيث سار، وكان معه حين صعد إلى السماء (التفسير الكبير ج ٣ ص ١٧٧، ١٧٨).
٣ - «رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ ذُو ٱلْعَرْشِ يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ» (غافر ٤٠: ١٥).
يقول الإمام الرازي: اختلف العلماء في المراد بهذا الروح. والصحيح أن المراد هو الوحي. وحاصل الكلام فيه أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية. فإذا كان الوحي سبباً لحصول هذه الأرواح، سُمّي بالروح، فإن الروح سبب لحصول هذه الحياة الروحانية.
وأعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي، والوحي إنما يتم في أربعة أركان: (فأولها) الرسل وهو الله سبحانه وتعالى. فلهذا أضاف إلقاء الوحي إلى نفسه فقال «يلقي الروح». (والركن الثاني) الإرسال والوحي وهو الذي سمّاه بالروح. (والركن الثالث) أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة، وهو المشار إليه في هذه الآية بقوله: «من أمره». فالركن الروحاني يُسمَّى أمراً. قال تعالى: «وأوحى في كل سماء أمرها». (والركن الرابع) الأنبياء الذين يلقي الله الوحي وهو المشار اليه بقوله «من يشاء من عباده». (والركن الخامس) تعيين الغرض والمقصود الأصلي من إلقاء الوحي إليهم، وذلك هو أن الأنبياء عليهم السلام يصرفون الخلق عن عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ويحملونهم على الإعراض عن هذه الجسمانيات والإقبال على الروحانيات، وإليه الإشارة بقوله: «لينذر يوم التلاق» فهذا ترتيب عجيب يدل على هذه الإشارات العالية من علوم المكاشفات الإلهية» (التفسير الكبير ج ٢٧ ص ٤٤ - ٤٥).
٤ - «أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» (المجادلة ٥٨: ٢٢).
قال أهل التفسير: «في تفسير هذه العبارات قولان: (الأول) قال ابن عباس: «نصرهم على عددهم، وسَمّى تلك النصرة روحاً لأن بها يحيي أمرهم». (الثاني) قال السدي: «الضمير في قوله «منه» عائد إلى الإيمان، والمعنى انه أيدهم بروح من الإيمان» .
٥ - «مِنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (المعارج ٧٠: ٣ و٤).
قال أهل التفسير: اعلم ان عادة الله تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم، كما في قوله: «يوم يقوم الروح والملائكة صفاً». وهذا يقتضي أن الروح أعظم من الملائكة قدراً.
وقال بعض المكاشفين: «ان الروح نور عظيم، هو أقرب الأنوار إلى جلال الله ومنه تتشعّب أرواح سائر الملائكة. والبشر في آخر درجات منازل الأرواح، بين الطرفين مراتب الأرواح الملكية ومدارج منازل الأرواح القدسية، ولا يعلم كميتها إلا الله. وأما ظاهر المتكلمين فهو أن الروح هو جبريل عليه السلام» (التفسير الكبير ج ٣٠ ص ١٢٢).
٦ - «يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً» (النبأ ٧٨: ٣٨).
اختلفوا في الروح في هذه الآية. فعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال.
وعن ابن عباس: هو ملك أعظم من الملائكة خلقاً. وعن مجاهد: خلق على صورة بني آدم. وعن الضحّاك والشعبي: هو جبريل عليه السلام.
ومن هذه كلها ترى أن تعبير «الروح القدس» من متشابه القرآن.
١ - فقد يعني الملاك جبريل كما في قوله: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِٱلْحَقِّ» (النحل ١٦: ١٠٢). «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُّواً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ» (البقرة ٢: ٩٧).
٢ - وقد يعني «روح القدس» الذي أيَّد المسيح في شخصيته أو دعوته ومعجزاته «وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس». يقول الجلالان: «الروح المقدسة جبريل لطهارته يسير معه حيث سار» وغيرهما يرون فيه ليس فقط الروح المؤيد له في دعوته ومعجزاته، بل الروح المؤيد له في شخصيته. ولم يكن مستقلاً عن ذاته: «روح عيسى، ووصفها به لطهارته من مسّ الشيطان، أو لكرامته على الله تعالى، أو لأنه لم تضمَّه الأصلاب ولا الأرحام الطوامس، أو الإنجيل، أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى» (البيضاوي في تفسيره للبقرة ٨٧). فروح القدس الذي أيَّد به الله المسيح هو «الاسم الأعظم». والاسم دليل الذات، والفعل برهان الذات، فإحياء الموتى، والمقدرة على الخلق هما من خصائص الذات الإلهية والاسم الأعظم. فروح القدس المحيي إما هو روح عيسى، وإما هو «الاسم الأعظم» ذات في الله غير الله، والمسيح كلمة الله، فهو «مما استأثر بعلمه».
٣ - فروح القدس «الروح» على الإطلاق هو روح من الله، في الله، يتمتع معه بالاسم الأعظم. وهذا هو تعليم الإنجيل أيضاً.
وتأييد الله للمسيح به، «لا يفارقه ساعة» «يسير معه حيث سار» دليل على صلة خاصة ذاتية بين روح القدس والله، وبين روح القدس والمسيح كلمة الله، وتلك هي صورة التثليث المسيحي تتجلى لنا من تعابير القرآن نفسها.
فالقرآن إذاً، مع تكفيره لتثليث منحرف بتعابيره في
«الثلاثة»
يشير إلى تثليث صحيح: الله والكلمة والروح. ولكي نزيد الأمر وضوحاً عن
حقيقة العلاقة بين المسيح وروح القدس، أو بالأحرى بين الأقانيم الثلاثة كما
أشار إليها القرآن. نقول إن الواقع القرآني هو أن في شخصية المسيح
ازدواجية، فبحسب ظاهر القرآن ان المسيح عيسى ابن مريم هو بشر أي عبد لا
ربّ، ومع ذلك أيضاً فهو بنص القرآن القاطع
«روح الله» وروح الله في أدنى معانيه يعني أنه ملاك: فهل يكون المسيح بشراً وملاكاً معاً؟ أي ملاكاً متأنِّساً؟ هذا حرف القرآن ومنطوقه!
على كل حالٍ فالمسيح بشر، وأسمى من بشر معاً. وهذا برهان قاطع على الازدواجية القرآنية في شخصية المسيح.
انظر إلى التعبير القرآني لهذه العلاقة «كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه» وهو تعبير فريد خاص بالمسيح وحده، لا مثيل له في القرآن كله. فقوله: «روح منه» يدل على المصدرية كما فسره البيضاوي: أي صدر منه. وهذا الصدور يفسّره الاسم الثاني المرادف له: «كلمته». ان المسيح «روح من الله» يصدر منه صدور الكلمة من الذات الناطقة. وهذا القيد والتخصيص يميّز المسيح «روحاً منه» تعالى بالصدور عن كل روح من الله بالخلق والإبداع.
ويؤيد معنى المصدرية في «روح منه» تأييد المسيح بروح القدس في قوله: «وأيدناه بروح القدس».
فإذا اعتبرنا «أيدناه بروح القدس» انها روح المسيح «الشريفة العالية القدسية» (كما قال الرازي في تفسيره) التي تؤيد المسيح في ذاته وشخصيته، كان المسيح روح الله القدس، فهو أسمى من مخلوق.
وإذا اعتبرنا «أيدناه بروح القدس» أنها روح القدس الذات القائمة بنفسها والتي تؤيد المسيح في سيرته ورسالته، كان المسيح أيضاً أسمى من مخلوق.
وفي كلا الحالين تأييد المسيح بروح القدس يرفعه فوق المخلوق. قال الإمام أحمد بن حنبل: «من قال إن روح القدس مخلوق فقد قال بدعة أو ضلالة»!!
وإضافة لما سبق، ففي قوله «كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه» يمتاز التعبير عن سائر التعابير القرآنية ويحدّد ذات المسيح أنها «روح منه» تعالى، أي صادرة منه، لا على طريق الخلق، بل على طريق الصدور. كما يدل عليه ترادف الإسمين «كلمته وروح منه». فهو «روح منه» تعالى يصدر منه صدور الكلمة من الذات الناطقة في حديثها النفسي، وإذ لا حدوث في الله، فكلمته في ذاته غير محدثة أو روح منه غير محدث.
على كل حالٍ فالمسيح بشر، وأسمى من بشر معاً. وهذا برهان قاطع على الازدواجية القرآنية في شخصية المسيح.
انظر إلى التعبير القرآني لهذه العلاقة «كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه» وهو تعبير فريد خاص بالمسيح وحده، لا مثيل له في القرآن كله. فقوله: «روح منه» يدل على المصدرية كما فسره البيضاوي: أي صدر منه. وهذا الصدور يفسّره الاسم الثاني المرادف له: «كلمته». ان المسيح «روح من الله» يصدر منه صدور الكلمة من الذات الناطقة. وهذا القيد والتخصيص يميّز المسيح «روحاً منه» تعالى بالصدور عن كل روح من الله بالخلق والإبداع.
ويؤيد معنى المصدرية في «روح منه» تأييد المسيح بروح القدس في قوله: «وأيدناه بروح القدس».
فإذا اعتبرنا «أيدناه بروح القدس» انها روح المسيح «الشريفة العالية القدسية» (كما قال الرازي في تفسيره) التي تؤيد المسيح في ذاته وشخصيته، كان المسيح روح الله القدس، فهو أسمى من مخلوق.
وإذا اعتبرنا «أيدناه بروح القدس» أنها روح القدس الذات القائمة بنفسها والتي تؤيد المسيح في سيرته ورسالته، كان المسيح أيضاً أسمى من مخلوق.
وفي كلا الحالين تأييد المسيح بروح القدس يرفعه فوق المخلوق. قال الإمام أحمد بن حنبل: «من قال إن روح القدس مخلوق فقد قال بدعة أو ضلالة»!!
وإضافة لما سبق، ففي قوله «كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه» يمتاز التعبير عن سائر التعابير القرآنية ويحدّد ذات المسيح أنها «روح منه» تعالى، أي صادرة منه، لا على طريق الخلق، بل على طريق الصدور. كما يدل عليه ترادف الإسمين «كلمته وروح منه». فهو «روح منه» تعالى يصدر منه صدور الكلمة من الذات الناطقة في حديثها النفسي، وإذ لا حدوث في الله، فكلمته في ذاته غير محدثة أو روح منه غير محدث.
ليست هناك تعليقات: