لماذا كان عيسى مسؤولاً عن خطية آدم

٤ - لماذا كان عيسى مسؤولاً عن خطية آدم حسب زعمكم، ومطالباً بالتكفير عنها؟

من المسلم به أن أحداً لا يستطيع خدمة الحقيقة إلا إذا سمى الأشياء بأسمائها الحقيقية. وعلى هذا الأساس أراني ملزماً بأن أذكرك بأن اسم المسيح هو يسوع وليس عيسى هكذا قال ملاك الرب جبرائيل لأمه مريم العذراء: «وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى» (لوقا ١: ٣١ - ٣٢).
يعلّم الكتاب العزيز أن الله خلق الإنسان على صورته في البر وقداسة الحق. وعاهده عهد الحياة على شرط الطاعة الكاملة لوصاياه. وهاك النص كما ورد في سفر التكوين «فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللّٰهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ... وَأَخَذَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا. وَأَوْصَى ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين ١: ٢٧ - ٢٨، ٢: ١٥ - ١٧).
وعاش آدم ردحاً من الزمن في فردوس الله في حالة من الطهر. متمتعاً بشركة روحية مع الرب الإله. وهذه الشركة الروحية كانت تملأ قلب آدم وفكره بالسعادة.
كان آدم بسيطاً وفي البساطة قرب من قلب الله. وكان وديعاً وفي الوداعة مسحة من روح الله وكان مؤمناً والإيمان هو اليد التي تتناول بركات الله وكان باراً وفي البر قبس من نور الله. ومع ذلك فقد سمح الله بأن يمتحن آدم. وكان موضوع الامتحان، هل يحتفظ آدم بمكانه من الطاعة والولاء لله؟ كان هناك وصية والوصية حداً بين ما يحق لآدم وبين ما يمنعه عليه. وبكلمة أخرى كان قصد الله من السماح بامتحانه أن يتعلم أبو البشر بأن هناك فاصلاً بين الحلال والحرام وأنه لإثم أن يتعدى هذا الفاصل وقد جعل كل هذا بأسلوب رمزي ميسور في ثمر الشجرة الممتنعة على آدم.
وسهولة الامتحان ظهرت في التجربة التي جاءت من الشيطان فهذا الغاوي تقدم من حواء في ناصح تهمه مصلحة الأبوين الأولين. وقد بادر حوار بسؤال بسيط في ظاهره، ولكنه مبطن بالخداع.
«أَحَقّاً قَالَ ٱللّٰهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ؟» (تكوين ٣: ١).
وكأن الماكر يقول هل من المعقول أن الله الذي خصكما بكل هذا الحب، وأحاطكما بكل هذه العناية، ووفر لكما كل هذه السعادة يمنعكما من أن تأكلا من كل أشجار الجنة الموهوبة لكما..
أُخذت حواء بالكلام الماكر، الذي صاغ به الشيطان سؤاله. فغشيها شيء من الشك في صلاح وصية الله وفي ظل الشك أجابت:
«مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ ٱلشَّجَرَةِ ٱلَّتِي فِي وَسَطِ ٱلْجَنَّةِ فَقَالَ ٱللّٰهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا» (تكوين ٣: ٢ - ٣).
لاحظ كيف أن حواء لما اعتراها الشك، زورت كلام الله بأن زادت عليه كلمة «لا تمساه» وهذه الزيادة أوقعتها في مخالفة فظيعة، وهي تقويل الله ما لم يقله. ولكي يزيدها الشرير شكاً في صلاح الله وحق وصيته أردف قائلاً:
«لَنْ تَمُوتَا! بَلِ ٱللّٰهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَٱللّٰهِ عَارِفَيْنِ ٱلْخَيْرَ وَٱلشَّرَّ» (تكوين ٣: ٤ و٥).
كان لكلام الغاوي لون المنطق المقنع بأن الله لأجل منعها ورجلها من مساواته في المعرفة، قيدهما بتحذير يبدو أنه غير صادق. فاجتاح الشك قلب حواء. ولم تلبث أن استجابت لغواية عدو الخير وللمرة الأولى رأت حواء «أَنَّ ٱلشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ ٱلشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ» (تكوين ٣: ٦).
وهكذا سقط الأبوان الأولان. سقطت المرأة لأنها شكت في أمانة الله وصلاح وصيته، ولأنها أرادت أن تماثل الله بالمعرفة. ولم تكتف بكسر الوصية الإلهية، بل أشركت رجلها معها، فنقض عهده مع الله، وتعدى حدوده، والخطية هي التعدي (١ يوحنا ٣: ٤). ولما كانت أجرة الخطية هي موت (رومية ٦: ٣٣)، وقع المخالفان تحت قصاص الله، وفقاً لإنذاره تعالى يوم تأكل منها موتاً تموت (تكوين ٢: ١٧). ومعنى الموت هنا ليس انحلال الجسد في القبر، بل هو موت النفس بخلودها في العذاب الأبدي.
سقط آدم فوقع تحت طائلة الدينونة، فقال الله له «مَلْعُونَةٌ ٱلأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِٱلتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ ٱلْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً حَتَّى تَعُودَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ» (تكوين ٣: ١٧ - ١٩).
بعد هذا طرده الرب الإله من جنة عدن مع امرأته، فهاما على وجههما يضربان في الأرض بأتعاب وآلام ثم أنجبا نسلاً وكان نسلهما بالطبع مطروداً فاقداً ميراثه بالفردوس وبديهي أن يأتي نسلهما ضعيفاً رازحاً تحت ثقل العصيان الموروث. على أرض لعنت بسبب الإنسان.
في الواقع إنّ الأبوين الأولين لم يصبحا بعد سقوطهما خاطئين وحسب، بل مورثين للخطية أيضاً، كما هو مكتوب: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رومية ٥: ١٢). وإنه لمن العبث أن يُقال إن خطية آدم لم تنحدر إلينا. وأن كل إنسان يولد بقدرة كاملة على اختيار الخير والشر. إذ لا أثر لخطية أبويه فيه. وأنا لا أدري كيف جاز لأصحاب هذا الرأي أن يجزموا بهذا الأمر هكذا بينما حقيقة كتاب الله تناقضهم، وتسد عليهم الطريق وعملياً ألم يكن آدم نائباً عن الجنس البشري حين تعاهد مع الله عهد الحياة؟ بلى. لأن كل الوعود التي أعطاها الله له، كانت له ولنسله وعندما لفظ الحكم عليه، لعنت الأرض لهم كما لعنت له وكتب لهم أن يأكلوا خبزهم بعرق وجههم كما كتب له وتسلط الموت عليهم، كما تسلط عليه. وأيضاً أوجاع الولادة التي كتبت على حواء قصاصاً ما زالت تعانيها كل بنت من بناتها وقد أدرك الفيلسوف الكبير أبو العلاء المعري هذه الحقائق فقال:
هذا جناه أبي عليّوما جنيت على أحد

وكيف يجوز أن نسلم بآثار الوراثة العميقة في الحياة، في شتى وجوهها، ولا نسلم بالميراث الآتي إلى الإنسان من خطية أبويه الأولين؟ إن اختبارات البشر في كل جيل وعصر لتصرح في فزع مستمر مع داود النبي: «هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُّوِرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مزمور ٥١: ٥).
قال العالم الانكليزي الشهير هاكسلي: لا أعلم أن هناك دراسة انتهت إلى نتيجة تعسة للنفس كدراسة تطور الإنسانية فمن وراء ظلام التاريخ تبين أن الإنسان خاضع لوضع فيه يسيطر عليه بقوة هائلة إنه فريسة واهنة عمياء لدوافع تقوده إلى الخراب، وضحية لأوهام لا نهائية، جعلت كيانه العقلي هماً ثقيلاً، وأفنت جسده بالغموم والمتاعب ومنذ آلاف السنين لا يزال هو هو، يقاتل ويضطهد ويعود ليبكي ضحاياه، ويبني قبورهم. وهل يحتاج أحد إلى هذه الشهادات الصارخة الآتية عبر التاريخ لكي يلمس هذه الحقيقة؟ ألا يكفي أن ينظر الإنسان إلى أعماق نفسه، ويتحسس ميوله ونزواته ليعلم أن ناموس الخطية ساكن فيه.
يكفي أن نلقي نظرة على المجتمع البشري، لنلمس هذه الحقيقة عند كل إنسان وهي أن الجميع «فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً» (مزمور ١٤: ١). وقد وصفهم إشعياء النبي بالقول: «أَعْمَالُهُمْ أَعْمَالُ إِثْمٍ، وَفِعْلُ ٱلظُّلْمِ فِي أَيْدِيهِمْ. أَرْجُلُهُمْ إِلَى ٱلشَّرِّ تَجْرِي وَتُسْرِعُ إِلَى سَفْكِ ٱلدَّمِ ٱلّزَكِيِّ. أَفْكَارُهُمْ أَفْكَارُ إِثْمٍ. فِي طُرُقِهِمِ ٱغْتِصَابٌ وَسَحْقٌ. طَرِيقُ ٱلسَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَلَيْسَ فِي مَسَالِكِهِمْ عَدْلٌ» (إشعياء ٥٩: ٦ - ٨). ووصف إرميا النبي القلب البشري بأنه «اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ» (إرميا ١٧: ٩).
في الواقع إنّ وجود الخطية في حياة كل إنسان أمر لا يجهله أحد لأن فساد الطبيعة البشرية ظاهر للحس في عجز الإنسان عن حفظ الناموس الأدبي من تلقاء نفسه، حتى بتوبته الذاتية. فهذه عرضة للفشل، إن كانت لا تلقى معرفة الروح القدس، مما يؤكد خلو النفس البشرية من البر الأصلي الذي كان لآدم قبل السقوط.
يكفي أن نلقي نظرة عابرة على تاريخ الجريمة عبر الأجيال لكي نجد الدليل الحاسم على فقدان الإنسان طبيعة الصلاح وأخذه طبيعة الفساد وأول ما ظهرت طبيعة الفساد الموروثة كان في جريمة القتل الأولى، التي اقترفها قايين بن آدم بحق أخيه هابيل. ولماذا قتله؟ أليس لأنه كان شريراً؟ ولماذا يخاصم أحدنا الآخر، أليس لأن طبيعة الشر متأصلة فينا؟ ولماذا تحارب أمة أمة أخرى، أليس بفعل شر الأفراد حينما يتكتلون؟

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.