رواية الباكورة الشهية - 8
الفصل الثامن
أمّا ما كان من المذكورين فإنهم دخلوا سجنهم فرحين، ولمّا شاع في البلد خبر سجنهم اضطرب الناس لذلك سيما الذين لم يعرفوا السبب. فما كنت تسمع إلا الغوغاء والضوضاء في الأسواق والشوارع، فانقسم الناس بعضهم على بعض، وكثر بينهم القيل والقال. وكان الشاعرون بما لأولئك الأدباء من الفضل وجميل الأثر يقولون: لم سجنت الحكومة يا ترى هؤلاء وما ذنبهم وما جريمتهم؟ وصاروا يتذمرون على الوالي والمجلس ناسبين ذلك إلى غايات نفسانية. لكن بواسطة أهل التعقل والحكمة هدأ الحال شيئاً فشيئاً.أما ما كان من الشيخ ناصر الدين وذويه المذكورين مع بعض الحسّاد فإنهم بعد أن أشاعوا في كل أنحاء البلدان السبب الموجب لحبسهم هو انقلابهم لدين النصارى، عمدوا إلى تدبير دسيسة فعّالة ضد أولئك المساكين لإرواء غليل قلبهم الظامئ إلى الانتقام منهم. فاجتمع جماعة في بيت الشيخ أحمد الكيلاني للمؤامرة، وبعد الأخذ والرد قال الشيخ عبد الكريم الصائب: الأصوب أن نتخذ الوسيلة الفعالة لإعدام أحدهم بوجه شرعي، وإن تم لنا ذلك لا يلبث أن يرجع أكثرهم، وربما آل ذلك إلى إرجاع جميعهم، لأنه كما لا يخفى ليس من الممكن في هذا العصر إقناع الحكومة بإعدامهم أو إعدام أكثرهم بالنظر إلى كمال الحرية الدينية في أكثر الممالك وأعظمها، فعليه لا يناسب قط الشروع في تدبير دسيسة على جميعهم أو أكثرهم، لأننا لا نفلح في ذلك بل على واحد منهم لا غير. فوقع عندهم هذا الرأي موقع الاستحسان، ثم أخذوا يتشاورون في من منهم يكون أنسب لجعله غرضاً لسهام مكيدتهم، فقال هذا فلان وقال ذاك فلان، إلى أن قال الشيخ العطار: «أرى أن يكون أكثر مناسبة لذلك عمر الحارس، فإن هذا الرجل لا عصبة له تذكر، وهو مكروه من الأكثرين لخشونة طبعه. وعلى ظني أنه هو بالأكثر الذي عظم هذا الفساد، فإذا قوصص بالإعدام لا يلبث الآخرون أن يرتدوا إلى دينهم». فأذعن جميعهم إلى هذا الرأي وعولوا عليه، ما خلا الشيخ إبراهيم تقي الدين، فإنه قال: «عجباً يا شيخ علي من إنزالك الصفات الشريفة منزلة الأمور الذميمة، فلا تؤاخذني إذا قلت أنكم غير محقين بتوجيه سهام الهلاك ضد شخص كهذا، وما يضرنا أن يكون الإنسان حراً فيما يفتكر ويعتقد؟» أجابه الشيخ أحمد الكيلاني: «لا تؤاخذنا يا شيخي، إنا دعوناك للاشتراك معنا في أمر هو لمصلحة الدين والأمة، والظاهر أن ذلك لا يهمك، فإذا شئت حضرتك الأنصراف فلا بأس. على إنا نرجوك الكتمان على ما سمعت». أجاب: «نعم». وقام للحال وذهب لسبيله وهو يدعو ويقول: «لا نجح الله مسعاكم، ولا وفقكم إلى إيذاء هذا الرجل الكريم». وبعد انصرافه قال الشيخ عمر الكيلاني: «لا تستغربوا ما قال شيخنا الغابر، فإن بيت تقي الدين موصوف بالمعارضة إن قلت لأحدهم «الخل حامض قال بل حلو» فقال الشيخ ناصر الدين: «قلما تخلو الجماعة من الحمقى والمجانين، فما لنا وله؟ دعونا نرجع إلى ما كنا عليه من الحديث فقال الشيخ أحمد: «الأصوب أن نسترخص الدخول عليهم مظهرين لهم كل حب وإخلاص، حتى نجلبهم نحونا، ومن ثم نأخذ معهم بالحديث بما أمكن من الرقة والدعة، ونجتهد لنجعل حديثنا بالأخص مع المذكور. ومتى تمكنا من ذلك نسأله هذين السؤالين هل القرآن من الله أم لا؟ وبما أن المذكور من طبعه البليد لا يعرف أن يتكلم إلا ما في قلبه بكل سذاجة، لا بد أن يجاوب حالاً على ذلك، فإن أجاب بالإيجاب يكون قد رجع مسلماً، وإن بالسلب نكون قد تمكنا من بلوغ المرام، فنسكب جوابه في قالب يوجب إعدامه شرعاً». فاستحسن الجماعة هذا الرأي، غير أن بعضهم قال: لا يخفى عليكم أن من طبع ابن الحارس قلة الكلام، وغالباً إذا جرى الحديث على ألسن جماعة كان بينهما يكون آخر من يتكلم، لا سيما إذا كان في الحضرة من هو أرفع مقاماً وأغزر علماً، فلست أرى من السهل جذبه إلى الحديث. قال الشيخ أحمد: «نعم ولكنني أرجو أننا بإطالة الحديث معهم بالحكمة والملاطفة نقتاد المذكور للاشتراك في الحديث، ومن ثم نبذل الجهد بحصر الحديث معه والله الموفق». فقر قرارهم على ذلك، ثم قال بعضهم: أرى أنه لا يوافق دخولنا جميعاً إليهم لئلا ينتبهوا إلى المكيدة فنخسر ثمرة اجتهادنا، فعندي إن حسن لديكم أن يدخل عليهم ثلاثة منا لا غير ممن هم أوفر إناءة وادهاء.ومن ثم اختاروا لذلك الشيخ أحمد الكيلاني والشيخ علي العطار والحاج ياسين قباقبي هذا وأن الوالي وذويه مع بعض أعضاء المجلس كانوا يتوقعون علة موجبة لإعدام بعض أولئك المتنصرين، رهبة للبقية وغيرة للناس، فلم يجدوا لأن القاضي والمفتي كانا يقاومان بكل جهدهما هذا الميل، متخذين ما أمكن من الاحتياط لدفع هذا البلاء، إلى أن كان اليوم الرابع من حبسهم وإذ جاء الديوان المشايخ الثلاثة المذكورون فاسترخصوا من دولته الدخول إلى المذكورين بعلة قصد إنذارهم ونصحهم، فرخص لهم بذلك. ولما دخلوا إليهم سلموا عليهم سلام الحب والوداد بغاية الاعتبار والوقار، مظهرين ما أمكن إظهاره من إحساسات الحنو والشفقة، ثم جلسوا بكل احتشام ممسكين عن الكلام مقدار نصف ساعة عابسين متكئبين. ثم فتح الشيخ أحمد الكيلاني فاه وقال بنغمة التودد والتحبب:
«يا سادتي وإخواني الأحباء، إني من فؤاد مضطرم بنار الحزن والأسف أقول: إنّ أمركم هذا وما قد جرى لكم قد شوش البلد وأي تشويش، وصارت مسألتكم هذه حديثاً عموماً للصغار والكبار، فمن الناس من استخف عملكم هذا ناسبينه إلى فساد في المخيلة طرأ على عقولكم السليمة، ومنهم من تحير منه وظنه صالحاً استناداً على غزارة عملكم وكرم طباعكم وقد نشأ عن ذلك كما لا يخفى انقسامات كثيرة، وتحزبات ومجادلات عنيفة في الأسواق والمخازن والمنازل. فلما بلغنا هذا الأمر المهم عندنا اعترتنا الحيرة والدهشة من جراء ذلك. فبعد التفكر بذلك ملياً قلنا لا بد لنا من زيارتهم إن شاء الله، والتحدث معهم بهذا الأمر، علنا نحصل من ذلك على فوائد نحن نجهلها، فنناشدكم الله يا إخوان أن لا تكتموا عنا أمراً مفيداً ولا تخفوا عنا ما نسألكم عنه (فانتبه حينئذ عمر أفندي زاكي إلى ما طوى من رداءة الغاية وسوء القصد تحت رداء طلاوة هذا الكلام، وهمس في أذني الشيخ علي أني لا أرى هؤلاء إلا أفاعي آتين بدسيسة ومكيدة مدبرة كما يظهر لك من ملق كلامهم وسرعة تغيير هيئات وجوههم، وزيادة تحديدهم علينا في الكلام فلنكن على حذر). وقبل أن نسأل حضراتكم شيئاً نقول نعم أننا نتوق أن نراكم يا أحباب عدلتم عما عولتم عليه من هجر الدين الإسلامي، ولكن إذا كان ما أنتم متمسكون به حقاً وصلاحاً فلا نرضى لكم بالرجوع لأنه على كل حال ينبغي أن يفضل صالح النفس على صالح الجسد والآخرة على الدنيا، ولذا أتيناكم بكل إخلاص طوية لنتحدث معكم عن هذه الأمور، فأملنا بحبكم إجابتنا عما نسألكم عنه بجلاء وبيان».
أجاب الشيخ أحمد عبد الهادي: «تفضلوا سلوا ما بدا لكم».
قال الكيلاني: «قد علمنا مما شاع منكم أنكم بعد الفحص الواقي رأيتم أن الكتاب التوراة والإنجيل لم يشبه تغيير ما، بل هو باق كما أنزل من الله، فأخذتنا الدهشة والحيرة لأن الكتاب الموجود الآن بأيدي اليهود والنصارى ينافي القرآن الشريف كل المنافاة، من حيثية عيسى ابن مريم عليه السلام لما فيه من التصريح بلاهوته وصلبه وموته فداء عن العالم الأمور المنكرة في القرآن. أكاذب القرآن في إنكاره ذلك؟ أليس هو منزل من الله؟ نرجوكم الإجابة».
فتوقف المذكورون عن الجواب لما لاحظوا ما تحت هذا السؤال من ردئ الغاية. وبعد برهة قال عمر أفندي زاكي: لا يلزمنا يا أصحاب أن نجيبكم على هذا السؤال الذي لا نرى له محلاً، ويكفي ان نقول لكم أن الكتاب ما تحرّف قط ولا تغير في غايته وقضاياه، ولذلك أدلة وبراهين قاطعة محال نقضها بوجه من الوجوه: ولا تؤاخذوني إذا قلت لكم إني لا أراكم مخلصين النية من جهتنا، بل أخالكم كجواسيس جئتم تتجسسون حريتنا لتصطادوا من أفواهنا شيئاً تشتكون به علينا. فقالوا بلسان الشيخ العطار: «معاذ الله أن نكون هكذا. لا تظنوا فينا السوء يا إخوان. قسماً بالله العلي العظيم إننا نحبكم كأنفسنا، وما جئناكم إلا بكل إخلاص قصد الاستفادة، لأنه إذا كان حقيقة التوراة والإنجيل لم يتحرّفا ولا تغيرا من خصوص المسألة فيكون القرآن ليس من الله. وإن كان منزلاً من الله فبلا شك يكون اعترى الكتاب تغيير عظيم. فهذه الأفكار أزعجتنا وأقلقتنا جداً حتى لم نعد نجد راحة لأنفسنا وطار عنا نومنا، فقلنا من ثم الأوفق لنا إذاً أن نزور أولئك الإخوان في سجنهم ونتحدث معهم. وعليه جئناكم بعلة أننا قاصدون نصحكم وإنذاركم، ولكن في باطن الأمر لنستفيد ونتنور من جهة هذا الأمر وأنتم تكسرون خواطرنا باتهامكم إيانا بسوء الغاية. سامحك الله يا عمر أفندي، فها نحن ننصرف عنكم». وتظاهروا كأنهم يريدون الانصراف، فقال الشيخ علي: «كلا يا إخوان لا تذهبوا، بل قد آنستمونا. أهلاً وسهلاً بكم فنرجو أن لا تؤاخذوا أخاكم عمر أفندي على ما قال وتحديدكم في السؤال هل القرآن إذا كاذب، مما يدعونا كما لا يخفى عليكم إلى هذا الظن على أن بعد الظن إثم. فإن كان عندكم يا إخوان شك في صحة التوراة والإنجيل فعليكم بدرس التوراة التي بيد اليهود، ومقابلتها على الإنجيل الكائن بيد النصارى، عسى أنكم بنعمة الله ترون فيهما كما قد رأينا من المطابقة المدهشة. ثم قابلوا الإنجيل على القرآن». فقاطعه الشيخ أحمد الكيلاني قائلاً: «قد فهمنا يا سيدي مقالك، إلا أن الاعتقاد بعدم تحريف الكتاب هو نفس إنكار القرآن». فأجفل الشيخ علي من تكرار هذا السؤال وامتنع من الجواب ريبة بإخلاص هؤلاء الرجال، فكان المتنصرون في هذه المفاوضة أو بالحري المحاتلة والمصارعة على غاية ما يكون من الاحتراز لئلا يفوهوا بكلمة تكون علة لازدياد الوبال عليهم. فقال الحاج ياسين قباقبي: «إني لأعجب من تجفلكم منا يا إخوان. أذئاب نحن؟ (قال عمر أفندي سراً لا شك في ذلك) أما نحن إخوانكم هل رأيتم أو سمعتم عنا شيئاً ردياً يجفلكم فلماذا تحاولون عدم إفادتنا؟ أجابه السيد عمر الحارس: «إن إلحاحكم علينا بهذا السؤال الذي لا لزوم له يرينا بخلوص نياتكم من جهتنا ويدعونا للتوقي والحذر. ألا تعلمون أن خروجنا من الإسلام هو الجواب لسؤالكم، فأي محل إذا للإلحاح به علينا؟». قال الكيلاني، وقد تعدل في الجلوس ومسح شاربيه ولحيته: «أحسنت فيما قلت يا سيد عمر، ولكن أليس هو منزل بالوحي على محمد» (لم يقل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كعادة المسلمين عند ذكره لتتميم المكيدة) قال عمر بصوت منخفض: «لو كنت أعتقد ذلك ما صرت نصرانياً» فلما سمع المذكورون منه ذلك طرحوا عنهم حينئذ أثواب المداهنة والمخاتلة، ورفعوا عن وجوههم برقع التنكر مظهرين حقيقة حالهم، وذلك أن الكيلاني غيّر نغمة اللطف من كلامه قائلاً بصوت غاضب: «إذا بموجب كلامك هذا القرآن ليس من الله، وإن محمد المصطفى نبي كاذب ورسول غاش غش الناس بأكاذيبه، حاشاه حاشاه من ذلك قد جدفت يا عمر على القرآن والرسول تجديفاً لا يحتمل ولا يطاق. الله أكبر. إلى هذا الحد. أبهذا المقدار يكون الافتراء والتجديف على الله ورسوله؟ أهكذا تهينون القرآن والنبي والإسلام؟ وإذ كان هذا الكلام بغاية الحدة والارتفاع وكان إذ ذاك السيد عبد القادر الفصيح والشيخ عبد الكريم الصائب والحاج قدور الطيش ومحيي الدين ابن الشيخ ناصر الدين مع آخرين من ذوي الجهالة والطيش يجولون حول السجن مراقبين الحال ومنتظرين مثل هذا الكلام كعلامة دعوة لهم للهجوم وإثارة الهيجان على المذكورين حسبما كان الاتفاق بينهم، فلما سمعوا ذلك صاحوا بفم واحد: «يا لدين محمد، الله أكبر على الكفّار» وهجموا على باب السجن قائلين بأعلى الصوت: «أأنت يا ابن الحارس تجدف على القرآن العزيز، وعلى نبي الله ورسوله الأعظم؟ أتقول أن القرآن ملفق من الناس ومحمداً كاذب بادعائه النبوة والرسالة؟». فتأثرت الناس وهجموا ليدخلوا يختطفوه فمانعتهم الضابطة وصدوهم عن ذلك، فأوقعوا الضرب بهم فقويت الضجة وعلت الصيحة فتهافت الناس من كل جانب إلى ذلك المكان. ولو لم يتدارك ذلك الأميرالاي بالعسكر الشاهاني والطابور أغاسي بالضابطة والجندرمة الذين بادروا سريعاً لإخماد الفتنة لكان تعاظم الخطب واتسع الخرق على الراقع. ولما هدأ الشعب جلس الوالي على كرسي الولاية وأمر بإحضارهم ولما مثلوا بين يديه نظر إليهم بعبوسة وقال لهم: «لماذا أثرتم هذا الشعب القبيح في دار الحكومة؟ هل تظنون أنكم بعملكم هذا الخالي من الحكمة والأدب تنتصرون للنبي والقرآن؟» أجابوا إننا نتوسل إلى حضرة أفندينا أن يسمعنا بحلمه، وبعد ذلك يفعل بنا ما يحسن في عينيه فقال: «تكلموا» لا يخفى على دولة أفندينا أنه إذ كان عبيدكم في الديوان بسبب أشغال خاصة مررنا على المحل المسجون فيه أولئك الرجال المتنصرين، فرأينا عندهم الشيخ أحمد الكيلاني والشيخ علي العطار والحاج ياسين قباقبي، وسمعناهم يتحدثون وينذرونهم فذهبنا كل إلى شغله وقلنا دعوا هؤلاء العلماء يخلون بهم عسى أن يقنعوهم بالرجوع إلى الإسلام. ثم بعد نحو ساعة من ذلك اتفق أن بعضنا مروا في رجوعهم على ذلك المكان، فسمعوا عمر ابن حسن الحارس يقول بحدة وصوت مرتفع أن القرآن ليس من الله، وأن محمداً القريش كاذب بادعائه النبوة والرسالة. رجل غاش محتال احتال على العرب وغشهم فهرولنا إلى ذلك المكان لنعلم ما الحادث، فلما طرق آذان عبيدكم هذا الكلام التجديفي من مرتد لئيم لم نسمعه من نصراني ولا يهودي، صار الضيا في أعيننا كالظلام، وثارت في قلوبنا الحمية الدينية والنخوة الإسلامية حتى لم نتمالك عنه، فحصل ما حصل من الشغب والاضطراب فنسترحم إن حسن في عيني أفندينا الإغضاء عما قادتنا إليه الطبيعة لدى سماعنا ما لا يطاق ولا يحتمل والأمر لولي الأمر افندم. فلما سمع الوالي هذا الكلام راق خاطره وأمرهم بالجلوس فجلسوا. ثم أمر بإحضار الكيلاني ورفيقه ولما مثلوا أمامه أمرهم بتقديم دعواهم رسمياً على عمر الحارس المذكور ففعلوا وهاك صورة العرض.
دولتلو أفندم حضرتلرى: يعرض هؤلاء العبيد أننا لفطر تأثرنا من ضلال هؤلاء الرجال بارتدادهم عن الإسلام رغبنا أن يكون لنا شركة في إنذارهم ونصحهم ما أمكن، فدخلنا إليهم بالرخصة من دولتكم، وبذلنا الجهد في مكالمتهم بما أمكن من الملاطفة والمودة، فلم يكن منهم إلا الصد والعناد. وإذ قلنا لهم أخيراً أن القرآن ينكر كون عيسى بن مريم إلهاً وأنه صُلب ومات. أجاب أحدهم وهو عمر الحارس: القرآن ليس منزلاً من الله. قلنا له أن نبي الله ورسوله محمد قد نطق به. قال هه هه ضاحكاً ضحكة الاستخفاف والازدراء: ومن أين لمحمد النبوة؟ رجل قريشي كذاب غاش محتال، قد غش العرب بأكاذيبه وتخيلاته. فلما سمعنا ذلك من المذكور نفرنا منه بشديد الكره والغضب، ووبخناه بعنف على تجاديفه هذه، فسمع ذلك من كان خارجاً وجرى ما قد جرى من التشويش والاضطراب، إلا أننا نشهد الله أن رفاقه اغتاظوا جداً مما فاه به وانتهروه على ذلك فهذا ما اقتضى عرضه لدولتكم ملتمسين أن حسن لديكم إجراء ما يحسن قصاصاً لهذا المفتري المجدف على الله ورسوله حسما لمثل هذه الافتراءات المؤثرة والمهيجة وبكل الأحوال الأمر لمن له الأمر أفندم.
فلما اطلع دولته على العرض أحاله على المجلس، ثم أمر بإرجاع أولئك المشاغبين إلى السجن ليحبسوا مدة وفقاً للنظام. وبعد اطلاع المجلس على العرض أمر دولته فدعا عمر الحارس وأقيمت الدعوى، فقال له الرئيس: «إن هؤلاء الرجال قد اشتكوا عليك لدولة أفندينا بأنك قد جدفت على القرآن الشريف والرسول المصطفي صلى الله عليه وسلم فما تقول؟» أجاب: «كلا يا سادة، إني قط لم أقل هكذا ولا فهت بشيء من هذا الكلام. وكل ما قلت في أثناء الحديث هو أن في القرآن كثيراً من الكلام الصالح الجيد ومن كلام الكتاب. فقال لي الشيخ أحمد الكيلاني: ولكن أليس هو منزل بالوحي على سيدنا محمد؟: قلت: لو كنت أعتقد ذلك ما صرت نصرانياً. حينئذ رفع صوته بكل حدة وسخط وبدأ يتهمني باطلاً بالافتراء الشنيع المرقوم في هذا العرض، ويصيح ويعيد هو ورفيقاه حتى أحدث بلا سبب هذا الهيجان المنكر، الأمر غير اللائق بشيخ فاضل نظيره؟» فتبسم القاضي وقال: «على كل حال ما كان واجب منكما الخوض في هذا الحديث».
ثم قال الرئيس: «إن معنى كلامك هذا هو كما شكي عليك، فضلاً عن كونك كما تقرر فهمت بالتجديف على القرآن والنبي الأعظم أمام شهود كثيرين». أجاب: «أما قول حضرتكم أن معنى كلامي هو هكذا فأقول أن كل الأمم غير المسلمة لا يعتقدون بإنزال القرآن ولا بنبوة محمد، وإذا سئلوا كما سئلت لا بد يجاوبون كما أجبت، فهل ذلك يستوجبون القصاص؟ وأما إني فهت بما قد شكي عليّ فهو كما يعلم الله محض افتراء من المشتكين، ومعاذ الله أن أفوه بسفاهة كهذه، وما الشهود إلا خصوم يرغبون في إهلاكي. ولا يخفى على أذهان حضراتكم أن كثيرين يستجيزون الكذب وشهادة الزور إذا كان ذلك لغاية صالحة، فإذا كان يحكم عليّ بناء على شهادة شهود فقصاصي صار محتوماً، إذ قد شهد جم غفير حين الشغب والهجوم على سجننا أني افتريت وجدفت كذا وكذا، وأن ذلك كان على هيجانهم وهجومهم. وهل للشرع أن يقبل شهادة مسلم على متنصر حديثاً من الأمة الإسلامية في الوقت الذي هو فيه واقع تحت سخط الامة والحكومة ومسجون بسبب ذلك؟ فأنا ألتمس محاكمتي على محور الشريعة والنظام». فقال الوالي: «اسكت، لا نحاكمك إلا بالحق». ثم أمر بإرجاعه إلى السجن إلى اليوم التالي.
وفي الغد بعد أن التأم المجلس بحضرة الوالي وأخذ في المشورة حكم الأكثرون بوجوب إعدامه. أما القاضي والمفتي فقاوما ذلك وقال القاضي: «لا شرعاً ولا نظاماً يستوجب الموت في ظروف كهذه». فقاومه الرئيس قائلاً: «يلوح عليك الغرض مع هؤلاء المفسدين». فضحك القاضي وقال: «حاشا لي من ذلك، ولكن إذا شئنا أن نحكم في مجلس السلطان ينبغي أن لا نحكم إلا بما يوافق شريعة المملكة فعضده المفتي في ذلك قائلا: «من الواجب حين النظر في الدعاوى في محاكم الحكومة أن نلقي جانباً كل غرض وهوى ومراعاة الميل الديني والجنسي. وبما أن مملكتنا مؤلفة من أمم وأجناس مختلفي الدين والمذهب، لذلك لا يكون الحكم في الدعاوى بمعزل الشرع والقانون السلطاني، فعندي إن وجد من باب الشرع والنظام مسوغ لإعدام هذا المدعى عليه كان به وإلا فلا».
فبعد ملء التأمل في هذه المسألة قال الوالي: «لنرى أولاً الشهود ونسمع شهاداتهم». ثم أمر دولته المشتكين أن يقدموا شهودهم، ثم أومأ إلى القاضي أن يدنو منه، ولما دنا إليه قال له همساً: «حسناً قلت، ولكن دعنا نرى الشهود هل هم من الرعاع أم من ذوي التعقل وحسن الذمة؟» فقدم المذكورون شهوداً كثيرين لم ير الوالي والمجلس شهادتهم أساساً كافياً لبناء الحكم على المشهود عليه. أخيراً قدموا ثلاثة شهود مسنين مشهوداً لهم بحسن السيرة والسريرة وهم السيد حسن إبراهيم والحاج محمد أفندي نور الدين والحاج يحيى الحلاق. فأوقفوا جانباً وأمر بإحضار المشكو عليه. وبعد حضوره قال القاضي للمشتكين: «أين شهودكم يا إخوان على هذا الرجل». فوقف السيد حسين وقال بعد أن أقسم القسم الشرعي على أن لا يقول إلا الحق كما رأى وسمع: «أشهد الله. أني إذ كنت نهار أمس في هذا المجلس نحو الساعة السابعة، مررت بالمحل المسجون فيه المتنصرون، فرأيت عندهم هؤلاء الإخوان الثلاثة، وهم آخذون معهم في الحديث، فوقفت قليلاً لأفهم موضوع حديثهم فسمعت هذا الرجل عمر يقول التوراة والإنجيل ما تغيرا قط ولا تحرّفا، وما فيهما من الكلام عن ألوهية عيسى المسيح وصلبه فداء عن العالم هو حق لا مراء فيه، قال له الشيخ أحمد الكيلاني أن ذلك ينافي القرآن، فهل تحسب القرآن كاذباً؟ قال عمر نعم أن القرآن ليس من الله. قال الشيخ ألا تعلم يا سيد عمر أنك بقولك هذا تنسب النبي محمداً إلى الكذب والبهتان؟ قال لا ريب بكونه كذاباً محتالاً ادعى النبوة والرسالة من الله كذباً وبهتاناً. فهذا ما سمعت وشهدت به». وشهد الثاني قائلا: «إذ كنت نهار أمس بعد الظهر بنحو ساعة آتياً إلى مأمور قلم الأملاك، فلدى وصولي إلى محل سجن هذا الرجل ورفاقه سمعته يقول بعجب وحدة: إن القرآن غير منزل من الله، وأن محمداً المدعو نبي الله ورسوله ليس هو نبي الله ولا رسول منه. هذا ما سمعته منه، به أشهد أمام رب العالمين». وشهد الثالث قائلاً: «أشهد والشهادة لله بينما كنت نهار أمس مدعواً من قبل جناب الدفتردار للحلاقة قبل الظهر، ففي رجوعي بعد الظهر وأنا مار على غير انتباه أمام حبس هذا الرجل ورفاقه، سمعت قائلا يقول بصوت الحدة والغيظ: نعم ليس القرآن من الله. فوقفت في مكاني، وتطلعت في ذلك المكان فرأيت السيد حسين إبراهيم واقفاً على الشباك وهؤلاء الإخوان داخلاً، فقال له الشيخ أحمد الكيلاني: مهلاً يا سيد عمر، إنك بهذا القول تنسب النبي محمد إلى الكذب. أجاب نعم نعم على كل محمد كاذب بادعائه النبوة والرسالة. فهذا ما سمعته وشهدت به». فلما سمع الوالي والمجلس هذه الشهادة المتينة الصريحة من شيوخ أتقياء كهؤلاء، امتلأوا حنقاً وغضباً. ثم قال رئيس المجلس: «ما تقول يا رجل بهذه الشهادة من هؤلاء المعتبرين؟» أجاب: «بارك الله فيهم وزادهم اعتباراً، احكموا على عبدكم بما تريدون». قال: «بل إن كان عندك فادفع واحتج على نفسك». قال: «أتجاسر أن أقول حقاً إني لمتعجب ومنذهل كيف يمكن الرجال كهؤلاء، عقلاء في سن الشيخوخة يشهدون هكذا زوراً وبهتاناً. أأنتم يا سادتي سمعتم مني هذا المقال؟ سامحكم الله. كيف تعطون جواباً لله عن ذلك في يوم الحشر والموقف العظيم؟ لا بأس، الموت خير من البقاء في عالم شرير كهذا». قال له الوالي: «اخرس أيها الخبيث المجدف، ولا تطعن هكذا بمن هم خير منك وأصدق». فقال بعض الحاضرين في سره «بل هو الأفضل والأصدق». ثم أمر به فرد إلى سجنه.
وبعد إخراج المشتكين والشهود أعيدت المشورة أيضاً بخصوص المذكور، فانجلت عن قرارهم كافة بإعدامه. وكتبوا بذلك مضبطة أمهرها الجميع. وبعد أن قدموها لدولة الوالي قدم إشارة برقية إلى الباب العالي تتضمن سورة المسألة، ومن ثم فض المجلس.
وبينما كان القاضي والمفتي ذاهبين في طريقهما التفت القاضي إلى المفتي وقال: «كيف رأيت يا أخي هذه الشهادة من هؤلاء الشيوخ؟ قال: «ما أراها إلا زوراً. والعجب كيف أن صائمين مصلين متورعين مثل هؤلاء يشهدون هكذا زوراً لا سيما في مسألة خطيرة كهذه، ويقسمون بالله العلي أن لا يقولوا إلا الصحيح ويستشهدونه تعالى على افترائهم هذا». قال القاضي: «إننا رغماً عن قلوبنا قد ختمنا على وجوب إعدام هذا البريء، ومن يعلم إذا كانت الأحوال لا تدعونا أيضاً للحكم بمثل ذلك على غيره من رفاقه؟ وما دام المشهود لهم بالورع والتقوى كالمذكورين يشهدون زوراً لإهلاك البريء لسبب تخلفه عنهم في الدين صار إعدامهم بوجه شرعي سهلاً جداً. لذلك أرى الاستعفاء من وظيفتي والرحيل من هذا البلد». قال المفتي: «لا تخش ذلك يا مولاي، واحملك على الطمأنينة بحول الله تعالى. لا تسقط شعرة من رؤوس الباقين، لأنه كما لا يخفى عليك أنه قد بلغني من عدة رجال ممن يوثق بمقالهم أنه استحسن إعدام أحد العلماء المتنصرين رهبة للآخرين وعبرة للناس. وأنه قصد بذلك عمر الحارس كونه من عائلة ليست ذات أصالة، ولا عصبة له يخشى معارضتها أو بأسها». فقال له القاضي: «أشكر الله وفضلك قد أرحت بالي». ثم افترقا كل إلى مكانه.
أما ما كان من أولئك الأسرى المساكين فإنهم خافوا واضطربوا جداً من جراء ذلك، ما خلا الشيخ علي، فكان حينئذ هادئاً ساكناً ينظر برزانة واستخفاف إلى أولئك الأوباش وهم يضجون ويهيجون ويزمجرون. ولما تحققوا تصميم دولة الوالي والمجلس إلى إعدام المومأ إليه انكسرت قلوبهم وأي انكسار، وبكوا بكاء مراً، لأنه كان فتى في عنفوان الشباب، ذا ولدين بسن الطفولية، حسن الطلعة جميل المنظر عذب اللفظ معتدل الرأي، وبالإجمال كان رجلاً عزيز المثال بين أترابه. ولما دخل المذكور إليهم هذه المرة بعد ما تعرف بالشهود كما مر وعلم بالمضبطة التي خرجت عليه، جلس بينهم على ركبتيه مقدار نصف ساعة ساكتاً مطرقاً، فلم يستطع أحد منهم أن يكلمه بشيء، ثم رفع نظره إليهم وعيناه محمرتان بالدموع وقال: «قد قرب الوقت الذي فيه أفارقكم يا سادتي وإخواني الأحباء، الموت لا بد منه. فما أحلاه إذا كان في سبيل الله. إني ضعيف حزين، ومعظم حزني هو من جراء احتسابي من أن إخواني حينما يرون أخاهم هذا أتضرج بدمي لأجل تمسكي بإنجيل الله يخورون ويفشلون. أسأل الله أن تكون النتيجة عكس ما أحتسبه وأخشاه لله تارك زوجتي المسكينة وطفليّ العزيزين، سمعت أنها الآن معهما في بيت أبيها. أرجو أن أراهم قبل موتي، كما ورجائي بحبكم أيها الكرام أن لا تغضوا النظر عن يتيمي أخيكم هذا، وبحسب الحق الوالدي أقيم عليهما من الآن وصيين كريمين سيدي الشيخ علي والشيخ محمود ليعتنيا بهم ويدبراهم في الرب، إذا شاء الله إخلاء سبيلكم والقرار في بلدكم، الأرجح عندي يا إخواني أني سأقتل في الغد، فلا يسؤكم ذلك جداً ولا تجزعوا لأني أموت لا لأجل جريمة ارتكبتها أو جناية جنيتها، بل لأجل الحق بسبب من قد مات لأجلي. كفاكم تبكون وتسحقون قلبي فإني وإن كنت أموت هكذا بنوع مؤلم مؤثر، لا ينبغي أن تحزنوا كثيراً لأن مدة الألم تكون بضع دقائق ومن ثم أسبقكم إلى الراحة الأبدية».
فأخذ أولئك الإخوان يعزونه بكلامهم، ودموعهم الواحد بعد الآخر، إلى أن قال الشيخ علي: «ماذا أقول وبماذا أعزيك يا عزيزي الحبيب؟ ليت السهم الذي رشق عليك كان عليّ، وليت الله يسمح أن أموت دونك. ليت الله يحول عنك هذه الكأس المرة، قال هي مرة ولكن عاقبتها حلاوة أبدية، بل لأقول هي حلوة في سبيل حب من تجرع أعظم منها لأجلنا، نعم نعم يا حبيبي، وأحمد الله الذي عظم إيمانك هكذا، وشدد قلبك حتى عن طيب خاطر. نقبل الموت هكذا حباً به».
ثم قال الشيخ محمود: «إن عقلي يضيق ذرعاً دون الكلام بتعزيتك يا صديقي. واأسفي، أيقتل الشاب اللطيف وتبقى الشيوخ نظيرناً؟ لا اعتراض يا إلهي على إرادتك». وهكذا كان يعزيه بدموع متواصلة وتنهدات متتابعة، فقضوا أكثر ذلك الليل بالحديث والصلاة لله.
أما ما كان من الوالي فإنه نحو الساعة الثالثة من الليل أتاه الجواب تلغرافياً من الباب العالي عن الإشارتين المتقدمتين وهذا نصه:
«وصلت لنا إفادتكم بإشارتين
برقيتين تاريخ ١ و٣ صفر عن الرجال الثمانية من علماء المسلمين في حاضرة
ولايتكم. مفاد الأولى أنهم قد ارتدوا عن الإسلام واعتنقوا النصرانية، ولم
يعبأوا بالنصائح والإنذارات التي أفرغتم جهدكم بها معهم، وتستعلمون منا
كيفية وجوب معاملتهم بالنظر إلى ذلك. والثانية عما جرى من أحدهم المسمى عمر
الحارس من كلام التجديف على القرآن الشريف والنبي المصطفى مما يمجه السمع
ويكرهه الذوق، وأنه قد ثبت ذلك عليه مجلسياً بموجب شهود من أولي الذمة
والاستقامة. فإن كان حقاً قد جرى ذلك منه بحق كتاب الله ورسوله نأمر
بإعدامه بالسيف في غد وصول أمرنا هذا إليكم، وذلك بحضور هيئة الحكومة
والعسكرية. وبإزاء رفاقه المتنصرين رهبة لهم وإنذاراً. وأما البقية فإنه
كما لا يخفى على دولتكم إنا لا نقاض إنساناً على مجرد تغيير دينه وعقيدته،
لذلك لا مسوغ بإجراء شيء من القصاص عليهم ما داموا سالكين بالحشمة والأدب،
غير أنه إذا وجد أنهم يتعرضون للقدح والتنكيت على الدين، وبذلك يسببون
شغباً واضطراباً في البلدة والولاية، فمراعاة للصالح العام وتوطيداً للسلام
ينبغي إبعادهم إلى المحل الذي تنتسبونه خارج الولاية لإقامتهم فيه مؤقتاً.
وينبغي إجراء ما ذكر بالحكمة والدراية كما هو شأن دولتكم. هذا ما اقتضى
إفادتكم مع الرجاء بإفادتنا عن كل ما يحدث عندكم أفندم».
فبعد أن اطلع الوالي على هذا التلغراف، دعا في الحال أرباب المجلس مع مشير العسكر والأميرالاي وبعض أعيان البلد، وبعد أن حضروا تليت على مسامعهم الإشارة البرقية السامية فصرخوا جميعهم: «ليعش إلى الأبد سلطاننا ومولانا العظيم». فقال الوالي: «أما إعدام الشقي عمر الحارس بالسيف فيكون إن شاء الله نهار غد حسب منطوق الأمر السامي، ولكن في أي وقت من النهار ترونه أكثر مناسبة للإجراء؟». فأجاب بعضهم نحو الساعة الثالثة من النهار. وآخرون بل الساعة الخامسة. فقال القاضي: «أرى أن حسن لدى أفندينا فليتأجل الإجراء إلى الساعة الثامنة ليتمكن المحكوم عليه من وقت كاف لمراجعة نفسه، وليكون وقت لمن يزوره وينصحه من أهله وغيرهم، عله يرجع إلى دينه». ثم اختلى مع دولته القاضي والمفتي نحو نصف ساعة فأقنعاه بتأجيل الإجراء إلى الوقت المذكور، وبتأجيل إبعاد البقية إلى رابع عشر الجاري. وبعد انتظام هيئة المجلس أيضاً وقف الترجمان وقال: «إن حضرة دولة أفندينا الأفخم قد حسن لديه تأجيل الإجراء بإعدام عمر الحارس حسب الأمر السامي إلى نحو الساعة الثامنة من نهار غد، وبعد الإجراء يرى دولته في إبعاد بقية رفاقه إلى المكان الذي يراه أكثر موافقة ومناسبة». فأثنى الجميع على حلم دولته وانصرف كل إلى مكانه.
وفي الصباح أبلغ المذكور بالحكم عليه وبأجل إجرائه. وإذ شاع في البلد ورود الأمر السامي بإعدامه، وبلغ ذلك أهله وأقاربه، ناحوا نوحاً شديداً، ثم أخذت زوجته ولديها بيديها وكان سن الأكبر سبع سنين والأصغر خمساً وذهبت ووالدتها وأخاها وشقيقة زوجها المذكور إلى المجلس، وهي ممزقة الثياب محلولة الشعر تنهال الدموع من عينيها كالسواقي، ولما دخلت إليه سقطت مغشياً عليها على قدميه، فرق لها كل من رآها على تلك الحالة وبكى لبكائها الجميع. وبعد أن نبهها الحاضرون وسكن الحال نظرت إليه نظرة الملهوف وقالت له: «آه يا سيدي العزيز، أنت تعرف محبتي لك. كما وأني أعرف فرط حبك لي، فهل حقاً ترضى أن تتركني وطفليك هذين؟ وأويلاه، أترضى بعذاب قلب جاريتك هذه التعيسة بنيران حسرة وكمد لا يخمدها كرور الدهر؟ لا يا سيدي لا، لا يقس قلبك الحنون هكذا على حياتك وعلينا. آه، أتضرع إليك بحق من تحبه نفسك وبحق المحبة ارجع عن رأيك أو اكتمه في قلبك ريثما يفتح الله بابا للفرج». ثم سقطت على قدميه وبللتهما بدموعها، وصرخت صرخة تفتت لها الأكباد، فمد يديه وأنهضها بلطف ورقة وقال لها: «سكني روعك يا أعز الناس عندي اجلسي بهدوء واصغي لمقالي». فجلست ثم أخذ ولديه بيديه ومسح دموعهما وضمهما إلى صدره وقبلهما، فخفق قلبه ورجفت شفتاه وهمّ بالبكاء ولكنه تجلد وقال: «آه يا صديقتي، إنه لمن المحال دوام البقاء مع الأهل والأحباب في عالم الدنيا. ومن لم يمت اليوم سيموت غداً، ومن لم يمت بهذا النوع سيموت بنوع آخر. فيا أليفة صباي وزهرة عمري إن حبي لك ولولديّ هذين مهجة فؤادي وثمرة حياتي فوق ما أستطيع وصفه (ثم حول وجهه ومسح دموعه ثم عاد فقال) «فحياتي في سبيلكم رخيصة عندي، أبذلها دونكم بسرور إذا دعت الحاجة. اعلمي أني قد خلصت بنعمة الله على معرفة الحق الثمين بالمسيح ربي ومخلصي، وذقت لذة الخلاص المشترى لي بدمه، فإذا استحيت به وبإنجيله، وملت عن سبيله ولو ظاهراً فقط، مراعاة لحياة الجسد أو حباً بإطالة السكنة مع امرأتي وأولادي، أو إرضاء لخاطر أهلي وأصحابي، أكون لا ريب مكروهاً عند سيدي وغير مستحق أن أكون معه. فماذا ترين؟ أأختار الحياة الوقتية في مقاومة ضميري وعصيان ربي، ثم أذهب إلى جهنم الأبدية؟ أو حياة الأبد والسعادة الفائقة الوصف على التمتع بلذة الحياة الفانية؟ اعلمي أني لست خائفاً من الموت، لأنه ليس سوى معبر وجيز للعبور إلى ديار الراحة والسعادة، فإن كنت حقاً تحبينني فكفي إلحاحك ودعيني أمضي إلى حضرة ربي، واجتهدي لتقتفي أثري في طريق الحياة هذه عسى أن نلتقي هناك. لا يسمح لي الوقت بإطالة الكلام معك بهذا الشأن فقط وأنا على أزمة الرحيل من عالم الزوال. هذا ما أقوله لك ولأعزائي الحاضرين هنا معك: أن عيسى ابن مريم هو ابن الله الوحيد، الذي مات لأجلنا نحن البشر الخطاة ليفي ديننا ويمحو خطايانا ويصالحنا مع الله أبيه، وهذا منطوق الإنجيل، وغاية كل الكتاب الذي يصرح أن كل من يؤمن بالابن تكون له حياة أبدية. وهكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحي لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. أما ولداي هذان فأستودعهما الله، فهو لهما خير أب. وقد أقمت عليهما وصيين كريمين، سيدي الشيخ علياً والشيخ محموداً». ثم جمع قوته وتجلد ورفع يديه إلى السماء وقال: «الله، ينبوع الرحمة وإله الجود والإحسان، الذي اعتنى بي حتى اليوم، هو يبارككما في سبيله القويم. وإن فرق الناس بيننا اليوم، فلا يقدرون أن يفرقوا بيننا حينما نكون معاً إن شاء الله في بيته السماوي».
وأما أخته فوقعت تقبله بلهفة حتى غشي عليها، ثم استفاقت ويداها ملتفتان على عنق أخيها وكتفه وصرخت صرخة مرة جداً: «واروحي ونور عيني أخي العزيز الوحيد، بما أن لا أخوة لك ولا عصبة تضحي فريسة لمرام أهل البغي والعدوان. إني أكره يا أخي أن أزيد على مرارة قلبك الحنون، ولكن ماذا أعمل وأين أذهب؟ وما الحياة بعدك يا نور عيني؟ ليتني منذ الأول بلا أخ. ليت أمي ما كانت ولدتني حتى أرى أخي الحبيب قتيلاً، وأجرع كأساً ليس أمر منها. ويلاه، يا أخي. يا أخي ليتني أموت قبلك. آه، كيف أشاهدك يا روحي وعيني تتضرج بدمك؟ ليت نور عيني ينطفئ كي لا أرى هذا المنظر». ثم انكبت أيضاً على تقبيل يديه وعنقه وقدميه بعويل ونحيب لا مزيد عليهما، فقبلها هو ايضاً مراراً وبكى ثم قال: «كفى كفي يا أختى الحنونة، قد أذبت قلبي وسحقت فؤادي. ليس من فائدة بعد يا شقيقتي ليعزك الرب على فراقي».
وبينما هما على هذه الحال التي يلين لها قلب الجلمود، إذا بالقاضي والمفتي داخلان. وبعد جلوسهما أخذا بالكلام معه ليرجعاه عن معتقده فأبى، ثم أخذه القاضي إلى مخدع آخر وأفرغ جهده بالتكلم معه على خلاء أن يرجع ولو بالتظاهر فقط، ريثما يستحضر له فرمان العفو، وأنه متى أطلق من سجنه يرحل إلى الديار الأوروبية أو إلى لبنان، وهناك يشهر تنصره، ثم وعده بلسان الوالي مواعيد عظيمة أن يرجع إلى الإسلامية فلم يؤثر فيه كل ذلك أدنى تأثير، بل أجابه: «إني أشكر فضلكم يا مولاي، وإنما حاشا لي أن أترك إنجيل ربي وقتاً ما ولو ظاهراً، وتعلمون فضيلتكم أن أكره شيء عندي هو الرياء والتكلم باللسان خلاف ما في القلب، وإني مؤكد أن ما دعاكم إلى ذلك إلا حبكم ورقة قلبك، فليجازكم الرب عني كل خير». ثم تناول يد القاضي وقبلها بدموع الشكر، متوسلاً إليه أن لا يؤاخذه على عدم إذعانه إليه، ثم افترقا. وذهب القاضي والمفتي آسفين على هذا الشاب. أما هو فقام ودخل على إخوانه وكان كثيرون من أنسبائه ومعارفه يتواردون عليه ويتوسلون إليه عبثاً، حتى دنت الساعة، فوقع على عنقه إخوانه وأقاربه يودعونه الوداع الأخير ببكاء شديد، ولا سيما زوجته وشقيقته اللتين من حين دخوله هذه المرة ما برحتا معانقتين إياه تقبلانه بوجد لا يحيط به الوصف، إلى أن دخل الطابور أغاسي وعلق على صدره الأمر الصادر بإعدامه. ثم أخرجه مع أصحابه. ثم حضر الأميرالاي بفرقة العسكر الشاهاني فمشى الطابور أغاسي مع الضابطة في الأمام والأميرالاي بالعسكر في الوراء. مع أرباب المجلس والمأمورين كافة والمحكوم عليه ورفاقه في الوسط. وسار معهم جماعة من الأعيان وغيرهم من رجال ونساء جمهوراً غفيراً. وكان الأكثرون مسرورين بهذا الانتقام. وأما البعض من ذوي التعقل والإنصاف فكانوا بحالة الاكتئاب والكدر من جراء ذلك. وهكذا ظلوا سائرين إلى أن انتهوا إلى المكان المعد لقتله. ومن ثم اصطف العكسر بأسلحته اللامعة من جهة، والضابطة من جهة أخرى والجمهور من وراء على مكان مشرف وحينئذ تقدم المفتي وفصل بين المحكوم عليه وأخته وزوجته اللتين ما زالتا ماسكتين بيديه من هنا ومن هنا، وأخذهما وأوقفهما في أحسن مكان، ومن ثم التمس المحكوم عليه الرخصة ليتكلم شيئاً فرخص له فقال:
«إني أموت الآن مسروراً لأني أقتل لا بسبب جناية أو جريمة ارتكبتها ضد الحكومة أو الوطن أو شخص ما، بل لأجل تمسكي بحق الله تعالى. المعلن جلياً في كتابه. فها أنا على شفير الموت أقول: ورب السموات والأرض يعلم ما قد شهد به عليّ أولئك الشهود المبني حكم إعدامي على شهادتهم هو محض زور وافتراء ليسامحهم الله، أيا سادتي عمدة الحكومة الكرام والعلماء الأفضال الكليو الاحترام، ويا بني وطني وبلدتي المحبوبة، لم أسئ إليكم بشيء يوجب إماتتي هكذا، ولكن إذا كان قدر الله علي أن أموت لأجل تمسكي بإنجيل المسيح. فإني أقبل بجزيل الحمد والشكر، ومن كل قلبي أسامح كل من له يد بإعدامي. ها أني في آخر ساعة من حياتي أرغب أن أودعكم يا معشر بني وطني الأعزاء بهذه الكلمات الوجيزة: لا يخفى أننا معشر البشر جميعاً واقعون تحت سيف العدل الإلهي بسب خطايانا كما أنا واقع الساعة تحت سيف الحكومة. فالرحمن سبحانه من لطفه ورحمته شاء أن يخلصنا من مسئولية العدل الإلهي هبة منه ونعمة. وهذه الحقيقة الراهنة معلنة من لدنه في التوراة والإنجيل بجلاء ووضوح لا مزيد عليهما، وهي أن الله أقام عيسى بن مريم كلمة الله العجيب في الولادة الكامل في القداسة القدير في المعجزات، وسيط الصلح والسلام بينه وبين الإنسان. فكل من يؤمن به تكون له الحياة الأبدية. هذا مفاد الكتاب وغايته حرّفاً ومعنى، كما أنزل من الله عز وجل. فانظروا إليّ يا بني جنسي وصحبي أني حقاً مسرور الآن بإيماني مع رؤيتي إعداد السيف لحتفي، وأحمد الله ربي الذي أهلني لأخاطب بهذا الحق الثمين جمعاً غفيراً كهذا قرب دقيقة موتي. أستودعكم الله يا سادتي وإخواني وأصحابي الأحباء، وإن كنت أسأت إلى بعضكم بشيء فأرجوكم السماح، وسيأتي يوم فيه نحشر أمام كرسي الديان الرهيب الذي سيجازي كل واحد كعمله». ثم جثى على ركبتيه وصلى لله طالباً البركة على وطنه وأهله، وعلى السلطان والولاة والحكام، والذين تآمروا على إهلاكه كافة، وختم الصلاة بقوله: «يا رب يسوع المسيح، في يديك أستودع روحي» ولما سكت وهو جاث مطرقاً بكل هدوء وسكينة انذهل الجميع من هذا المنظر ومن ذلك الوجه اللامع الرائق، وتأثروا من ذلك تأثراً عميقا. ثم نفخ في البوق إشارة للإجراء. وحينئذ ضرب عنقه فتدحرج رأسه من جثته وأخذ يتمرغ بدمه. فبادر إليه ذووه وأصحابه مولولين نائحين، وركضت أخته وأخذت رأسه بحضنها وضمته إلى جثته وهي تضطرب من ألم النزع، ثم وقعت عليه امرأته وأقاربه يبكونه ويندبونه ندباً شديداً، ثم وضع في تابوت مغطى بالمخمل الأحمر، وبأمر الحكومة حمل إلى مقبرة النصارى فدفن هناك بكل إكرام واعتبار.
فبعد أن اطلع الوالي على هذا التلغراف، دعا في الحال أرباب المجلس مع مشير العسكر والأميرالاي وبعض أعيان البلد، وبعد أن حضروا تليت على مسامعهم الإشارة البرقية السامية فصرخوا جميعهم: «ليعش إلى الأبد سلطاننا ومولانا العظيم». فقال الوالي: «أما إعدام الشقي عمر الحارس بالسيف فيكون إن شاء الله نهار غد حسب منطوق الأمر السامي، ولكن في أي وقت من النهار ترونه أكثر مناسبة للإجراء؟». فأجاب بعضهم نحو الساعة الثالثة من النهار. وآخرون بل الساعة الخامسة. فقال القاضي: «أرى أن حسن لدى أفندينا فليتأجل الإجراء إلى الساعة الثامنة ليتمكن المحكوم عليه من وقت كاف لمراجعة نفسه، وليكون وقت لمن يزوره وينصحه من أهله وغيرهم، عله يرجع إلى دينه». ثم اختلى مع دولته القاضي والمفتي نحو نصف ساعة فأقنعاه بتأجيل الإجراء إلى الوقت المذكور، وبتأجيل إبعاد البقية إلى رابع عشر الجاري. وبعد انتظام هيئة المجلس أيضاً وقف الترجمان وقال: «إن حضرة دولة أفندينا الأفخم قد حسن لديه تأجيل الإجراء بإعدام عمر الحارس حسب الأمر السامي إلى نحو الساعة الثامنة من نهار غد، وبعد الإجراء يرى دولته في إبعاد بقية رفاقه إلى المكان الذي يراه أكثر موافقة ومناسبة». فأثنى الجميع على حلم دولته وانصرف كل إلى مكانه.
وفي الصباح أبلغ المذكور بالحكم عليه وبأجل إجرائه. وإذ شاع في البلد ورود الأمر السامي بإعدامه، وبلغ ذلك أهله وأقاربه، ناحوا نوحاً شديداً، ثم أخذت زوجته ولديها بيديها وكان سن الأكبر سبع سنين والأصغر خمساً وذهبت ووالدتها وأخاها وشقيقة زوجها المذكور إلى المجلس، وهي ممزقة الثياب محلولة الشعر تنهال الدموع من عينيها كالسواقي، ولما دخلت إليه سقطت مغشياً عليها على قدميه، فرق لها كل من رآها على تلك الحالة وبكى لبكائها الجميع. وبعد أن نبهها الحاضرون وسكن الحال نظرت إليه نظرة الملهوف وقالت له: «آه يا سيدي العزيز، أنت تعرف محبتي لك. كما وأني أعرف فرط حبك لي، فهل حقاً ترضى أن تتركني وطفليك هذين؟ وأويلاه، أترضى بعذاب قلب جاريتك هذه التعيسة بنيران حسرة وكمد لا يخمدها كرور الدهر؟ لا يا سيدي لا، لا يقس قلبك الحنون هكذا على حياتك وعلينا. آه، أتضرع إليك بحق من تحبه نفسك وبحق المحبة ارجع عن رأيك أو اكتمه في قلبك ريثما يفتح الله بابا للفرج». ثم سقطت على قدميه وبللتهما بدموعها، وصرخت صرخة تفتت لها الأكباد، فمد يديه وأنهضها بلطف ورقة وقال لها: «سكني روعك يا أعز الناس عندي اجلسي بهدوء واصغي لمقالي». فجلست ثم أخذ ولديه بيديه ومسح دموعهما وضمهما إلى صدره وقبلهما، فخفق قلبه ورجفت شفتاه وهمّ بالبكاء ولكنه تجلد وقال: «آه يا صديقتي، إنه لمن المحال دوام البقاء مع الأهل والأحباب في عالم الدنيا. ومن لم يمت اليوم سيموت غداً، ومن لم يمت بهذا النوع سيموت بنوع آخر. فيا أليفة صباي وزهرة عمري إن حبي لك ولولديّ هذين مهجة فؤادي وثمرة حياتي فوق ما أستطيع وصفه (ثم حول وجهه ومسح دموعه ثم عاد فقال) «فحياتي في سبيلكم رخيصة عندي، أبذلها دونكم بسرور إذا دعت الحاجة. اعلمي أني قد خلصت بنعمة الله على معرفة الحق الثمين بالمسيح ربي ومخلصي، وذقت لذة الخلاص المشترى لي بدمه، فإذا استحيت به وبإنجيله، وملت عن سبيله ولو ظاهراً فقط، مراعاة لحياة الجسد أو حباً بإطالة السكنة مع امرأتي وأولادي، أو إرضاء لخاطر أهلي وأصحابي، أكون لا ريب مكروهاً عند سيدي وغير مستحق أن أكون معه. فماذا ترين؟ أأختار الحياة الوقتية في مقاومة ضميري وعصيان ربي، ثم أذهب إلى جهنم الأبدية؟ أو حياة الأبد والسعادة الفائقة الوصف على التمتع بلذة الحياة الفانية؟ اعلمي أني لست خائفاً من الموت، لأنه ليس سوى معبر وجيز للعبور إلى ديار الراحة والسعادة، فإن كنت حقاً تحبينني فكفي إلحاحك ودعيني أمضي إلى حضرة ربي، واجتهدي لتقتفي أثري في طريق الحياة هذه عسى أن نلتقي هناك. لا يسمح لي الوقت بإطالة الكلام معك بهذا الشأن فقط وأنا على أزمة الرحيل من عالم الزوال. هذا ما أقوله لك ولأعزائي الحاضرين هنا معك: أن عيسى ابن مريم هو ابن الله الوحيد، الذي مات لأجلنا نحن البشر الخطاة ليفي ديننا ويمحو خطايانا ويصالحنا مع الله أبيه، وهذا منطوق الإنجيل، وغاية كل الكتاب الذي يصرح أن كل من يؤمن بالابن تكون له حياة أبدية. وهكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحي لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. أما ولداي هذان فأستودعهما الله، فهو لهما خير أب. وقد أقمت عليهما وصيين كريمين، سيدي الشيخ علياً والشيخ محموداً». ثم جمع قوته وتجلد ورفع يديه إلى السماء وقال: «الله، ينبوع الرحمة وإله الجود والإحسان، الذي اعتنى بي حتى اليوم، هو يبارككما في سبيله القويم. وإن فرق الناس بيننا اليوم، فلا يقدرون أن يفرقوا بيننا حينما نكون معاً إن شاء الله في بيته السماوي».
وأما أخته فوقعت تقبله بلهفة حتى غشي عليها، ثم استفاقت ويداها ملتفتان على عنق أخيها وكتفه وصرخت صرخة مرة جداً: «واروحي ونور عيني أخي العزيز الوحيد، بما أن لا أخوة لك ولا عصبة تضحي فريسة لمرام أهل البغي والعدوان. إني أكره يا أخي أن أزيد على مرارة قلبك الحنون، ولكن ماذا أعمل وأين أذهب؟ وما الحياة بعدك يا نور عيني؟ ليتني منذ الأول بلا أخ. ليت أمي ما كانت ولدتني حتى أرى أخي الحبيب قتيلاً، وأجرع كأساً ليس أمر منها. ويلاه، يا أخي. يا أخي ليتني أموت قبلك. آه، كيف أشاهدك يا روحي وعيني تتضرج بدمك؟ ليت نور عيني ينطفئ كي لا أرى هذا المنظر». ثم انكبت أيضاً على تقبيل يديه وعنقه وقدميه بعويل ونحيب لا مزيد عليهما، فقبلها هو ايضاً مراراً وبكى ثم قال: «كفى كفي يا أختى الحنونة، قد أذبت قلبي وسحقت فؤادي. ليس من فائدة بعد يا شقيقتي ليعزك الرب على فراقي».
وبينما هما على هذه الحال التي يلين لها قلب الجلمود، إذا بالقاضي والمفتي داخلان. وبعد جلوسهما أخذا بالكلام معه ليرجعاه عن معتقده فأبى، ثم أخذه القاضي إلى مخدع آخر وأفرغ جهده بالتكلم معه على خلاء أن يرجع ولو بالتظاهر فقط، ريثما يستحضر له فرمان العفو، وأنه متى أطلق من سجنه يرحل إلى الديار الأوروبية أو إلى لبنان، وهناك يشهر تنصره، ثم وعده بلسان الوالي مواعيد عظيمة أن يرجع إلى الإسلامية فلم يؤثر فيه كل ذلك أدنى تأثير، بل أجابه: «إني أشكر فضلكم يا مولاي، وإنما حاشا لي أن أترك إنجيل ربي وقتاً ما ولو ظاهراً، وتعلمون فضيلتكم أن أكره شيء عندي هو الرياء والتكلم باللسان خلاف ما في القلب، وإني مؤكد أن ما دعاكم إلى ذلك إلا حبكم ورقة قلبك، فليجازكم الرب عني كل خير». ثم تناول يد القاضي وقبلها بدموع الشكر، متوسلاً إليه أن لا يؤاخذه على عدم إذعانه إليه، ثم افترقا. وذهب القاضي والمفتي آسفين على هذا الشاب. أما هو فقام ودخل على إخوانه وكان كثيرون من أنسبائه ومعارفه يتواردون عليه ويتوسلون إليه عبثاً، حتى دنت الساعة، فوقع على عنقه إخوانه وأقاربه يودعونه الوداع الأخير ببكاء شديد، ولا سيما زوجته وشقيقته اللتين من حين دخوله هذه المرة ما برحتا معانقتين إياه تقبلانه بوجد لا يحيط به الوصف، إلى أن دخل الطابور أغاسي وعلق على صدره الأمر الصادر بإعدامه. ثم أخرجه مع أصحابه. ثم حضر الأميرالاي بفرقة العسكر الشاهاني فمشى الطابور أغاسي مع الضابطة في الأمام والأميرالاي بالعسكر في الوراء. مع أرباب المجلس والمأمورين كافة والمحكوم عليه ورفاقه في الوسط. وسار معهم جماعة من الأعيان وغيرهم من رجال ونساء جمهوراً غفيراً. وكان الأكثرون مسرورين بهذا الانتقام. وأما البعض من ذوي التعقل والإنصاف فكانوا بحالة الاكتئاب والكدر من جراء ذلك. وهكذا ظلوا سائرين إلى أن انتهوا إلى المكان المعد لقتله. ومن ثم اصطف العكسر بأسلحته اللامعة من جهة، والضابطة من جهة أخرى والجمهور من وراء على مكان مشرف وحينئذ تقدم المفتي وفصل بين المحكوم عليه وأخته وزوجته اللتين ما زالتا ماسكتين بيديه من هنا ومن هنا، وأخذهما وأوقفهما في أحسن مكان، ومن ثم التمس المحكوم عليه الرخصة ليتكلم شيئاً فرخص له فقال:
«إني أموت الآن مسروراً لأني أقتل لا بسبب جناية أو جريمة ارتكبتها ضد الحكومة أو الوطن أو شخص ما، بل لأجل تمسكي بحق الله تعالى. المعلن جلياً في كتابه. فها أنا على شفير الموت أقول: ورب السموات والأرض يعلم ما قد شهد به عليّ أولئك الشهود المبني حكم إعدامي على شهادتهم هو محض زور وافتراء ليسامحهم الله، أيا سادتي عمدة الحكومة الكرام والعلماء الأفضال الكليو الاحترام، ويا بني وطني وبلدتي المحبوبة، لم أسئ إليكم بشيء يوجب إماتتي هكذا، ولكن إذا كان قدر الله علي أن أموت لأجل تمسكي بإنجيل المسيح. فإني أقبل بجزيل الحمد والشكر، ومن كل قلبي أسامح كل من له يد بإعدامي. ها أني في آخر ساعة من حياتي أرغب أن أودعكم يا معشر بني وطني الأعزاء بهذه الكلمات الوجيزة: لا يخفى أننا معشر البشر جميعاً واقعون تحت سيف العدل الإلهي بسب خطايانا كما أنا واقع الساعة تحت سيف الحكومة. فالرحمن سبحانه من لطفه ورحمته شاء أن يخلصنا من مسئولية العدل الإلهي هبة منه ونعمة. وهذه الحقيقة الراهنة معلنة من لدنه في التوراة والإنجيل بجلاء ووضوح لا مزيد عليهما، وهي أن الله أقام عيسى بن مريم كلمة الله العجيب في الولادة الكامل في القداسة القدير في المعجزات، وسيط الصلح والسلام بينه وبين الإنسان. فكل من يؤمن به تكون له الحياة الأبدية. هذا مفاد الكتاب وغايته حرّفاً ومعنى، كما أنزل من الله عز وجل. فانظروا إليّ يا بني جنسي وصحبي أني حقاً مسرور الآن بإيماني مع رؤيتي إعداد السيف لحتفي، وأحمد الله ربي الذي أهلني لأخاطب بهذا الحق الثمين جمعاً غفيراً كهذا قرب دقيقة موتي. أستودعكم الله يا سادتي وإخواني وأصحابي الأحباء، وإن كنت أسأت إلى بعضكم بشيء فأرجوكم السماح، وسيأتي يوم فيه نحشر أمام كرسي الديان الرهيب الذي سيجازي كل واحد كعمله». ثم جثى على ركبتيه وصلى لله طالباً البركة على وطنه وأهله، وعلى السلطان والولاة والحكام، والذين تآمروا على إهلاكه كافة، وختم الصلاة بقوله: «يا رب يسوع المسيح، في يديك أستودع روحي» ولما سكت وهو جاث مطرقاً بكل هدوء وسكينة انذهل الجميع من هذا المنظر ومن ذلك الوجه اللامع الرائق، وتأثروا من ذلك تأثراً عميقا. ثم نفخ في البوق إشارة للإجراء. وحينئذ ضرب عنقه فتدحرج رأسه من جثته وأخذ يتمرغ بدمه. فبادر إليه ذووه وأصحابه مولولين نائحين، وركضت أخته وأخذت رأسه بحضنها وضمته إلى جثته وهي تضطرب من ألم النزع، ثم وقعت عليه امرأته وأقاربه يبكونه ويندبونه ندباً شديداً، ثم وضع في تابوت مغطى بالمخمل الأحمر، وبأمر الحكومة حمل إلى مقبرة النصارى فدفن هناك بكل إكرام واعتبار.
ليست هناك تعليقات: