دراسة نسب المسيح

وهنا يجدر بنا أن نقف قليلاً لدراسة سلسلة نسب المسيح في إنجيلي متى ولوقا، لكي نشرح ما قد يبدو من تناقض في السلسلتين لغير العلماء وغير الدارسين. ففي إنجيل «متى» نجد أن «متى» قد عاد بالمسيح إلى إبراهيم الذي يُعتبر أبا للشعب اليهودي، وهو نفسه الذي أعطاه الرب مواعيده قائلاً: «وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلأَرْضِ» (تك ٢٢: ١٨) وعاد به في ذات الوقت إلى «داود الملك» ليعلن لنا أنه الوارث الشرعي لعرشه كما قال الملاك جبرائيل للعذارء مريم وهو يبشرها بأنها ستلد المسيح قائلاً: «وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ» (لو ١: ٣١ و٣٢).
أما في إنجيل لوقا فقد عاد البشير هناك بالمسيح إلى آدم متخذاً سلسلة نسبه من «مريم أمه» ليرينا أن «ٱلإِنْسَانُ ٱلأَوَّلُ مِنَ ٱلأَرْضِ تُرَابِيٌّ. وأن المسيح هو ٱلإِنْسَانُ ٱلثَّانِي ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (١ كو ١٥: ٤٧).
وهاك عدة ملاحظات جديرة بالعناية في دراسة سلسلة نسب المسيح في بشارتي متى ولوقا نذكرهما فيما يلي مستعينين بما كتبه في ذلك بنيامين بنكرتن، وهـ. س. هفرن.
(١) إنه بينما يذكر متى أن إبراهيم ولد إسحق وإسحق ولد يعقوب ويعقوب ولد يهوذا... حتى يصل إلى يوسف رجل مريم بأنه هناك يقول: «وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ ٱلَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْمَسِيحَ» (مت ١: ١٦) وهنا نلاحظ أن متى لم يقل: «ويوسف ولد يسوع» على غرار ما سبق من نسب، بل قال: «ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي وُلد منها يسوع» مؤكداً بهذا بأن يسوع ليس ابناً طبيعياً ليوسف بل أنه وليد مريم العذراء التي ولدته بالروح القدس.
(٢) لم يذكر متى من أولاد يعقوب الاثني عشر إلا يهوذا لأن منه جاء المسيح (تك ٤٩: ١٠).
(٣) لم يذكر متى أسماء النساء اللواتي افتخر بهن اليهود كسارة ورفقة، ولكنه ذكر أسماء نساء لم يقدر اليهود أن يفتخروا بهن، الأولى «ثامار» التي ذكرت لترينا أن خلاص الله هو للخطاة (متى ٩: ١٣) والثانية «راحاب» التي ترينا أن الخلاص بالإيمان (عب ١١: ٣١) والثالثة «راعوث» وهي ترينا أن الخلاص لكل من ياتي للاحتماء بالرب (را ١: ١٢) والرابعة «بثشبع» التي ترينا أن الخلاص هو بالنعمة وأبدي (٢ صم ١١ و١٢، مز ٢٣: ٣، عب ١٠: ٣٨ و٣٩).
(٤) نجد في سلسلة نسب المسيح في إنجيل متى أشخاصاً من مختلف الطبقات الاجتماعية، ففيها نجد راحاب الزانية. وإسحق الشاب الطاهر محب السلام، وقد رتب الله ذلك حتى يكون المسيح بحق «ابن الإنسان» أي «ابن الإنسانية» سواء أكانت الإنسانية الرفيعة، أو الإنسانية الوضيعة لأن المسيح جاء مشاركاً البشرية بكافة طبقاتها «كابن الإنسان» ومخلصاً وفادياً لها باعتباره «ابن الله».
(٥) في متى ١: ٨ نقرأ «يورام ولد عزيا» ولا يقصد بذلك ان يورام هو أبو عزيا، ولكن المقصود أن عزيا سليل يورام، لأن ما بين يورام وعزيا لا يذكر ثلاثة ملوك وردت أسماؤهم في السلسلة الواردة في (١ أخبار ٣: ١١ و١٢) وهم أخزيا ويوآش وأمصيا، وحذف أسماء هؤلاء الملوك كان قضاء إلهياً عليهم حسب الوعيد الإلهي القائل «وَيَمْحُو ٱلرَّبُّ ٱسْمَهُ مِنْ تَحْتِ ٱلسَّمَاءِ» (تث ٢٩: ٢٠). «َمَعَ ٱلصِّدِّيقِينَ لاَ يُكْتَبُوا» (مز ٦٩: ٢٨) من ثم لم يعترف الشعب بملكهم عليه إذ ثار وقتلهم (٢ أخبار ٢٢: ٨ و٩ و٢٤: ٢٥، ٢٥: ٢٧ و٢٨) وأسقطهم من جدول النسب الملكي. وقد قاد الروح القدس متى إلى هذا الأمر حين كتب إنجيله. لأنه كان يكتب هذا الإنجيل لليهود، وحذف بعض الأسماء من جداول الأنساب لبعض الأسباب كان أمراً مألوفاً لدى اليهود كما هو واضح من مقابلة ما جاء في سفر عزرا ٧: ١ - ٥ وأخبار الأيام الأول ٦: ٣ - ١٥).
ونلاحظ كذلك أن «عزيا» هو نفسه الملك «عزريا» وهذا واضح من مقارنة ٢ ملوك ١٥: ١ و٢ «فِي ٱلسَّنَةِ ٱلسَّابِعَةِ وَٱلْعِشْرِينَ لِيَرُبْعَامَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ، مَلَكَ عَزَرْيَا بْنُ أَمَصْيَا مَلِكِ يَهُوذَا. كَانَ ٱبْنَ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ ٱثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ، وَٱسْمُ أُمِّهِ يَكُلْيَا مِنْ أُورُشَلِيمَ» مع ما جاء في ٢ أخبار ٢٦: ١ - ٣ «وَأَخَذَ كُلُّ شَعْبِ يَهُوذَا عُزِّيَّا وَهُوَ ٱبْنُ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً وَمَلَّكُوهُ عِوَضاً عَنْ أَبِيهِ أَمَصْيَا... كَانَ عُزِّيَّا ٱبْنَ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ ٱثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ. وَٱسْمُ أُمِّهِ يَكُلْيَا مِنْ أُورُشَلِيمَ» ومن المألوف في الكتاب المقدس أن يكون للشخص اسمان كما كان اسم ابن داود الثاني وهو ابن أبجيايل امراة نابال الكرملي «كيلآب» (٢صم ٣: ٣) و «دانيئيل» ١ أخبار ٣: ١ في ذات الوقت وكما كان لدانيال اسم آخر وهو «بلطشاصر» (دا ١: ٦).
(٦) في متى ١: ١١ نقرأ «يكنيا وإخوته» والمقصود بإخوته هنا أعمامه الذين منهم «متنيا» أو «صدقيا» الذي جلس على العرش بعده، ويُدعى في (٢ أخبار ٣٦: ١٠) أخاه.
(٧) في متى ١: ١٢ نقرأ: «يكنيا ولد شألتئيل» وهذا لا يتعارض مع ما قيل في إر ٢٢: ٣٠: «ٱكْتُبُوا هٰذَا ٱلرَّجُلَ عَقِيماً» لأن هذا العقم هو من جهة الجلوس على العرش لا من جهة النسل كما قيل في الآية «اكتبوا هذا الرجل عقيماً رجلاً لا ينجح في أيامه لأنه لا ينجح من نسله أحد جالساً على كرسي داود وحاكماً بعد في يهوذا» ولم يأخذ شألتئيل ولا أحد من نسله العرش إلى أن جاء المسيح.
(٨) في متى ١: ١٢ نقرأ «شألتئيل ولد زربابل» والواضح من ١ أخبار ٣: ١٩ أن زربابل هو بن فدايا بن شألتئيل وقد حُذف اسم «فدايا» من الجدول بحسب عادة اليهود لسبب ما كما ذكرنا آنفاً.
(٩) في متى ١: ١٣ نقرأ «زربابل ولد أبيهود» وفي لوقا ٣: ٢٧ «يوحنا بن ريسا بن زربابل» وبالرجوع إلى (١ أخبار ٣: ١٩) نجد أن زربابل كان له ابنان «مشلام وحنانيا» وعلى ذلك يكون «مشلام» هو الاسم الثاني لأبيهود جد يوسف أو لعله حُذف لقصد إلهي من سفر أخبار الأيام كما يقول «قاموس وستمنستر Westmimister Dictionary» و «حنانيا» هو الاسم الثاني «ليوحنا» جد مريم العذارء ومعنى الاسمين واحد وهو «الرب رؤوف».
أما ريسا فمحذوف حسب عادة اليهود في جداولهم، ومن هنا يتبين لنا أن زربابل هو الجد المتوسط لعائلتي يوسف ومريم، كما أن داود هو الجد الأول لهما.
(١٠) الأسماء المذكورة في متى ١: ١٣ - ١٥ غير موجودة في أسفار العهد القديم، لأن أصحابها وجدوا بعد اختتام أسفار العهد القديم في فترة توقف الوحي بين ملاخي ويوحنا المعمدان، ومما لا شك فيه أن هذه الأسماء تطابق ما جاء في السجلات العائلية التي كان اليهود يعنون عناية تامة بها لحفظ أنسابهم وكان الذين يهملون هذه السجلات يرذلون كما نقرأ في سفر عزرا «هٰؤُلاَءِ فَتَّشُوا عَلَى كِتَابَةِ أَنْسَابِهِمْ فَلَمْ تُوجَدْ، فَرُذِلُوا مِنَ ٱلْكَهَنُوتِ» (عزرا ٢: ٦٢). وبغير شك أن الله قد رتب أن تحفظ سلسلة أنساب المسيح سليمة من آدم إلى أن وصلت إليه، وكان الأشخاص الذين تتكون منهم هذه السلسلة يمتازون بصفة واحدة لجميعهم هي صفة «الإيمان» سواء كان الشخص هو «راحاب الزانية» التي قبلت الجاسوسين بسلام، أو «داود» مرنم إسرائيل الحلو، وهذا السجل المتقن الذي يحوي أنساب هذه الأجيال ويربطها معاً يؤكد لنا وحي الكتاب المقدس.
(١١) أعيد اسم داود الملك في فاتحة المجموعة الثانية من مجموعة الأسماء لأنه المورث الأصلي والأول للعرش، ورأس العائلة المالكة، وبذلك تكون هذه المجموعة أربعة عشر اسماً كسابقتها، وأصبحت المجموعة الثالثة أيضاً كسابقتيها بإضافة اسم ربنا يسوع المسيح في ختامها كالوارث الحقيقي والأخير للعرش، كما نقرأ: «يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ دَاوُدَ» (مت ١: ١) وكما قيل أيضاً «وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ» (لو ١: ٣٢).
(١٢) كلمة جيل التي وردا مراراً في الأصحاح الأول من إنجيل متى معناها دور من حياة العائلة بمعدل حياة الشخص أو مدة حكم الملك، وتأتي بمعان أخرى منها: جملة الناس العائشين معاً في وقت واحد (تك ٧: ١) أو مدة من الزمن تساوي مائة سنة (تك ١٥: ١٣ - ١٦)، أو صنف من الناس (تث ٣٢: ٥) أو وقت من الأوقات (لو ١: ٥٠).
(١٣) لا يجب أن يفوتنا الفرق بين سلسلة نسب المسيح الواردة في (مت ١: ١ - ١٧) وتلك الواردة في (لوقا ٣: ٢٣ - ٣٨).
(أ) فالأولى هي سلسلة نسب يوسف بن سليمان بن داود، والثانية سلسلة نسب مريم العذراء بنت ناثان بن داود، وقد ذكر متى سلسلة النسب متصلة بيوسف رجل مريم، لا على اعتبار أنه والده الجسدي بل على اعتبار أنه رجل مريم التي وُلد منها يسوع، وبالتالي على اعتبار أن يسوع منتسب إليه قانوناً ولذا يصبح الوارث الشرعي لعرش داود أبيه وهذا يوضحه ما جاء في إنجيل لوقا بالكلمات «وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ٱبْنَ يُوسُفَ» (لو ٣: ٢٣) وما قالته مريم أمه له حين ذهبت مع زوجها يوسف تفتش عنه في الكلمات: «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هٰكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!» (لو ٢: ٤٨).
(ب) متى كتب إنجيله لليهود عن «مسيا» الذي ينتظرونه ابن داود فبدأ بإبراهيم أبي اليهود، أما لوقا فكتب إنجيله لليونان عن المسيح «ابن الإنسان» فوصل به إلى آدم أبي الجنس البشري كله.
(ج) في إنجيل متى نقرأ أن «يعقوب ولد يوسف رجل مريم» ولكننا نقرأ في إنجيل لوقا أن «يوسف بن هالي». فكيف نوفق بين هذين النصين؟ وكيف يكون يوسف بن يعقوب وبن هالي في آن واحد؟! والحل البسيط هو أن يوسف كان بن يعقوب بالتناسل الطبيعي، لكنه كان ابن هالي شرعاً لأنه تزوج ابنته مريم العذراء ولذا وضع اسمه بدلاً عن اسمها كعادة اليهود، ومن هنا نتبين أن «يوسف ومريم» كانا من سبط يهوذا ومن العائلة المالكة.
(د) جاء في متى ١: ١٢ أن «يكنيا ولد شألتئيل» بينما نقرأ في لوقا ٣: ٢٧ أن «شألتئيل بن نيري» ولا تعارض في القولين فإن شألتئيل هو ابن يكنيا فعلاً، وابن نيري شرعاً لأنه أخذ ابنته زوجة فوضع اسمه مكان اسمها كعادة اليهود.
وهكذا يظهر لنا أن المسيح قد جاء من نسل «داود» وتمت في شخصه المبارك النبوات الواردة بهذا الخصوص.
والأن لنعد من جديد إلى أسئلة التلاميذ والمسيح.. فالتلاميذ يتساءلون وهم يرون سلطان المسيح الفائق على الطبيعة قائلين: «من هو هذا؟» والمسيح يسألهم: «من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟» «وأنتم من تقولون إني أنا؟» ويسأل الفريسين قائلاً: «ماذا تظنون في المسيح؟» وكل هذا ليثير تفكير تلاميذه والمحيطين به ليتأكدوا بأنفسهم من حقيقة شخصه.
فمن واجبنا إذاً أن نلم بكل المعلومات عن شخصية المسيح الفريدة، لنعرف حقيقتها الأكيدة.
ويستطيع المرء إذا تجرد عن الهوى، وبذل الجهد الضروري، وطرح جانباً التعصب الأعمى، وما توراثه من آراء خاطئة، ودرس الكتاب المقدس بذهن مفتوح ، أن يتبين في وضوح حقيقة شخص المسيح.

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.