أجرة الخطية
جاء في الكلمة الرسولية أن
«أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رومية ٦: ٢٣). وجاء في الكلمة النبوية أن
«اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال ١٨: ٢٠).
فآدم وحواء حين سقطا ماتا الموت الروحي، الذي هو الانفصال عن حياة الله. قال العالم كلونيوس: إن نوع الموت المشار إليه هنا يعرف من نقيضه، أي نوع الحياة التي سقط منها. والواقع أن آدم وحواء، انفصلا عن الله بنتيجة سقوطهما وفقدا الشركة الروحية الجميلة الحلوة المقدسة مع خالقهما المحب. وكذلك في الانفصال عن حياة الله، فقدا ذلك الشوق المقدس للمثول في حضرة الله «عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ ٱلنَّهَارِ، فَٱخْتَبَأَ آدَمُ وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ» (تكوين ٣: ٨). اختبئا لأن أول عواقب السقوط الخجل، وهما قبل كل شيء اجتهدا لستر جسديهما وأن ثانيهما الخوف، وهما هربا واختبئا. هكذا نقرأ في الكتاب العزيز «آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ» (إشعياء ٥٩: ٢).
رهيب هو هذا الحكم «لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت». ولكن هل ضاع الأمل، هل مات الرجاء بعودة الإنسان إلى فردوسه الضائع، وبرجوع طهارته المفقودة؟ كلا إن الرجاء لم يمت، لأن الله محب كما هو عادل، وبالحب وهب للأبوين الأولين الشفاء وبعث في قلبهما الرجاء. فبينما هما مختبئان نادى الرب الإله آدم، وقال له «أين أنت» (تكوين ٣: ٩). الاستفهام هنا للتوبيخ، فكأنه تعالى قال يا آدم لماذا هربت مني، بعد أن كنت تسرع إليّ مسروراً بلقائي؟
فأين كنت وإلى أين صرت؟ نعم. هكذا فتشت محبة الله الغنية بالرحمة عن الإنسان، الذي خلقه الله على صورته كشبهه، ودبرت أمر خلاصه فكانت فكرة الفداء.
فآدم وحواء حين سقطا ماتا الموت الروحي، الذي هو الانفصال عن حياة الله. قال العالم كلونيوس: إن نوع الموت المشار إليه هنا يعرف من نقيضه، أي نوع الحياة التي سقط منها. والواقع أن آدم وحواء، انفصلا عن الله بنتيجة سقوطهما وفقدا الشركة الروحية الجميلة الحلوة المقدسة مع خالقهما المحب. وكذلك في الانفصال عن حياة الله، فقدا ذلك الشوق المقدس للمثول في حضرة الله «عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ ٱلنَّهَارِ، فَٱخْتَبَأَ آدَمُ وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ» (تكوين ٣: ٨). اختبئا لأن أول عواقب السقوط الخجل، وهما قبل كل شيء اجتهدا لستر جسديهما وأن ثانيهما الخوف، وهما هربا واختبئا. هكذا نقرأ في الكتاب العزيز «آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ» (إشعياء ٥٩: ٢).
رهيب هو هذا الحكم «لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت». ولكن هل ضاع الأمل، هل مات الرجاء بعودة الإنسان إلى فردوسه الضائع، وبرجوع طهارته المفقودة؟ كلا إن الرجاء لم يمت، لأن الله محب كما هو عادل، وبالحب وهب للأبوين الأولين الشفاء وبعث في قلبهما الرجاء. فبينما هما مختبئان نادى الرب الإله آدم، وقال له «أين أنت» (تكوين ٣: ٩). الاستفهام هنا للتوبيخ، فكأنه تعالى قال يا آدم لماذا هربت مني، بعد أن كنت تسرع إليّ مسروراً بلقائي؟
فأين كنت وإلى أين صرت؟ نعم. هكذا فتشت محبة الله الغنية بالرحمة عن الإنسان، الذي خلقه الله على صورته كشبهه، ودبرت أمر خلاصه فكانت فكرة الفداء.
لما
كان الله فائق الكمال في كل صفاته، ومن كمالاته الفائقة العدل والصدق.
وبما أن عدله وصدقه لا ينكفئان، حكم على تعدي الإنسان بالموت الأَبدي
قصاصاً. ولكن كما أن لله عدلاً وصدقاً لا ينكفئان، له أيضاً محبة لا تنكفئ
محبة عجيبة، لا تعرف الحدود في الغفران. وهذه المحبة العجيبة شملت الإنسان
بغناها في الرحمة، وفقاً لقوله له المجد
«مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَدَمْتُ لَكِ ٱلرَّحْمَةَ» (إرميا ٣١: ٣). هذه المحبة المتفاضلة جداً، دبرت خلاص الإنسان الضعيف بالفداء ليحيا وفقاً لقوله له المجد
«حَيٌّ أَنَا يَقُولُ
ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ
بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال ٣٣: ١١).
وبكلمة أخرى أن الكتاب المقدس يعلّم بأن الله عادل وفضله الأدبي يحمله على معاقبة كل خطية. فإيفاء المسيح الذي يحصل المغفرة للخطيئة قدم للعدل الإلهي الترضية وغايته الأصلية الجوهرية، ليس التأثير الأدبي في المذنبين أنفسهم. ولا العمل التعليمي في غيرهم من الخلائق العاقلة بلا الإيفاء لما يطلبه العدل. حتى يكون الله عادلاً إذا برّر الخاطئ.
قال المحامي الشهير سيرجنت برنتس في ختام دفاعه عن أحد المتهمين قرأت في كتاب ما أن الله في مشورته الأزلية سأل العدالة والحق هل أخلق الإنسان؟ فأجابت العدالة كلا، لأنه سيدوس جميع شرائعك وسننك ونظمك. وقال الحق لا تخلقه لأنه سيكون قبيحاً وسيسعى دائماً وراء الباطل متكلماً بالكذب. حينئذ قالت المحبة أنا أعلم أن هذا سيكون ولكني مع شر الإنسان وفساده. سأتولى أمره وسأسير به خلال الطرق المظلمة إلى أن آتي به إليك.
أجل يا صديقي إنّ الله في البدء خلق الإنسان على أحسن تقويم ولكن الإنسان لم يثبت في كماله، بل سقط واندفع وراء الباطل ولكن محبة الله تأنت عليه، ولم تشأ أن يهلك. فدبرت له خلاصاً كاملاً شاملاً أبدياً بيسوع المسيح. وقد دعانا سؤالك إلى التأمل في هذا الخلاص الكامل الشامل الأبدي، لنرى حاجة الإنسان إليه بل لنرى ضرورته وحتميته عند الله. ونعرف السبيل إليه، وما هي آثاره في حياة الإنسان الحاضرة والأبدية. لعلنا ندرك نظرة المسيحية الكاملة للفداء.
حين نتلو رواية التكوين التي أوحي بها إلى رجل الله موسى، ونتأمل في ما صنعه الله لستر عري آدم وحواء نلمس الحقيقة بقول الكتاب العزيز: «وَصَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لآدَمَ وَٱمْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا» (تكوين ٣: ٢١). هذا يدل على أن الحيوانات ذبحت في الفردوس ولم يتحقق نصاً أن الإنسان كان يتخذ لحوم البهائم طعاماً. إلا بعد الطوفان ولم يكن طعامه قبلاً سوى البقول والأثمار وسائر الأطعمة النباتية. ولم يكن بكر من ذبيحة، قبل أن تدخل الخطية الأرض فإن كانت تلك الجلود من جلود البهائم، ثبت أن الله علم آدم على أثر سقوطه في الخطية أن لا مغفرة بدون سفك دم وبهذا رسم عهد الذبائح الكفّارية، التي مورست في ما بعد في العهد القديم، وكانت رمزاً إلى حمل الله يسوع، الذي بذبيحة نفسه يرفع خطية العالم.
وإننا لنعلم من الكتاب المقدس أن ذبيحة الدم التي قدمها هابيل، لم تكن إلا ظلاً للفداء العتيد، وعملاً يتفق مع فكر الله بل أنها من وحيه وإلهامه (تكوين ٤: ٤). وكذلك الكبش الذي أعطاه الله لإبراهيم ليفدي به ابنه اسحق، لم يكن إلا رمزاً للفداء العظيم الذي أعده الله منذ الأزل بذبيحة المسيح العتيدة (تكوين ٢٢: ١ - ١٤). وأيضاً خروف الفصح الذي أمر الله موسى وشعبه أن يقدموه في مصر، لم يكن إلا رمزاً بارزاً لفصح عهد النعمة الجديد، الذي فيه ذُبح يسوع المسيح (تكوين ١٢: ١ - ٤٢) بدليل قول رسول الأمم بولس «لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً ٱلْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا» (١ كورنثوس ٥: ٧).
وإذا راجعنا التاريخ نرى أن أتقياء العهد القديم، عاشوا آلاف السنين في ظل الناموس، الذي أعطي لموسى وهذا الناموس أتاح لهم التكفير عن خطاياهم، بواسطة قرابين من الذبائح الحيوانية وثمار الأرض. إلا أن أحكامه الصارمة كانت توقع العقوبات على كل متعد.
حين خرج نوح من الفلك، نهاه الله عن أكل الدم (تكوين ٩: ٤). وسبب هذا النهي ظاهر من آية ناموس موسى، بها تتبين طريقة القرابين الدموية والقصد منها. وهي «وَكُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمِنَ ٱلْغُرَبَاءِ ٱلنَّازِلِينَ فِي وَسَطِكُمْ يَأْكُلُ دَماً، أَجْعَلُ وَجْهِي ضِدَّ ٱلنَّفْسِ ٱلآكِلَةِ ٱلدَّمَ وَأَقْطَعُهَا مِنْ شَعْبِهَا، لأَنَّ نَفْسَ ٱلْجَسَدِ هِيَ فِي ٱلدَّمِ، فَأَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ، لأَنَّ ٱلدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ ٱلنَّفْسِ» (لاويين ١٧: ١٠ - ١١).
فقصد الكتاب المقدس من الذبيحة هو تقديم نفس لله عن نفس أخرى مدنسة بالخطايا، كتقديم حياة حيوان بريء عن حياة الإنسان المذنب الذي يقدمه. وهذا ظاهر من قول الله لأليفاز التيماني: «قَدِ ٱحْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ، لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ ٱلصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ. وَٱلآنَ فَخُذُوا لأَنْفُسِكُمْ سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ وَٱذْهَبُوا إِلَى عَبْدِي أَيُّوبَ وَأَصْعِدُوا مُحْرَقَةً لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَعَبْدِي أَيُّوبُ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُمْ لأَنِّي أَرْفَعُ وَجْهَهُ لِئَلاَّ أَصْنَعَ مَعَكُمْ حَسَبَ حَمَاقَتِكُمْ» (أيوب ٤٢: ٧ - ٨).
والذبائح التي يأمر بها ناموس موسى على أنواع مختلفة غير أنها كلها لا تخلو من التكفير بالدم، الذي هو المقصود من وضعها بدليل قول الرسول: «وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ بِٱلدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين ٩: ٢٢). وقد قال ذلك في شرح الرمز العملي في سفر الخروج حيث يقول: «فَكَتَبَ مُوسَى جَمِيعَ أَقْوَالِ ٱلرَّبِّ. وَبَكَّرَ فِي ٱلصَّبَاحِ وَبَنَى مَذْبَحاً فِي أَسْفَلِ ٱلْجَبَلِ، وَٱثْنَيْ عَشَرَ عَمُوداً لأَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ. وَأَرْسَلَ فِتْيَانَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَذَبَحُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ لِلرَّبِّ مِنَ ٱلثِّيرَانِ. فَأَخَذَ مُوسَى نِصْفَ ٱلدَّمِ وَوَضَعَهُ فِي ٱلطُّسُوسِ. وَنِصْفَ ٱلدَّمِ رَشَّهُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ. وَأَخَذَ كِتَابَ ٱلْعَهْدِ وَقَرَأَ فِي مَسَامِعِ ٱلشَّعْبِ. فَقَالُوا: كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلرَّبُّ نَفْعَلُ وَنَسْمَعُ لَهُ. وَأَخَذَ مُوسَى ٱلدَّمَ وَرَشَّ عَلَى ٱلشَّعْبِ وَقَالَ: هُوَذَا دَمُ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي قَطَعَهُ ٱلرَّبُّ مَعَكُمْ عَلَى جَمِيعِ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالِ» (خروج ٢٤: ٤ - ٨).
وحين نتأمل في تاريخ الذبيحة عبر كتاب الله، يتضح لنا أن كل الذبائح ترمز إلى المسيح ويلزم عن كون الكهنة الأولين رمزاً إلى ذبيحته عن خطايا العالم. بدليل قول الرسول «لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ يُقَامُ لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ. فَمِنْ ثَمَّ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِهٰذَا أَيْضاً شَيْءٌ يُقَدِّمُهُ» (عبرانيين ٨: ٣). وقال أيضاً عن الكهنة اللاويين «وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَاراً كَثِيرَةً تِلْكَ ٱلذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، ٱلَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ ٱلْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ ٱلْخَطِيَّةَ» (عبرانيين ١٠: ١١). أي أن تلك الذبائح، لا تستطيع ملاشاتها من العالم، وذلك لأن ذبائحهم كانت فقط رمزاً إلى الكفّارة العتيدة بذبيحة المسيح فيجب إذ ذاك مداومتها إلى حين ظهور المرموز إليه المنتظر. وأما ذبيحة المسيح، فلا يلزم أن تعاد. لأنها دمه، وبها نال لنا الفداء الأبدي بدليل قول الرسول: «وَأَمَّا ٱلْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ ٱلْعَتِيدَةِ، فَبِٱلْمَسْكَنِ ٱلأَعْظَمِ وَٱلأَكْمَلِ، غَيْرِ ٱلْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ ٱلَّذِي لَيْسَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْخَلِيقَةِ. وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى ٱلأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى ٱلْمُنَجَّسِينَ يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ ٱلْجَسَدِ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَيَّ! لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ ٱلآنَ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ لأَجْلِنَا. وَلاَ لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَاراً كَثِيرَةً، كَمَا يَدْخُلُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ إِلَى ٱلأَقْدَاسِ كُلَّ سَنَةٍ بِدَمِ آخَرَ. فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَاراً كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ ٱنْقِضَاءِ ٱلدُّهُورِ لِيُبْطِلَ ٱلْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ» (عبرانيين ٩: ١١ - ١٤ و٢٤ - ٢٦).
وهذه الحقيقة ظاهرة في الإنجيل فقد قال يوحنا المعمدان حين رأى يسوع: «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١: ٢٩). مشيراً بذلك إلى ذبيحة الكفّارة التي بها يكفر المسيح عن خطايانا أمام الرب ويرفعها عنا هكذا قال الرسول يوحنا «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (١ يوحنا ٢: ٢).
ولئلا يتوهم أحد أن يسوع مات موت شهيد، فقد دفع هو نفسه ذلك الوهم بقوله له المجد: «أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (متى ٢٠: ٢٨).
هذه الحقيقة أعلنها الله لإشعياء النبي فقال قبل تجسد المسيح بعدة قرون: «وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَاّزِيهَا» (إشعياء ٥٣: ٥ - ٧).
وأقوال رسول الأمم بولس في هذا الصدد كثيرة لا يتسع مجال هذه الرسالة لذكرها كلها. منها قوله:
«ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا» (أفسس ١: ٧). ومعنى هذا أنه ليس بتعاليمه وقدوته ننال الفداء والغفران بل بدمه.
«اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ. لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ» (غلاطية ٣: ١٣ - ١٤). ومعنى هذا أن المسيح بموته على خشبة الصليب اعتبر في نظر الناموس حاملاً اللعنة نيابة عن الإنسان الذي لم يثبت في ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به (غلاطية ٣: ١٠).
«لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (٢ كورنثوس ٥: ٢١).
ولا يمكن أن يعبر بعد بأفصح من هذه الآيات، التي تفيد أن المسيح خلصنا من عقاب الناموس باحتماله ذلك العقاب عندما علق على خشبة الصليب ومات عليها. وهذا الموت هو فدية عنا، وتكفير عن خطايانا، إذ به خلصنا من لعنة الناموس. فهذا هو المقصود من ذبيحة الكفّارة.
ولكي يبين الرسول المغبوط بأكثر إيضاح أن فاعلية موت المسيح ليست مجرد فعله في قلوب البشر فعلاً أدبياً في إخضاعها له، وجعلها قلوباً لينة وطيعة، عوضاً عن قساوتها وتكبرها. قال: «ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلّزَمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية ٣: ٢٥ - ٢٦).
فكل كلمة من هذه الآية، تستدعي إمعان النظر، إذ تعلمنا:
وبكلمة أخرى أن الكتاب المقدس يعلّم بأن الله عادل وفضله الأدبي يحمله على معاقبة كل خطية. فإيفاء المسيح الذي يحصل المغفرة للخطيئة قدم للعدل الإلهي الترضية وغايته الأصلية الجوهرية، ليس التأثير الأدبي في المذنبين أنفسهم. ولا العمل التعليمي في غيرهم من الخلائق العاقلة بلا الإيفاء لما يطلبه العدل. حتى يكون الله عادلاً إذا برّر الخاطئ.
قال المحامي الشهير سيرجنت برنتس في ختام دفاعه عن أحد المتهمين قرأت في كتاب ما أن الله في مشورته الأزلية سأل العدالة والحق هل أخلق الإنسان؟ فأجابت العدالة كلا، لأنه سيدوس جميع شرائعك وسننك ونظمك. وقال الحق لا تخلقه لأنه سيكون قبيحاً وسيسعى دائماً وراء الباطل متكلماً بالكذب. حينئذ قالت المحبة أنا أعلم أن هذا سيكون ولكني مع شر الإنسان وفساده. سأتولى أمره وسأسير به خلال الطرق المظلمة إلى أن آتي به إليك.
أجل يا صديقي إنّ الله في البدء خلق الإنسان على أحسن تقويم ولكن الإنسان لم يثبت في كماله، بل سقط واندفع وراء الباطل ولكن محبة الله تأنت عليه، ولم تشأ أن يهلك. فدبرت له خلاصاً كاملاً شاملاً أبدياً بيسوع المسيح. وقد دعانا سؤالك إلى التأمل في هذا الخلاص الكامل الشامل الأبدي، لنرى حاجة الإنسان إليه بل لنرى ضرورته وحتميته عند الله. ونعرف السبيل إليه، وما هي آثاره في حياة الإنسان الحاضرة والأبدية. لعلنا ندرك نظرة المسيحية الكاملة للفداء.
حين نتلو رواية التكوين التي أوحي بها إلى رجل الله موسى، ونتأمل في ما صنعه الله لستر عري آدم وحواء نلمس الحقيقة بقول الكتاب العزيز: «وَصَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لآدَمَ وَٱمْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا» (تكوين ٣: ٢١). هذا يدل على أن الحيوانات ذبحت في الفردوس ولم يتحقق نصاً أن الإنسان كان يتخذ لحوم البهائم طعاماً. إلا بعد الطوفان ولم يكن طعامه قبلاً سوى البقول والأثمار وسائر الأطعمة النباتية. ولم يكن بكر من ذبيحة، قبل أن تدخل الخطية الأرض فإن كانت تلك الجلود من جلود البهائم، ثبت أن الله علم آدم على أثر سقوطه في الخطية أن لا مغفرة بدون سفك دم وبهذا رسم عهد الذبائح الكفّارية، التي مورست في ما بعد في العهد القديم، وكانت رمزاً إلى حمل الله يسوع، الذي بذبيحة نفسه يرفع خطية العالم.
وإننا لنعلم من الكتاب المقدس أن ذبيحة الدم التي قدمها هابيل، لم تكن إلا ظلاً للفداء العتيد، وعملاً يتفق مع فكر الله بل أنها من وحيه وإلهامه (تكوين ٤: ٤). وكذلك الكبش الذي أعطاه الله لإبراهيم ليفدي به ابنه اسحق، لم يكن إلا رمزاً للفداء العظيم الذي أعده الله منذ الأزل بذبيحة المسيح العتيدة (تكوين ٢٢: ١ - ١٤). وأيضاً خروف الفصح الذي أمر الله موسى وشعبه أن يقدموه في مصر، لم يكن إلا رمزاً بارزاً لفصح عهد النعمة الجديد، الذي فيه ذُبح يسوع المسيح (تكوين ١٢: ١ - ٤٢) بدليل قول رسول الأمم بولس «لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً ٱلْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا» (١ كورنثوس ٥: ٧).
وإذا راجعنا التاريخ نرى أن أتقياء العهد القديم، عاشوا آلاف السنين في ظل الناموس، الذي أعطي لموسى وهذا الناموس أتاح لهم التكفير عن خطاياهم، بواسطة قرابين من الذبائح الحيوانية وثمار الأرض. إلا أن أحكامه الصارمة كانت توقع العقوبات على كل متعد.
حين خرج نوح من الفلك، نهاه الله عن أكل الدم (تكوين ٩: ٤). وسبب هذا النهي ظاهر من آية ناموس موسى، بها تتبين طريقة القرابين الدموية والقصد منها. وهي «وَكُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمِنَ ٱلْغُرَبَاءِ ٱلنَّازِلِينَ فِي وَسَطِكُمْ يَأْكُلُ دَماً، أَجْعَلُ وَجْهِي ضِدَّ ٱلنَّفْسِ ٱلآكِلَةِ ٱلدَّمَ وَأَقْطَعُهَا مِنْ شَعْبِهَا، لأَنَّ نَفْسَ ٱلْجَسَدِ هِيَ فِي ٱلدَّمِ، فَأَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ، لأَنَّ ٱلدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ ٱلنَّفْسِ» (لاويين ١٧: ١٠ - ١١).
فقصد الكتاب المقدس من الذبيحة هو تقديم نفس لله عن نفس أخرى مدنسة بالخطايا، كتقديم حياة حيوان بريء عن حياة الإنسان المذنب الذي يقدمه. وهذا ظاهر من قول الله لأليفاز التيماني: «قَدِ ٱحْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ، لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ ٱلصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ. وَٱلآنَ فَخُذُوا لأَنْفُسِكُمْ سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ وَٱذْهَبُوا إِلَى عَبْدِي أَيُّوبَ وَأَصْعِدُوا مُحْرَقَةً لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَعَبْدِي أَيُّوبُ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُمْ لأَنِّي أَرْفَعُ وَجْهَهُ لِئَلاَّ أَصْنَعَ مَعَكُمْ حَسَبَ حَمَاقَتِكُمْ» (أيوب ٤٢: ٧ - ٨).
والذبائح التي يأمر بها ناموس موسى على أنواع مختلفة غير أنها كلها لا تخلو من التكفير بالدم، الذي هو المقصود من وضعها بدليل قول الرسول: «وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ بِٱلدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين ٩: ٢٢). وقد قال ذلك في شرح الرمز العملي في سفر الخروج حيث يقول: «فَكَتَبَ مُوسَى جَمِيعَ أَقْوَالِ ٱلرَّبِّ. وَبَكَّرَ فِي ٱلصَّبَاحِ وَبَنَى مَذْبَحاً فِي أَسْفَلِ ٱلْجَبَلِ، وَٱثْنَيْ عَشَرَ عَمُوداً لأَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ. وَأَرْسَلَ فِتْيَانَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَذَبَحُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ لِلرَّبِّ مِنَ ٱلثِّيرَانِ. فَأَخَذَ مُوسَى نِصْفَ ٱلدَّمِ وَوَضَعَهُ فِي ٱلطُّسُوسِ. وَنِصْفَ ٱلدَّمِ رَشَّهُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ. وَأَخَذَ كِتَابَ ٱلْعَهْدِ وَقَرَأَ فِي مَسَامِعِ ٱلشَّعْبِ. فَقَالُوا: كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلرَّبُّ نَفْعَلُ وَنَسْمَعُ لَهُ. وَأَخَذَ مُوسَى ٱلدَّمَ وَرَشَّ عَلَى ٱلشَّعْبِ وَقَالَ: هُوَذَا دَمُ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي قَطَعَهُ ٱلرَّبُّ مَعَكُمْ عَلَى جَمِيعِ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالِ» (خروج ٢٤: ٤ - ٨).
وحين نتأمل في تاريخ الذبيحة عبر كتاب الله، يتضح لنا أن كل الذبائح ترمز إلى المسيح ويلزم عن كون الكهنة الأولين رمزاً إلى ذبيحته عن خطايا العالم. بدليل قول الرسول «لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ يُقَامُ لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ. فَمِنْ ثَمَّ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِهٰذَا أَيْضاً شَيْءٌ يُقَدِّمُهُ» (عبرانيين ٨: ٣). وقال أيضاً عن الكهنة اللاويين «وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَاراً كَثِيرَةً تِلْكَ ٱلذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، ٱلَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ ٱلْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ ٱلْخَطِيَّةَ» (عبرانيين ١٠: ١١). أي أن تلك الذبائح، لا تستطيع ملاشاتها من العالم، وذلك لأن ذبائحهم كانت فقط رمزاً إلى الكفّارة العتيدة بذبيحة المسيح فيجب إذ ذاك مداومتها إلى حين ظهور المرموز إليه المنتظر. وأما ذبيحة المسيح، فلا يلزم أن تعاد. لأنها دمه، وبها نال لنا الفداء الأبدي بدليل قول الرسول: «وَأَمَّا ٱلْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ ٱلْعَتِيدَةِ، فَبِٱلْمَسْكَنِ ٱلأَعْظَمِ وَٱلأَكْمَلِ، غَيْرِ ٱلْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ ٱلَّذِي لَيْسَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْخَلِيقَةِ. وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى ٱلأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى ٱلْمُنَجَّسِينَ يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ ٱلْجَسَدِ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَيَّ! لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ ٱلآنَ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ لأَجْلِنَا. وَلاَ لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَاراً كَثِيرَةً، كَمَا يَدْخُلُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ إِلَى ٱلأَقْدَاسِ كُلَّ سَنَةٍ بِدَمِ آخَرَ. فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَاراً كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ ٱنْقِضَاءِ ٱلدُّهُورِ لِيُبْطِلَ ٱلْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ» (عبرانيين ٩: ١١ - ١٤ و٢٤ - ٢٦).
وهذه الحقيقة ظاهرة في الإنجيل فقد قال يوحنا المعمدان حين رأى يسوع: «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١: ٢٩). مشيراً بذلك إلى ذبيحة الكفّارة التي بها يكفر المسيح عن خطايانا أمام الرب ويرفعها عنا هكذا قال الرسول يوحنا «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (١ يوحنا ٢: ٢).
ولئلا يتوهم أحد أن يسوع مات موت شهيد، فقد دفع هو نفسه ذلك الوهم بقوله له المجد: «أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (متى ٢٠: ٢٨).
هذه الحقيقة أعلنها الله لإشعياء النبي فقال قبل تجسد المسيح بعدة قرون: «وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَاّزِيهَا» (إشعياء ٥٣: ٥ - ٧).
وأقوال رسول الأمم بولس في هذا الصدد كثيرة لا يتسع مجال هذه الرسالة لذكرها كلها. منها قوله:
«ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا» (أفسس ١: ٧). ومعنى هذا أنه ليس بتعاليمه وقدوته ننال الفداء والغفران بل بدمه.
«اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ. لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ» (غلاطية ٣: ١٣ - ١٤). ومعنى هذا أن المسيح بموته على خشبة الصليب اعتبر في نظر الناموس حاملاً اللعنة نيابة عن الإنسان الذي لم يثبت في ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به (غلاطية ٣: ١٠).
«لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (٢ كورنثوس ٥: ٢١).
ولا يمكن أن يعبر بعد بأفصح من هذه الآيات، التي تفيد أن المسيح خلصنا من عقاب الناموس باحتماله ذلك العقاب عندما علق على خشبة الصليب ومات عليها. وهذا الموت هو فدية عنا، وتكفير عن خطايانا، إذ به خلصنا من لعنة الناموس. فهذا هو المقصود من ذبيحة الكفّارة.
ولكي يبين الرسول المغبوط بأكثر إيضاح أن فاعلية موت المسيح ليست مجرد فعله في قلوب البشر فعلاً أدبياً في إخضاعها له، وجعلها قلوباً لينة وطيعة، عوضاً عن قساوتها وتكبرها. قال: «ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلّزَمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية ٣: ٢٥ - ٢٦).
فكل كلمة من هذه الآية، تستدعي إمعان النظر، إذ تعلمنا:
- أنّ الله قدم يسوع المسيح ذبيحة كفّارة للجميع.
- أنّ هذه الكفّارة، ينالها كل فرد من أفراد البشر بإيمانه الشخصي فقط، فهي تضع أساساً للجميع للتبرير، إذا آمنوا بالمسيح يسوع.
- أنّ الله يظهر برّه بذبيحة الكفّارة. فإظهار الرحمة للخطاة والبر المشار إليه هنا من الصفات الحُسنى الخاصة بالله، وليس هو بمعنى التبرير الذي يهبه الله للمؤمن، كما يظهر من القرينة، وهي «لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» فإن هذه العبارة تنفي احتمال ذلك المعنى وتثبت إرادة العدل بالبر للزومه عند اعتباره إله الناموس وديان العالم.
- أنّ ذبيحة الكفّارة ضرورية لإظهار رحمة الله، مع عدم مخالفة مقتضيات عدله فلو أظهر الله رحمته للخطاة بلا ذبيحة الكفّارة، لم يكن باراً، بدليل قول الرسول أن الله قدّم يسوع كفّارة ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع ولم تكن ضرورية لجعل الله رحيماً بتغيير طبيعته لأنه لا يتغير بل هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد. وما استفدناه من شهادته تعالى، التي هي أساس الكتاب المقدس. هو أن المسيح قدم نفسه للآب، ليحمل لعنة الناموس الإلهي عن الخطاة وهو لابس طبيعة البشر، وأن الله قبل تقدمه حاسباً إياها كفؤاً لعدله. فيغفر لجميع الذين يؤمنون بيسوع المسيح بدون أن يشين جلاله الأقدس أو يثلم ناموسه الأدبي بشيء.
ليست هناك تعليقات: