العقل ووحدانية الثالوث

هنا قد يسأل أحدهم قائلاً: هل يوافق العقل البشري على هذه الوحدانية الجامعة في الله الواحد؟
ونجيب أن وحدانية الله في ثالوث ليست شيئاً ضد العقل، فإن العقل يسلم بالوحدانية الجامعة في كثير من الأشياء المحيطة به دون أن يبدي على ذلك احتجاجاً أو تمرداً.
- فاليوم المكون من ٢٤ ساعة هو يوم واحد، لكن هذا اليوم الواحد يجمع بين المساء والصباح «وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً وَاحِداً» (تك ١: ٥). والعقل يقبل هذه الوحدانية الجامعة للمساء والصباح بلا اعتراض.
- ولكي يستطيع الإنسان أن يحصل على حجم مكعب واحد، فلا بد أن يعرف طوله وعرضه وارتفاعه، ومع أن الطول قياس قائم بذاته، والعرض قياس قائم بذاته، والارتفاع قياس قائم بذاته لكن هذه الأبعاد تكون الحجم الكلي للمكعب الواحد، ولا يمكن معرفة حجم المكعب بغير معرفتها، والعقل يقبل هذه الوحدانية الجامعة في المكعب الواحد بلا اعتراض.
ويدهش المرء إذ يجد أن الرقم (١) وهو الرقم الذي يرمز إلى الله في الكتاب المقدس «اٰلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تث ٦: ٤) يتميز بخاصية لا يتميز بها غيره من الأرقام، فبينما نجد أن حاصل ضرب ١٠x١٠x١٠=١٠٠٠ نجد أن حاصل ضرب ١x١x١= ١، فأي رقم غير الواحد يُضرب في رقم آخر يتزايد بكيفية واضحة إلا رقم (١) فإنه يستمر واحداً مهما ضربته في نفسه، مع أنه يتزايد بالجمع بصورة أكيدة، والعقل يقبل هذه العملية الحسابية بلا اعتراض.
- والزمن كما يقول «دكتور ناثان وود» في كتابه «أسرار العالم الطبيعي»، هو واحد في ثالوث، لأنه يتكون من «الماضي والحاضر والمستقبل»، والمستقبل هو شيء مجهول لا يقدر البشر على رسم صورة حقيقة له، فكيف يعلن المستقبل عن ذاته، إنه يعلن عن ذاته بالحاضر، والحاضر يمر، فيصبح في التاريح ماضياً، وهكذا ندرك الحاضر بالماضي، وندرك المستقبل بالحاضر، ومع ذلك فقد كانت هناك لحظة كان فيها الماضي والحاضر والمستقبل في قياس واحد بالنسبة للزمن.. فالثلاثة الأيام القادمة هي الآن في قياس واحد بالنسبة للوقت، وغداً يصبح «الغد» حاضراً، وبعد غد يصبح «أمساً» ويصبح اليوم الذي يليه «حاضراً» واليوم الذي يليه «مستقبلاً» والعقل يقبل هذه الوحدانية الجامعة في الزمن بغير اعتراض.
- وفي عالم المحسوسات يقبل العقل دون اعتراض أن يفهم أن هناك ثلاثة مصابيح كهربائية في قوة وتحدٍ، وتشع نوراً واحداً، وتضيء حجرة واحدة، وتستمد قوى إشعاعها من «مصدر» واحد.
يقول «دافيد كوبر» إن نظرة مدققة للخليقة التي تحيط بنا، تؤكد لنا أن الله الواحد في ثالوثه العظيم، قد ترك طابعه على كل أجزاء هذا الكون الفسيح.
- ففي علم الحساب نجد أن المقاييس تتم بثلاثة أبعاد: الطول، والعرض والارتفاع.
- وفي علم الكلام نجد أن أقسام الكلم ثلاثة: الاسم، والفعل، والحرف. وأنه يلزمنا لتكوين جملة مفيدة ثلاثة: الفعل، والفاعل والمفعول به.
- ويتألف الزمن من ثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.
- وفي الطبيعة نجد هذه الممالك الثلاث: المملكة الحيوانية، والمملكة النباتية، والمملكة المعدنية.
- وتتميز المادة بخواصها الثلاث: الصلب، والسائل، والغازي. وإذا كان لنا إلمام بعلم تكوين الجنين Embryology لعرفنا أن الجنين يتكون من ثلاث طبقات الإكتودرم Ectoderm أي الطبقة الخارجية، والميزودرم Mesoderm أي الطبقة الوسطى، والإندودرم Endoderm أي الطبقة الداخلية.
- والعقل البشري واحد لكنه مثلث التركيب، فهو يتألف من الفهم، والشعور، والإرادة. فالفهم هو القوة المفكرة، والشعور هو القوة المتأثرة، والإرادة هي القوة المقررة، والقوى الثلاث في العقل الواحد.
- والكون المحيط بنا يتكون من ثلاثة: السماء والأرض والبحر (رؤيا ١٠: ٦).
إن العقل يقبل الوحدانية الجامعة في كل هذه الأشياء بلا اعتراض، ويسلم بها كل التسليم، ومع ذلك يجب أن نقرر في وضوح أن اللاهوت ليس شيئاً مادياً يقع تحت حسنا، فنضعه في المخابير المدرجة لنعرف كميته، ونوعيته، وكيفيته، بل هو فوق متناول مقاييسنا المادية، وهذه حقيقة قررها بولس الرسول وهو يخاطب الأثينيين في أريوس باغوس فقال: «ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هٰذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلأَيَادِي، وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي ٱلنَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ. وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ، وَحَتَمَ بِٱلأَوْقَاتِ ٱلْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ، لِكَيْ يَطْلُبُوا ٱللّٰهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً. لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً: لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ. فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ ٱللّٰهِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ ٱللاَّهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَٱخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ» (أع ١٧: ٢٤ - ٢٩).
إذاً فاللاهوت لا يمكن أن يكون شيئاً مادياً مما يقع تحت حسنا، وما ينطبق على الماديات من التغير لا ينطبق عليه، فقد تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومع أنه من المستحيل علينا إدراك كنه اللاهوت بعقولنا، فقد رأى الله في حكمته أن يعلن لنا عن شخصه في تشبيهات تتفق مع قصور أذهاننا، فشبه نفسه بالشمس، والنور، والنار.
ففي مزمور ٨٤: ١١ نقرأ: «لأَنَّ ٱلرَّبَّ ٱللّٰهَ شَمْسٌ وَمِجَنٌّ».
وفي رسالة يوحنا الأولى ١: ٥ نقرأ: «إِنَّ ٱللّٰهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ ٱلْبَتَّةَ».
وفي الرسالة إلى العبرانيين ١٢: ٢٩ نقرأ: «لأَنَّ إِلٰهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ».
وفي هذه التشبيهات الثلاثة نرى وحدانية الثالوث بصورة واضحة.
وسنكتفي هنا بالحديث عن الشمس كتشبيه يقرب للعقل البشري الله المتعالي عن كل تشبيه.
يقول القس «كلارنس لاركن» في كتابه «عالم الروح»: «إننا إذا تأملنا الشمس وجدناها تظهر في ثلاثة أشياء «الحرارة» و «النور» و «التأثير الكيميائي»، وهذه الثلاثة تكون الشمس، فالحرارة وحدها ليست الشمس، ولا النور وحده هو الشمس، ولا التأثير الكيميائي وحده هو الشمس، لكن الشمس هي الثلاثة معاً.
ونحن لا نرى حرارة الشمس لكننا نشعر بها، ونحن نستطيع رؤية نور الشمس. وهذا النور هو الذي يجعل الشمس ظاهرة للعيان، ونحن لا نستطيع أن نرى التأثير الكيميائي للشمس، ولكن قوة هذا التأثير تظهر في نمو النباتات. وتحويل بعض المواد في جسم الإنسان إلى فيتامين «D» الضروري لنمو العظام كما تظهر على اللوحة الفوتوغرافية التي تنطبع عليها صور الأشخاص والأشياء.
ولكي يبدو التشبيه واضحاً بالنسبة لانطباعه على الثالوث العظيم، يمكننا القول إن «الحرارة » تشير إلى «الله الآب» فنحن لا نقدر أن نراه ولكننا نشعر به «لأن الله محبة» (١ يو ٤: ١٦، ويوحنا ٣: ١٦) والمحبة يمكننا أن نشعر بها لكننا لا نراها.
و «النور» يشير إلى «الله الابن» فابن الله هو الذي أظهر لنا من هو الله «لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (٢ كو ٤: ٦). «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو ١: ١٨) «َبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (١ تي ٣: ١٦) فبدون الابن ما كان في مقدورنا معرفة من هو الله وما هي سجاياه، لكن ابن الله جاء ليعلن لنا من هو الله «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو ١٤: ٩).
و «التأثير الكيميائي» للشمس يشير إلى «الله الروح القدس» فالروح القدس هو الذي يعطي الحياة والقوة، ويطبع صورة الله على اللوحة الحساسة لقلب الإنسان.
وكما أن حرارة الشمس وحدها ليست هي الشمس، ونور الشمس وحده ليس هو الشمس، والتأثير الكيميائي للشمس وحده ليس هو الشمس، ولكن لا بد من الثلاثة لوجود الشمس، مع أن كل واحد من هذه العوامل له عمله الخاص به، هكذا يمكننا تطبيق ذلك بخشوع على الآب والابن والروح القدس الإله الواحد في ثالوث عظيم، لكي ندرك كيف يقوم كل واحد في الثالوث الإلهي بعمله الخاص به في برنامج الخلق والفداء وسيادة هذا الكون العظيم.
وكما تظهر حرارة الشمس، أو نورها، أو تأثيرها الكيميائي بقوة خاصة بحسب فصول السنة، فحرارة الشمس تظهر في قوتها في الصيف أكثر منها في الشتاء. هكذا كل واحد في الثالوث الإلهي يظهر بقوة خاصة بالنسبة إلى كل تدبير من التدبيرات الإلهية.
- فالآب ظهر في تدبير العهد القديم.
- والابن ظهر إبان خدمته على الأرض بالجسد.
- والروح القدس يظهر في تأثيره المبارك في هذا التدبير.
وإذا عرفنا أن قرص الشمس يصدر منه النور والتأثير الكيميائي بلا تقدم أو تتابع في الوجود الزمني، بمعنى أنه حيثما يوجد قرص الشمس يوجد أيضاً نور الشمس، ويوجد تأثيرها الكيميائي، ولا يمكن أن توجد الشمس منفصلة عن نورها أو تأثيرها الكيميائي، لخرجنا بنتيجة واضحة، أن النور والتأثير الكيميائي صادران من الشمس، وموجودان فيها بلا تقدم أو تتابع في هذا الوجود.
وعلى هذا القياس نقول إن «الثالوث الإلهي» أزلي، كما قال موسى في صلاته «يَا رَبُّ، مَلْجَأً كُنْتَ لَنَا فِي دَوْرٍ فَدَوْرٍ. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ ٱلْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ ٱلأَرْضَ وَٱلْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ ٱلأَزَلِ إِلَى ٱلأَبَدِ أَنْتَ ٱللّٰهُ» (مز ٩٠: ١ و٢).
ويقيناً أن الإيمان بالوحدانية الجامعة في الثالوث الإلهي الكريم، يحل كل الأسئلة العويصة التي تعترض العقل البشري عندما يفكر في الله.
فبغير شك أن الله يتصف بصفات تظهر في أسمائه الحسنى فهو:
«الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكيم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير.الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي. المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوراث. الرشيد. الصبور».
وهو الجامع في ذاته لكل ما هو لازم لكماله واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود.
والإنسان المفكر يسأل: إن الله هو «السميع. البصير. الودود. المحب. المتميز بالعلم والكلام» لأنه ذات عاقلة لا بد أن يتميز بهذه الصفات، وقد علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وقد قال سبحانه «نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تك ١: ٢٦).
والآن: من ذا الذي كان يسمعه الله ويبصره، ويحبه، ويتودد إليه، ويتكلم معه قبل أن يخلق الملائكة والناس؟
وكيف عمل الله الإنسان على صورته، وهو جل شأنه روح سرمدي، والإنسان قد خُلق على صورة جسدية.
وعقيدة الإله الواحد في ثالوث عظيم تعطينا الجواب الشافي على كل سؤال يخطر بأذهاننا من جهة الله، وترينا أن الله الآب كان يسمع ويبصر الله الابن والله الروح القدس، وأن كل واحد في الثالوث كان يتكلم مع الآخر فالثالوث أزلي، وهذا واضح من الكلمات: «نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تك ١: ٢٦) ومن الكلمات: «هُوَذَا ٱلإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا» (تك ٣: ٢٢) وأن الآب والابن والروح القدس كانوا يتشاورون معاً (اقرأ أع ٢: ٢٣ و٤: ٢٨) فليس بين مخلوقات الله من هو كفؤ لأن يستشيره الله «لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً» (رو ١١: ٣٤) كذلك ترينا أن الآب أحب الابن وكان موضوع «وده» قبل خلقه للملائكة والناس، كما قال المسيح بكلمات صريحة «لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يو ١٧: ٢٤) ثم تظهر لنا كما قلنا فيما سبق من حديث معنى خلقه الإنسان على صورة الله، فترينا أن الله الابن كان مزمعاً أن يأخذ صورة الإنسان، وعلى الصورة التي كان مزمعاً أن يأخذ صورة الإنسان، وعلى الصورة التي كان مزمعاً أن يأتي بها إلى العالم عمل الإنسان، وأصبحنا نستطيع فهم الكلمات القائلة: «فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللّٰهِ خَلَقَهُ» (تك ١: ٢٧) فالمسيح هو «الله الابن» الذي تجسد في هيئة الإنسان كما قال عنه يوحنا البشير: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يو ١: ١ و١٤) وكما قال عنه بولس الرسول: «ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ» (كو ١: ١٥ و١٦).
وهكذا صار الله «الباطن» هو الله «الظاهر» عندما تجسد في المسيح كما قال بولس الرسول: «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (١ تي ٣: ١٦).
وهنا لا بد لنا أن نجيب على سؤال قد يخطر ببالنا هو: ألا يحمل اسم «الآب» في صيغته ما نفهم منه أنه كان موجوداً قبل الابن؟ وهذا يعني أن «الابن» ليس أزلياً كأبيه؟
ويمكن أن يكون هذا الكلام صحيحاً لو أن العلاقة بين الآب والابن في اللاهوت كانت علاقة جسدية، مرتبطة بالتوالد الجسدي، وحاشا لأذهاننا أن تصل إلى هذا الدرك من التفكير، فالله جل شأنه لم تكن له صاحبة، حتى ينجب منها ولداً، لكن اسم «الآب» يعني الأبوة الروحية التي تتفق مع ذات الله لأن «الله روح».
يعني المحبة الفائقة الأزلية التي تبادلها الآب والابن كما قال المسيح بفمه المبارك مخاطباً الآب «لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١٧: ٢٤).
ومن الواضح أن «الآب» أزلي، ولذا فلا بد أن يكون «الابن» أزلياً، وإلا كانت أبوة الله حادثة في الزمان، وصفة اكتسبها بعد ولادة الابن، تعالى الله عن كل نقص علواً كبيراً.
يقول الدكتور «M.R. De Haan» في قصة ذكرها في كتابه: «إن أحد خدام الإنجيل. حضر اجتماعه مرة رجل كان يقاطعه ويقول له بصوت عال «إنه لا يستطيع أن يثبت له أن المسيح هو ابن الله الأزلي». وقال ذلك الرجل أن يسوع هو بكر كل خليقة ولذا فلا يمكن أن يكون هو الله، لأن الآب الأزلي وهو أقدم في الوجود من ابنه، وعلى هذا لا يكون الابن أزلياً كأبيه، وإذ لم يكن المسيح أزلياً، فليس هو الله.
ولاحظ خادم الإنجيل كلمات الرجل «الآب الأزلي وهو أقدم في الوجود من ابنه» ثم أعطاه هذه الإجابة فقال: «هذا هو موضع خطئك يا صديقي، وسأثبت لك أن المسيح هو الله من كلماتك. لقد أسميت الله «الآب الأزلي»، وكيف يمكن أن يكون الله «الآب الأزلي» دون أن يكون معه «الابن الأزلي»؟ إن أزلية الأبوة في الآب تحتم أزلية البنوة في الابن. لقد قلت إن الابن لا يمكن أن يكون أزلياً كأبيه، لكن دعني أسألك متى أصبح والدك أباً لك.. في نفس اللحظة التي أصبحت فيها ابناً له، وليس قبل، إذاً فلا بد أن يكون للآب الأزلي، ابناً أزلياً وإلا ما كان الآب هو الآب الأزلي.. وسكت ذلك الرجل المعترض» .
لقد قال المسيح له المجد: «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يو ١٠: ٣٠) وقال أيضاً: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو ١٤: ٩).
هنا نجد أنفسنا ملزمين أن نجيب على سؤال آخر قد يخطر بأذهاننا وهو: ألا يمكن أن تكون بنوة المسيح لله كبنوة الملائكة والمؤمنين؟ ونقول إن الكتاب يذكر أن الملائكة هم بنو الله كما نقرأ في سفر أيوب: «عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ ٱلصُّبْحِ مَعاً، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي ٱللّٰهِ» (أي ٣٨: ٧)، كذلك يذكر أن المؤمنين قد صاروا أبناء الله (غلا ٣: ٢٦).
:وبنوة الملائكة لله جاءت على أساس أنه خالقهم «وَعَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ يَقُولُ: ٱلصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ» (عب ١: ٧ ومز ١٠٤: ٤).
وبنوة المؤمنين لله جاءت على أساس إيمانهم بالمسيح يسوع «لأَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلا ٣: ٢٦) فبنوة الملائكة والمؤمنين ليست بنوة أصلية بل مكتسبة، أما المسيح له المجد فقد سمي «ابن الله الوحيد» كما نقرأ عنه: «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو ١: ١٨). «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو ٣: ١٦). «بِهٰذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِينَا: أَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ» (١ يو ٤: ٩).
وتسمية المسيح باسم «الابن الوحيد» تبعد أي وجه للمقارنة بين بنوته لله وبنوة الملائكة والناس.
وقد سمي المسيح «ابن الله» ليس على أساس تناسله من الله، فالتناسل عمل من أعمال الجسد، وحاشا لله أن يتناسل، فهو لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وهو «روح» يملأ السموات والأرض ولا يُحد، لكن المسيح سمي «ابن الله» باعتبار أنه هو الذي أظهر لنا الله «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو ١: ١٨) وباعتبار أنه معادل لله، وهذا ما فهمه اليهود من كلمات المسيح التي قال فيها: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى ٱلآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ» (يو ٥: ١٧)، فقد فهموا أن أبوة الله له وبنوته لله تعني معادلته لله كما نقرأ «فَمِنْ أَجْلِ هٰذَا كَانَ ٱلْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ ٱلسَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ ٱللّٰهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِٱللّٰهِ» (يو ٥: ١٨)، وهذا يرينا أن بنوة المسيح فريدة لا يمكن أن يرقى إليها الملائكة أو البشر، الأمر الذي يؤكده كاتب الرسالة إلى العبرانيين وهو يقارن بين المسيح والملائكة في الكلمات: «لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ؟ وَأَيْضاً: أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ٱبْناً؟ وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ. وَعَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ يَقُولُ: ٱلصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ. وَأَمَّا عَنْ ٱلابْنِ: كُرْسِيُّكَ يَا أَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. قَضِيبُ ٱسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ» (عب ١: ٥ - ٨).
والكلمات ترينا الحقائق التالية:
  1. إن أحداً من الملائكة مهما سمت رتبته لا يمكن أن يرقى إلى عظمة «ابن الله».
  2. إن الملائكة يسجدون للمسيح ابن الله الأمر الذي يؤكد لاهوته.
  3. إن المسيح قد سُمي «الله» بكلمات لا لبس فيها كما نقرأ «وأما عن الابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور» وكل هذه الحقائق تؤكد لنا بنوية المسيح الفريدة التي لا يدانيه فيها الملائكة أو الناس.
كتب بوردمان وهو يشرح تعليم الكتاب المقدس عن «الثالوث الإلهي العظيم» قال: إن «الأب» هو ملء اللاهوت غير المنظور «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» (يو ١: ١٨)، و «الابن» هو ملء اللاهوت متجسداً «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً» (يو ١: ١٤) «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كو ٢: ٩) و «الروح القدس» هو ملء اللاهوت عاملاً في حياة البشر «بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ ٱللّٰهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. فَأَعْلَنَهُ ٱللّٰهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ ٱلرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ ٱللّٰهِ» (١ كو ٢: ٩ و١٠).
إننا نعود مؤكدين أن الإيمان بالوحدانية الجامعة يتفق مع أصول المنطق السليم. فمن مباحث المنطق الرئيسية، دراسة مشكلة «التصورات، والاحكام» فهناك مثلاً تصورات «مشخصة» وأخرى «مجردة»، كما أن هناك أحكاماً «كلية» وأخرى «جزئية».
والتصورات «المشخصة» هي تصورات ترتبط بالواقع، مثل تصورنا مثلاً لأشياء مادية وواقعية، حين نتصور «تمثال رمسيس» في مدينة القاهرة، أو «تمثال الحرية» على شواطئ أمريكا. ولكن التصورات «المجردة» هي تصورات لا ترتبط بالواقع المحسوس، مثل تصورنا «للحرية» أو «الإنسانية» أو «المسئولية» وكلها تصورات مجردة عن الواقع.
ويقيناً أنه ليس في قدرة العقل البشري المحدود أن يتصور الله غير المحدود، ولذا رأى الله في حكمته أن يعلن عن ذاته العلية للإنسان في الكتاب المقدس، وقد أكد الكتاب المقدس وحدانية الله في ثالوث عظيم، فصار هذا الإعلان أصلاً موضوعاً يتقبله المؤمن بوحي الكتاب المقدس دون حاجة إلى برهان.
وإذ تبين لنا أن الإيمان بالله الواحد في «ثالوث عظيم» ينبع من الكتاب المقدس، نقول إذاً بأن الادعاء بأن هذه العقيدة ليست من المسيحية بل من الفلسفة الاغريقية، إنما هو ادعاء باطل، وأن القائلين بأن عقيدة «الثالوث» قد تأسست على الفلسفة الافلاطونية الحديثة قد ابتعدوا تماماً عن الصواب، ذلك لأن الأفلاطونية الحديثة لا تعلم بالمساواة بين الآب والابن والروح القدس في الجوهر والرتبة، بينما يعلم الكتاب المقدس بصورة أكيدة بهذه المساواة، وكذلك فإن الأفلاطونية الحديثة لم تظهر إلا في أواخر القرن الثالث، والتعليم بالله الواحد في ثالوث عظيم قد جاء على لسان المسيح قبل هذا التاريخ بوقت طويل حين قال لتلاميذه: «فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (مت ٢٨: ١٩).
هذا كله يأتي بنا إلى نتيجة حتمية هي: أنه إذا كان الكتاب المقدس يؤكد أن الله واحد في ثالوث عظيم، وأن كل واحد في هذا الثالوث هو الله، وأن المسيح واحد في هذا الثالوث، فيتحتم علينا إذاً أن نؤمن بأن المسيح هو الله.

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.