رواية الباكورة الشهية -4
الفصل الرابع
ذهب السيد عبد القادر تلك الليلة إلى أستاذ له قديم اسمه الشيخ ناصر الدين عمر، وكان هذا الأستاذ على جانب عظيم من التعصب والادعاء. وبقلب مفعم من الغيظ بث له كل ما جرى من رفاقه العلماء، وقال إن لا سمح الله لو اشتهروا بفسادهم هذا، كانوا بلا ريب عثرة هائلة في البلد، وسبباً لإفساد عقول كثيرين. فلما سمع الشيخ ناصر الدين هذا الكلام صفق بيديه وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أمحقاً ما أخبرتني إياه يا ولدي؟ إنه لأمر خطير يدعو للأسف، ولكن طب نفساً فإني لأفحمنهم إن شاء الله بما قد فات أبصارهم من الحقائق البهية والأدلة السنية على بطلان النصرانية وصحة الإسلامية. وإن لم يرعووا لأذيقنهم بعونه تعالى ما يتعذر عليهم حمله ويردهم قسراً عن وخيم ضلالهم. ولكن يا ابني كيف لم تطلع شيخك منذ البداءة على هذه الدسيسة الخبيثة؟ ولو فعلت لكنت بادرت حالاً بإبطالها وقتلها في مهدها. أما هم فلا أؤاخذهم على عدم دعوتهم إياي للمخابرة في مثل ذلك، إذ ليس من علاقة ود بيني وبينهم، وقد اشتهرت عداوتهم لي منذ حداثتنا، إذ كنا معاً في مكتب المرحوم الشيخ محمد صالح، حسداً من نجاحي وتقدمي عليهم، وميل الأستاذ إليّ أكثر مما إليهم. فمنذ ذلك الحين لم تألف أخلاقي أخلاقهم الفظة، ومع ذلك كنت أحبهم ولا أزال أحبهم وأتمنى لهم الخير». فأجاب السيد عبد القادر، وقد علا وجهه الخجل: «لا يواخذني سيدي إني لم أفعل ذلك تهاوناً بسيادتكم. حاشا لي أن أنسى أفضالكم عليّ، وإنما إذ دعوني وأخذوا عليّ عهد الكتمان، قلت أتجسس أولاً أفكارهم فإن وجدتها حسنة كان خيراً، وإلا فإني أطلع عليها شيخي وأستاذي. وهكذا فعلت. فإن كان ذلك الخطأ مني فأرجوكم السماح لأن من دأب الإنسان الشطط وارتكاب الغلظ». أجابه: «حماك الله يا ولدي، وإني أقبل عذرك وأحمد فكرك. والآن أرى أن ندعو ابن أخي الحاج قدور ونطلعه على ذلك لمساعدتنا في هذه المسألة، فإنه ولو كان حاد المزاج وعنده نوع من التسرع مما يدعوه البعض طيشاً فإنه ذو جسارة وإقدام، وأحياناً تكون آراؤه أفلح من آراء أهل السكينة والرقة، وهو لا يخالف لي أمراً».فاستدعاه واطلعه على ما كان، فهاج وماج وأقسم بالله والرسول أنه ليهيج عليهم البلد من الشيخ إلى الولد، ويذيقهم شر الوبال ومر الأهوال. ثم قال: «بإذنك يا عمي إني لا أستطيع بعد صبراً حتى أعلم بذلك أصحابي وخلاني». وهمّ بالخروج فأمسكه بيده وقال: «اقعد، هذا لا يناسب في الحال يا ولدي. فبعد إفراغ الجد والجهد في نصحهم وإنذارهم إذا لم يمتثلوا ويرعووا نستعمل لذلك طرقاً أخرى». فوافق وجلس. وبعد المداولة طويلاً أجمعوا على إرسال رسالة نصح وإنذار لهم بما أمكن من الملاطفة والرقة بيد محي الدين بن الشيخ ناصر الدين، تكون أول خطاب لهم وآخره في هذا الشأن، حتى إذا لم ينتصحوا بها يشكوهم إلى من بيده أن يقتص منهم. فأمر الشيخ ولده المذكور أن يأخذ دواة وقرطاساً ويكتب ما يمليه عليه. فكتب ودفع الشيخ الكتابة إلى السيد عبد القادر لينقدها ويجلي ما غمض منها ففعل. وهذا هو نصها:
«بسم الله الرحمن الرحيم، أيها السادة العلماء الأعلام والإخوان الأدباء الكرام، الشيخ علي وصحبه المجتمعون لأجل انتقاد رسالة النصراني الواردة على أحدكم الشيخ أحمد عبد الهادي، السلام عليكم ورحمته وبركاته. أما بعد فإننا قد أطلعنا بواسطة من يوثق بهم على ملخّص مفاوضاتكم ومباحثكم بشأن تلك الرسالة، فاستبان منها أنكم انحرّفتم عن المنهج القويم إلى ضلال النصرانية الوخيم، فكيف تقبل الاعتقاد بأن الإله قد صار إنساناً (وأي إنسان؟) مهاناً محتقراً مقتولاً بأيدي اليهود، وأن هذا القتيل أضحى مخلّص العالم ومحيي النفوس بموته. فهل من ذي عقل وعلم يقبل مثل ذلك؟ فيا مسلمو وتربية العلماء الفاضلين إياكم والغرور بكل ما هو مكتوب ومسطور، فلكم من أتقياء ضلوا عن منهج الصواب ببيان حكمة الكتاب. نعم إن التوراة والإنجيل هما الكتاب المنزل من الله عز وجل على أمتي اليهود والنصارى، ولكن تحريفهما في ما يختص بالمسيح وصلبه المزعوم هو ظاهر لعيني كل بصير (أولاً) لعدم لياقة ذلك بالله سبحانه وتعالى. (ثانياً) لأنه تعالى يقول في كتابه العزيز (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) ليس إلهاً بل رسولاً من الله لقومه. كأحد أنبيائه ورسله المقربين. هذا وألا تعلمون يا إخوان أنه لا يمكنكم التدين بالنصرانية بدون أن تنكروا القرآن المنزل على قلب سيدنا نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهل حقاً وصلتم إلى هذا الحد من الضلال الجالب عليكم لا ريب خسارة الدارين؟ وقاكم الله من ذلك. ثم وإن أكن في أعينكم غير مستحق أن تطلعوني على تلك الرسيلة وتدعوني للاشتراك معكم كأخ بالمفاوضة والبحث بشأنها، أرى من واجباتي كمسلم مؤمن بالله وبالرسول. وكأخ محب لكم أن أقدم لحضراتكم رسالة النصح هذه. وليكن مؤكداً لديكم والله شاهد إن ما قد بلغني عنكم من هذا القبيل قد أضرم في فؤادي نار أسف وكدر لا يعبّر عنهما - كيف لا وجماعة من المسلمين نخبة علماء الدين وقدوة المؤمنين في الفضل والتقى قد كادوا يضلون عن سواء السبيل إلى قفر الأضاليل، بكليمات طفيفة وجمل سخيفة من بعض المشركين، وهل من مسلم غيور يتقاعد عن مد يد ساعد الجد لإنهاض إخوانه من وهدة الضلال والإغواء؟ أيقنوا يا إخوان أن إخلاصي لكم وغيرتي على دين الإسلام السليم بعثاني الآن على إرسال هذه الكلمات إليكم، فهل لكم حفظكم الله أن تقبلوا نصح أخيكم هذا وتنبذوا الأوهام الباطلة والوساوس الشيطانية من جراء تلك الرسيلة الشنعاء، مكتفين بما أنزل الرحمن عز وجل في قرآنه الشريف أو تبقون «وقاكم الله» متهورين في وهدة هذا الغي المهلك، مصممين على هجر ربوع الدين الإسلامي والذهاب إلى بلقع الدين النصراني، فعليكم بالتأمل بما سيحل بكم لا ريب من البلايا، وما ستكابدونه من المشاق والمتاعب التي يعز عليّ أن أراكم تكابدونها. وربما أخوكم ومحبكم هذا انقلب من ثم كعدو لكم امتثالاً لشرع الله ورسوله. فهل لكم هداكم الله على احتمال ما ذكرت؟.. أتوسل إليكم بحق المحبة الأخوية، وبحق أولياء الله ورسله، ألا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة. وإن حسن لديكم فأكرموا بالجواب حالاً عسى أنه يكون ما يريح فكري ويسر قلبي هذا ما اقتضى لحبكم والله يحفظكم» .
في ١٠ محرم الحرام سنة ١٢٧٥
الداعي أخوكم
ناصر الدين عمر
ثم طوى المكتوب ودفعه إلى ولده المذكور آمراً إياه أن يوصله بيده صباحاً إلى الشيخ علي عمر. فقام باكراً وذهب إلى بيت المذكور فلما دخل عليه وأخرج الكتاب من جيبه استعاذ الشيخ بالله، وقال: «الله يعطينا خير هذا المغلف». وما ذلك إلا لأنه عرف طباع الشيخ ناصر الدين وما انطوى عليه من روح العجب والادعاء. وبعد أن تناوله منه وفضه، نظر إليه قليلاً ثم التفت إلى حامله وقال: «شكراً لأخي والدك على ما قد تفضل به علينا في هذه الرسالة البهية من نصائح الحب الأخوي، فأبلغه ذلك عني، وقل له إني بعد اجتماعي بالأصحاب الموجهة إليه أيضاً هذه الرسالة والتأمل فيها، نقدم إن شاء الله لحضرته الجواب». فانصرف محي الدين راجعاً إلى أبيه، وأخبره بما كان من الشيخ علي.
أما الشيخ فبعد أن انصرف محيي الدين انفرد في مخدعه يتبصر في كتاب الشيخ ناصر الدين. فكان تارة يضحك وأخرى يعبس، ثم قال: عجباً كيف لاق له تدوين ذلك بقلمه: ما أسقم قوله «فلكم من أتقياء ضلوا عن منهج الصواب». إن الله سبحانه يهدي بالاولى متقيه وخائفيه. ألعله يعني بذلك الذين اهتدوا من قبل إلى الحق المسيحي إذ كانوا من أولي العلم والتقى، ينذرنا بما سنكابده في هذه الطريق من المشاق والبلايا، وإنه هو ربما يشترك في إذلالنا، أهذه هي المحبة التي يدعيها نحونا؟ إني موقن بالله أنه يهب عباده كثرة النعمة مع البلية حتى يستطيعوا احتمالها. ما أشقى العالم وما اقسى قلب الإنسان. نجنا يا رب من بغي الناس، وزدنا اللهم نوراً ونعمة لنمسك بحقك حتى النهاية». ثم عاد فقال: «مسكين ناصر ما أغباه. كيف يقول عن تلك الرسالة الغراء ذات الأدلة الراهنة والحجج الدامغة أنها كليمات طفيفة سخيفة يا لروح التعصب والادعاء المشئوم. أبدون أن يطلع عليها يحكم عليها هكذا؟»
هذا وأما ما كان من السيد إبراهيم مصطفى فإنه بعد انفضاض الجلسة الثانية جاء إلى بيته وقلبه طافح من السرور مما جرى في تلك الجلسة، ثم أخذ التوراة والإنجيل والقرآن ونظر في الآيات المشاكلة فيها واستخلص منها جدولاً ظريفاً في ما يختص بالمسيح بن مريم وهو كما ترى:
التوراة | الإنجيل | القرآن |
«وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ»(إشعياء ٧: ١٤). «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» (إشعياء ٩: ٦) | «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا)» (متى ١: ٢٣) «فَقَالَ لَهَا ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُّوَةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ (لوقا ١: ٣٠ و٣١ و٣٤ و٣٥) | «إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ» (سورة آل عمران ٣: ٤٥ و٤٦) «قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً (سورة مريم ١٩: ٢٠ و٢١) |
«قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ» (مزمور ١١٠: ١) «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا ٥: ٢) | «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا» (يوحنا ١: ١ و١٤) «هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ ٱلْكُلُّ» (كو ١: ١٧) «وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱبْنَ ٱللّٰهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ ٱلْحَقَّ »(١ يو ٥: ٢٠) «وَلَهُمُ ٱلآبَاءُ، وَمِنْهُمُ ٱلْمَسِيحُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلٰهاً مُبَارَكاً إِلَى ٱلأَبَدِ» (رو ٩: ٥) | «إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» (سورة النساء ٤: ١٧١) «ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً» (سورة الحديد ٥٧: ٢٧) |
«وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ»(تك ٢٦: ٤ و٢٨: ١٤) «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ وَأُقِيمُ لِدَاوُدَ غُصْنَ بِرٍّ، فَيَمْلِكُ مَلِكٌ وَيَنْجَحُ، وَيُجْرِي حَقّاً وَعَدْلاً فِي ٱلأَرْضِ. فِي أَيَّامِهِ يُخَلَّصُ يَهُوذَا وَيَسْكُنُ إِسْرَائِيلُ آمِناً، وَهٰذَا هُوَ ٱسْمُهُ ٱلَّذِي يَدْعُونَهُ بِهِ: ٱلرَّبُّ بِرُّنَا» (إر ٢٣: ٥ و٦) «وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ أَنَّ أَصْلَ يَسَّى ٱلْقَائِمَ رَايَةً لِلشُّعُوبِ إِيَّاهُ تَطْلُبُ ٱلأُمَمُ، وَيَكُونُ مَحَلُّهُ مَجْداً» (إش ١١: ١٠) | «أَنْتُمْ أَبْنَاءُ ٱلأَنْبِيَاءِ، وَٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي عَاهَدَ بِهِ ٱللّٰهُ آبَاءَنَا قَائِلاً لإِبْراهِيمَ: وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ. إِلَيْكُمْ أَّوَلاً، إِذْ أَقَامَ ٱللّٰهُ فَتَاهُ يَسُوعَ، أَرْسَلَهُ يُبَارِكُكُمْ» (أع ٣: ٢٥ و٢٦) «وَأَيْضاً يَقُولُ إِشَعْيَاءُ: سَيَكُونُ أَصْلُ يَسَّى وَٱلْقَائِمُ لِيَسُودَ عَلَى ٱلأُمَمِ. عَلَيْهِ سَيَكُونُ رَجَاءُ ٱلأُمَمِ» (رو ١٥: ١٢) | «ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً» (سورة الانعام ٦: ١٥٤) «أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ» (سورة الأنعام ٦: ١٥٦ و١٥٧) «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (سورة المائدة ٥: ٤٧) |
«وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إش ٥٣: ١٢) «قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ ٱلأَشْرَارِ ٱكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ» (مز ٢٢: ١٦ و١٧) | «فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاَطُسُ يَسُوعَ وَجَلَدَهُ. وَضَفَرَ ٱلْعَسْكَرُ إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ» (يو ١٩: ١ و٢) «وَكَانَتِ ٱلسَّاعَةُ ٱلثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ. وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. فَتَمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ» (مر ١٥: ٢٥ و٢٧ و٢٨) | «إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ» (سورة آل عمران ٣: ٥٥) |
«لِذٰلِكَ فَرِحَ قَلْبِي وَٱبْتَهَجَتْ رُوحِي. جَسَدِي أَيْضاً يَسْكُنُ مُطْمَئِنّاً. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَاداً» (مز ١٦: ٩ و١٠) «تَحْيَا أَمْوَاتُكَ. تَقُومُ ٱلْجُثَثُ. ٱسْتَيْقِظُوا. تَرَنَّمُوا يَا سُكَّانَ ٱلتُّرَابِ (إش ٢٦: ١٩) اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ ٱلأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ ٱلأَرْضِ مُلْكاً لَكَ» (مز ٢: ٨) | «فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ ٱلْخَلَّ قَالَ: قَدْ أُكْمِلَ. وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ» (يو ١٩: ٣٠) «وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ» (يو ١٩: ٣٣) «لِمَاذَا تَطْلُبْنَ ٱلْحَيَّ بَيْنَ ٱلأَمْوَاتِ؟ لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا لٰكِنَّهُ قَامَ!» (لو ٢٤: ٥ و٦) | «وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» (سورة مريم ١٩: ٣٣ و٣٤) «بَل رَفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْه» (سورة النساء ٤: ١٥٨) |
وبعد أن أنهى هذا الجدول وتأمله تنهد وقال: «يا للعجب والدهشة ما هذه المطابقة المدهشة بين التوراة والإنجيل، والمقارنة المعتبرة بينهما وبين القرآن من جهة كون المسيح ابن مريم آتياً من الله مماتاً في الجسد مبعوثاً من الموت؟ كيف أن علماءنا يتلون القرآن كثيراً ولا يبصرون هذه الأمور الجلية. وعلى الأقل لا يلحظون الدلائل الصريحة في مثل هذه الآيات على سمو المسيح على الأنبياء والمرسلين كافة، ولماذا أكثر اللوم على الآخرين، وأنا قد درست القرآن مرات لا تُحصى ولم أنتبه إلى هذه الجواهر الكريمة، أشكرك اللهم يا هادي الضالين ومنير الكفيفين أنك هديتني وأنرتني فزدني ربي نوراً وهدى واهد جميع خلقك صراطك القويم. آمين. ثم قام وجاء إلى الشيخ سليمان وأراه ذلك الجدول قائلاً له: «انظر يا سيدي قد رأيت هنا أموراً مدهشة عجيبة» فأخذه منه وبدأ يتأمله ولوائح السرور تطفح على وجهه البشوش، لأنه كان قد عرف هذه الأمور قبلاً. فلم يبق عنده أقل ريب بسلامة الكتاب وبكون المسيح بن مريم هو أيضاً ابن لله فادي الخطاة، ولكنه فرح وسر كثيراً مما رآه أمس من السيد إبراهيم في مناظرته مع عمر أفندي، ومن اطلاعه على هذا الجدول الدال لا محالة على حسن تعقل المذكور وسرعة إدراكه الحقائق ونباهته الغير الاعتيادية. ولأن ذلك قوّى أمله بأن الجميع متى رأوا هذه الحقائق يتمسكون بها. ولما انتهى من التأمل فيه التفت إلى السيد إبراهيم وقال له: ما كنت أظن جنابك، بوقت وجيز كهذا تصل إلى هذا الحد من اختبار الكتاب المقدس وإدراك كنه هذه المسألة الخطيرة على هذه الصورة، فالحمد لله المرشد الهادي. حقاً إنّ قلبي مفعم سروراً وابتهاجاً لإدراكك هكذا سريعاً هذه الأمور، وشكراً على هذا الجدول اللطيف المفيد فأرجو أن الجميع يرون كما رأيت. نعم يا أخي إنّ هذه المطابقة والمقارنة هي كلية الاعتبار، وما الآيات بشأن المسيح في الكتاب والقرآن إلا جواهر كريمة ضمن غلاف من القرطاس والجلد. وكم من الجهلاء بالجواهر وقيمتها إذ عثروا على واحدة منها ازدروا بها وأهملوها، وإذا هم على فرض رأوها جميلة والتقطوها باعوها بأبخس الأثمان حمقاً وغباوة. فهكذا كثيرون يتلون الكتاب تكراراً ولا ينتبهون إلى ما يتضمن من الجواهر الكريمة والعقاقير الشافية من أمراض الخطية رغم شدة حاجتهم إليها. وربما لذذوا أنفسهم بترنيم كلامه بأصوات رخيمة مهيجة للإحساسات الروحية بدون التفاتهم إلى غايته ومعانيه الأكثر فائدة ونفعاً. إنما بذلك لأشبه بمن يشم رائحة الورد والأزهار العطرية ثم يلقيها إلى جانب غير ملتفت إلى ما فيها من الخواص النافعة والفوائد الثمينة. فحقاً يا أخي أن هذه المطابقة بين التوراة والإنجيل وما كاد يكون كالمطابقة بينهما وبين القرآن من جهة المسيح من حيثية لاهوته وناسوته وإتيانه بمعجزات خارقة العادة وموته بالجسد وقيامته العجيبة، تدل لا محالة المطالع النبيه على غرابة هذا الشخص الكريم. وما القرآن من جهة هذه الأمور إلا كشهادة لما قيل وأنزل في الكتاب عن سمو شخصية المسيح على كل البشر، وكيانه روحياً قبل تجسده وعن موته وقيامته. فانظر أنه شهد للإنجيل مما بيد اليهود والمسلمين شهادتين من كتابين بيد أمتين عظيمتين مضاديتن للنصارى، الواحدة سابقة والأخرى لاحقة. الأولى تشهد لما سوف يأتي والأخرى تشهد لما قد أتى. على أن الكتاب غير مفتقر البتة إلى شهادة القرآن، إذ له من البينات الراهنة على كونه كتاب الله لا ريب فيه ما يكفي للبصير المخلص» .
وإذا كان القرآن ينكر ألوهية المسيح فما باله يقول: «كلمة الله وروح منه» ماذا يعني بذلك؟ أي نبي قيل عنه هكذا؟ ولماذا أفرد عيسى بهذا النسب الإلهي دون جميع الأنبياء والمرسلين؟ ألا أن ذلك على الأقل هو كوسيلة لفتح العين واقتياد البصير إلى اعتبار نص التوراة والإنجيل بخصوصه؟ أيكشف لنا القرآن عن بعض أطراف المسيح وينهانا عن كشف الستار عنه كي لا يرى كماله الإلهي، أو يرينا إياه من وراء حجاب يستره كما يرى كمال قرص القمر محتجباً في بدء هلاله، ويمنع من إزاحة ذلك الحجاب كي لا يرى كما بهاء ذلك البدر المنير؟ ومن يرضى بذلك، لأنه مع كونه يوجد فرق حرّفياً بين القول ابن الله والقول كلمة الله وروح منه أو روح الله يوجد بينهما تقارب كلي في المعنى والجوهر، بل لأقولن هما شيء واحد. ثم إن كان الله سبحانه سر هكذا أن يرسل كلمته لتتجسد، ويبذل قدوسه للموت بالجسد فداء عن البشر وفاء لحق عدله تعالى، وأعلن ذلك في كتاب مبين، فمن نحن حتى نكذب الله وكتابه بداعي أن ذلك لا يوافق العقل ولا يليق بجلاله تعالى؟ أيحق لنا نحن البشر الفاسدون الجهلاء أن نقيس حكمة الباري بمقياس العقل الإنساني؟ أيعرف بذات الله سواه؟ أليس أن ما يرتاح إليه العقل أن يقبل المخلوق بخضوع وتواضع ما أعلن له من لدن خالقه متى تأكد له ذلك بالدليل والبرهان وما هي عقولنا حتى يمكنها إدراك ماهية أعمال الحكمة الإلهية والقدرة الأزلية؟ أيرفض العليل العلاج حتى يفهم أعمال الحكمة الإلهية والقدرة الأزلية؟ أيرفض العليل العلاج حتى يفهم ويعرف كيف صنعه الطبيب ومن أي الأنواع ركبه؟ بل جل احتياجه أن يعرف مهارة وأمانة ذلك الطبيب ويقبل الدواء من يده ويستعمله حسب إشارته. هكذا علينا كعبيد الله أن نؤمن مصدقين بما أنزله وأعلنه لنا سبحانه في كتابه العزيز بدون أن نقول كيف وكيف، حال كونه تعالى على كل شيء قدير فالحق أوضح من أن يبين أن المسيح ابن مريم هو ابن الله إله وإنسان مات بالجسد وقام وهو حي إلى الأبد، وهو جالس عن يمين الآب يشفع في المؤمنين ، وهو الشخص الفريد العجيب الذي أرسله الرحمن رحمة للعالمين وحياة للهالكين. ثبت الله قلوبنا آمين».
أما ما كان من السيد إبراهيم فإنه كان في أثناء هذا الكلام غاية في الإصغاء والابتهاج. ولما انتهى الشيخ سليمان من كلامه قال له: «شكراً لك يا مولاي على هذه الجمل اللذيذة المفيدة».
وفي الصباح أتى الشيخ علي ثم الشيخ محمود ثم الشيخ عبد الحليم والشيخ أحمد عبد الهادي والسيد عمر كل على حدته، فعرضا عليهم الجدول المذكور، وتخابرا معهم ملياً، فوجداهم على ما يرام كأنهم بقلب واحد. ثم اتفقوا معاً أن يخطب بهذا الشأن في الجلسة القادمة السيد إبراهيم لظنهم أنها تكون آخر اجتماعاتهم بشأن سلامة الكتاب وصحته.
ليست هناك تعليقات: