رواية الباكورة الشهية - 13

الفصل الثالث عشر

ثم بعد مضي نحو خمس سنين من رجوعهم إلى بلدهم مرض الشيخ علي مرض الموت فكان جسمه يزداد نحولاً وانحطاطاً يوماً فيوماً. والشيخ محمد والشيخ أحمد عيد الهادي وأحمد افندي القوتلي مع باقي الأصحاب قلما كانوا يبرحون سريره، وكان لا يود أن يقرأ له إلا في الكتاب المقدس، ولا يريد ذكراً إلا ذكر يسوع المسيح، وكثيراً ما كان يردد في فمه هذه الكلمات لا سيما عندما لا يكون أحد بقربه: «مات لأجلي - وفى ديني - وفى الكل - مات عني لأحيا به - ما أقوى حبه وما أسمى لطفه». ولم يكن يدع أحداً من زائريه يخرج من عنده بدون أن يكلمه شيئاً عن محبة المسيح.
ولما كان يوم وفاته اجتمع حول سريره جماعة من علماء المسلمين وأئمتهم الثقاة، وكان إذ ذاك غاية ما يكون من الانتباه. فبعد أن جلسوا قليلاً قال الشيخ عبد الحميد إمام الجامع الأموي: «يا شيخ علي، يا صديقي القديم وعشيري الكريم، أرغب أن أقول لكم شيئاً على جراء أن تحتمل ما سأبديه بوجيز العبارة لحضرتك». قال: «تكلم يا سيدي الكريم». قال: «أيها الصديق، إني أتذكر تلك الأوقات الثمينة التي كنا نصرفها معاً في المساجد والمكاتب بالمطالعة والمفاوضة الروحية والأدبية. فها قد مضى سبع سنين وأنت موحشنا ومبتعد عنا في الدين والعبادة والألفة، الأمر الذي قد ساءنا ونغص عيشنا كل هذه الأيام. والآن يا صديقي إنك على أهبة الارتحال من عالم الزوال فاذكر القرآن الشريف وما أنزل به إلينا من ربنا، وارجع الآن يا صاحبي عن سبيل الغي والضلال التي همت فيها كل هذه السنين إلى دين الله القويم، وأدّ الشهادة لله ولرسوله، يتجاوز عن سيئاتك ويغفر ذنبك، إنه هو الغفور الرحيم. أتوسل إليك بحق أولياء الله ورسله أن لا ترفض نصح من يحبك كنفسه».
وكان الشيخ علي يبتسم تارة في أثناء هذا الكلام ويعبس أخرى. أما رفاقه فانزعجوا للغاية، وكان بعضهم يود أن يجاوب الإمام المذكور نيابة عن المريض، غير أنهم لم يروا ذلك لائقاً ومناسباً فجلس الشيخ علي وأجابه:
«نعم يا سيدي الكريم أرى نفسي قد بلغت اليوم الذي فيه أرتحل من ديار الدنيا، فأحمد الله الذي أرسلك إليّ هذه الساعة لأودعك الوداع الأخير بكلمات طالما كنت أتوقع فرصة مناسبة لأخاطب بها أحبائي نظير حضرتكم. فرجائي احتمالي بطول الأناة كما هي شيمكم الكريمة، فيا سيدي الشيخ، لا يخفى أن أسفي عليكم ليس دون أسفي عليّ إن لم أقل أكثر، ولا يسعني الآن أن أراجع على مسامعكم تلك الأمور الخطيرة التي قد صيرتني بنعمة الله مسيحياً. إن في القرآن شهادات عظيمة بأن التوراة والإنجيل المنزلين على طائفتي اليهود والنصارى هما كتاب الله قد أنزل نوراً وهدى وموعظة للمتقين. فتأملوا ما أعظم هذه الشهادات. ما القرآن بذلك إلا كالدليل الأمين يدلكم على اليهود والنصارى لتطلبوا منهم كتاب الله. والدعوة أنهم حرّفوه هي يا مولاي دعوى صبيانية باطلة. فإذا طالعتم هذا الكتاب العزيز بروح الاعتبار والوقار ترون ولا بد أن غايته الوحيدة هي المسيح للبر والخلاص لكل من يؤمن. ما أوضح النبوات فيه عن مجيء الفادي الكريم من عذراء من سبط يهوذا من إسرائيل وعن وصف حياته وأعماله وآلامه وموته فداء عن البشر، وعروجه إلى عرش الله أبيه وعن مجيئه الثاني. وما الإنجيل يا مولاي إلا بشارة الله يبشرنا بمجيء هذا المخلص السماوي. فنور المسيح يا صديقي ساطع ببهاء كلي في الكتاب، لا يحتاج لرؤيته سوى رفع عصابة التعصب وإزاحة برقع الغرض. وأتمنى لو تفتشون جيداً كتاب الله بروح الإخلاص والوقار لعلكم ترون فيه كما رأيت مسيح الله الفادي كلمة الله الوحيد. اذكروا أني ما كنت دونكم في الغيرة على الدين الإسلامي، وجهدي بالقيام بفروض العبادة والنوافل تعرفونه، فكنت بذلك أفتكر كما أنتم اليوم تفتكرون أن هذه الأمور تجعلني سعيداً وتخولني رضى الرحمن وبركاته، وتكفر عن سيئاتي وآثامي. ولكن لما قيل لي أن الكتاب ما تحرّف قط ولا تغير، شرعت أفحص وأمتحن ذلك مع بعض الأصحاب، فوجدنا ولله الحمد صحة الدعوى وصدقها، وجدنا طريق السماء طريقاً ليس فيه عوج ولا التواء. وها أني على وشك الانتقال إلى ربي فلست أخشى الموت ولا أرهبه، لأن مخلصي قد أبطل قوته وداس شوكته وهو سيقيم جسمي هذا الترابي عند مجيئه للبعث والنشور، إني مسرور يا أصحاب لأنني وأنا على فراش المرض والألم أرى بعين إيماني بهاء مجد ذلك الفردوس المنير، الذي لا يخيم الظلام على أرضنا قبل أن أحل فيه. نعم زمان التعب والجهاد قد مضى وعبر، وأشرق على فؤادي نور فجر صباح جديد أتوقع أن أتمتع عما قليل ببهاء شمسه العجيبة. أستودعكم يا أخوان. أستودعك الله يا سيدي أني ممتن لغيرة حبكم. فانتهز الفرصة يا صديقي وأقرأ كتاباً أنزله الله دستوراً وقانوناً للإيمان والعمل، القرآن دلك عليه فاستدل - امتثل واطلع تفز برضى الله له المجد».
وكان في أثناء كلامه قد ابتلت لحيته البيضاء بدموعه المتساقطة فوق خديه المصفرين، فتأثر جداً أولئك الرجال من هذا المنظر المؤثر، وودوا لو أنهم يبقون حول سريره حتى نهاية حياته، ولكن لما رأوا توارد بعض أعيان النصارى عليه وقسوسهم، قاموا وانصرفوا.
فاتنا أن نذكر أن العلماء المذكورين حاولوا كثيراً بعد رجوعهم من محل منفاهم أن يضموا إليهم ابني المرحوم الشهيد عمر، وبالأخص الشيخ علي والشيخ محمود الوصيين من قبل أبيهما، فلم يتمكنوا من ذلك، بل وضعا في المكتب الرشيدي تحت عناية أخوالهما. ولما مرض الشيخ علي عادته والدتهما وجلست بجانب سريره وهي على غاية من الحزن والذل. فعزاها كثيراً وذكرها بما أوصاه المرحوم زوجها من جهة ولديه. فبكت وقالت: «كرامة لعينيه لا أحب أن أخالفه، ولكن ليس في طاقتي إتمام وصيته». قال: «نعم ولكني أرجو الله أن لا يتركهما». ثم أخذ يتكلم معها بكل حكمة وملاطفة عن المسيح المخلص والحياة الأبدية والدينونة. ففهمت مقالته، وإذ كانت امرأة عاقلة ذات حذق وفطانة وذاكرة حسنة لم تنس ما أنذرها رجلها وحرضها عليه في آخر حيانه. ثم سألت الشيخ علي بعض السؤالات اللطيفة عن حق الإنجيل وذات المسيح وغاية ولادته من عذراء وموته صلباً، فجاوبها على ذلك بأحسن أجوبة، فلاحت على محياها الجميل لوائح الفرح والابتهاج. ثم أخذت يديه وقبلتهما شاكرة فضله على الفوائد الجيدة التي أفادها إياها، وعاهدته أنها تكون من الآن إن شاء الله مسيحية مقتفية آثار رجلها، وستبذل كل الجهد في إرشاد ولديها إلى هذه الطريق الصالحة. ولما همت بالانصراف وضع في يدها صرة صغيرة من الدنانير، فحاولت عدم قبولها فألزمها بذلك قائلاً: هذه مني لأجل ولديك العزيزين فقبلتهما بالشكر وانصرفت. أما هو فوثق بوعدها كل الثقة لكونها بعد قتل زوجها طلبها كثيرون من شبان البلد ليتزوجوا بها فأبت. حال كون بعضهم كانوا من الأعيان الأغنياء، وهي في شرخ صباها ومن أجمل نساء البلد وأعقلهن. فبعد انصرافها دعا إليه أخاه حسناً وأوصاه أن يجتهد ليتخذها له زوجة إذا ارتضت وتأكد مسيحيتها، ومن ثم يتخذ الوسائل الممكنة لضم ولديها إليه لتربيتهما حسناً كولديه، بكل محبة ورأفة، فقبل وصيته ورضخ لمقاله.
ولنرجع إلى الكلام فيما جرى بعد انصراف أولئك العلماء من عند الشيخ علي. فإنه إذ كان قد تعب كثيراً من التكلم تمدد في فراشه واستراح نحو ساعة، وكانت أنباضه قد أخذت تضعف شيئاً فشيئاً، فترجح عند الطبيب أنه يفارق نحو غروب الشمس. ثم انتبه ودعا إليه بنيه وبناته وأخاه. ولما مثلوا أمامه قال بصوت مرتجف: «يا أخي وأولادي الأعزاء، أذكروا إني مدة حياتي معكم لم أفتر عن إرشادكم وتعليمكم بكل حنو وصبر في الأمور التي كنت أرى أنها لخيركم دنيا وآخرة. ولما ماتت والدتكم لم أرد أن أتخذ لي أخرى بسببكم، فلا تنسوا محبة أبيكم وأتعابه. وأحمد الله أبا ربنا يسوع المسيح الذي دعاني بإنجيله إلى ملكوت ابن محبته، وأعطاني أن أرى قبل وفاتي مهجة فؤادي أخي وأولادي الأعزاء معتنقين الدين المسيحي. فالآن أموت مسروراً على رجاء الاجتماع بكم في عالم الراحة والمجد. ها لكم من نعم الله وبركاته ثروة وافرة، ولكن ليس ذلك شيئاً بالنسبة إلى ذلك الكنز الثمين (وأشار بيده إلى الكتاب المقدس الموضوع على المائدة) ادنوه مني. فأتوا به إليه، هذا الكتاب الذهبي الكلام الدري المعاني الحاوي تعليم النعمة والحياة بيسوع المسيح ربنا، هو أفضل ميراث لكم، وأجل بركة من الله، لأن كل ما في العالم يزول وأما كلمة الله فتبقى إلى الأبد. ها إني اذهب ولا شيء يصحبني من الدنيا، وكذا أنتم ستذهبون فارغين من أباطيل العالم، فضعوا كتاب الله هذا في قلوبكم واتخذوه دستوراً لحياتكم تذهبوا من عالم البطل إلى عالم الحق، ومن غرور الدنيا إلى حقائق المجد الأبدي. عيشوا بعضكم مع بعض بالسلام والمحبة متجنبين كل دواعي الخصام والشر. وإله السلام والمحبة الذي دعاني ونجاني من كل شر حتى هذا اليوم يبارككم وينميكم في كل صلاح وتقوى حسب مشيئته ويجمعني بكم أخيراً في سماء مجده آمين».
فبكوا حيئنذ بحرقة شديدة وسقطوا على يديه يقبلونهما، فقبلهم هو أيضاً وبكى، فوعدوه وعاهدوه على أن يعيشوا حسب الإنجيل ولا ينسوا وصيته الثمينة، فسر بذلك كثيراً وضمهم ثانية إلى صدره وقبلهم، ثم التفت إلى إخوانه وأصحابه العلماء وقال: «يا إخوتي وأصحابي وشركائي في جهاد الإيمان المسيحي، إنني أتذكر ثباتكم في الحق ونضالكم الحسن عنه ضد أهواء العالم والجسد وسط هرج المقاومين حتى صرتم ملح إصلاح للكثيرين. سيما لأولادكم وخلانكم، الأمر الذي ينهض فيّ دائماً كما ينهض فيكم روح الحمد والشكر لله الذي دعانا هكذا وقدسنا وأبقانا حتى تاجرنا بأمواله وربحنا. فله المجد والفضل والعز إلى الأبد. فقد حان يا إخوتي وصحبي المحبوبين وقت افتراقي عنكم لأذهب إلى مخلصي وأرى بالعيان ما كنت أتوقعه بالإيمان. ها أنا ما تروني مسروراً بهذا الرجاء الذي سأناله ببر واستحقاق فادي الكريم. فأرجو أن تعيشوا بعدي زماناً طويلاً بالتوفيق والنجاح لمجد الله. ونلتقي معاً في تلك الربوع المجيدة والمواطن البهية الأبدية. ولي رجاء بحبكم أن تلاحظوا بعين المحبة أولاد أخيكم هؤلاء في كل ما يلزم من الإرشاد والهداية والتنشيط في الرب. والآن أدنوا مني يا إخوتي لأودعكم. فدنوا منه وقبلوه وقبلهم قائلاً: «أستودعكم الله يا أحبائي الأعزاء، واسأله أن يحفظكم وينهي سفركم بسلام وسرور». ثم انفصلوا عنه بكل حاسات الكمد والأسف. ثم قال الشيخ محمود: «يا سيدي العزيز وقدوتنا الصالحة، لقد تعبت وأعييت كثيراً من وفرة التكلم. فها أنا بملء حاسات الحزن والكمد أسأل المولى الكريم إن شاءت مشيئته أن يعيدك إلى الصحة لتحيا بعد لمجد اسمه، وإن لم تشأ إرادته ذلك وسبقتنا إلى الراحة السماوية فطوباك، ورجاؤنا بنعمة فادينا الحبيب أننا سنلتقي معاً في ذلك الوطن المجيد الذي لا يشوبه فراق ولا حزن ولا ألم. وأما أخوك وأولادك الأعزاء فهم محروسون بالله. كن مسروراً طيب القلب من هذا القبيل».
فشكرهم على ذلك وقال: «الرب يدعوني إليه، وأنا مشتاق أن أراه. فلا تسألوا لي الصحة والعودة إلى حياة الدنيا، إنما سبحوا الرب واحمدوه». ثم ضم رجليه في سريره وانعقد لسانه عن التكلم. وبعد قليل تبسم وفتح عينيه وقال: «ها أنا يا رب حاضر». ثم توقف عن الكلام برهة ولفظ بصوت عميق هادئ هذه الكلمات: «أيها الرب يسوع اقبل روحي. الحمد لله».
ثم رقد مسلّماً روحه بيد الرب. فانكب عليه الجميع وبكوا وناحوا عليه. ولما طار نعيه غصت الدار بالمسلمين والنصارى بدون استثناء، وكان يلوح عليهم لوائح الحزن لأن المتوفي كان محبوباً من الجميع. وإذ بلغ خبر وفاته مسامع الحكومة رأت من اللازم حراسة جنازته وخفرها إلى المقبرة، حذراً من حدوث أمر مكدر. فأرسلت من ثم ملازم الضابطة ومعه خسمون عسكرياً ليمشوا أمام تابوته مع المسيحيين التابعي لجنازته. أما أهله وذووه فبعد أن بكوه كثيراً كفنوه ووضعوه في تابوت.
وفي الغد نحو الساعة السادسة من النهار حمل إلى الكنيسة، فمشى أمام تابوته الضابطة ووراءهم القسوس والرؤساء الروحيون من جميع الطوائف المسيحية. ووراء التابوت أهل الميت وذووه وأصحابه مع جم غفير من كل الملل الموجودة. ولما وضع في الكنيسة صعد إلى المنبر أحد القسوس. وبعد قراءة شيء من الإنجيل قدم خطاباً مؤثراً جداً موضوعه: «طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن. نعم يقول الروح: لكي يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم» (رؤيا ١٤: ١٣).

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.