رواية الباكورة الشهية - 9

الفصل التاسع

إنه لما كان كثيرون قد تأثروا من خطاب عمر وصلاته وإقدامه الغريب على تجرع كأس الموت، رجعوا بقلوب ملتهبة وهم يقولون: «ما أجمل هذا الخطاب الذي فاه به بدون أدنى اضطراب أو انزعاج، حال كونه يرى السيف مسلولاً لبتر عنقه؟ ما أغرب الصلاة التي قدمها لله وهو جاث للذبح. كيف صلى هكذا لأجل أعدائه والدولة؟ ما هذا الروح؟ عجباً. كيف كان وجهه لامعاً طلقاً تلوح عليه لوائح السلام والاطمئنان كوجه ملاك؟. ثم أخذوا يلومون الذين دبروا تلك المكيدة والذين شهدوا عليه زوراً. وكان أوفرهم تأثيراً رجل يدعى أحمد أفندي القوتلي، فهذا رغب جداً أن يقف على كنه الديانة المسيحية. وفي الحال ذهب واشترى الكتاب المقدس مع بعض الكتب الأخرى الدينية، مخصصاً القسم الأكبر من وقته لدرسها، ولم يزل على هذا المنوال حتى أضاء الحق قلبه. فآمن بمسيح الله وكتابه المشهود له من نفس القرآن أنه كتاب الله. قائلاً: «أي عذر للمسلم لدى الله على عدم اكتراثه بكتابه الجليل؟ وما الدعوة أنه محرّف إلا دعوة فارغة لا يعتد بها، لأن القرآن لم يقل هكذا: وإن كان الكتاب سالماً صحيحاً حينما نطق بالقرآن فليس بممكن فيما بعد تحريفه».
ولنرجع في الحديث إلى أولئك الرجال الثلاثة المرتدين كما سلف الكلام عنهم، فإنهم لما شهدوا منظر الشهيد عمر المؤثر هاجت ضمائرهم وبكتتهم بعنف على ارتدادهم عن طريق الحياة، فبكوا لذلك بمرارة وحرقة فؤاد، وزاد في ذلك السيد مصطفى الحقاني إلى أن قال: «الويل ثم الويل لنا. كيف ارتددنا عن سبيل إلهنا واخترنا الدنيا دون الآخرة وراحة الجسد على راحة الضمير؟ يا ليت رأسي ماء وعينيّ ينبوع دموع لأبكي ليلاً ونهاراً إثمي وشر ارتدادي من وراء ربي ومخلصي». وغص في البكاء حتى انعقد لسانه عن التكلم، فكان ثم سكوت بضع دقائق. ثم قال حسن أفندي قباواتي: «نعم ويل لشقاوتنا، فما حالنا الآن إلا كحال مرائين منافقين، نتراءى بدين لا محل له في قلوبنا، وننكر ديننا نعتبره دين الله الحق. إن رجعنا وتمسكنا علانية بالإنجيل يتعاظم حنق الأمة والحكومة علينا، فلا يلبث الحال أن تدبر علينا مكيدة لإهلاكنا كما دبر على المرحوم عمر، فأرجو الله أن يغير الحال، ونأخذ الحرية محلاً رحباً في هذه البلاد، فيكون وقت أنسب للمجاهرة بالمسيحية». فصدق على ذلك السيد حسن أبو النصر. أما السيد مصطفى فأجابهما: «أواه يا أخوي، ألا نعترف بالمسيح الفادي ونتبعه إلا في زمن الراحة والحرية، ونتركه وإنجيله في وقت الضيق والشدة؟ أهذه محبة أن تمدح المحسن إليك وتشكره ما دمت على مائدته، وتنكر جميله حينما لا يكون ذلك؟ أهي محبة أن نعترف بحق ابن الله فادينا ونتبعه حين الرخاء والحرية وننكره زمن التعب والبلية؟ ما نحن بذلك إلا عبيد خائنون. فلننف الخوف والجبانة من قلوبنا، ولا نرهبن الموت لأجل اسم من قد مات عنا، ولنتقدم باسم الله إلى المسيح في الطريق التي ملنا عنها وقتاً قليلاً، والذي غفر للجاحد بطرس يغفر لنا. فإن عشنا من ثم نعيش له، وإن قضي علينا كما قضي على أخينا فيكون قد عجل بنا إلى نيل إكليل المجد والحياة، وحسبنا بذلك مماثلة سيدنا وربنا الكريم. فهلم يا سيديّ ولا تتباطاءا في إجراء هذا الواجب. وإن كنتما لا تريان ذلك الآن. فها أنا ذاهب إلى الحكومة وأعترف لديها بإيماني المسيحي، فإن قضت عليّ فيا حبذا، وإن سمح ببقائي وانضمامي إلى إخواني المأسورين يكون ذلك سروراً لقلبي وابتهاجاً لضميري. فما فكركما يا سيديّ وما تريان؟» أجاباه: «حقاً أنك يا سيدي مصطفى لمسيحي شجاع، وأما نحن فلا. صلّ لأجلنا». ثم افترقوا بعضهم عن بعض، أما هو فذهب كئيباً حزيناً على حالة صاحبيه المذكورين. وفي الغد ذهب نحو الساعة الرابعة إلى الحكومة، ودخل بجرأة إلى أمام حضرة الوالي والمجلس. ولما نظروا إليه سأله المفتي: «مالك يا سيد مصطفى؟» قال: «ألتمس من حضرة أفندينا أن يسمعني بحلمه» قال الوالي تكلم قال: «أنا عبدكم أحد الرجال الثلاثة الذين ارتدوا ظاهراً عن الدين المسيحي أمام دولتكم في هذا المجلس منذ نحو عشرة أيام، فمن ذلك الوقت للآن لم يسترح ضميري قط، ولا اطمأن قلبي، بل أنا كمن هو في أليم العذاب من تأنيب الضمير، لأن ارتدادي لم يكن عن اقتناع ببطل الدين المسيحي، بل عن خوف. فالموت عندي أفضل من حياة شقية كهذه. فعبدكم رجل مسيحي مؤمن بالمسيح ابن الله سيد البشر وفادي الخطاة حسبما جاء في كتابه تعالى. وإني لنادم على إنكاري سالفاً هذا الحق المبين أمام دولتكم والمجلس، ومقابلة لذلك الجحود حضرت الآن لأعترف بخطأي وأقر بإيماني، فافعلوا بي ما يحسن في عينيكم».
فلما سمع الوالي والمجلس هذا الكلام المدهش من الحقاني، ورأوا شجاعته وإقدامه الغريبين، دهشوا. ثم نظر إليه الوالي بغضب وزجره قائلاً: «يا خنزير يا منافق، أتكذب إذا على حكومة السلطان؟ فأي قصاص تستوجب يا خبيث؟» فاجابه برزانة وشجاعة: «نعم لقد نافقت وكذبت ليس على أفندينا والمجلس فقط، بل أيضاً على المولى سبحانه وتعالى. ولكنني تبت له وهو الغفور الرحيم. فإن كنت لذلك أستحق الموت فلا أستعفي من الموت، بل أقبل إليه بسرور وراحة». فازداد الحاضرون تعجباً وذهولاً. أما الحقاني فكان لدى الوالي والمجلس كصخرة ثابتة راسخة في وسط البحر، ولم يكن لغضب الوالي وتهديداته أدنى تأثر في لون وجهه أو حدوث اضطراب في كلامه أو جسمه. فأخرج خارج المجلس، وبعد المداولة في أمره قر الرأي على ضمه إلى رفاقه المسجونين، فأدخل أيضاً. وبعد مثوله لدى الوالي وتكرارا النصائح له عبثاً بالعدول عن هذا السبيل، قال له الوالي: «إذا نضعك الآن مع صحبك الأشقياء وننظر في أمرك فيما بعد». فأمر بإنزاله وأخذه إليهم. أما أولئك المساكين فإذ كانوا قد تكدروا جداً من قتل أخيهم عمر وذلك المنظر المؤثر، رجعوا إلى مكانهم بحزن وانكسار قلب لا مزيد عليه، وكانوا لا يفترون عن ذكره واللهج بخطابه الوداعي الأخير وصلاته الروحية الحارة وهم يثنون على صبره وثباته حتى الموت. لكن لما علموا أن السيد مصطفى مثل أمام الوالي والمجلس ليعترف بإيمانه المسيحي نادماً على إنكاره ذلك، فرحوا وتعزوا نوعاً. وعندما دخل إليهم نهضوا إليه بوجوه متهللة مرحبين به ومسلمين عليه بقبلات المحبة والشوق. ثم حدثهم المذكور بكل ما جرى له ولصاحبيه، فتعجبوا وأثنوا عليه وحمدوا الله على إرجاعه إلى طريق الحياة.
أمّا ما كان من الوالي والمجلس فبعد إيداع الحقاني السجن أخذوا يتحدثون في أمره. فقال الوالي: «عجباً أن إعدام ابن الحارس أنتج رجوع هذا الشقي أيضاً إلى النصرانية رافضاً الدين الإسلامي في وسط هذا المجلس بجرأة غريبة، عكس أملنا وانتظارنا هكذا». قال القاضي: «إني منذ البداءة لم أستحسن إعدام بعضهم، ظناً مني أن ذلك لا يأتي بالمطلوب، ولكن قط ما داخل فكري أن إعدام أحدهم ينتج ما قد أنتج الآن من رجوع هذا الإنسان إلى النصرانية واستخفافه بالموت. حقاً إني لمتعجب جداً من وقوفه هكذا لدى دولتكم بثبات وهدوء مدهشين». فقال بعض الجالسين: «إن هذا إلا من إبليس الرجيم فإنه أخزاه الله يدخل قلوب ذوي الكبر والعجب فيملأ صدورهم من الأوهام الوساوس، حتى يتخيلوا الحق باطلاً والبطل حقاً» فقال آخر: «نعم ولكن هؤلاء المتنصرين لم يكونوا من أهل الكبر والعجب، بل من أجلّ أهل بلدنا وأوفرهم دعة وتواضعاً وحكمة، فكيف داخلهم هذا الوسواس واعتراهم هذا الوهم؟».
قال المفتي: «لا يظن أفندينا أن تأثير إعدام عمر بن الحارس قد أرجع فقط هذا الرجل إلى ما كان قد رفضه سابقاً، بل أؤكد لأفندينا أن ذلك قد أثر في قلوب كثيرين من المسلمين تأثيراً جعلهم يحسنون الظن نوعاً في الديانة النصرانية، وقد قال كثيرون على مسمع مني من شيوخ وشبان ابن الحارس قتل ظلماً، وأن الشهود قد شهودا عليه زوراً، وأنه كان واجب محاولة إقناعه بالدليل والبرهان لا بالسيف إلى غير ذلك من الكلام الذي لا يسعني ذكره». فقال الوالي: «ما تقول يا مفتي أفندي؟ أصحيح هذا الكلام؟». أجاب: «نعم وحياة رأس أفندينا. هذا هو الواقع». فاغتاظ الوالي وتكدر جداً، ولبث برهة لا يتكلم ولوائح الغيظ والحيرة تلوح على وجهه، ثم قال: «ماذا علينا ولم تجر الحكومة شيئاً خارجاً عن الشريعة والنظام؟ فدعونا من هذا الحديث المكدر». فسكتوا وداروا إلى أعمالهم السياسية.
أمّا ما كان من الشيخ ناصر الدين وصحبه كالشيخ عبد الكريم والسيد عبد القادر وما شاكلهم من ذوي التعصب والخشونة ، فإنهم لما رأوا أن قتل عمر الحارس لم يرو لهم غليلاً، وان ابن الحقاني قد رجع إلى ما كان قد جحده، اضطرمت قلوبهم بنيران الحقد والغيظ يجولون في الأسواق والشوارع مخبرين كل من صادفوه أن سبب سجن المتنصرين وإعدام أحدهم هو تفوههم كثيراً بكلام ثلب وتجديف لا تحتمله الآذان على القرآن والنبي والصحابة الكرام، وما شاكل ذلك من الافتراء والطعن.
أصبح أهل الأسرى وأنسباؤهم بحزن وخوف لا مزيد عليهما مما جرى على عمر المذكور، ومما كانوا يرون ويسمعون بحقهم من الافتراءات والأراجيف المستمرة كما ذكر، فكانوا لا يفترون قط عن اتخاذ الوسائل الممكنة لوقايتهم من سهم الأعداء ولإطلاق سبيلهم إن أمكن. متوسلين إلى القاضي والمفتي وحريمهما وإلى كل من في قلبه رحمة بشأن المومأ إليهم حتى رق لهم كل ذي قلب شفوق ورثى لهم كل ذي رأفة.
هذا ومنذ يوم دخلوا السجن للآن لم يفتر القاضي الكريم والمفتي مع كثيرين من علماء البلد وأعيانها ذوي الرقة والحنو عن التردد عليهم وتقديم النصائح لهم، وخصوصاً بعد إعدام عمر الحارس. وناهيك عن حريمهم وأولادهم وإخوانهم وأخواتهم الذين يومياً كانوا يأتونهم نائحين باكين متوسلين إليهم أن يرجعوا إلى دينهم ولو ظاهراً فقط، بحيث يبقون في بيوتهم وبلدهم مستأمنين على حياتهم، فكان ذلك أعظم داع لألم قلوبهم وضيق صدورهم، وكانوا كثيراً ما يتمنون الإبعاد والإلحاق بأخيهم عمر تخلصاً من مثل هذا العذاب الذي لا يطاق.
فقال السيد إبراهيم: «شتان ما بين دموع المرء ودموع أهله، فإن دموعه تطفئ نيران قلبه ودموع أهله تصليها».
وقال الشيخ سليمان: «دموع الوالدة والأهل المصاحبة لتوسلاتهم هي أقوى الجبال لجذب القلوب وإدنائها، ولكن النعمة في القلب هي كسلسلة ذهبية تربطه بالله، فلا تستطيع أن تفعل بها شيئاً تلك الحبال».
وقال الشيخ محمود: «إن دموع الوالدين والأنسباء المصاحبة لتوسلاتهم لرد المرء عن سبيل الله هي أعظم الأسلحة وأمضاها فمن لم يغلب بهذه لا يقدر السيف أن يغلبه».
وقال الشيخ علي: «لا أظن أن شيئاً أثر في قلب فادينا الكريم وهو معلق على الصليب كرؤيته أمه تسيل الدمع المدرار ألماً عليه، ولكن جسامة رغبته في خلاص نفوسنا هونت عليه شرب تلك الكأس العلقمية. كذا تلاميذه وهم سائرون وراءه تلهيهم دموع الوالدين والأهل، غير أن حبهم إياه مكنهم من الجلد على احتمالها».
قال الشيخ عبد الحليم: «قد تقرحت أجفاني من فرط البكاء والنحيب على فقد وحيدي. فكما أن دموع الوالدين لا ترد إلى الحياة من مات من أولادهم، كذا دموع الأهل والإخوان لا تقدر أبداً أن ترد للعالم من قد مات بالمسيح عن العالم».
وهكذا عزى بعضهم بعضاً بمثل هذا الكلام.
اجتمع القاضي والمفتي بالشيخ إسماعيل صالح رئيس البلدية وحسن أفندي العطار أحد نواب المدينة وعبد الرحيم أفندي رئيس الجزاء والشيخ عبد الحميد إمام الجامع الكبير، وبعد أن تداولوا طويلاً بأمر العلماء المذكورين، أجمع رأيهم على أن يضربوا الضربة الأخيرة علها تأتي ببعض المقصود. ثم أتوا إليهم، وبعد دخولهم وإداء السلام ومبادلة التحيات رفع القاضي نظره وقال:
«طالما استغنمنا الفرص يا إخواننا لمشاهدتكم ومحادثتكم بما نراه خيراً لكم، فنرجوكم احتمالنا بحلمكم. لا بد أنكم قد علمتم بخروج المضبطة بإبعادكم عن بلدكم وأهلكم، الأمر الذي ساءنا كثيراً حيث نرى أفضل إخواننا وأعز خلاننا ينفردون عنا في الدين والجسد. وإننا قد جئناكم بكل إخلاص مكررين توسلاتنا إليكم أن ترجعوا إلى دين آبائكم فتبقوا متمتعين برؤية أهلكم وأولادكم» فبكى حينئذ الأكثرون، وزاد في ذلك الشيخ محمود، فإنه كان غاية في رقة القلب ولطف الخاطر. ثم أخذ بقية أولئك الزائرين يتكلمون على هذا المنهج الواحد بعد الآخر وأولئك صامتون عابسون. وبعد أن أفرغ القاضي وصحبه جعبة توسلاتهم وإنذارهم، أجاب الشيخ علي: «يا سادتي الكرام، لا يلزمني محاولة التعبير عما يقصر دونه لساني من إظهار حاسيات الامتنان والشكر لأفضالكم ومكارم أخلاقكم، ولكنكم تستغربون أن قلنا لكم أنه ليس في استطاعتنا إجابة طلبكم لسبب. فنتوسل إليكم أن تسمعونا بطول الأناة، وبعد ذلك احكموا. تعلمون بإكرام أن محل الاقتناع واليقين هو القلب كما قلنا غير مرة. والواسطة لإدخال ذلك إليه هي الدليل والبرهان، فلا يخفى على حضراتكم أنه لدى وقوفنا على تلك الرسالة التي بلغكم أمرها ورأينا أنها ذات أدلة وبراهين لا يجدر بذي العقل الإغضاء عنها، آثرنا البحث فيها بإخلاص وجد، والقضايا التي اتخذناها مواضيع بحثنا: أولاً هل التوراة والإنجيل الموجودان الآن بيد اليهود والنصارى هما نفس اللذين كانا في عصر الحواريين وعصر محمد؟ ثانياً: هل التوراة العبرانية الكائنة بيد اليهود هي ذات التي بيد النصارى بلغاتهم المتنوعة؟ ثالثاً: هل تطابق التوارة والإنجيل؟ وهل مفاد الإنجيل هو غاية التوراة؟ رابعاً: هل توجد مطابقة جوهرية بين نسخ الكتاب العديدة وتراجمه المتنوعة التي هي بيد طوائف النصارى وفرقهم؟ خامساً: هل في القرآن ما يسند من بعض الأوجه مفاد الإنجيل بخصوص لاهوت المسيح وموته بالجسد؟ وبعد إفراغ الجد والجهد في البحث بهذه القضايا اتضح لنا ولله الحمد صحتها، كما يقول صاحب تلك الرسالة. وتعلمون حضراتكم أن اليقين المتأصل في القلب بواسطة الدليل والبرهان محال استئصاله منه بدون أدلة وبراهين أقطع فلا شيء في العالم يستطيع نزع ما قد تأصل في قلوبنا ومحو ما قد نقش عليها إلا على فرض تبيان بطلانه ذلك بالطريقة المذكورة، وهذا نراه محالاً. فإن كان ذلك يا سادتي في إمكانكم فلا تبخلوا به وإلا فاعذرونا. نعم ليس من الهين مبارحة الوطن والأهل والخلان واحتمال العار والموت، ولكنه أهون علينا وأسهل من رفض الحق ومقاومة صوت الضمير وإذا أجبنا طلبكم ورجعنا إلى الإسلام لا يكون منا ذلك إلا رياء وكذباً، والموت أحب إلينا من عيشة كهذه. إننا مستعدون لاحتمال كل مكروه بسبب هذا الطريق - والأمر والإرادة للعزيز الرحمن وهو حسبنا ونعم النصير».
فقال المفتي: «إننا نتأسف كل الأسف على ضياع اجتهادنا بما هو لخيركم، وليس لنا قصد أن ننازلكم يا أحباء في ميدان المحاورة والمناظرة، لأنكم تعلمون ما نعلمه من الاعتراضات على النصرانية، بل نظن أنكم محنكون في هذه الأمور أكثر منا، فلا مطمع لنا في أن ذلك يؤثر فيكم شيئاً: وعليه فإننا نذهب راجين ممن هو على كل شيء قدير أن يردكم من سبيل الضلال إلى صراط الحق والهدى».
ثم قاموا وانصرفوا، وكان القاضي وهو آخذ في طريقه يناجي نفسه هكذا: «ما أشجع هؤلاء الرجال وأشد عزيمتهم. إني لا أرى عندنا من الأدلة والبراهين على صحة الإسلامية كالتي نوه عنها على صحة النصرانية وأنّى السبيل لدحضها؟».
أما أولئك المساكين فقد تمنوا إبعادهم حالاً إلى مكان ريثما يستريحون قليلاً من هذه الحال المكربة. ثم قال بعضهم لبعض: «هل يا ترى تيقن أولئك الأصحاب عدم وجود ما يدحض البينات المسيحية، فأبوا لذلك منازلتنا، ونبهوا على العامة أن لا يفاتحونا بشيء من ذلك خوف الفضيحة والاقتناع؟ فإن كان ذلك فهو من العجب العجاب أن علماء أفاضل كهؤلاء لا يسعون وراء ما يخال لهم أنه حق».
قال آخرون: «ترى أن تمنعهم من الدخول معنا في البحث والمناظرة دليل على أنهم ما رأوا أن لهم من الأسلحة المناسبة لهذه المنازلة، فرأوا من الحكمة عدم إصلاء نارها كما يشف كلام مفتي أفندي». فكانت ملاحظات كهذه تزيدهم تمكناً في الديانة المسيحية، ونمواً في فهم حقائقها الإلهية.

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.