رواية الباكورة الشهية - 7
الفصل السابع
رجع الشيخان عبد الكريم وعبد اللطيف إلى أصحابهما وأخبراهم بما جرى بينهما وبين العلماء المذكورين، ثم قالا: «إنا لا نرى فائدة البتة من السعي بإرجاعهم بالتي هي أحسن». فذهل الجماعة من ذلك، وقال بعضهم: آه لقد سقطوا سقوطاً ليس منه نهوض. واأسفاه، وقال آخرون: تبا لهم كيف استخفوا بنصحنا وإنذارنا؟ ألم يصدقوا ما أنذرناهم به؟ وقال غيرهم: متى مستهم البلايا وحاقت بهم الأهوال ينكصون على أعقابهم راجعين. فقال الشيخ عبد الكريم: «لا غرو أن يرجع بعضهم متى ذاقوا مرارة الاضطهاد، إلا أن أكثرهم كما أرى لا ينثنون عن أوهامهم ولو قطعوا إرباً إرباً» وبينما هم في الحديث وإذا بالحاج قدور المار ذكره داخل عليهم، وكان غائباً منذ يومين عن البلد لشغل ما، فبعد أن علم وفهم ما قد جرى، هاج وماج وقال: «واعجباه من تقاعدكم أيها السادة. كيف اصطبرتم عليهم للآن ولم تسعوا بقصاصهم ببعض ما يستحقون؟ أيفسدون بالدين ويكفرون بالنبي والقرآن الكريم، ويزرعون الفساد في أذهان العباد وأنتم عنهم متماهلون؟ تتملقونهم بالكلام وتكسبونهم الزمان ريثما يتمكنون من نشر أضاليلهم وتمويهاتهم؟ ألا تعلمون أن هذا الضلال متى حل ساحة الألباب لا يتيسر إخراجه إلا بالسيف الأحدب؟» فقال الشيخ درويش العمري، وقد أزاح عمامته عن جبهته وقبض على لحيته: «لا، بالله كلام الحاج قدور عين الصواب. والله لقد قصرنا بحق هؤلاء الحمقى. دعوني سادتي أذهب الآن وأهيج البلد وأقبض عليهم على حين غفلة وآتي بهم إلى الحكومة صباحاً لئلا يهربوا الليلة أو يختبئوا فيفلتوا من يدنا». فأجابه الشيخ عبد الرحيم: «مهلاً يا حاج. نعم أن غيرتك تستحق الثناء، لكن ما فهت به أخيراً غير مناسب، والجري عليه من باب الطياشة، لأنه ليس في مقدرتنا القبض على أعيان أجلاء نظير هؤلاء، ولا يسوغ لنا ذلك. وهب أن ذلك في حيز الإمكان لا يناسب الآن، لأنه ما أدراك أن يضحي ذلك على انقسام البلد، وداعياً لفتنة دموية تصبح مسئوليتها على عاتقنا أنهم من أشراف البلد وأوفر حرمة واعتباراً وذوي عصبات قوية لا يستخف فمن أعسر الأمور وأخطرها محاولة القبض عليهم. فعندي أن نعرض صباحاً هذا الأمر على قاضي أفندي ومفتي أفندي، وقبل الظهر نعرض الواقع على الحكومة وهي أولى بأمر كهذا. وأحرى بنا وأنسب من أن نبدي تشويشاً واضطراباً لا نعلم ما تكون عواقبه». فاستصوب الجميع هذا الرأي وفوضوا بإبلاغ القاضي والمفتي ذلك الشيخ ناصر الدين والسيد عبد القادر. وأنهم نحو الساعة الرابعة من النهار يحضرون جميعاً إلى دار الولاية ويعرضون الحال لدولة الوالي، ثم انصرفوا إلى منازلهم. وفي الصباح نهض الشيخ ناصر الدين والسيد عبد القادر وأتيا منزل القاضي وطلبا مواجهته وبعد وقت قليل دعيا إلى محل الاستقبال فسألهما القاضي: ما شأنكما يا أخوان؟ فقصا عليه ما كان من الشيخ علي ورفاقه وما جري بينهم وبين المذكورين واجتهدا كثيراً في تهييج خاطر القاضي عليهم بكل ما يمكن من الطعن والافتراء وحضرته صامت عابس إلى أن انتهيا من الكلام. ثم قال بكل رزانية وهدوء إن كان الأمر كما تذكران فهو لخطب عظيم يدعو إلى غاية الأسف والكدر فلا تؤخذاني إذا قلت أنه بناء على وفرة علم أولئك الرجال وتقواهم يصعب عليّ تصديق كل ما قصصتما عنهم ولا يخلو الأمر من المبالغة. أجابا: «لا وحياة رأس المصطفى أننا لم نعرض عليكم إلا الواقع وسوف يتحقق ذلك فضيلتكم». فتنهد حينئذ وقال: «آه واأسفاه واخيرتاه لا حول ولا قوة إلا بالله». ثم قال لهما: «وما فكركما تفعلان؟» قال: «فكرنا أن نعلم بذلك مفتي أفندي ثم نعرض الواقع لدولة الوالي». قال: «أما مفتي أفندي فلا لزم لذهابكما إليه أنا أبلغه ذلك وأما عرض ذلك إلى دولة أفندينا فهو إليكما متى شئتما». ثم استأذنا وانصرفا وكان القاضي من أعقل الناس، فبعد انصرافهما اجتمع بالمفتي ونص عليه الخبر. ثم قال: «لا يخفى أن هذا الفساد هو لداء معد سيما بواسطة علماء مشهورين كهؤلاء إنما لكون بعضهم من أنسبائنا وخلاننا أتحير جداً كيف نتصرف معهم إذا أصروا على رأيهم. حضرتك تعلم أن للمذكورين مناظرين وحساداً كثيرين لؤماء فمتى رأوهم تحت مسئولية خطيرة كهذه لا يتأخروا عن الافتراء عليهم واتهامهم زوراً بما يعجل إعدامهم. فعلى كلا الوجهين الأمر عسر النظر فيه» . فنظر إليه المفتي وإذا عيناه مغرورقتان بالدموع فاستغرب ذلك وقال: «إني شاعر بصعوبة الأمر وإنما لله الأمر أما نحن فمن كوننا مسلمين ووظائفنا ذات أهمية كبرى ديناً وسياسة فلا يمكننا العدول عن منهج الشريعة لا سيما في مثل هذه المسألة». قال القاضي: «نعم، ولكنني أفضل الاستعفاء على الحكم بالإعدام على الشيخ علي أو الشيخ محمود إنما رجائي بالله بواسطة نصائحك ووسائل حبك أنهم ينزعون عن أوهامهم ويرجعون عن ضلالهم. ولكن لنفرض أن كل الوسائل لإرجاعهم ذهبت سدى فما يكون ليت شعري». أجاب المفتي: «إذا بقوا مصرين على التمسك بأوهام ضلالهم وجب إبعادهم إلى بلد خال من المسلمين». قال القاضي: «ذلك أنسب ولكن هل نتمكن من الاقتصار عليه».ثم افترقا ونحو الساعة الثالثة من النهار التقيا في دار الحكومة وبعد أن جلس الوالي على كرسي الولاية هنيهة إذا جماعة من العلماء والمدرسين والشيخ ناصر الدين عمر وأصحابه المذكورين داخلون فأنكر الوالي وأرباب المجلس ذلك، ولم يعرفوا سبب دخولهم ثم سلموا فأمرهم الوالي بالجلوس، فقالوا لا نجلس حتى نعرض لأفندينا أمراً خطيراً فخفق قلب الوالي وقال: «ما هو؟». فقال القاضي: «إن حسن لدى أفندينا فليأمر بإخلاء الديوان من النصارى وإفراغه من كل مدع ومشتك ولا يسمح بدخول أحد إلى الديوان ما عدا أرباب المأموريات والوظائف حتى نهاية المسألة التي سيعرضها حضرات المشايخ، فأمر الوالي وأفرغ الديوان وقال: «وما الأمر الخطير الذي أتيتم بشأنه؟» فقال السيد عبد القادر الفصيح: «إذ كان دولة أفندينا أيده الله هو أفضل الولاة وأشدهم غيرة على تأييد وتشييد شرف الإسلام، رأينا أن نعرض لديه ما وجب علينا عرضه. فبعظم الأسف نقول أن جملة من المشايخ (وذكر أسماءهم) تنصروا وأنكروا النبي والقرآن، وعلة ذلك هو وجود صداقة قديمة بين الشيخ أحمد عبد الهادي ورجل حلبي نصراني يدعى يوحنا الغيور، متوطن في مرسيليا. فمن مدة ما جاء من المذكور رسالة إلى الشيخ عنوانها «في الحق الإلهي» غايتها إثبات النصرانية وإبطال كل دين خلافها، فاطلع عليها العلماء المذكورون ومن جملتهم عبدكم هذا، فمال إلى مآلها وغايتها من حضر سوى عبدكم، فإني تكلمت ضدها محامياً بكل قوتي عن حق النبي والقرآن الشريف، ناصحاً لهم أن يلقوا تلك الرسالة في خبر كان، مبيناً لهم ما تبطنه من سموم الهلاك كباقي تآليف الملحدين والمشركين، فلم يكن لرأي هذا محل في عقولهم. ثم لمّا جرت المفاوضة والمحاورة بشأن مضمون تلك الرسالة رأيتهم قد دانوا إلى غايتها واذعنوا إلى مقالها، فعارضتهم سدى في ذلك، ومن ثم نفرت منهم وأتيت لأستاذي الشيخ ناصر الدين عمر واطلعته على أمرهم، فاستحسن أن يرسل إليهم كتاباً يتضمن نصحاً أخوياً بالرجوع عن هذه الآراء والعدول عن سبل التمسك بهذه الأوهام، ففعل بما أمكن من الرقة والملاطفة، وجاوبوه بخشونة وإباءة مصرحين بتنصرهم. وهذا هو جوابهم بقلم الشيخ علي، إن حسن لدى أفندينا النظر إليه» . ثم دفع المكتوب إلى الترجمان، فقدمه إلى الوالي، وإذ كان دولة الوالي أوشك أن يأمر بقراءته قال: «التمس من حلم أفندينا إن حسن لديه أن يسمح لعبده بإنهاء التقرير. قال الوالي: «حسناً تكلم». قال: «إن الشيخ ناصر الدين لما رأى منهم ذلك لم ير العجلة بعرض أمرهم لدولة أفندينا، بل استدعى عبيدكم هؤلاء الأئمة وأعلمهم الواقع، وشاورهم فيما ينبغي استعماله لرد هؤلاء عن ضلالهم. وبعد أعمال الفكرة ملياً أجمع رأيهم على إرسال وفد منهم إلى المذكورين، فأرسلوا الشيخ عبد الكريم والشيخ عبد اللطيف جمال الدين المتمثلين الآن لديكم ليقدما لهما النصيحة النهائية، ويبلغاهم شدة تأثرنا لتخلفهم عنا باعتنقاهم النصرانية، فذهبا وبذلا إمكانهما بالنصح والإنذار بكل رقة وحب، فجاوبوهما ببيان وصراحة أنهم مسيحيون بعيسى المسيح. وبذلوا جهدهم بمحاولة إقناعهم ليسلكا معهم سبيل ضلالهم هذا، فلما رجعا وأخبرانا ما كان آيسنا من إرجاعهم، ورأينا من واجباتنا عرض الحال لدولة أفندينا ليرى بسمو حكمته وسداد رأيه في حسم هذا الداء الخبيث».
فلما انهى كلامه سأل الوالي المشايخ رفاقه: «هل هذا الأمر أكيد؟» أجابوا: «نعم». فأخذ الوالي جواب الشيخ علي ودفعه إلى الترجمان فقرأه على مسامع الحاضرين، وكان يلوح على وجه الوالي لوائح وبعد هنيهة التفت إلى أرباب المجلس وقال: «هل هذا خط الشيخ علي؟». فأجاب البعض: «نعم» وقال آخرون: «أنه يشبهه». فاستدعى الوالي حينئذ الطابور أغاسي وقال له: «خذ قائمة هذه الأسماء واحضرهم حالاً. فذهب وأحضرهم جميعاً. ولما مثلوا أمام الوالي والمجلس نظر إليهم الجميع نظرة التعجب، ونظر إليهم الوالي بعبوسة. وأمرهم بالجلوس فاستعفوا، ثم أمرهم ثانياً وثالثاً فجلسوا. ثم أخذ الوالي جوابهم الذي سلفت قراءته، وأمر الترجمان بقراءته مرة أخرى، فقرأه بصوت مسموع. ولما انتهى من قراءته قال الوالي: «من كتب هذا الكتاب؟» أجاب الشيخ علي: «عبدكم». قال: «إذا صرت نصرانيا» قال: «نعم. فزجره الوالي قائلاً: «بعدت عنك النعمة والرحمة». ثم قال لأصحابه: «وأنتم يا مشايخ، هل ضللتم أيضاً بضلاله؟» قالوا: «حاشا عبيدك من الضلال وإنما اتبعنا الحق الذي أنزله الله في كتابه العزيز التوراة والإنجيل المشهود له من القرآن نفسه». قال: «ألا تكتفون بالقرآن الشريف؟» أجابوا: «وكيف يدلنا على التوراة والإنجيل أنهما كتاب الله؟». قال: «ويحكم أن الإنجيل قد تحرّف تحريفاً شنيعاً إذ يسمى عيسى ابن مريم إلهاً وإنساناً، وأن هذا الإله المزعوم صلب من يد اليهود وقبر، وقام في اليوم الثالث، وأنه بهذه الميتة يظهر تابعيه من خطاياهم. أتوجد خرافة أحسم من هذه؟ عار عليكم. أنكم بكليمات سخيفة تضلون بها هكذا سريعاً. فالآن آمركم أن ترجعوا عن هذا الغي القبيح إلى الدين الصحيح والحق الصريح، واعترفوا بذنبكم أمام هذا المجلس، واصلحوا خطأكم أصلحكم الله». أجاب الشيخ علي: «نلتمس من حلم أفندينا أن يسمح لنا أيضاً بالتكلم قليلاً». قال: «تكلم». قال: «لا يخفى على أفندينا أننا بعد البحث بدقة وإمعان في أمر الكتاب لم نر فيه تغييراً أو تحريفاً ما، ومن بحث عرف هذا. وأنا في كل شيء خلا الدين تحت أمركم، لأن الدين أمر بين الله والإنسان، وعلى كل ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس». فلما سمع الوالي هذا الكلام ازداد حنقاً وغضباً وقال بصوت الحدة والزجر: «اسكت يا خبيث». وللحال أمر مأمور الضابطة أن يأخذهم إلى السجن ويضع الحديد بأرجلهم، فأخرجهم وذهب بهم، وإذ كان نازلاً بهم توسل القاضي إلى الوالي بإرجاعهم إلى المجلس ليتكلم معهم إن شاء دولته، فأجابه إلى ذلك وأرجعوا. ولما دخلوا أومأ الوالي إلى القاضي أن يكلمهم «بأمر أفندينا أقول لكم تفضلوا واجلسوا حسب مقامكم وعادتكم، البلد بلدكم والحكومة حكومتكم وهي لخيركم وخير وطنكم، وهذا المجلس يقبلكم الآن بترخيص دولته بكل عزة وترحاب، فاجلسوا حسناً واشكروا دولته على صالح غيرته نحوكم». فجلسوا، ثم نظر إليهم الوالي مبتسماً، وأمر لهم بالقهوة فشربوا، ثم التفت إليهم وقال: «يا آبائي العلماء وإخواني في الدين وأولادي في السياسة، كيف يمكن أن أراكم تهجرون ربوع دين الإسلام، وتذهبون إلى قفر الإشراك ولا يكمد قلبي وينسحق كبدي؟ فلو كنتم من الرعاع لكان أمركم أيسر احتمالاً وأقل مبالاة، فأناشدكم الله أن ترجعوا إلى دينكم ودين آبائكم. وحولوا كمد قلبي إلى سرور وابتهاج». أما هم فلبثوا مطرقين من فرط لطف خطاب الوالي. فلما لاحظ ذلك عليهم استبشر الحاضرون بقرب رضوخهم لأمر الوالي، ثم قال القاضي: «استرخص من دولة أفندينا إن حسن لديه أن يسمح لعبده بالتكلم مع الإخوان قليلاً». قال: «تكلم ومن شاء غيرك من الحاضرين فليتكلم، لأننا إخوان في الإيمان» فأثنى الجميع على دولته ودعوا له بطول البقاء، ثم التفت القاضي إلى المذكورين وقال: «يا إخواني الأحباء، إن صدري وصدوركم أيضاً تختلج كثيراً بحاسات الشكر الجزيل لحضرة دولة أفندينا الأفخم لما أبداه نحوكم من الملاطفة والمؤانسة، فاذكروا يا إخوان اجتماعنا معاً في محال العبادة والدرس، ومفاوضاتنا الروحية الطيبة ومخابراتنا ومباحثاتنا فيما يتعلق بخير الأمة والوطن. فهل تقبلون أن تقوضوا مثل هذه الأساسات الجيدة التي وضعتموها بفرط الجد والعناء؟ لا لا يا أحبائي لا تأتوا هذا الأمر المنكر. أناشدكم الله أن ترجعوا من حيث شردتم ولا تخالفوا نصح أفندينا الذي تنازل به إليكم، ولا تخذلوا أخاكم هذا مستخفين بتوسلاته إليكم رضي الله عنا وعنكم». ثم قال المفتي: «يا إخواني وأحبائي أن لساني يقصر دون القيام بحق التعبير والبيان في هذا المقام عن مقدار الغم والكمد الذي أحاق بقلب أخيكم هذا من جراء الأمر المستغرب: والحق أقول أن أول كلمة طرقت أذني من هذا الخبر المشئوم شعرت بها كصاعقة انقضت على رأسي وكسهام نارية خرقت صميم فوءادي. عهدي بكم أن قلوبكم لينة فهل تحولت إلى حجر؟ كلا وحاشا. فيا أحبائي الأعزاء أتوسل إليكم بحق المحبة والصحبة وإكراماً لله أن تنزعوا عن هذه الأوهام، وارجعوا بسلام إلى دين آبائكم الشريف. وإذا رغبتم في المحادثة والمحاورة الدينية نستعملها فميا بعد على خلاء. وأما الآن أمام هذا المحفل السلطاني فننتظر ونتأمل من حبكم ووفرة حكمتكم الإجابة والإذعان لأمر أفندينا والتماس إخوانكم هؤلاء».
فبعد انتهاء الخطاب وجلوس الخطيب لوحظ على أولئك الرجال انكسار القلب وضيق الصدر، فأشار الوالي أن يعطوا فرصة للتأمل ثم بعد ذلك فرقوهم بعضهم عن بعض واضعين كل واحد منهم بين اثنين، وأخذوا في التكلم معهم همساً كل على حدته، ثم تفرقوا إلى غرف أخرى باذلين المجهود بإرجاعهم بفنون الأساليب وصنوف المواعيد، فانصاع لهم ثلاثة وهم حسن أفندي قباواتي والسيد حسين أبي النصر والسيد مصطفى الحقاني. ولما رجعوا أمام الوالي وانعقد المجلس ووقف المذكورون في الوسط واقروا معترفين بأنهم أخطأوا إلى الله ورسوله بما قد عولوا عليه من ترك الإسلام والتدين بالنصرانية، ثم أدوا الشهادة لله وللرسول. فقبل ذلك منهم بكل فرح، واثنوا عليهم، وبالغ الوالي بإكرامهم مستبشرين برجوع البقية. ثم تقوى القاضي وقال لهم: «إن دولة أفندينا مسرور جداً برجوع بعضكم إلى الدين الحق والصراط القويم، وهذا قد قوى أملنا برجوع جميعكم لإتمام سرورنا، فنكرر رجاءنا إليكم أن تتمموا سرور إخوانكم وترجعوا الراحة والسكينة والفرح إلى بيوتكم ولبلدكم. قفوا باسم الله يا أحباب كما وقف أصحابكم وأدوا الشهادة لله ولرسوله إعلاناً لإذعانكم ورجوعكم إلى الإيمان القويم». فلما انتهى القاضي من مقاله، وقف الشيخ محمود الرافعي وقال:
«إني استرخص من مكارم دولة أفندينا لأتكلم عما في قلبي عن نفسي وعن رفاقي هؤلاء، قال له الوالي تكلم فقال: «يا دولة أفندينا الأفخم، ويا أعضاء المجلس الكرام، حقاً لقد كسرتم قلوبنا وآذيتوها بالمؤانسة التي تنازلتم بها علينا بدون استحقاق، فقلوبنا تختلج بالامتنان والشكر لحضرة دولته ولكم، فيا ليت في وسعنا الرضوخ القلبي لأمره، فلا يخفى على أفندينا أن المعتقد واليقين محلهما القلب ولا يخرجان منه إلا بالدليل والبرهان. أما توسلات الإخوان والأحباب والمواعيد والوعيد والقصاص فحد فعلها في البعض إرضاخهم وإرجاعهم عما تقرر في اذهانهم رجوعاً وقتياً خارجياً فقط لا قلبياً. وبما أنه ليس في مقدرتنا ولا في مقدرة غيرنا إخراج ما قد تقرر ورسخ في أذهاننا وقلوبنا من الإيقان بسلامة وصحة نص الإنجيل الموجود الآن إلا بالدليل القاطع، لذلك لا نستطيع مقاومة الضمير بالرضوخ عفواً لأمر دولته. ولكن إذا حسن لدى دولتكم ولديكم أن تتنازلوا لمحاروتنا والعمل لإقناعنا بالبينات الراهنة والأدلة الكافية تفعلون حسناً. ومتى تبين لنا غلطنا المزعوم لا نتردد عن الرجوع الحقيقي إلى ديانة أبائنا. وها نحن بين يدي أفندينا فليفعل بنا ما هو حق. والأمر لمن له الأمر».
فلما انتهى المذكور من كلامه حصل سكوت في المجلس بضع دقائق، ثم أمر دولته بإخراجهم، وبعد خروجهم أخذ في المشورة بشأنهم فقال: «ما رأيكم في هؤلاء الجماعة، وأي قصاص يستوجبونه بعد إفراغنا الجهد التي هي أحسن؟» فقال بعضهم بوجوب إعدام اثنين أو ثلاثة منهم رهبة بالآخرين، وقال غيرهم بوجوب سجنهم مدة مدية وتغريمهم مالاً جزيلاً إلى غير ذلك من الآراء. وكان القاضي إذ ذاك ساكتاً لم يفه ببنت شفة. فقال له الوالي: «يا قاضي أفندي أعط رأيك» فقال: «يا دولة أفندينا، ليس هين تقديم الرأي في مسألة كهذه خطيرة وما سكوتي إلا لزيادة تبصري وتأملي فيما ينبغي اتخاذه من جهة هؤلاء الرجال، فالحكم عليهم بقصاص بناء على ترك ديانة آبائهم واعتناقهم ديانة أخرى ينافي نظام الدولة وشرائعها، وإطلاق سراحهم لا يناسب في الحال. على أن حكمة أفندينا كفاية لكل أمر». فلما سمع الوالي هذا الكلام انتبه بتعجب إلى ما كان قد غفل عنه، فقال إن ما قلته جنابك هو الصحيح، وأنت يا مفتي أفندي ماذا ترى؟» فقال: «أرى أن يحجز المشكو عليهم موقتاً في الديوان، وإن حسن لدى أفندينا يقدم تقرير من جهتهم فيتخلص أفندينا ونحن من أعباء المسئولية بشأنهم». فوقع هذا الرأي موقعاً حسناً عند الوالي والمجلس، وحينئذ أمر بحبسهم في غرفة مناسبة في الديوان ريثما يرد الأمر بشأنهم، وسمح للقاضي والمفتي وغيرهما أن يبذلوا الجهد بإقناعهم للعدول عن أوهامهم والرجوع إلى الإسلام. ثم أرسل إشارة برقية إلى الباب العالي تتضمن خلاصة أمرهم مع التماس الإفادة عما يجب إجراوءه من نحوهم.
ليست هناك تعليقات: