قصة حسن الحاج الروحي
هذه قصة اهتداء مسلم إيراني إلى المسيح، سبق نشرها في كتاب
«أبناء الشرق يلتقون بالمسيح». ويسرّنا أن نضيفها إلى مجموعة القصص التي سبق أن نشرناها عن المهتدين إلى المسيح من مختلف البلاد الإسلامية.
وكثيراً ما جاء السؤال: «لماذا يصعب ربح المسلمين للمسيح، ولماذا نرى الكنيسة ضعيفة في معظم البلاد الإسلامية؟» وللإجابة على ذلك نقول إن الإسلام هو الديانة الوحيدة التي جاءت بعد المسيح، والتي تعترف أن المسيحية كانت ديانة عظيمة في وقتها، ويدَّعي أنه صار الدين الحقيقي الوحيد للعالم. ويعتقد المسلمون أن الله واحد، لكنهم يرفضون أن يدعوه «الآب». ويعتقدون أنه أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم قدموا للبشر شرائع إلهية وأرشدوه إلى الطريق السوي، وأعظمهم نوح، وإبرهيم، وموسى، والمسيح ومحمد. ويعتقدون أن الله أنزل كتباً لبعض الأنبياء، مثل توراة موسى، وزبور داود، وإنجيل المسيح، لكنهم يعتبرون أن هذه الكتب لم تعُدْ ضرورية بعد أن أعطى الله إعلانه الكامل لمحمد. ويعترف القرآن بولادة المسيح من مريم العذراء، لكنه ينكر بنوَّته الإلهية. ويشير إلى معجزات المسيح في الشفاء. ويعترف المسلمون عامة أن المسيح وُهب قوة من الله لإقامة الموتى. لكن القرآن ينكر موت المسيح على الصليب، ويزعم أن واحداً من أعداء المسيح أو من أصحابه تغيّر بقوة الله إلى شكل المسيح فـ «شُبِّه لهم» وصُلب خطأ عوضاً عنه. ويقول إنّ المسيح رُفع حياً إلى السماء حيث هو اليوم. ومن الزعم المسلَّم به عند المسلمين أن المسيح في الإنجيل تنبأ عن مجيء محمد، وأمر أتباعه أن يقبلوه عندما يأتي. ولكن حيث أنه لا توجد إشارة إلى محمد في الكتب المقدسة المسيحية، لذلك يتهم المسلمون المسيحيين بجريمة تحريف كتبهم المقدسة، لأن النبوّات عن مجيء محمد قد حُذفت، وأُضيفت عبارات عن المسيح كابن الله، وعن صلبه وقيامته من الأموات.
وأغلبية المسلمين في بلاد مثل إيران، وإن كانوا يعترفون بالمسيح كنبي صالح وعظيم جداً، إلا أنهم يقولون إن محمداً هو خاتمة الأنبياء وأعظم المرسلين قد أخذ مكانه. ويقولون لا نريد «أن نرجع إلى الوراء» ونصبح أتباع المسيح، بل على عكس ذلك يجب على أتباع المسيح أن يطيعوا أمر سيدهم و «يتقدموا إلى الأمام» ويقبلوا محمداً والقرآن.
والإسلام ليس ديناً فقط بل هو أسلوب حياة، فيه تتوحد كل العناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. بل حتى عندما يقتنع مسلم أن المسيح هو المخلّص الوحيد يصعب عليه أن يعترف بإيمانه علناً ويقطع علاقته بمجتمعه السابق.
وبالرغم من هذه الصعوبات التي تبدو مستحيلة في اهتداء المسلمين، يوجد مئات كثيرون من أعضاء الكنائس المسيحية في إيران ممن كانوا في الأصل مسلمين، أو هم أبناء مسلمين اهتدوا إلى المسيح بنعمة الله وقدرته، وبعضهم يخدمون الكنائس بأمانة كرعاة ومبشرين، وأسقف الكنيسة الأنجليكانية يحتفظ باسمه المسلم للدلالة على أنه من الممكن في إيران أن يعترف المسلم علناً بإيمانه بالمسيح وأن يخدمه بجرأة وشجاعة. لكن الحرية التي ينعمون بها اليوم، شأنها شأن الحرية الدينية في أية بلاد أخرى، لم تأتِ عفواً بدون شجاعة وآلام. فقد استخدم الله شهادة الأوفياء أمثال «حسن» الحاج الروحي، الذي صار «الصخر الظافر» - مع سائر العوامل الأخرى ليأتي بكثيرين من المسلمين إلى حظيرة المسيح، الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخطاة.
وهذا ما نرجوه للقارئ الكريم.
الناشرون
وكثيراً ما جاء السؤال: «لماذا يصعب ربح المسلمين للمسيح، ولماذا نرى الكنيسة ضعيفة في معظم البلاد الإسلامية؟» وللإجابة على ذلك نقول إن الإسلام هو الديانة الوحيدة التي جاءت بعد المسيح، والتي تعترف أن المسيحية كانت ديانة عظيمة في وقتها، ويدَّعي أنه صار الدين الحقيقي الوحيد للعالم. ويعتقد المسلمون أن الله واحد، لكنهم يرفضون أن يدعوه «الآب». ويعتقدون أنه أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم قدموا للبشر شرائع إلهية وأرشدوه إلى الطريق السوي، وأعظمهم نوح، وإبرهيم، وموسى، والمسيح ومحمد. ويعتقدون أن الله أنزل كتباً لبعض الأنبياء، مثل توراة موسى، وزبور داود، وإنجيل المسيح، لكنهم يعتبرون أن هذه الكتب لم تعُدْ ضرورية بعد أن أعطى الله إعلانه الكامل لمحمد. ويعترف القرآن بولادة المسيح من مريم العذراء، لكنه ينكر بنوَّته الإلهية. ويشير إلى معجزات المسيح في الشفاء. ويعترف المسلمون عامة أن المسيح وُهب قوة من الله لإقامة الموتى. لكن القرآن ينكر موت المسيح على الصليب، ويزعم أن واحداً من أعداء المسيح أو من أصحابه تغيّر بقوة الله إلى شكل المسيح فـ «شُبِّه لهم» وصُلب خطأ عوضاً عنه. ويقول إنّ المسيح رُفع حياً إلى السماء حيث هو اليوم. ومن الزعم المسلَّم به عند المسلمين أن المسيح في الإنجيل تنبأ عن مجيء محمد، وأمر أتباعه أن يقبلوه عندما يأتي. ولكن حيث أنه لا توجد إشارة إلى محمد في الكتب المقدسة المسيحية، لذلك يتهم المسلمون المسيحيين بجريمة تحريف كتبهم المقدسة، لأن النبوّات عن مجيء محمد قد حُذفت، وأُضيفت عبارات عن المسيح كابن الله، وعن صلبه وقيامته من الأموات.
وأغلبية المسلمين في بلاد مثل إيران، وإن كانوا يعترفون بالمسيح كنبي صالح وعظيم جداً، إلا أنهم يقولون إن محمداً هو خاتمة الأنبياء وأعظم المرسلين قد أخذ مكانه. ويقولون لا نريد «أن نرجع إلى الوراء» ونصبح أتباع المسيح، بل على عكس ذلك يجب على أتباع المسيح أن يطيعوا أمر سيدهم و «يتقدموا إلى الأمام» ويقبلوا محمداً والقرآن.
والإسلام ليس ديناً فقط بل هو أسلوب حياة، فيه تتوحد كل العناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. بل حتى عندما يقتنع مسلم أن المسيح هو المخلّص الوحيد يصعب عليه أن يعترف بإيمانه علناً ويقطع علاقته بمجتمعه السابق.
وبالرغم من هذه الصعوبات التي تبدو مستحيلة في اهتداء المسلمين، يوجد مئات كثيرون من أعضاء الكنائس المسيحية في إيران ممن كانوا في الأصل مسلمين، أو هم أبناء مسلمين اهتدوا إلى المسيح بنعمة الله وقدرته، وبعضهم يخدمون الكنائس بأمانة كرعاة ومبشرين، وأسقف الكنيسة الأنجليكانية يحتفظ باسمه المسلم للدلالة على أنه من الممكن في إيران أن يعترف المسلم علناً بإيمانه بالمسيح وأن يخدمه بجرأة وشجاعة. لكن الحرية التي ينعمون بها اليوم، شأنها شأن الحرية الدينية في أية بلاد أخرى، لم تأتِ عفواً بدون شجاعة وآلام. فقد استخدم الله شهادة الأوفياء أمثال «حسن» الحاج الروحي، الذي صار «الصخر الظافر» - مع سائر العوامل الأخرى ليأتي بكثيرين من المسلمين إلى حظيرة المسيح، الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخطاة.
وهذا ما نرجوه للقارئ الكريم.
الناشرون
ما
أقل الأطفال الذين يدخلون عالمنا فيلاقون ترحيباً فاتراً كما لقي الطفل
حسن، فإنه يوم وُلد طرحته أمه على كومة من الثلج ليموت. ولم يكن ذلك لأنها
كانت تكره أن يكون لها طفل، فكل أم إيرانية تفرح بأن تحمل طفلاً حتى تفوز
برضى زوجها. لكن الذي حدث هو أنه في وقت ميلاد حسن سمعت أمه أن اللصوص
هاجموا زوجها التاجر الذي كان مسافراً وقتلوه. وقد كانت امرأة قوية
العواطف، من قبيلة الأكراد التي تقطن شمال إيران، القبيلة التي اشتهر
رجالها ونساؤها بالشجاعة وعدم الخوف وحب الاستقلال. وكان شقيق أم حسن لصاً
فظيعاً مشهوراً، فأرادت أن تطرد الحظ السيء من بيتها بقتل الطفل الذي جاء
مولده نذيراً بذلك الشؤم. لكن الله كان يريد أن يحيا ذلك الطفل لعملٍ
أعدَّه له، فلم يلقَ حتفه في الثلج. وعطف بعض الجيران على الطفل فالتقطوه
من الثلج ووضعوه بحنان بين ذراعي أمه وقالوا لها:
«ربما كانت الأخبار التي وصلتك
عن موت زوجك كاذبة. فإذا عاد إلى البيت سليماً فسوف يغضب عليك جداً عندما
يعرف أنك ألقيتِ طفله في الثلج حتى يموت». واقتنعت أم حسن
بكلامهم وأصغت لصوت العقل واحتفظت بطفلها. وما كان أشد فرحها عندما عاد
زوجها بعد حين سليماً وصحيحاً، فقدمت له باعتزاز وفخار ابناً وارثاً له.
وسُمِّي الطفل
«حسن» تيمناً باسم حفيد النبي محمد.
وُلد حسن في مدينة «مشهد» في محافظة خرزان الشرقية العظيمة المشهورة في بلاد إيران. ولا يُعرف تاريخ ميلاده بالضبط، ولكنه كان حوالي سنة ١٨٦٩. واسم المدينة «مشهد» ومعناه «مكان الاستشهاد» وقد دُعيت بهذا الاسم لأن فيها قُتل الإمام رضى، الثامن بالتسلسل من نسل محمد قبل ذلك بقرون. وقد اغتاله أعداؤه، وسرعان ما صار قبره مزاراً للحجاج المسلمين من المذهب الشيعي. وإلى اليوم بعد أكثر من ألف سنة يذهب كثير من الرجال والنساء والأطفال ليزوروا هذه المدينة المقدسة قادمين من كل أنحاء إيران ومن شتى البلدان الأخرى النائية، وهم يفرحون ويتهللون عندما يلمحون القبة الذهبية التي تعلو قبر الإمام وهي تتلألأ في الفضاء كأنها كرة من النار في وهج الشمس. وتراهم يدخلون بالدموع والتوسلات في فناء ذلك الحرم المقدس، ويقبّلون المكان الذي يرقد فيه جثمان الإمام، راجين الله أن يتقبَّل حجهم ويغفر ذنوبهم! والذين يقومون بهذا الحج، يفوزون بلقب «مشهدي». والضريح الذي يقع في وسط مدينة مشهد القديمة كان دائماً ولا يزال قلبها النابض الذي أثراها وأغناها بالهدايا والتبرعات.
وبما أنه لم تكن هناك مدارس في مشهد، فلما بلغ حسن سنّ الدراسة أرسله والده إلى الكتّاب، وهو مدرسة من طراز قديم يجلس تلاميذها على الأرض ويقضون سنوات يتعلمون حفظ القرآن باللغة العربية، ولا يتعلمون شيئاً سواه. وأحياناً لا يتعلمون القراءة ولا الكتابة بلغتهم الفارسية الجميلة. وبدأ حسن يحفظ آيات القرآن. ولما أخذ معلمه يدربه على الحروف الأبجدية العربية بطريقة مرهقة قاسية تضايق حسن وهرب من المدرسة، لكن المعلم أمسكه وضربه ضرباً شديداً. فلجأ حسن إلى وسيلة أخرى للهروب من الدراسة، بأن وضع التبغ في عينيه حتى التهبتا بحيث صار يتعذر عليه أن يقرأ بهما. وبذلك انتهت دراسته.
بعد ذلك ألحقه والده بعمل، فصار صبياً تحت التمرين عند صائغ، ثم عند جزار، وأخيراً عند تاجر. ولما بلغ الثانية عشرة صار راعي غنم وظل يرعى قطيع والده سنتين، وتجول مع الغنم في كل نواحي إيران الشمالية، وأصبح يحب حياة البرية واعتاد أن يرضع اللبن من ثدي الأغنام والماعز، وأن يصغي في الليل إلى عواء الذئاب.
وبعد ذلك بسنوات صار حسن بائع جواهر، وتعلم الكثير عن الأحجار الكريمة. وكان يحب التجارة حباً جماً، لأنها هيأت له الفرصة ليختلط بكل أنواع الناس. واكتسب حسن تهذيبه ليس من غرف الدراسة بل من الاختلاط بالناس.
كان لأهل مشهد ثقة كبيرة في قدرة الإمام «رضى» على إجراء المعجزات. فكانوا يقولون إن العميان الذين زاروا الضريح نالوا البصر والمرضى فازوا بالشفاء، وإن معجزات أخرى كثيرة جرت هناك. ولما كان حسن صبياً اعتاد أن يلعب دوراً ساخراً في إجراء هذه المعجزات، بأن يذهب هو ورفاقه إلى الخان الذي تبيت فيه قوافل الجمال وقد نخت على الأرض متعبة من السفر لتستريح وتجتر طعامها. وكان هؤلاء الفتيان يأخذون بعض النباتات الشائكة ويضعونها بخفة ومهارة تحت ذيل الجمال فتحدث ثورة جامحة، لأن شدة آلام الجمال من وخز الأشواك تدفعها لتقوم وتركض مندفعة إلى الشارع. وبقيادة بسيطة كان الفتيان يجرّونها إلى «الضريح المقدس» فتجري في فنائه حيث يرحّب بها الحراس، ويضربون الأبواق، فينادي المنادي أن معجزة قد حدثت: الجمال قد حجَّت إلى الضريح! وبالطبع بدأ حسن يشك بعض الشك في معجزات الإمام!
ولما بلغ حسن ٢٤ سنة مات والده. ولأنه لم يجد عملاً ولم يكن لديه مال ترك مشهد وذهب إلى تركستان في الشمال، وكانت قد أصبحت جزءاً من الأمبراطورية الروسية. هناك التقى به تاجر وجده في أشد الحاجة فأعطاه ثياباً ليلبس وعملاً يقوم به، وأرسله بعد ذلك إلى تاجر آخر في بخارى، أعطاه عملاً في مطبخه كطاهٍ للطعام. ولم يكن حسن يعرف شيئاً يُذكر عن فن الطهي، فلما حاول أن يسلق اللحم والبصل معاً أفسد الطعام، فعلّمه التاجر كيف يطبخ وكيف يتاجر. وبعد فترة ارتكب حسن خطأً في عمله، فطرده التاجر. ورجع حسن إلى إيران مفلساً كما خرج منها.
لكنه عاد بعد فترة من الزمن إلى تركستان حيث اشتغل في الأعمال اليدوية اليومية. وقد أخذه عطّار كصبي تحت التمرين. لكن حسن إذ علم أن العطّار بهائي تركه لأنه كان يعتبر البهائيين هراطقة. والدين البهائي يعتقد أن مذهب الشيعة الإسلامي يرثه اثنا عشر من الخلفاء يعقب أحدهم الآخر، ويُعرَفون بـ «الأئمة». ويقولون إن أحد عشر إماماً من هؤلاء الأئمة قد قتلهم أعداؤهم السنّيون فماتوا شهداء، أما الإمام الثاني عشر فلا يزال حياً. ويقولون إنه اختفى لكنه لم يمت وسوف يعود يوماً ما، ويحكم العالم كله واسمه «المهدي» أو «رب العصر». وفي عام ١٨٤٤ ظهر شاب في شيراز ادَّعى أنه الإمام الثاني عشر، المهدي المنتظر. وسُمي «الباب» وقبِل دعوته كثيرون لُقّبوا بـ «البابيين». وقامت مظاهرات وثورات قُتل فيها ألوف من الناس، بابيين ومسلمين. وأخيراً أعدمت الحكومة الإيرانية «الباب» في تبريز عام ١٨٥٠ بالأمل أن تقضي على الفتنة والقلاقل. ولكن حدث بعد ذلك في عام ١٨٦٦ أن أحد أتباع الباب الغيورين، الذي كان قد نُفي من إيران إلى تركيا عاد وأعلن نهاراً جهاراً أنه «مظهر» الله أو إعلان الله، وإنه خليفة الباب وأنه أيضاً خليفة محمد والمسيح وكل مظاهر الله السابقة، واتّخذ لنفسه لقب «بهاء الله». وقد قبله معظم البابيين وأصبحوا يُعرفون بالبهائيين. وحيث أن أتباع هذا الدين الجديد لاقوا الكثير من الاضطهادات بيد المسلمين في إيران، هاجر عدد منهم إلى إقليم روسي، حيث تمتعوا بحرية أكثر. وفي مدينة أيشقبند بتركستان بنوا معبداً يؤدون فيه فرائض عبادتهم.
بعد أن ترك حسن عمله مع العطّار البهائي اشتغل عاملاً في خط سكة الحديد لمدة شهر. ثم ذهب إلى سمرقند حيث استخدمه عطّار آخر، وكان بهائياً أيضاً، ولو أن حسن لم يعرف ذلك. وذات يوم قال العطّار لحسن: «لقد قتلوا رب العصر». فسأل حسن «أين؟» أجاب البهائي «في تبريز» مشيراً إلى إعدام الباب عام ١٨٥٠. فلما سمع حسن أنهم قتلوا رب العصر أخذ يبكي. فقال له البهائي «لا تبك فإن خليفته حي!» سأل حسن «أين هو؟» أجابه «في عكا في الأرض المقدسة» ومضى يوضح له أن عبد البهاء بن بهاء الله وخليفته يعيش الآن في فلسطين، ويمكن أن يزوره الناس هناك. وكان العطّار يقرأ لحسن كتباً عن الدين البهائي، ويتكلم معه، ثم يرسله ليشق الخشب والحطب ويوقد النار، ويكنس الغرفة، ويعمل في المخبز.
وإلى هذا الوقت كان حسن قد رأى شراً كثيراً في من احتك بهم من المسلمين، كان كافياً أن يُفقِده كل ثقةٍ في دين آبائه. كان قبلاً دقيقاً جداً في مراعاة فروض الصلاة والصوم والشعائر الإسلامية. ففي رحلته الأولى إلى تركستان كاد يموت عطشاً لأنه ظن أن الشرب من كؤوس استخدمها الروس صارت نجسة، فأبى أن يشرب منها، لكنه بدأ يتساهل في مراعاة هذه الفروض الدينية. كان يبحث عن الدين الحقيقي ويتوسل إلى الله أن يرشده ويهديه. وقد بذل البهائيون كل جهدهم حتى يهدوه لاعتناق دينهم، لكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح.
بعد وقت مرض حسن وظل سقيماً ستة شهور، فأعطاه العطّار ما يوازي ثلاثة دولارات مكافأةً عن خدمة سنتين وتركه يمضي في حال سبيله. وكان بالطبع قد حصل على المسكن والمأكل مجاناً. وأخذ حسن المبلغ وقدمه إلى أغا موسى، وهو يهودي، فأعطاه موسى مقابل ذلك بعض الشاي وأخبره أن يأخذ الشاي إلى البيوت التي تتاجر في الشاي ليبيعه لها. وفعل كذلك، فكانت هذه البداءة الصغيرة سبباً في عمل حالفه التوفيق.
لما رأى البهائيون نجاحه ضاعفوا جهودهم لربحه إلى حظيرتهم. وعرض عليه أحدهم أن يزوِّجه بابنته، فقبل حسن العرض. ولكن قبل إتمام الزواج اقترح والد الفتاة تكوين شركة من تسعة عشر شخصاً لعمل الكعك في إيران وتصديره إلى روسيا ليُباع هناك (العدد ١٩ هو عدد مقدس عند البهائيين). ووافق حسن أن يقدم المال اللازم، وفعلاً دفع هو ٦٠٠ دولار، وأُقيم مخبز للكعك، لكن الرجال التسعة عشر لم يستطيعوا أن يتعاونوا ولا أن يتفقوا معاً، فتحطمت الشركة وخسر حسن كل نقوده، ولم يحصل على شيء مما دفعه، ولم يفُز بالفتاة كزوجة له، فعاد بخفي حنين يبيع الشاي.
بعد فترة من الزمن ارتكب البهائي الذي أساء إلى حسن جريمة أخرى في حق حسن، فقد أحرق بيته واتَّهم «حسناً» بإضرام النار، فأُلقي حسن في السجن مدة شهر حتى ثبتت براءته من التهمة. ولما أُطلق سراحه قال للبهائي: «أنا ذاهب الآن إلى عكا لأقتصَّ منك». وذهب فعلاً إلى عكا لغرض مزدوج: أن يشكو لعبد البهاء من تصرفات البهائيين، وليبحث إن كانت البهائية ديانة صحيحة أم كاذبة.
كانت الرحلة من تركستان الروسية إلى فلسطين طويلة جداً وشاقة للغاية، فإنها مسافة نحو ٢٠٠٠ ميل. وسافر حسن ماراً بطهران، ثم ببغداد. وكان يسافر بعربات القوافل القديمة حتى نفدت نقوده، فقطع باقي المسافة سيراً على قدميه. وكان يحصل على نفقاته الضرورية من صنع عصافير من الورق يبيعها للأطفال أثناء سفره. وقال فيما بعد «اعتدت أن أبيع نحو أربعة عصافير وأشتري بثمنها خبزاً وبيضاً، ثم أقول لقدميّ احملاني نحو ثلاثة فراسخ أخرى (١٢ ميلاً) فأعطيكما ما تأكلان! كنت أُلزم جسدي أن يشتغل أولاً ثم أطعمه». بهذه الطريقة قطع المسافة في أرض ما بين النهرين أي العراق حتى وصل إلى فلسطين كما سبق أن قطعها خليل الله إبراهيم من قبل. وبعد سنتين قضاهما في السفر وصل إلى عكا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
بينما كان حسن يمشي في أحد أسواق عكا التقى بإيراني سأله: «لماذا أتيت إلى عكا؟» فأجابه: «سمعت عن شخص في عكا يدَّعي أنه الله، فإذا وجدته يختلف ذرةً عن سائر البشر فسأطيعه وأتبعه». وكان الإيراني بهائياً فأخذه إلى المكان الذي كانوا فيه يستقبلون الضيوف والزوار وساعده على تطهير نفسه من أدران السفر الطويل وأخذه إلى اجتماع البهائيين، ولم يكن عبد البهاء نفسه حاضراً.
وكان حسن يشتاق أن يرى عبد البهاء نفسه، لكن البهائي أثار غضبه إذ أخبره أنه لا يستطيع أن يراه بدون إذن خاص. ولما سمع أن عبد البهاء قد ذهب إلى حيفا التي تبعد أميالاً عن عكا سعى إليها مشياً على قدميه لعله يجده. ولكن البهائي إذ أراد أن يبين له شيئاً من كرم الضيافة أرسل وراءه عربة لتحمله إلى هناك. وأخيراً وصل إلى بيت عبد البهاء على منحدر جبل الكرمل بالقرب من القبر الجميل للباب. وبينما كان جالساً وسط زمرة من المؤمنين دخل عبد البهاء الغرفة. فوقف كل البهائيين لكن حسن ظل جالساً. ولاحظه عبد البهاء في الحال فقال له: «لقد فعلت حسناً إذ جئت. والآن قف حتى أراك». وأخذ عبد البهاء هذا السائح إلى غرفته الخاصة، وقدم له الشاي، وسأله عن رحلته من سمرقند.
حدث بعد ذلك أن أُصيب حسن ببرد وقشعريرة، فقد كان مصاباً بالملاريا وكانت نوبات الحمى والقشعريرة تعاوده كل ثلاثة أيام. وصادف ذلك اليوم الثالث للقشعريرة. فنام على البساط وغطاه عبد البهاء. وبعد أن فارقته الحمى (ولو أن عرقه كان لا يزال نازلاً عليه) أتى إليه عبد البهاء ورفع غطاء رأسه وقال له: «تعال وتناول الغداء معي». فقام حسن وذهب إلى المائدة مع عبد البهاء وضيف عربي. وبعد الغداء قال عبد البهاء لأتباعه: «قدموا لهذا الرجل أقراص الكينين». ولما فعلوا ذلك قال حسن: «كان الأفضل أن يقول لي عبد البهاء: لن تصيبك قشعريرة فيما بعد، ويشفيني بكلمة منه». لكنهم أجابوه: «على المرضى أن يتناولوا الدواء، وعلى الخطاة أن يصلّوا». وظل حسن يتناول أقراص الكينين بضعة أيام، ثم يعاوده المرض، إلى أن ملّ من ذلك فإن نوبات القشعريرة لم تنقطع عنه. وظل يقول في نفسه: لو كان عبد البهاء عظيماً كما يدّعي، فلماذا يحتاج أن يصف الدواء كأي شخص عادي؟
مكث حسن في عكا وحيفا سبعين يوماً في أثنائها أظهر له عبد البهاء مزيداً من اللطف، فكان يأخذه في عربته ويغدق عليه هدايا من الحلوى والكعك، لكن إقامة حسن في عكا لم تكن من اختباراته السعيدة المبهجة، فقد أزعجه منظر الفقراء البائسين الذين كانوا يأتون إلى باب عبد البهاء طالبين صدقة وإحساناً ولم يعطهم أحد. وقد اضطرب جداً لما رأى عبد البهاء يلعن ويسب ويضرب خادماً أهمل واجبه. وخاب أمله إذ لم يجد ماء الحياة الذي كانت تتعطش نفسه إليه. وكان تلاميذ عبد البهاء يقولون له دائماً: «هل ترى كيف يحبك عبد البهاء؟». فكان حسن يجيب: «إنه لطيف جداً معي، لكنه ليس الحق الذي تقولون عنه. فالحق شخصٌ آخر!».
أخيراً قرر حسن أن يعود إلى إيران. فلما سمع عبد البهاء بعزمه أرسل في طلبه، وأخذه إلى غرفته الداخلية، وتحدث معه سراً، ثم سأله: «مِن أي طريق تنوي السفر؟» أجاب حسن: «من طريق دمشق». فقام عبد البهاء واحتضن حسناً بين ذراعيه وقال له: «أود لو تبقى معي دائماً. ولكن حيث أن هذا وقت الخدمة فها أنا أرسلك في طريقك». ثم قال له: «إن صادفك أحد البهائيين في الطريق وسألك عما رأيت في عكا، فلا تقُل له إلا أنك إنما مررت في الطريق كسائح فقط». وكان السبب في هذا الطلب أن الحكومة التركية كانت تراقب عبد البهاء مراقبة دقيقة، وكان يخشى أن تعرف شيئاً عن ادّعاءاته عن نفسه. وكان معتاداً في عكا أن يتلو فروض الصلوات الإسلامية حسب المذهب السني، ولم يجعل أحداً يعرف علناً أن أباه كان مظهر الله ومؤسس الدين الجديد الذي كان صاحبه يرجو له أن يحل محل الإسلام. وأخيراً حصل عبد البهاء على جواز سفر لحسن وسلمه له مع ليرتين تركيتين و «رسالة خاصة» وأرسله في طريقه.
لما وصل حسن إلى بيروت سلم الرسالة الخاصة إلى البهائيين الذين اعتبروها كنزاً عظيماً. وتوقَّف في حلب فترة قصيرة باع فيها الإبر والخيوط ليحصل على قليل من المال. ولما وصل إلى بغداد تجنَّب مقابلة البهائيين، أو التعامل معهم. وبعد ذلك وصل إلى طهران وعمل مساعداً لتاجر مدة سنتين، ثم عاد إلى مشهد. وقد شوَّش هذا السفر عقل حسن وأربكه وقضى على إيمانه قضاءً تاماً، فبعد أن فقد إيمانه في الإسلام، كان يأمل أن يجد الحق في البهائية أو أي دين آخر. لكنه عاد إلى وطنه في أعمق درجات اليأس. لقد فشل عبد البهاء أن يلبّي حاجته إذ وجده إنساناً خاطئاً مثله، وذهبت كل أسفاره الطويلة أدراج الرياح، وتركت قلبه خالياً خاوياً بلا راحة ولا عزاء. وقال في مرارة نفسه: «ليس هناك إله، وليس هناك حق!» فكفَّ عن الصلاة وانقطع منه الرجاء، وظل عدة سنين إنساناً لا يؤمن بأي شيء. إنما الشيء الوحيد الذي عاد به حسن من سفره إلى عكا هو اللقب الذي يفوز به كل مسلم يزور مكة وهو لقب «حاج». وظن الناس أنه في سفرته الطويلة قد ذهب إلى مكة فكانوا يسمونه «الحاج حسن». وقبِل هو هذا اللقب!
لما رجع حسن إلى مشهد اشترك مع أخيه غلام في العمل، لكن أخاه خدعه وخانه وسلب منه مبلغاً كبيراً من المال، فشل في استعادته بأساليب العدل والانصاف. فافتتح دكاناً صغيراً وبدأ يبيع القش والحطب، ولم يستمتع بالعمل، لكنه حصل منه على مبلغ كاف لشراء حمار، وعمل سمساراً لتاجر.
بعد فترة من الزمن قرر حسن أن يترك مشهد مرة أخرى، فأخذ معه كمية من الفيروز من نيسابور، وسافر من تفليس في القوقاز، حيث تكسَّب معيشته من بيع الجواهر. وقام بثلاث رحلات من إيران إلى تفليس يحمل الجواهر... وكان في ذلك الوقت يعيش في ظلام روحي. وكان أول اتصال له بالمسيحية ذهابه إلى كنيسة روسية في «باكو» وأضاء شمعة! كان عمله وقتها ينطوي على تهريب بعض البضائع التجارية من تركستان، وكان يخشى أن يُقبض عليه. فقطع عهداً مع الله أنه إذا حرسه وأنجح عمله فسيعبِّر لله عن شكره بإضاءة شمعة كما يفعل الروس. وقد أُجيبت صلاته فحافظ بدوره على عهده! إلا أن الشمعة المضيئة لم تطرد الظلمة الروحية من قلبه. ولكن حدث يوماً أن أضاء النور الإلهي فجأة داخل قلب الحاج حسن، فقد وجده الله.
ذات يوم ذهب حسن في إحدى سفراته إلى كرتزنوفودسك، وهي ميناء روسية على الشاطئ الشرقي من بحر قزوين، فالتقى ببائع كتب اسمه «بنيامين بدّال» وهو إيراني يوزع الكتب المقدسة. وتحدث «بدال» مع حسن وأخذ يقرأ له من الكتاب المقدس ... وتأثر حسن تأثراً عميقاً مما سمع، إذ كان الفصل الذي اختار بدال أن يقرأه هو أصحاح ٢٤ من إنجيل متّى، ذلك الأصحاح الذي يتحدث عن أنبياء كذبة ومسحاء كذبة سوف يأتون ويُضلّون كثيرين. وعرف حسن من هو «النبي الكذاب» ومن هو «المسيح الكذاب»؟ هو عبد البهاء، الذي يدّعي أنه المسيح وقد أتى ثانية. وحيث أن هذه النبوة تمت فعلاً، فقد اتضح له أن الذي نطق بها هو الشخص الحقيقي. من هو؟ هو يسوع المسيح. ثم أضاف حسن: المسيح هو الحق، المسيح هو مخلّص البشر. وبسرعة خاطفة وصل عقله الناشط وقلبه الجائع إلى هذه النتيجة المدهشة! ومن تلك اللحظة أصبح حسن يعتبر نفسه مسيحياً. ولم يدرك «بدال» النتائج العظمى التي تمخضت عنها تلك المقابلة القصيرة مع حسن! لكنه قدم للباحث المتلهّف نسخة من إنجيل متى، وتركه يذهب في حال سبيله.
أخذ حسن الكتاب وقلبه يرقص طرباً. ولكن لما كان أُمياً لا يستطيع أن يقرأ لنفسه، كان عليه أن يستعين بآخرين ليقرأوا له. وبعد ذلك ذهب إلى رشت في شمال إيران، حيث التقى بعدد من المسيحيين واعترف بإيمانه بالمسيح. وأخيراً انتهى «الحج الروحي» لحسن، وأصبح «الصخر الظافر».
وُلد حسن في مدينة «مشهد» في محافظة خرزان الشرقية العظيمة المشهورة في بلاد إيران. ولا يُعرف تاريخ ميلاده بالضبط، ولكنه كان حوالي سنة ١٨٦٩. واسم المدينة «مشهد» ومعناه «مكان الاستشهاد» وقد دُعيت بهذا الاسم لأن فيها قُتل الإمام رضى، الثامن بالتسلسل من نسل محمد قبل ذلك بقرون. وقد اغتاله أعداؤه، وسرعان ما صار قبره مزاراً للحجاج المسلمين من المذهب الشيعي. وإلى اليوم بعد أكثر من ألف سنة يذهب كثير من الرجال والنساء والأطفال ليزوروا هذه المدينة المقدسة قادمين من كل أنحاء إيران ومن شتى البلدان الأخرى النائية، وهم يفرحون ويتهللون عندما يلمحون القبة الذهبية التي تعلو قبر الإمام وهي تتلألأ في الفضاء كأنها كرة من النار في وهج الشمس. وتراهم يدخلون بالدموع والتوسلات في فناء ذلك الحرم المقدس، ويقبّلون المكان الذي يرقد فيه جثمان الإمام، راجين الله أن يتقبَّل حجهم ويغفر ذنوبهم! والذين يقومون بهذا الحج، يفوزون بلقب «مشهدي». والضريح الذي يقع في وسط مدينة مشهد القديمة كان دائماً ولا يزال قلبها النابض الذي أثراها وأغناها بالهدايا والتبرعات.
وبما أنه لم تكن هناك مدارس في مشهد، فلما بلغ حسن سنّ الدراسة أرسله والده إلى الكتّاب، وهو مدرسة من طراز قديم يجلس تلاميذها على الأرض ويقضون سنوات يتعلمون حفظ القرآن باللغة العربية، ولا يتعلمون شيئاً سواه. وأحياناً لا يتعلمون القراءة ولا الكتابة بلغتهم الفارسية الجميلة. وبدأ حسن يحفظ آيات القرآن. ولما أخذ معلمه يدربه على الحروف الأبجدية العربية بطريقة مرهقة قاسية تضايق حسن وهرب من المدرسة، لكن المعلم أمسكه وضربه ضرباً شديداً. فلجأ حسن إلى وسيلة أخرى للهروب من الدراسة، بأن وضع التبغ في عينيه حتى التهبتا بحيث صار يتعذر عليه أن يقرأ بهما. وبذلك انتهت دراسته.
بعد ذلك ألحقه والده بعمل، فصار صبياً تحت التمرين عند صائغ، ثم عند جزار، وأخيراً عند تاجر. ولما بلغ الثانية عشرة صار راعي غنم وظل يرعى قطيع والده سنتين، وتجول مع الغنم في كل نواحي إيران الشمالية، وأصبح يحب حياة البرية واعتاد أن يرضع اللبن من ثدي الأغنام والماعز، وأن يصغي في الليل إلى عواء الذئاب.
وبعد ذلك بسنوات صار حسن بائع جواهر، وتعلم الكثير عن الأحجار الكريمة. وكان يحب التجارة حباً جماً، لأنها هيأت له الفرصة ليختلط بكل أنواع الناس. واكتسب حسن تهذيبه ليس من غرف الدراسة بل من الاختلاط بالناس.
كان لأهل مشهد ثقة كبيرة في قدرة الإمام «رضى» على إجراء المعجزات. فكانوا يقولون إن العميان الذين زاروا الضريح نالوا البصر والمرضى فازوا بالشفاء، وإن معجزات أخرى كثيرة جرت هناك. ولما كان حسن صبياً اعتاد أن يلعب دوراً ساخراً في إجراء هذه المعجزات، بأن يذهب هو ورفاقه إلى الخان الذي تبيت فيه قوافل الجمال وقد نخت على الأرض متعبة من السفر لتستريح وتجتر طعامها. وكان هؤلاء الفتيان يأخذون بعض النباتات الشائكة ويضعونها بخفة ومهارة تحت ذيل الجمال فتحدث ثورة جامحة، لأن شدة آلام الجمال من وخز الأشواك تدفعها لتقوم وتركض مندفعة إلى الشارع. وبقيادة بسيطة كان الفتيان يجرّونها إلى «الضريح المقدس» فتجري في فنائه حيث يرحّب بها الحراس، ويضربون الأبواق، فينادي المنادي أن معجزة قد حدثت: الجمال قد حجَّت إلى الضريح! وبالطبع بدأ حسن يشك بعض الشك في معجزات الإمام!
ولما بلغ حسن ٢٤ سنة مات والده. ولأنه لم يجد عملاً ولم يكن لديه مال ترك مشهد وذهب إلى تركستان في الشمال، وكانت قد أصبحت جزءاً من الأمبراطورية الروسية. هناك التقى به تاجر وجده في أشد الحاجة فأعطاه ثياباً ليلبس وعملاً يقوم به، وأرسله بعد ذلك إلى تاجر آخر في بخارى، أعطاه عملاً في مطبخه كطاهٍ للطعام. ولم يكن حسن يعرف شيئاً يُذكر عن فن الطهي، فلما حاول أن يسلق اللحم والبصل معاً أفسد الطعام، فعلّمه التاجر كيف يطبخ وكيف يتاجر. وبعد فترة ارتكب حسن خطأً في عمله، فطرده التاجر. ورجع حسن إلى إيران مفلساً كما خرج منها.
لكنه عاد بعد فترة من الزمن إلى تركستان حيث اشتغل في الأعمال اليدوية اليومية. وقد أخذه عطّار كصبي تحت التمرين. لكن حسن إذ علم أن العطّار بهائي تركه لأنه كان يعتبر البهائيين هراطقة. والدين البهائي يعتقد أن مذهب الشيعة الإسلامي يرثه اثنا عشر من الخلفاء يعقب أحدهم الآخر، ويُعرَفون بـ «الأئمة». ويقولون إن أحد عشر إماماً من هؤلاء الأئمة قد قتلهم أعداؤهم السنّيون فماتوا شهداء، أما الإمام الثاني عشر فلا يزال حياً. ويقولون إنه اختفى لكنه لم يمت وسوف يعود يوماً ما، ويحكم العالم كله واسمه «المهدي» أو «رب العصر». وفي عام ١٨٤٤ ظهر شاب في شيراز ادَّعى أنه الإمام الثاني عشر، المهدي المنتظر. وسُمي «الباب» وقبِل دعوته كثيرون لُقّبوا بـ «البابيين». وقامت مظاهرات وثورات قُتل فيها ألوف من الناس، بابيين ومسلمين. وأخيراً أعدمت الحكومة الإيرانية «الباب» في تبريز عام ١٨٥٠ بالأمل أن تقضي على الفتنة والقلاقل. ولكن حدث بعد ذلك في عام ١٨٦٦ أن أحد أتباع الباب الغيورين، الذي كان قد نُفي من إيران إلى تركيا عاد وأعلن نهاراً جهاراً أنه «مظهر» الله أو إعلان الله، وإنه خليفة الباب وأنه أيضاً خليفة محمد والمسيح وكل مظاهر الله السابقة، واتّخذ لنفسه لقب «بهاء الله». وقد قبله معظم البابيين وأصبحوا يُعرفون بالبهائيين. وحيث أن أتباع هذا الدين الجديد لاقوا الكثير من الاضطهادات بيد المسلمين في إيران، هاجر عدد منهم إلى إقليم روسي، حيث تمتعوا بحرية أكثر. وفي مدينة أيشقبند بتركستان بنوا معبداً يؤدون فيه فرائض عبادتهم.
بعد أن ترك حسن عمله مع العطّار البهائي اشتغل عاملاً في خط سكة الحديد لمدة شهر. ثم ذهب إلى سمرقند حيث استخدمه عطّار آخر، وكان بهائياً أيضاً، ولو أن حسن لم يعرف ذلك. وذات يوم قال العطّار لحسن: «لقد قتلوا رب العصر». فسأل حسن «أين؟» أجاب البهائي «في تبريز» مشيراً إلى إعدام الباب عام ١٨٥٠. فلما سمع حسن أنهم قتلوا رب العصر أخذ يبكي. فقال له البهائي «لا تبك فإن خليفته حي!» سأل حسن «أين هو؟» أجابه «في عكا في الأرض المقدسة» ومضى يوضح له أن عبد البهاء بن بهاء الله وخليفته يعيش الآن في فلسطين، ويمكن أن يزوره الناس هناك. وكان العطّار يقرأ لحسن كتباً عن الدين البهائي، ويتكلم معه، ثم يرسله ليشق الخشب والحطب ويوقد النار، ويكنس الغرفة، ويعمل في المخبز.
وإلى هذا الوقت كان حسن قد رأى شراً كثيراً في من احتك بهم من المسلمين، كان كافياً أن يُفقِده كل ثقةٍ في دين آبائه. كان قبلاً دقيقاً جداً في مراعاة فروض الصلاة والصوم والشعائر الإسلامية. ففي رحلته الأولى إلى تركستان كاد يموت عطشاً لأنه ظن أن الشرب من كؤوس استخدمها الروس صارت نجسة، فأبى أن يشرب منها، لكنه بدأ يتساهل في مراعاة هذه الفروض الدينية. كان يبحث عن الدين الحقيقي ويتوسل إلى الله أن يرشده ويهديه. وقد بذل البهائيون كل جهدهم حتى يهدوه لاعتناق دينهم، لكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح.
بعد وقت مرض حسن وظل سقيماً ستة شهور، فأعطاه العطّار ما يوازي ثلاثة دولارات مكافأةً عن خدمة سنتين وتركه يمضي في حال سبيله. وكان بالطبع قد حصل على المسكن والمأكل مجاناً. وأخذ حسن المبلغ وقدمه إلى أغا موسى، وهو يهودي، فأعطاه موسى مقابل ذلك بعض الشاي وأخبره أن يأخذ الشاي إلى البيوت التي تتاجر في الشاي ليبيعه لها. وفعل كذلك، فكانت هذه البداءة الصغيرة سبباً في عمل حالفه التوفيق.
لما رأى البهائيون نجاحه ضاعفوا جهودهم لربحه إلى حظيرتهم. وعرض عليه أحدهم أن يزوِّجه بابنته، فقبل حسن العرض. ولكن قبل إتمام الزواج اقترح والد الفتاة تكوين شركة من تسعة عشر شخصاً لعمل الكعك في إيران وتصديره إلى روسيا ليُباع هناك (العدد ١٩ هو عدد مقدس عند البهائيين). ووافق حسن أن يقدم المال اللازم، وفعلاً دفع هو ٦٠٠ دولار، وأُقيم مخبز للكعك، لكن الرجال التسعة عشر لم يستطيعوا أن يتعاونوا ولا أن يتفقوا معاً، فتحطمت الشركة وخسر حسن كل نقوده، ولم يحصل على شيء مما دفعه، ولم يفُز بالفتاة كزوجة له، فعاد بخفي حنين يبيع الشاي.
بعد فترة من الزمن ارتكب البهائي الذي أساء إلى حسن جريمة أخرى في حق حسن، فقد أحرق بيته واتَّهم «حسناً» بإضرام النار، فأُلقي حسن في السجن مدة شهر حتى ثبتت براءته من التهمة. ولما أُطلق سراحه قال للبهائي: «أنا ذاهب الآن إلى عكا لأقتصَّ منك». وذهب فعلاً إلى عكا لغرض مزدوج: أن يشكو لعبد البهاء من تصرفات البهائيين، وليبحث إن كانت البهائية ديانة صحيحة أم كاذبة.
كانت الرحلة من تركستان الروسية إلى فلسطين طويلة جداً وشاقة للغاية، فإنها مسافة نحو ٢٠٠٠ ميل. وسافر حسن ماراً بطهران، ثم ببغداد. وكان يسافر بعربات القوافل القديمة حتى نفدت نقوده، فقطع باقي المسافة سيراً على قدميه. وكان يحصل على نفقاته الضرورية من صنع عصافير من الورق يبيعها للأطفال أثناء سفره. وقال فيما بعد «اعتدت أن أبيع نحو أربعة عصافير وأشتري بثمنها خبزاً وبيضاً، ثم أقول لقدميّ احملاني نحو ثلاثة فراسخ أخرى (١٢ ميلاً) فأعطيكما ما تأكلان! كنت أُلزم جسدي أن يشتغل أولاً ثم أطعمه». بهذه الطريقة قطع المسافة في أرض ما بين النهرين أي العراق حتى وصل إلى فلسطين كما سبق أن قطعها خليل الله إبراهيم من قبل. وبعد سنتين قضاهما في السفر وصل إلى عكا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
بينما كان حسن يمشي في أحد أسواق عكا التقى بإيراني سأله: «لماذا أتيت إلى عكا؟» فأجابه: «سمعت عن شخص في عكا يدَّعي أنه الله، فإذا وجدته يختلف ذرةً عن سائر البشر فسأطيعه وأتبعه». وكان الإيراني بهائياً فأخذه إلى المكان الذي كانوا فيه يستقبلون الضيوف والزوار وساعده على تطهير نفسه من أدران السفر الطويل وأخذه إلى اجتماع البهائيين، ولم يكن عبد البهاء نفسه حاضراً.
وكان حسن يشتاق أن يرى عبد البهاء نفسه، لكن البهائي أثار غضبه إذ أخبره أنه لا يستطيع أن يراه بدون إذن خاص. ولما سمع أن عبد البهاء قد ذهب إلى حيفا التي تبعد أميالاً عن عكا سعى إليها مشياً على قدميه لعله يجده. ولكن البهائي إذ أراد أن يبين له شيئاً من كرم الضيافة أرسل وراءه عربة لتحمله إلى هناك. وأخيراً وصل إلى بيت عبد البهاء على منحدر جبل الكرمل بالقرب من القبر الجميل للباب. وبينما كان جالساً وسط زمرة من المؤمنين دخل عبد البهاء الغرفة. فوقف كل البهائيين لكن حسن ظل جالساً. ولاحظه عبد البهاء في الحال فقال له: «لقد فعلت حسناً إذ جئت. والآن قف حتى أراك». وأخذ عبد البهاء هذا السائح إلى غرفته الخاصة، وقدم له الشاي، وسأله عن رحلته من سمرقند.
حدث بعد ذلك أن أُصيب حسن ببرد وقشعريرة، فقد كان مصاباً بالملاريا وكانت نوبات الحمى والقشعريرة تعاوده كل ثلاثة أيام. وصادف ذلك اليوم الثالث للقشعريرة. فنام على البساط وغطاه عبد البهاء. وبعد أن فارقته الحمى (ولو أن عرقه كان لا يزال نازلاً عليه) أتى إليه عبد البهاء ورفع غطاء رأسه وقال له: «تعال وتناول الغداء معي». فقام حسن وذهب إلى المائدة مع عبد البهاء وضيف عربي. وبعد الغداء قال عبد البهاء لأتباعه: «قدموا لهذا الرجل أقراص الكينين». ولما فعلوا ذلك قال حسن: «كان الأفضل أن يقول لي عبد البهاء: لن تصيبك قشعريرة فيما بعد، ويشفيني بكلمة منه». لكنهم أجابوه: «على المرضى أن يتناولوا الدواء، وعلى الخطاة أن يصلّوا». وظل حسن يتناول أقراص الكينين بضعة أيام، ثم يعاوده المرض، إلى أن ملّ من ذلك فإن نوبات القشعريرة لم تنقطع عنه. وظل يقول في نفسه: لو كان عبد البهاء عظيماً كما يدّعي، فلماذا يحتاج أن يصف الدواء كأي شخص عادي؟
مكث حسن في عكا وحيفا سبعين يوماً في أثنائها أظهر له عبد البهاء مزيداً من اللطف، فكان يأخذه في عربته ويغدق عليه هدايا من الحلوى والكعك، لكن إقامة حسن في عكا لم تكن من اختباراته السعيدة المبهجة، فقد أزعجه منظر الفقراء البائسين الذين كانوا يأتون إلى باب عبد البهاء طالبين صدقة وإحساناً ولم يعطهم أحد. وقد اضطرب جداً لما رأى عبد البهاء يلعن ويسب ويضرب خادماً أهمل واجبه. وخاب أمله إذ لم يجد ماء الحياة الذي كانت تتعطش نفسه إليه. وكان تلاميذ عبد البهاء يقولون له دائماً: «هل ترى كيف يحبك عبد البهاء؟». فكان حسن يجيب: «إنه لطيف جداً معي، لكنه ليس الحق الذي تقولون عنه. فالحق شخصٌ آخر!».
أخيراً قرر حسن أن يعود إلى إيران. فلما سمع عبد البهاء بعزمه أرسل في طلبه، وأخذه إلى غرفته الداخلية، وتحدث معه سراً، ثم سأله: «مِن أي طريق تنوي السفر؟» أجاب حسن: «من طريق دمشق». فقام عبد البهاء واحتضن حسناً بين ذراعيه وقال له: «أود لو تبقى معي دائماً. ولكن حيث أن هذا وقت الخدمة فها أنا أرسلك في طريقك». ثم قال له: «إن صادفك أحد البهائيين في الطريق وسألك عما رأيت في عكا، فلا تقُل له إلا أنك إنما مررت في الطريق كسائح فقط». وكان السبب في هذا الطلب أن الحكومة التركية كانت تراقب عبد البهاء مراقبة دقيقة، وكان يخشى أن تعرف شيئاً عن ادّعاءاته عن نفسه. وكان معتاداً في عكا أن يتلو فروض الصلوات الإسلامية حسب المذهب السني، ولم يجعل أحداً يعرف علناً أن أباه كان مظهر الله ومؤسس الدين الجديد الذي كان صاحبه يرجو له أن يحل محل الإسلام. وأخيراً حصل عبد البهاء على جواز سفر لحسن وسلمه له مع ليرتين تركيتين و «رسالة خاصة» وأرسله في طريقه.
لما وصل حسن إلى بيروت سلم الرسالة الخاصة إلى البهائيين الذين اعتبروها كنزاً عظيماً. وتوقَّف في حلب فترة قصيرة باع فيها الإبر والخيوط ليحصل على قليل من المال. ولما وصل إلى بغداد تجنَّب مقابلة البهائيين، أو التعامل معهم. وبعد ذلك وصل إلى طهران وعمل مساعداً لتاجر مدة سنتين، ثم عاد إلى مشهد. وقد شوَّش هذا السفر عقل حسن وأربكه وقضى على إيمانه قضاءً تاماً، فبعد أن فقد إيمانه في الإسلام، كان يأمل أن يجد الحق في البهائية أو أي دين آخر. لكنه عاد إلى وطنه في أعمق درجات اليأس. لقد فشل عبد البهاء أن يلبّي حاجته إذ وجده إنساناً خاطئاً مثله، وذهبت كل أسفاره الطويلة أدراج الرياح، وتركت قلبه خالياً خاوياً بلا راحة ولا عزاء. وقال في مرارة نفسه: «ليس هناك إله، وليس هناك حق!» فكفَّ عن الصلاة وانقطع منه الرجاء، وظل عدة سنين إنساناً لا يؤمن بأي شيء. إنما الشيء الوحيد الذي عاد به حسن من سفره إلى عكا هو اللقب الذي يفوز به كل مسلم يزور مكة وهو لقب «حاج». وظن الناس أنه في سفرته الطويلة قد ذهب إلى مكة فكانوا يسمونه «الحاج حسن». وقبِل هو هذا اللقب!
لما رجع حسن إلى مشهد اشترك مع أخيه غلام في العمل، لكن أخاه خدعه وخانه وسلب منه مبلغاً كبيراً من المال، فشل في استعادته بأساليب العدل والانصاف. فافتتح دكاناً صغيراً وبدأ يبيع القش والحطب، ولم يستمتع بالعمل، لكنه حصل منه على مبلغ كاف لشراء حمار، وعمل سمساراً لتاجر.
بعد فترة من الزمن قرر حسن أن يترك مشهد مرة أخرى، فأخذ معه كمية من الفيروز من نيسابور، وسافر من تفليس في القوقاز، حيث تكسَّب معيشته من بيع الجواهر. وقام بثلاث رحلات من إيران إلى تفليس يحمل الجواهر... وكان في ذلك الوقت يعيش في ظلام روحي. وكان أول اتصال له بالمسيحية ذهابه إلى كنيسة روسية في «باكو» وأضاء شمعة! كان عمله وقتها ينطوي على تهريب بعض البضائع التجارية من تركستان، وكان يخشى أن يُقبض عليه. فقطع عهداً مع الله أنه إذا حرسه وأنجح عمله فسيعبِّر لله عن شكره بإضاءة شمعة كما يفعل الروس. وقد أُجيبت صلاته فحافظ بدوره على عهده! إلا أن الشمعة المضيئة لم تطرد الظلمة الروحية من قلبه. ولكن حدث يوماً أن أضاء النور الإلهي فجأة داخل قلب الحاج حسن، فقد وجده الله.
ذات يوم ذهب حسن في إحدى سفراته إلى كرتزنوفودسك، وهي ميناء روسية على الشاطئ الشرقي من بحر قزوين، فالتقى ببائع كتب اسمه «بنيامين بدّال» وهو إيراني يوزع الكتب المقدسة. وتحدث «بدال» مع حسن وأخذ يقرأ له من الكتاب المقدس ... وتأثر حسن تأثراً عميقاً مما سمع، إذ كان الفصل الذي اختار بدال أن يقرأه هو أصحاح ٢٤ من إنجيل متّى، ذلك الأصحاح الذي يتحدث عن أنبياء كذبة ومسحاء كذبة سوف يأتون ويُضلّون كثيرين. وعرف حسن من هو «النبي الكذاب» ومن هو «المسيح الكذاب»؟ هو عبد البهاء، الذي يدّعي أنه المسيح وقد أتى ثانية. وحيث أن هذه النبوة تمت فعلاً، فقد اتضح له أن الذي نطق بها هو الشخص الحقيقي. من هو؟ هو يسوع المسيح. ثم أضاف حسن: المسيح هو الحق، المسيح هو مخلّص البشر. وبسرعة خاطفة وصل عقله الناشط وقلبه الجائع إلى هذه النتيجة المدهشة! ومن تلك اللحظة أصبح حسن يعتبر نفسه مسيحياً. ولم يدرك «بدال» النتائج العظمى التي تمخضت عنها تلك المقابلة القصيرة مع حسن! لكنه قدم للباحث المتلهّف نسخة من إنجيل متى، وتركه يذهب في حال سبيله.
أخذ حسن الكتاب وقلبه يرقص طرباً. ولكن لما كان أُمياً لا يستطيع أن يقرأ لنفسه، كان عليه أن يستعين بآخرين ليقرأوا له. وبعد ذلك ذهب إلى رشت في شمال إيران، حيث التقى بعدد من المسيحيين واعترف بإيمانه بالمسيح. وأخيراً انتهى «الحج الروحي» لحسن، وأصبح «الصخر الظافر».
مع
أن حسن لم يشك قط في أن المسيح هو مخلّصه بعد أن اعترف به علناً في رشت،
إلا أن السنوات التالية جاءته باختبارات لم يكن ينتظرها من قبل، سواء في
عمله أو في حياته الروحية قبل عماده. وقد قضى أربع سنوات في طهران ثم عاد
إلى رشت. وفي مدة إقامته في طهران طلب من القس هـ. س. شولر أن يعمده، لكن
القسيس شعر أنه غير مستعد للعماد بعد. وأخيراً عاد حسن إلى مسقط رأسه في
مدينة مشهد المقدسة بضريحها المشهور. وقد نصحه أصدقاؤه المسيحيون أن يذهب
منها إلى نيسابور، مدينة الشاعر المشهور عمر الخيام، وهي تبعد نحو ثلاثة
أيام سفراً بالعربة. وعلى مرّ السنين تعلم حسن المبادئ الأولية لعلاج
الأسنان، وصار يحمل حقيبة بالأدوات الأولية القديمة لممارسة طب الأسنان
متنقلاً من مكان لآخر، وفي نفس الوقت كارزاً بالإنجيل. ثم استأجر بناية
صغيرة في نيسابور حيث كان يمارس مهنته. وكان يكلم جميع الذين يأتون إليه
بعدم كفاية الإسلام وكفاية يسوع المسيح، ويشجعهم على قراءة الكتب المقدسة
التي كانت مكدسة على طاولة في غرفة صغيرة أعدها للقراءة.
قبل أن يمضي وقت يُذكر وصلت رسائل إلى الإرسالية من رجل في نيسابور كان حسن قد تعرَّف به، أعلن الرجل فيها أنه يريد أن يصير مسيحياً، ويطلب من الإرسالية أن ترسل إليه مرسَلاً ليعلّمه ويعمّده. فذهب القس وليم مكملر في سبتمبر عام ١٩٢٠ راكباً على حمار إلى نيسابور يصحبه مسيحي إيراني. هناك تقابلا مع الطالب الجديد ومع حسن، وكان كلاهما في شديد التلهف على العماد الذي تم في ٣ أكتوبر من ذلك العام، في خدمة بسيطة بمنزل الطالب الجديد الذي اعتمد هو وابنه مع حسن. وكان هؤلاء الثلاثة غالباً أول ثلاثة مهتدين من الإسلام يعتمدون في نيسابور. وكانت هذه فرصة عظيمة جداً للجماعة الصغيرة. وكان قلب حسن يرقص طرباً إذ أُتيحت له الفرصة أن يعتمد بعد سنوات طويلة من الانتظار.
لما قام القس مكملر بعماد حسن لم يكن يعلم أنه مثل سائر مواطنيه في ذلك الوقت يدمن الأفيون، وكان حسن عبداً للإدمان نحو عشرين عاماً. وظل تسعة شهور يتعاطى الأفيون مع التدخين سراً دون أن يعلم أحدٌ من أصدقائه المرسلين، فلم يخبره أحد أن يكف عنه. وذهب حسنٌ ذات يوم إلى المقهى ليتعاطى الأفيون، وانطرح على الأرض مع عدد من الرفاق المدمنين لتدخينهم اليومي. ولما أحضر له الخادم الغليون (البيبه) ووضعها في فمه ورد على فكره خاطر: «هاتان الشفتان قد تناولتا الخبز وشربتا كأس العشاء الرباني، فكيف أنجسهما بتدخين هذا الشيء القذر؟» وفي الحال وضع الغليون (البيبه) وقام. فقال له الخادم: «أفيونك لم ينته بعد» فأجاب حسن: «لا أريده». ومن ذلك الوقت كفَّ عن تعاطي الأفيون نهائياً.
بعد أن أصبح حسن مسيحياً قرر أن يغيّر اسمه، فطلب من أصدقائه أن لا ينادوه فيما بعد بالحاج حسن، بل بالاسم «منصور» دليلاً على أنه منتصر أو ظافر. وهذا الاسم كان ينطبق على روحه الظافر الذي لا يُقهر. وعندما صدر أمر رضاه شاه بهلوي بأن تختار كل عائلة اسماً عائلياً أو لقباً لها يُسجل رسمياً وتُعرف به العائلة، استشار منصور صديقاً له، فنصحه أن سمعان دُعي بطرس أي صخرة (وبالفارسية سنغ). وأعجب منصور هذا الرأي فسجل نفسه باسم منصور سنغ أي الصخرة الظافرة.
لما سجل منصور اسم عائلته أصرَّ على أن يُسجل رسمياً أنه مسيحي. وتردد الموظف المسلم أن يكتب أمام خانة الديانة بأن منصور مسيحي. ولكنه أخيراً سجَّل ذلك أيضاً على بطاقة هويته الشخصية. وكان مستحيلاً على منصور أن يخفي إيمانه لأن أعظم فخر له هو أنه كان ينتمي للمسيح. وكان يلبس دائماً خاتماً على رأسه صليب نقش عليه «منصور عبد المسيح».
ما من أحدٍ سمع منصور وهو يتحدث بطلاقة وبراعة ويقتبس عباراتٍ باللغة العربية أو الفارسية كان يظن أن منصور أميّ لا يقرأ ولا يكتب. لكنه بعد أن أصبح مسيحياً شعر بحاجته إلى تعلم القراءة ليقدر أن يقرأ الكتاب المقدس لنفسه. فلما كان في نيسابور استأجر شخصاً يعلمه القراءة. وفي ظرف أسبوع واحد أتقن قراءة ثلاثة أصحاحات من إنجيل متّى، بحيث أمكنه أن يقرأها بطلاقة سواء من الكتاب أو غيباً. ثم قُطعت دروسه ولم يعد إليها مطلقاً. لكن الأصحاحات الثلاثة (إنجيل متّى ٢ - ٤) أفادته أعظم فائدة. فلما كان يريد أن يعلّم شخصاً آخر أن يقرأ فصلاً من الكتاب المقدس في اجتماع عام كان يفتح الكتاب إلى أحد هذه الأصحاحات ويقرأ من الذاكرة. وكان في استطاعته أن يقتبس أصحاحات كثيرة من الكتاب غيباً، لكنه أدرك أنه يجب عليه أن «يقرأ» من الكتاب في بعض الأحيان، لأن ذلك يؤثر في الناس أكثر. وبدأ بعد ذلك يشك في استخدام هذه الطريقة لأنه اعتبر أنه ليس من الأمانة أن يتظاهر بأنه يقرأ وهو لا يعرف القراءة فامتنع عن فتح الكتاب لمّا كان يقتبس منه.
بعد عماد منصور بوقت قصير اضطر أن يترك نيسابور لأن هجومه على الإسلام أثار حفيظة العلماء المسلمين، فأطاع أمر المسيح «متى طردوكم من مدينة فاهربوا إلى أخرى» (وصار ذلك خطة اتّبعها في السنين التالية). وهذا كان بدء رحلاته المرسلية والكرازية إلى كل أنحاء إيران. فلم يعد له بعد ذلك بيت يستقر فيه، ولم تكن له عائلة يربطه بها مكان واحد، فجال في شتى الأنحاء متنقلاً من قرية إلى أخرى إلى حدود أفغانستان وإلى حدود تركستان شمالاً أو إلى صحراء أواسط إيران، وكأنه دائماً يتجوَّل على الطريق، وكان يمشي حاملاً مقداراً كبيراً من الكتب والأدوية على ظهره، وأحياناً راكباً على ظهر حمار، وتارة في شاحنة، واستخدم أية طريقة وكل وسيلة تيسَّرت له ليجول في طول البلاد وعرضها. لم تمنعه ثلوج الشتاء ولا حرارة الصيف، بل ظل دائم السفر يؤوب عائداً إلى مشد من وقت لآخر ليرى أصدقاءه ويقدم تقاريره ويروي أخباره، وليحصل على كمية أخرى من الكتب المقدسة وأجزائها. وكان يسمي تلك الكتيبات «البذار» ويرى نفسه بمثابة «الزارع» يلقي بذاره الثمين في كل أنواع التربة. وقد زار ووزع كتباً مقدسة في أماكن كثيرة لم يذهب إليها مسيحيٌّ من قبل (وكان يهاجم القرآن ويهاجم النبي محمد حيثما ذهب، فلم يكن غريباً أنه ظل يُطرد من مكان إلى آخر) وكانت حياته في خطر مستمر. وقد نصحه أصدقاؤه أن يستخدم أسلوباً أكثر مسالمة، ولكن كان من الصعب عليه جداً أن يضبط لسانه الناري.
بالاضافة إلى «البذار» الذي كان منصور يحمله كان أيضاً يحمل بعض الأدوات والوسائل البسيطة مثل حقنة تنظيف المعدة والأمعاء، وكلابة الأسنان، وكان يقدم الصودا لتخفيف آلام المعدة، والكينين لتخفيف الحمى، ويستخدم أشياء أخرى حسبما تدعو إليها الحاجة. وفي ذلك الوقت الذي لم يلقَ فيه القرويون الفقراء أية مساعدة طبية كان قدوم منصور معونة أرسلها الله لإسعافهم. ومرة اجتمع جمهور من الناس في الغرفة التي كان نازلاً فيها وطلبوا مقابلة «الحكيم» (الطبيب) لإسعافهم، فقال منصور «أنا لست الحكيم» أجابه الناس «نعم أنت هو الحكيم بالنسبة لنا». وكان الناس يعبّرون عن شكرهم له بتقديم الطعام وبعض الهدايا البسيطة (لكنه لم يطلب قط مالاً من أحد نظير خدماته) واستطاع أن يعيش ككارز على نفقة نفسه.
كانت طريقة منصور في الشفاء تختلف عن وسائل الأطباء الآخرين، فبينما كان يقدم العقاقير والأدوية البسيطة كان يعتمد على الصلاة وليس على مجرد هذه الوسائل المادية. وكان يقول إنه لا يتقدم لعلاج مريض ما لم يشعر أن الله يريده أن يفعل ذلك. وعندما كان يقتنع أن إرادة الله أن يتقدم لعلاج مريض كان يكرّس كل انتباهه إلى ذلك المريض ويصلي لأجله، ولا ينتبه عند ذلك إلى طعام أو نوم. وبعد أن يعطي الدواء للمريض، كان دائماً يعطيه جزءاً من الإنجيل، ويقول إن كل شخص عالجه بهذه الوسيلة نال الشفاء.
مع أن منصور كان يفرح بالتكلم للجماهير التي تتلهّف لسماع رسالته وإذاعته «بذار» الإنجيل، إلا أن أقوى وسيلة فعّالة عنده كانت عمله الفردي مع الأشخاص الذين تجذبهم وتؤثر فيهم شخصيته المغناطسية. وكثيراً ما انحصر مع نفس واحدة مقيدة ومربوطة برذيلة أو عادة ذميمة، وبذل النفس والنفيس لمساعدة ذلك الشخص وإنقاذه. فإن كان عبداً للخمر أو مدمناً للأفيون كان يظل في جهاد عنيف مع ذلك الشخص ويكرّس نفسه وكل قواه لإنقاذه.
في سفرات منصور كان جرمه الفظيع إهماله لنفسه. فكان في بعض الأحيان يقضي أياماً عديدة لا يتناول أي طعام، وإذا تناول كان ما يأكله لا يكفي لبقاء إنسان عادي حياً. قال إنه مرة وهو يجول في بعض القرى لم يأخذ مقابل خدماته الطبية سوى عشرين بيضة وقليلاً من الزبد. ولم يرد أن يضيف ذلك إلى حمله الثقيل من الأدوية والكتب، فبدأ يأكل كل البيض والزبد. وكان هذا غذاءً كافياً به استطاع أن يمشي طوال اليوم. فلما وصل إلى المكان الذي كان يقصده سأل عن المسافة التي قطعها فعلم أنها بلغت خمسين ميلاً.
يقول مثل قديم إن الإنسان يُعرف بملابسه، أما منصور سنغ فكان بعكس ذلك، إذ كان يغير زيّه وملابسه كثيراً، ويلجأ إلى زي جديد في كثير من الأحوال، كما لو كان روحه القلِق يحاول دائماً أن يعبّر عن ذاته بأسلوب جديد وزي جديد. ففي وقت عماده لبس ثياباً طويلة كملابس رجال الأعمال في عصره، وحلق لحيته حلقاً تاماً نظيفاً، فلم يبق في وجهه سوى شارب طويل مصبوغ باللون الأسود. ولكن بعد عامين عندما رجع من الهند كان يربي لحية بيضاء طويلة ويلبس عمامة ملونة كالهنود وكأنه صار هندياً .. وبعد ذلك لما كان يسافر في البراري والصحاري للقرى البعيدة كان يلبس ثوباً من صوف الغنم كما يلبس الراعي الخشن، وكان شعره الطويل يتطوّح في الهواء. ولعل مظهره وقتئذ كان أشبه بمنظر يوحنا المعمدان عندما ظهر في البرية. ثم حلق شعره وقصّ لحيته ولبس سترة قصيرة وقلنسوة أجنبية قديمة، ولف ساقيه بلفائف أشبه بزي أهل الغرب قبل أن تطلب الحكومة الإيرانية من الرجال أن يلبسوا زياً قصيراً. إنما شيء واحد في زيه لم يغيره هو حذاؤه، فقد كان ينتعل حذاءً طويلاً ثقيلاً جداً من أحذية الجيش، وكان واسعاً جداً لكنه ظل يلبسه سنين كثيرة. وكان يشعر أنه إذا لبس حذاء خفيفاً تضيع قوة قدميه فلا يستطيع أن يقطع المسافات الطويلة، وكان دائماً يحمل عصا في يده.
كان منصور يتبع تعاليم المسيح للرسل حرفياً حينما أرسلهم في مدن الجليل وقراه وأوصاهم أن لا يكون معهم سوى ثوب واحد. كتب عنه أحد المرسلين في مشهد يقول: عندما كنتُ معه في بوغنورد شعرت بالخجل لأن شريكي في العمل كان يلبس ثياباً بالية، وكان يرفض أن يقبل أية مساعدة مالية لأنه لم يرد أن يُقال عنه إنه يكرز بالإنجيل للحصول على راتب مالي، فترددت أن أشتري له قميصاً جديداً، مع أنه كان في أشد الحاجة إليه، لكن الأمر وصل إلى حدٍ شعرت معه أنه يجب أن يغيّر قميصه، فسلّمته مبلغاً وأمرته بحزم وشدة أن يأخذه ويشتري لنفسه ثوباً جديداً، فنفَّذ الأمر. وبعد أيام قليلة ظهر بقميص جديد نظيف، وعبَّرت عن سروري برؤيته في ثوب جديد نظيف وابتسم وفرح، ثم فتح ياقته وقال: «نعم لبسته فوق قميصي الآخر». وكانت دهشتي بالغة لما رأيت قميصه السابق العتيق لا يزال على جسمه فوق قلبه! لعله كان لا يزال يستطيع أن يقول إنه لا يملك سوى قميص واحد.
كانت عودة منصور سنغ إلى مشد بعد أسابيع من التجوُّل في البراري بين قرى خرزان حدَثاً مهماً دائماً. كتبت السيدة ماكملر تصف هذه العودة فقالت: كان منصور نحيفاً متأثراً جداً من الطقس الصعب، ولكنه كان قوياً قادراً على تحمل المتاعب. وكان لا يحتاج إلى أشياء كثيرة في رحلاته كما يحتاج غيره ممن عرفتُهم. وكان أشبه بالنملة أو الفراشة الدائبة الحركة. كان يسافر مئات الأميال في قفار الصحاري والبراري تلفحه حرارتها القاسية، كما كان يجول في الجبال تقرصه الثلوج والصقيع، ويقابل مسافرين فيها يتناولون الشاي في بيوت الشاي والمقاهي حتى تعبر العاصفة. ولم أستطع أن أجزم قط هل كان احتماله هذه الحياة الخشنة القاسية حباً فيها، أو بسبب تكريسه العظيم لمجدٍ أسمى. وربما كان ذلك لكل هذه الأسباب مجتمعة. وكان يغتبط أشد اغتباط وهو يروي اختباراته عند رجوعه إلى مشد لوقت قصير من الاستجمام. وكان أبنائي يحبون منصوراً حباً بالغاً ويرحّبون بقدومه عند عودته فجأة أو ظهوره على غير انتظار كما تغني عصافير الربيع المسماة «أبو الحِن» عند ظهور فصل الربيع. وكانوا ينادون من حديقة الدار إذا شاهدوه عن بُعد قائلين «ماما! ماما! لقد عاد منصور». ويندفعون إلى النافذة لمشاهدته. وما كان أشد ابتهاجهم وهم يرون الرجل العجوز الطروب قادماً يضحك ويرنم بأعلى صوته ويلوّح بقبعته أو طربوشه أو أي زي حصل عليه في رحلته الأخيرة. (وأظنه لم يعُد قط بزي واحد مرتين). وكان يدور بسرعة حول الطريق، برأس مرفوعة تعبث الريح بشعره الخفيف وقد خطه الشيب. وكنا نركض كلنا لملاقاته والترحيب به، ونقدم له الشاي ونصغي بشغف إلى أحدث قصصه ومخاطراته. وإن كان زوجي موجوداً في البيت عند عودة منصور كان هو ومنصور يتبادلان القبلات الحارة بأصوات عالية ويتصافحان بالأيدي بشدة، ويتأبطان الواحد ذراع الآخر ويدخلان البيت وينزلان فوراً إلى الحمام حيث ينظف منصور نفسه من تراب وأوساخ الطريق ومن البراغيث والقمل التي علقت به في مسيره، ويخرج بعد لحظات من الحمام متورّد الخدين وقد ارتدى ثياباً نظيفة، وعيناه تشعان ببريق نفّاذ وهو ينظر إلينا بسرور. وتأخذه نشوة الطرب لاستقبالنا الحار. ويتطلع إلينا بنظرات حب أخّاذ وهو ينتظر إعداد الشاي ويضحك بصوت عال منفجراً بسرور لأنه عاد لرؤية أحبابه مرة أخرى يحمل أطرف القصص. وكان يروي مغامراته الفائقة السمو بصورة تسحر الألباب. ولست أندم على شيء سوى عجزي كأجنبية عن فهم كثير من النكات المثيرة الرائعة التي كان يرويها بأسلوبه الساحر. وكم كنت أتلهف لإدراك كل ما فيها. وكان حديثه ينساب بطلاقة وأوصاف رائعة وكان مفعماً بالتشبيهات والمجازات.
كان يلذ لمنصور دائماً أن يعيد رواية مخاطراته من بداية رحلته الطويلة حتى نهايتها، وكان يمتاز بذاكرة مدهشة شأن الذين لم يتعلموا القراءة قط. فكان يروي كل حادثة بدقة متناهية كأنها مطبوعة على ذهنه، ويمكن إعادتها بالضبط كل مرة بسهولة تامة. وكان في اليوم التالي يستأنف القصة من حيث انتهى في اليوم السابق. هكذا كان حاله، وكان باستطاعته أن يتحدث ساعتين أو ثلاث ساعات في كل مرة، ويظل يتابع القصة حتى نهاية الرحلة التي ربما استغرقت بضعة أسابيع أو بضعة شهور.
ويذكر القس وليم ويشام المرسل في طهران استقبال أبنائه لمنصور عند عودته فيقول: «لن ينسى أولادنا الجرو الصغير المصنوع من الصوف الذي حمله منصور لهم على ذراعيه نحو ألف ميل ليتمم وعده الذي قطعه لهم منذ عدة شهور مضت. وكانت السيارة الكبيرة مزدحمة بالحجاج المسلمين في طريقهم إلى ضريح مقدس، ولا شك أنهم جعلوا هذا الرجل العجوز يقاسي الأمرَّين، لأنه كان يحمل كلباً نجساً في وسطهم. ولا شك أنه كان يتخذ من ذلك فرصة ليكرز لهم كل ساعة عن المسيح الذي محا كل نجاسة طقسية بعمل نعمته في خلاصنا».
كان منصور يعرف المسيحيين في مشهد وطهران لكنه لم يذهب إلى الكنائس الأخرى في شمال إيران ووسطها. لذلك كان يتلهف أن يقوم برحلة كبيرة يقابل فيها كل إخوته في جميع المدن، وأن يغرس هناك «بذار» الكلمة ويقدم شهادته في كل أنحاء البلاد. ولم يكن تمويل رحلات منصور يثير أية مشاكل، لأنه كان يسافر ماشياً أو يركب في عربة قافلة أو شاحنة متى تيسر له ذلك، ولأنه كان يثق أن الرب يدبر له ما يلزم لطعامه وسكنه كما فعل دائماً. لقد وثق أن الرب راعيه فلا يعوزه شيء، ولم يطلب قط مساعدة مالية من أصدقائه، وكان يفخر أنه يدفع نفقات رحلته. وكثيراً ما رفض قبول أية مساعدة مالية من أصحابه الذين عرضوا عليه ذلك. وكثيراً ما أخجل أصدقاءه المرسلين بأن قدم لهم ما ورد إليه من المرضى الذي دفعوا بعض الهدايا والتقدمات.
وفي وقت مناسب في ربيع عام ١٩٢٩ قام منصور برحلة عظيمة قطع فيها آلاف الأميال زار أثناءها عدة مدن، بعد أن زوَّده أصدقاؤه المرسلون في مشهد برسائل توصية. وكان أصدقاؤه القدامى يغتبطون أشد اغتباط عندما يلتقون به في أي مكان، وأضاف إليهم عدداً كبيراً من الأصدقاء الجدد. وقد بعثت رحلته إلهاماً لعدد كبير من الناس.
وظل يوالي السفر بانتظام من مايو (أيار) إلى سبتمبر (أيلول) وتوقَّف في طهران وزنجان وتبريز ويروميا (رصيا) وحمدان وكرمنشاه، وكل مراكز الإرساليات المشيخية ما عدا رشت. وقد وردت رسائل إلى مشهد من كل مدينة زارها تثني على مخاطراته البالغة الأهمية، وعلى دأبه المستمر على نشر «بذار» الكلمة المطبوعة والمسموعة، وعلى الصعوبات التي لاقاها مع الشرطة، كما تصف الترحيب البالغ به، سواء كان من المرسلين أو الإيرانيين المسيحيين. وفي الخريف توجه إلى الجنوب حيث رحّب به مرسَلو كنيسة انكلترا في أصفهان وشيراز بحرارة وحماس. ومكث في شيراز من ديسمبر (ك١) إلى أبريل (نيسان) سنة ١٩٣٠ حيث كتب عنه القس ج. ر. رتشاردز من جمعية الكنيسة المرسلية الأسقفية يقول «جاء منصور إلى هنا كنسيمٍ منعش». وقد وجد منصور في القس رتشاردز إنساناً حسب قلبه.
بعد وفاة منصور بثلاثين عاماً، وكان رتشاردز قد صار أسقفاً لأبرشية سانت دافيدز في ويلز، وسجل بعض اختباراته عن منصور في خلال تلك الفترة وفي زياراته اللاحقة، قال: «زرنا في عصر أحد الأيام قبر حافظ الشاعر العظيم، وكنا نحمل معنا بعض الكتب المقدسة للبيع. وهذا القبر قائم في حديقة للدراويش، وكان بعضهم هناك عندما وصلنا. وتقدم منهم منصور وسأل إذا كان أحدهم يريد أن يشتري نسخة من الكتاب المقدس، فأجاب أحدهم: عندنا كتاب مقدس، بل عندنا نسخ من كتابنا أفضل من الكتاب الذي تبيعه أنت». فأجاب منصور: «أنا مسرور بذلك، ويسرني أن أسمع أن عندكم كتباً أفضل من الكتاب الذي أبيعه أنا. ترى هي مجلدة تجليداً أحسن؟». فأجاب الرجل: «نعم».
قال منصور: «ولعلها مذهبة تلمع».
أجاب الرجل: «نعم».
قال منصور: «هل تسمح لي أن أسألك سؤالاً آخر؟».
أجاب الرجل: «بكل تأكيد، تفضَّل».
قال منصور: «أنا لا أعلم إن كان عندك بنت أم لا. ولكن إن كان عندك ابنة، وإن كانت لا سمح الله غير جميلة الشكل، ألا تريد أن تراها تجمِّل وجهها قليلاً بشيء من الأصباغ حتى تفوز بزوج؟».
ضحك الرجل وقال: «ما غرضك من هذا السؤال؟».
قال منصور: «لما تصف القرآن بأنه مجلد تجليداً حسناً بجلد لمَّاع، أنت تصفه كابنة تجمِّل وجهها بالأصباغ. أما الكتاب الذي أقدمه فلا يحتاج إلى تجميل، لأنه جميل في ذاته. إنه كلمة الله الجميلة».
تم كل هذا بغاية اللطف واللباقة فلم يعثر أحد. وكان وداع الجماعة لمنصور ودياً حميداً.
مرة قُبض على منصور بحجة أنه يبيع الكتب المسيحية بالمناداة علناً في مكان عام، وأُخذ إلى مركز الشرطة في شيراز. وكان رئيس الشرطة بهائياً، فلما رأى أنه يبيع نسخ الإنجيل وأجزاء من الكتاب المقدس بثمن زهيد جداً رماها جانباً باستهزاء وقال: «هل تسمّي هذه النفاية البخسة الثمن كلمة الله؟ كم تدفع ثمن القرآن الشريف أو الكتاب الأقدس، كتاب بهاء الله؟ لا يمكن أن تقارن هذه النفاية التافهة بتلك الكتب!».
فأشار منصور إلى النور الكهربائي الذي كان يضيء تلك الغرفة وسأل: «كم تدفع لهذا النور؟» وقبل أن يتلقى الجواب مشى نحو النافذة ورفع الستارة فامتلأت الغرفة بنور الشمس المشرق الوضاح، والتفت إلى رئيس الشرطة وقال: «إنك لا تدفع ثمناً لهذا، لأنه هبة مجانية من الله! هكذا كتبي. إنها هبة مجانية. وهذا الثمن الزهيد هو ما يلزم لطعامي. أما ما يصنعه الإنسان فهو الذي يُباع بالثمن الذي ذكرتَه!». فأطلق رئيس الشرطة سراحه.
عندما كان منصور يقيم في شيراز زار قرية «قالات» على بعد ثلاثين ميلاً، حيث وجد عدداً من الناس يرغبون أن يسمعوا الإنجيل وأن يقبلوه. وطلب ناظر المدرسة وأحد مُلاّك الأراضي وابنته أن يعتمدوا. فجاء القس ريتشاردز يصحبه منصور وعدد من المسيحيين الآخرين إلى «قالات» وقضوا بضعة أيام هناك. وكتب القس ريتشاردز عن هذه الزيارة يقول: «انشغل منصور في صباح اليوم التالي في خلع الأسنان وحقن عدد لا يُحصى من الأطفال. ومن يراه وهو يشتغل لا يمكن أن ينسى المنظر! وكان يؤدي عمله على سطح المنزل (وسطوح منازل القرى مسطحة). ولا أزال أراه الآن على حافة السطح، ويمسك بالمريض رجلان آخران، بينما يقوم منصور بسحب وخلع السن، ولما يخلعه يلوح به بانتصار ويضعه تحت أنف المريض ليؤكد له أنه قد خُلع وانتهى. ثم يأخذ مادة برمنجنات البوتاسيوم من غلاية (إبريق) الشاي ويغسل وجه المريض ليفوّقه وينعشه». ويظهر أنه لم يعترض أحد على ممارسة منصور علاج الأسنان، لكن قام بعض الناس بمظاهرة صاخبة بسبب كرازته بالإنجيل بجرأة وبدون خوف. لكن هذا إنما زاد اهتمام الناس بالناحية الدينية. وقبل أن يرحل المرسَلون من «قالات» تعمَّد المؤمنون الثلاثة. وبعد سنوات قليلة بُنيت كنيسة صغيرة جميلة في هذه القرية الجبلية.
وكتب القس ريتشاردز عن المعاملة التي لقيها منصور في بعض الأحيان، يقول: «توضح القصة الآتية روح الرجل. ذهب منذ فترة قصيرة إلى قرية من قرى الجبل بجوار شيراز. وكان قد زار ذلك المكان من قبل ويعرف أخلاق سكانه، وهم أيضاً كانوا يعرفونه، وكان أشد المتعصبين منهم يخافونه. كان هناك قبل ذلك بأيام قليلة ودخل عدد من الرعاع البيت الذي كان نازلاً به وجرّوه إلى خارج وأرادوا أن يطردوه من القرية. ضربه بعضهم باللكمات والعصي، وبصقت النساء عليه، وهزأ غيرهم به بطرق نخجل من ذكرها هنا، لكنه لم يرُدّ على إهاناتهم وتعييراتهم ولا بكلمة واحدة. وكان بين الجمهور أعمى يلوّح في الهواء بعصاه بشكل فظيع محاولاً أن يضرب منصور. وبغتة التفت منصور إلى معذِّبيه ووبخهم قائلاً: «كم أنتم أنانيون! كلكم تريدون أن تفرجوا عن مشاعركم بضربي، فلماذا تحرمون رجلاً أعمى من أن يخفف مشاعره فيضربني كما تفعلون أنتم؟». ثم شقَّ طريقه وسط الزحام واقترب من الرجل الأعمى، وأحنى رأسه أمامه وقال: «اضرب يا أخي، اضرب!». وبعد أن ضربه الأعمى عدة مرات قال له منصور: «اضرب بشكل أقسى يا أخي، إن كان هذا يطفىء النار المتأججة في قلبك!». وقد زرت تلك القرية بعد هذه الحادثة ببضعة أيام فروى لي هذه القصة أحد الذين شاهدوها» .
ثم مضى القس ريتشاردز يقول:
على مقربة من «قالات» على بُعد بضعة أميال في السهل قرية محصنة تدعى «غيوم» لم يُسمح لنا بدخولها قط. وقد حاول منصور مراراً أن يذهب إليها، ولكن لم يُسمح له. ومرة ونحن نسير معاً قال لي منصور فجأة «إن أهل غيوم متحضرون أكثر من أهل قالات». فقلت له إني لا أقدر أن أتفق معه في هذا الوصف، لأنه لم يبد منهم أي شيء سوى العداوة والبغضة. وإنهم قد عاملوه هو بكل جفاء وفظاظة في مناسبات كثيرة. فسلم معي ذلك لكنه أضاف قائلاً «إن السيدات العجائز هناك لا يبصقن عليه».
في أبريل (نيسان) عام ١٩٣٠ قام منصور برحلة أخرى وزار مراكز الإرسالية الأسقفية في يزد وكرمان. ومن هناك قام مع القس هـ. ي. بغس برحلة في سيارة بضائع إلى إقليم بلوخستان الإيراني إلى بلدة لم يسبق لواعظ أو كارز أن دخلها. فصادرت الشرطة صناديق الكتب التي كانت معهما. لكن منصور ذهب في الحال إلى الشوارع ووزع الكثير من النبذ أو «البذار» التي كان قد أخفاها بمهارة. وأراد الناس أن يأتوا إلى غرفتهما للزيارة لكن الشرطة منعتهم، لذلك وقف منصور أمام الشباك المفتوح وابتدأ يرنم الترانيم والألحان المسيحية بصوت جهوري مسموع. في تلك الليلة استطاع عامل بطريقة ما أن يصل إليهما وتحدثا معه حديثاً طويلاً على ضوء مصباح. وقرأ له منصور من الكتاب المقدس. وقال الرجل إنه يريد أن يصير مسيحياً. وفي اليوم التالي أُرغما على الرجوع إلى كرمان.
أخيراً بعد غياب منصور أكثر من عام عاد إلى مشهد وكانت هذه رحلة كرازية مرسلية خالدة الذكرى، زار فيها معظم بلاد شمال ووسط إيران، ولا يعلم سوى الله كم من «البذار» غُرست ولا كم من النفوس عرفت المسيح. ولقد لقي هذا الزارع الجريء المحبوب ترحيباً وإكراماً من كثيرين من إخوته. وليس غريباً ما اعترف به لصديق له في شيراز، أنه لم يلتذ بالذهاب إلى خرزان لأنه كما قال «ليس لنبي كرامة في وطنه».
كان منصور عظيماً في كتابة الرسائل. ولم يمنعه عجزه عن الكتابة من إرسال رسائل لأصدقائه أينما كان وحيثما وجد من يكتب له، وكان يملي على هذا الكاتب رسائل طويلة. وكان يختار كتَّابه عادة لا بالنسبة لكفاءتهم الممتازة بل بالنسبة للأجر البسيط الذي يقبلونه. ولذلك كانوا عادةً يكتبون كتابة غير واضحة ومليئة بالأخطاء مما كان يربك المتعلمين الفارسيين المتضلعين الذين كانوا يحاولون قراءة تلك الرسائل. لكن عندما كان يوجد شخص يستطيع أن يحل رموز الرسائل ويقرأها كان يجدها طريفة للغاية، لأن منصور كان يروي فيها دائماً بإسهاب مطول ما قاله وما فعله وما حدث له في رحلاته. وكان من السهل معرفة رسائله أياً كان الكاتب الذي كتبها، لأنه كان دائماً يحرص أن يرسم عليها علامة الصليب في أعلى الصفحة الأولى. وكان يختمها بخاتمه بالصليب والإمضاء «منصور عبد المسيح».
بمرور السنين على هذا الجندي الباسل للمسيح نمت اختباراته ونضجت حتى أصبح أشبه ببولس الرسول في اختباراته ومخاطراته وأسفاره ومضايقاته التي ذكرها في رسالته الثانية إلى كنيسة كورنثوس: «بأسفار مراراً كثيرة. بأخطار سيول. بأخطار لصوص. بأخطار من جنسي ... بأخطار في المدينة. بأخطار في البرية. في تعبٍ وكدٍّ. في أسهار مراراً كثيرة. في جوع وعطش. في أصوام مراراً كثيرة. في برد وعري». وقد روى القس وليم ويشام هذه المخاطرات في ما تذكره من حديث معه فقال: «أخبرني منصور يوماً أن عصابة من الأولاد أمسكت به مرة خارج المدينة وأمطرته بالحجارة» فقلتُ له: «كان عندك سندٌ من الكتاب يدعوك أن تذهب إلى مدينة أخرى». فقطب وجهه وقال: «كلا، بل عمدت إلى تلك المدينة نفسها، وفي قلب السوق حيث كانت الحجارة شحيحة والشوارع متعرجة وملتوية جداً بطريقة لا تساعد الأولاد على المناورة والهروب، ووقفت أمام جمهور كبير أبشرهم بالإنجيل».
كان معروفاً منذ سنين طويلة أن منصور يعاني من مرض في قلبه، لكنه ظل دائب السفر في أنحاء البلاد، وظل نشيطاً إلى آخر حياته تقريباً. وكانت آخر رحلة قام بها من مشهد إلى طهران في الشتاء، وتعرَّض أثناء السفر للبرد الشديد، فبدأت صحته تنهار، ونُقل إلى مستشفى الإرسالية في طهران. وأعلن الطبيب أن حالته سيئة من كل وجه. وكان أشبه بحصان السباق وقد انهار كلياً. أصبح سقيم العقل، سقيم البدن، يعاني من القنوط وشدة الضيق. وقد شكا مرةً لأحد أصدقائه كيف تضايقه أفكاره وتقضّ مضجعه، فلا يجد منها راحة نهاراً ولا ليلاً قائلاً: «ليتني أستطيع أن أكفّ عن التفكير». وبعد وقت هدأت نفسه، وانقشعت السحابة التي كانت تغيّم على حياته.
في ١٣ مارس (أذار) سنة ١٩٣٠ ذهب صديقه القديم الدكتور شولر لزيارته في المستشفى، وكان منصور جالساً على سريره تبدو عليه إمارات التعب والإعياء. ولما سأله عما يشعر به أجاب بصوت ضعيف أنه متعب وغير مستريح. ولما سأله عن حالته الروحية نصب نفسه وأجاب أنه بخير، ثم قال: «إنما يخاف من الموت من لا إيمان له». واستأذن الدكتور شولر وتركه ووعد أن يعود إليه بعد الاجتماع التبشيري. ولما عاد بعد ساعة كان منصور قد مات. وكان قد أخبر خادماً بالمستشفى قبل ذلك بساعات قليلة أنه سيموت تلك الليلة، وهذا ما حدث. وبموت منصور انتهت رحلاته وأتعابه.
وقد أُقيمت خدمة الجناز في اليوم التالي بالكنيسة الإنجيلية المشيخية في طهران، التي كثيراً ما كان منصور يذهب إليها للعبادة في السنوات الماضية. وقام بخدمة الجناز الدكتور سعيد، أشهر مسلم متنصِّر في إيران، وذلك حسب رغبة منصور، ودُفن في المدافن البروتستانتية في أخبارباد بقرب طهران. وقد وُضع عند قبره حجر يعلوه صليب أشبه بالصليب الموجود على ختم منصور، ونُقشت على القبر باللغة الفارسية هذه الكلمات: «منصور سنغ عبد ليسوع المسيح ١٨٦٩ - ١٩٣٠».
كان منصور سنغ فذاً فريداً! كان يختلف عن سائر رفاقه بأن طبع أثراً لا يُمحى على كل من عرفوه. كانت له غلطاته وضعفاته التي لم نسجلها في هذه القصة، لكنها كانت غالباً نتيجة بيئته وخلفيته الشخصية التي نشأ فيها، فإن حياته الأولى باعتباره «حسن» أثّرت على حياته باعتباره «منصور سنغ». كان أحياناً شديد الانفعال، وهذا يُعزى بلا شك إلى الصدمات التي لاقاها في حياته المبكرة. مع ذلك كان عادةً مرِحاً وسعيداً أشبه بالأطفال، لكنه كان متعصباً شديد التمسك بإيمانه، وتاريخ الإسلام الإيراني حافل بهذا التعصب. إن الدرويش، الناسك المتعبد الدائم التجوال يعتبر نموذجاً في الحياة الإيرانية. ولا عجب أن يغلب على منصور إطلاق لقب «الدرويش المسيحي». وكثيراً ما ظن بعض الذين رافقوه في تجواله أنه حدث له «مس» - كما نقول «مس من الجنون» لكن «مسه» أو «جنونه» إنما كان رغبة ملتهبة في ربح الآخرين للمسيح. والذين عرفوه جيد المعرفة لا يزالون يشعرون بصدى صوته يتردد في نفوسهم منادياً باللغة الفارسية «يسوع المسيح الرب». ولا شك أن الله قد أمسك بهذه الشخصية العجيبة واستخدمها للكرازة بالإنجيل في إيران.
وأجمل ما ينطبق على منصور سنغ «الصخر الظافر» هو قول بولس الرسول «يعظم انتصارنا» فقد عظُم انتصاره بالذي أحبه وخلصه.
قبل أن يمضي وقت يُذكر وصلت رسائل إلى الإرسالية من رجل في نيسابور كان حسن قد تعرَّف به، أعلن الرجل فيها أنه يريد أن يصير مسيحياً، ويطلب من الإرسالية أن ترسل إليه مرسَلاً ليعلّمه ويعمّده. فذهب القس وليم مكملر في سبتمبر عام ١٩٢٠ راكباً على حمار إلى نيسابور يصحبه مسيحي إيراني. هناك تقابلا مع الطالب الجديد ومع حسن، وكان كلاهما في شديد التلهف على العماد الذي تم في ٣ أكتوبر من ذلك العام، في خدمة بسيطة بمنزل الطالب الجديد الذي اعتمد هو وابنه مع حسن. وكان هؤلاء الثلاثة غالباً أول ثلاثة مهتدين من الإسلام يعتمدون في نيسابور. وكانت هذه فرصة عظيمة جداً للجماعة الصغيرة. وكان قلب حسن يرقص طرباً إذ أُتيحت له الفرصة أن يعتمد بعد سنوات طويلة من الانتظار.
لما قام القس مكملر بعماد حسن لم يكن يعلم أنه مثل سائر مواطنيه في ذلك الوقت يدمن الأفيون، وكان حسن عبداً للإدمان نحو عشرين عاماً. وظل تسعة شهور يتعاطى الأفيون مع التدخين سراً دون أن يعلم أحدٌ من أصدقائه المرسلين، فلم يخبره أحد أن يكف عنه. وذهب حسنٌ ذات يوم إلى المقهى ليتعاطى الأفيون، وانطرح على الأرض مع عدد من الرفاق المدمنين لتدخينهم اليومي. ولما أحضر له الخادم الغليون (البيبه) ووضعها في فمه ورد على فكره خاطر: «هاتان الشفتان قد تناولتا الخبز وشربتا كأس العشاء الرباني، فكيف أنجسهما بتدخين هذا الشيء القذر؟» وفي الحال وضع الغليون (البيبه) وقام. فقال له الخادم: «أفيونك لم ينته بعد» فأجاب حسن: «لا أريده». ومن ذلك الوقت كفَّ عن تعاطي الأفيون نهائياً.
بعد أن أصبح حسن مسيحياً قرر أن يغيّر اسمه، فطلب من أصدقائه أن لا ينادوه فيما بعد بالحاج حسن، بل بالاسم «منصور» دليلاً على أنه منتصر أو ظافر. وهذا الاسم كان ينطبق على روحه الظافر الذي لا يُقهر. وعندما صدر أمر رضاه شاه بهلوي بأن تختار كل عائلة اسماً عائلياً أو لقباً لها يُسجل رسمياً وتُعرف به العائلة، استشار منصور صديقاً له، فنصحه أن سمعان دُعي بطرس أي صخرة (وبالفارسية سنغ). وأعجب منصور هذا الرأي فسجل نفسه باسم منصور سنغ أي الصخرة الظافرة.
لما سجل منصور اسم عائلته أصرَّ على أن يُسجل رسمياً أنه مسيحي. وتردد الموظف المسلم أن يكتب أمام خانة الديانة بأن منصور مسيحي. ولكنه أخيراً سجَّل ذلك أيضاً على بطاقة هويته الشخصية. وكان مستحيلاً على منصور أن يخفي إيمانه لأن أعظم فخر له هو أنه كان ينتمي للمسيح. وكان يلبس دائماً خاتماً على رأسه صليب نقش عليه «منصور عبد المسيح».
ما من أحدٍ سمع منصور وهو يتحدث بطلاقة وبراعة ويقتبس عباراتٍ باللغة العربية أو الفارسية كان يظن أن منصور أميّ لا يقرأ ولا يكتب. لكنه بعد أن أصبح مسيحياً شعر بحاجته إلى تعلم القراءة ليقدر أن يقرأ الكتاب المقدس لنفسه. فلما كان في نيسابور استأجر شخصاً يعلمه القراءة. وفي ظرف أسبوع واحد أتقن قراءة ثلاثة أصحاحات من إنجيل متّى، بحيث أمكنه أن يقرأها بطلاقة سواء من الكتاب أو غيباً. ثم قُطعت دروسه ولم يعد إليها مطلقاً. لكن الأصحاحات الثلاثة (إنجيل متّى ٢ - ٤) أفادته أعظم فائدة. فلما كان يريد أن يعلّم شخصاً آخر أن يقرأ فصلاً من الكتاب المقدس في اجتماع عام كان يفتح الكتاب إلى أحد هذه الأصحاحات ويقرأ من الذاكرة. وكان في استطاعته أن يقتبس أصحاحات كثيرة من الكتاب غيباً، لكنه أدرك أنه يجب عليه أن «يقرأ» من الكتاب في بعض الأحيان، لأن ذلك يؤثر في الناس أكثر. وبدأ بعد ذلك يشك في استخدام هذه الطريقة لأنه اعتبر أنه ليس من الأمانة أن يتظاهر بأنه يقرأ وهو لا يعرف القراءة فامتنع عن فتح الكتاب لمّا كان يقتبس منه.
بعد عماد منصور بوقت قصير اضطر أن يترك نيسابور لأن هجومه على الإسلام أثار حفيظة العلماء المسلمين، فأطاع أمر المسيح «متى طردوكم من مدينة فاهربوا إلى أخرى» (وصار ذلك خطة اتّبعها في السنين التالية). وهذا كان بدء رحلاته المرسلية والكرازية إلى كل أنحاء إيران. فلم يعد له بعد ذلك بيت يستقر فيه، ولم تكن له عائلة يربطه بها مكان واحد، فجال في شتى الأنحاء متنقلاً من قرية إلى أخرى إلى حدود أفغانستان وإلى حدود تركستان شمالاً أو إلى صحراء أواسط إيران، وكأنه دائماً يتجوَّل على الطريق، وكان يمشي حاملاً مقداراً كبيراً من الكتب والأدوية على ظهره، وأحياناً راكباً على ظهر حمار، وتارة في شاحنة، واستخدم أية طريقة وكل وسيلة تيسَّرت له ليجول في طول البلاد وعرضها. لم تمنعه ثلوج الشتاء ولا حرارة الصيف، بل ظل دائم السفر يؤوب عائداً إلى مشد من وقت لآخر ليرى أصدقاءه ويقدم تقاريره ويروي أخباره، وليحصل على كمية أخرى من الكتب المقدسة وأجزائها. وكان يسمي تلك الكتيبات «البذار» ويرى نفسه بمثابة «الزارع» يلقي بذاره الثمين في كل أنواع التربة. وقد زار ووزع كتباً مقدسة في أماكن كثيرة لم يذهب إليها مسيحيٌّ من قبل (وكان يهاجم القرآن ويهاجم النبي محمد حيثما ذهب، فلم يكن غريباً أنه ظل يُطرد من مكان إلى آخر) وكانت حياته في خطر مستمر. وقد نصحه أصدقاؤه أن يستخدم أسلوباً أكثر مسالمة، ولكن كان من الصعب عليه جداً أن يضبط لسانه الناري.
بالاضافة إلى «البذار» الذي كان منصور يحمله كان أيضاً يحمل بعض الأدوات والوسائل البسيطة مثل حقنة تنظيف المعدة والأمعاء، وكلابة الأسنان، وكان يقدم الصودا لتخفيف آلام المعدة، والكينين لتخفيف الحمى، ويستخدم أشياء أخرى حسبما تدعو إليها الحاجة. وفي ذلك الوقت الذي لم يلقَ فيه القرويون الفقراء أية مساعدة طبية كان قدوم منصور معونة أرسلها الله لإسعافهم. ومرة اجتمع جمهور من الناس في الغرفة التي كان نازلاً فيها وطلبوا مقابلة «الحكيم» (الطبيب) لإسعافهم، فقال منصور «أنا لست الحكيم» أجابه الناس «نعم أنت هو الحكيم بالنسبة لنا». وكان الناس يعبّرون عن شكرهم له بتقديم الطعام وبعض الهدايا البسيطة (لكنه لم يطلب قط مالاً من أحد نظير خدماته) واستطاع أن يعيش ككارز على نفقة نفسه.
كانت طريقة منصور في الشفاء تختلف عن وسائل الأطباء الآخرين، فبينما كان يقدم العقاقير والأدوية البسيطة كان يعتمد على الصلاة وليس على مجرد هذه الوسائل المادية. وكان يقول إنه لا يتقدم لعلاج مريض ما لم يشعر أن الله يريده أن يفعل ذلك. وعندما كان يقتنع أن إرادة الله أن يتقدم لعلاج مريض كان يكرّس كل انتباهه إلى ذلك المريض ويصلي لأجله، ولا ينتبه عند ذلك إلى طعام أو نوم. وبعد أن يعطي الدواء للمريض، كان دائماً يعطيه جزءاً من الإنجيل، ويقول إن كل شخص عالجه بهذه الوسيلة نال الشفاء.
مع أن منصور كان يفرح بالتكلم للجماهير التي تتلهّف لسماع رسالته وإذاعته «بذار» الإنجيل، إلا أن أقوى وسيلة فعّالة عنده كانت عمله الفردي مع الأشخاص الذين تجذبهم وتؤثر فيهم شخصيته المغناطسية. وكثيراً ما انحصر مع نفس واحدة مقيدة ومربوطة برذيلة أو عادة ذميمة، وبذل النفس والنفيس لمساعدة ذلك الشخص وإنقاذه. فإن كان عبداً للخمر أو مدمناً للأفيون كان يظل في جهاد عنيف مع ذلك الشخص ويكرّس نفسه وكل قواه لإنقاذه.
في سفرات منصور كان جرمه الفظيع إهماله لنفسه. فكان في بعض الأحيان يقضي أياماً عديدة لا يتناول أي طعام، وإذا تناول كان ما يأكله لا يكفي لبقاء إنسان عادي حياً. قال إنه مرة وهو يجول في بعض القرى لم يأخذ مقابل خدماته الطبية سوى عشرين بيضة وقليلاً من الزبد. ولم يرد أن يضيف ذلك إلى حمله الثقيل من الأدوية والكتب، فبدأ يأكل كل البيض والزبد. وكان هذا غذاءً كافياً به استطاع أن يمشي طوال اليوم. فلما وصل إلى المكان الذي كان يقصده سأل عن المسافة التي قطعها فعلم أنها بلغت خمسين ميلاً.
يقول مثل قديم إن الإنسان يُعرف بملابسه، أما منصور سنغ فكان بعكس ذلك، إذ كان يغير زيّه وملابسه كثيراً، ويلجأ إلى زي جديد في كثير من الأحوال، كما لو كان روحه القلِق يحاول دائماً أن يعبّر عن ذاته بأسلوب جديد وزي جديد. ففي وقت عماده لبس ثياباً طويلة كملابس رجال الأعمال في عصره، وحلق لحيته حلقاً تاماً نظيفاً، فلم يبق في وجهه سوى شارب طويل مصبوغ باللون الأسود. ولكن بعد عامين عندما رجع من الهند كان يربي لحية بيضاء طويلة ويلبس عمامة ملونة كالهنود وكأنه صار هندياً .. وبعد ذلك لما كان يسافر في البراري والصحاري للقرى البعيدة كان يلبس ثوباً من صوف الغنم كما يلبس الراعي الخشن، وكان شعره الطويل يتطوّح في الهواء. ولعل مظهره وقتئذ كان أشبه بمنظر يوحنا المعمدان عندما ظهر في البرية. ثم حلق شعره وقصّ لحيته ولبس سترة قصيرة وقلنسوة أجنبية قديمة، ولف ساقيه بلفائف أشبه بزي أهل الغرب قبل أن تطلب الحكومة الإيرانية من الرجال أن يلبسوا زياً قصيراً. إنما شيء واحد في زيه لم يغيره هو حذاؤه، فقد كان ينتعل حذاءً طويلاً ثقيلاً جداً من أحذية الجيش، وكان واسعاً جداً لكنه ظل يلبسه سنين كثيرة. وكان يشعر أنه إذا لبس حذاء خفيفاً تضيع قوة قدميه فلا يستطيع أن يقطع المسافات الطويلة، وكان دائماً يحمل عصا في يده.
كان منصور يتبع تعاليم المسيح للرسل حرفياً حينما أرسلهم في مدن الجليل وقراه وأوصاهم أن لا يكون معهم سوى ثوب واحد. كتب عنه أحد المرسلين في مشهد يقول: عندما كنتُ معه في بوغنورد شعرت بالخجل لأن شريكي في العمل كان يلبس ثياباً بالية، وكان يرفض أن يقبل أية مساعدة مالية لأنه لم يرد أن يُقال عنه إنه يكرز بالإنجيل للحصول على راتب مالي، فترددت أن أشتري له قميصاً جديداً، مع أنه كان في أشد الحاجة إليه، لكن الأمر وصل إلى حدٍ شعرت معه أنه يجب أن يغيّر قميصه، فسلّمته مبلغاً وأمرته بحزم وشدة أن يأخذه ويشتري لنفسه ثوباً جديداً، فنفَّذ الأمر. وبعد أيام قليلة ظهر بقميص جديد نظيف، وعبَّرت عن سروري برؤيته في ثوب جديد نظيف وابتسم وفرح، ثم فتح ياقته وقال: «نعم لبسته فوق قميصي الآخر». وكانت دهشتي بالغة لما رأيت قميصه السابق العتيق لا يزال على جسمه فوق قلبه! لعله كان لا يزال يستطيع أن يقول إنه لا يملك سوى قميص واحد.
كانت عودة منصور سنغ إلى مشد بعد أسابيع من التجوُّل في البراري بين قرى خرزان حدَثاً مهماً دائماً. كتبت السيدة ماكملر تصف هذه العودة فقالت: كان منصور نحيفاً متأثراً جداً من الطقس الصعب، ولكنه كان قوياً قادراً على تحمل المتاعب. وكان لا يحتاج إلى أشياء كثيرة في رحلاته كما يحتاج غيره ممن عرفتُهم. وكان أشبه بالنملة أو الفراشة الدائبة الحركة. كان يسافر مئات الأميال في قفار الصحاري والبراري تلفحه حرارتها القاسية، كما كان يجول في الجبال تقرصه الثلوج والصقيع، ويقابل مسافرين فيها يتناولون الشاي في بيوت الشاي والمقاهي حتى تعبر العاصفة. ولم أستطع أن أجزم قط هل كان احتماله هذه الحياة الخشنة القاسية حباً فيها، أو بسبب تكريسه العظيم لمجدٍ أسمى. وربما كان ذلك لكل هذه الأسباب مجتمعة. وكان يغتبط أشد اغتباط وهو يروي اختباراته عند رجوعه إلى مشد لوقت قصير من الاستجمام. وكان أبنائي يحبون منصوراً حباً بالغاً ويرحّبون بقدومه عند عودته فجأة أو ظهوره على غير انتظار كما تغني عصافير الربيع المسماة «أبو الحِن» عند ظهور فصل الربيع. وكانوا ينادون من حديقة الدار إذا شاهدوه عن بُعد قائلين «ماما! ماما! لقد عاد منصور». ويندفعون إلى النافذة لمشاهدته. وما كان أشد ابتهاجهم وهم يرون الرجل العجوز الطروب قادماً يضحك ويرنم بأعلى صوته ويلوّح بقبعته أو طربوشه أو أي زي حصل عليه في رحلته الأخيرة. (وأظنه لم يعُد قط بزي واحد مرتين). وكان يدور بسرعة حول الطريق، برأس مرفوعة تعبث الريح بشعره الخفيف وقد خطه الشيب. وكنا نركض كلنا لملاقاته والترحيب به، ونقدم له الشاي ونصغي بشغف إلى أحدث قصصه ومخاطراته. وإن كان زوجي موجوداً في البيت عند عودة منصور كان هو ومنصور يتبادلان القبلات الحارة بأصوات عالية ويتصافحان بالأيدي بشدة، ويتأبطان الواحد ذراع الآخر ويدخلان البيت وينزلان فوراً إلى الحمام حيث ينظف منصور نفسه من تراب وأوساخ الطريق ومن البراغيث والقمل التي علقت به في مسيره، ويخرج بعد لحظات من الحمام متورّد الخدين وقد ارتدى ثياباً نظيفة، وعيناه تشعان ببريق نفّاذ وهو ينظر إلينا بسرور. وتأخذه نشوة الطرب لاستقبالنا الحار. ويتطلع إلينا بنظرات حب أخّاذ وهو ينتظر إعداد الشاي ويضحك بصوت عال منفجراً بسرور لأنه عاد لرؤية أحبابه مرة أخرى يحمل أطرف القصص. وكان يروي مغامراته الفائقة السمو بصورة تسحر الألباب. ولست أندم على شيء سوى عجزي كأجنبية عن فهم كثير من النكات المثيرة الرائعة التي كان يرويها بأسلوبه الساحر. وكم كنت أتلهف لإدراك كل ما فيها. وكان حديثه ينساب بطلاقة وأوصاف رائعة وكان مفعماً بالتشبيهات والمجازات.
كان يلذ لمنصور دائماً أن يعيد رواية مخاطراته من بداية رحلته الطويلة حتى نهايتها، وكان يمتاز بذاكرة مدهشة شأن الذين لم يتعلموا القراءة قط. فكان يروي كل حادثة بدقة متناهية كأنها مطبوعة على ذهنه، ويمكن إعادتها بالضبط كل مرة بسهولة تامة. وكان في اليوم التالي يستأنف القصة من حيث انتهى في اليوم السابق. هكذا كان حاله، وكان باستطاعته أن يتحدث ساعتين أو ثلاث ساعات في كل مرة، ويظل يتابع القصة حتى نهاية الرحلة التي ربما استغرقت بضعة أسابيع أو بضعة شهور.
ويذكر القس وليم ويشام المرسل في طهران استقبال أبنائه لمنصور عند عودته فيقول: «لن ينسى أولادنا الجرو الصغير المصنوع من الصوف الذي حمله منصور لهم على ذراعيه نحو ألف ميل ليتمم وعده الذي قطعه لهم منذ عدة شهور مضت. وكانت السيارة الكبيرة مزدحمة بالحجاج المسلمين في طريقهم إلى ضريح مقدس، ولا شك أنهم جعلوا هذا الرجل العجوز يقاسي الأمرَّين، لأنه كان يحمل كلباً نجساً في وسطهم. ولا شك أنه كان يتخذ من ذلك فرصة ليكرز لهم كل ساعة عن المسيح الذي محا كل نجاسة طقسية بعمل نعمته في خلاصنا».
كان منصور يعرف المسيحيين في مشهد وطهران لكنه لم يذهب إلى الكنائس الأخرى في شمال إيران ووسطها. لذلك كان يتلهف أن يقوم برحلة كبيرة يقابل فيها كل إخوته في جميع المدن، وأن يغرس هناك «بذار» الكلمة ويقدم شهادته في كل أنحاء البلاد. ولم يكن تمويل رحلات منصور يثير أية مشاكل، لأنه كان يسافر ماشياً أو يركب في عربة قافلة أو شاحنة متى تيسر له ذلك، ولأنه كان يثق أن الرب يدبر له ما يلزم لطعامه وسكنه كما فعل دائماً. لقد وثق أن الرب راعيه فلا يعوزه شيء، ولم يطلب قط مساعدة مالية من أصدقائه، وكان يفخر أنه يدفع نفقات رحلته. وكثيراً ما رفض قبول أية مساعدة مالية من أصحابه الذين عرضوا عليه ذلك. وكثيراً ما أخجل أصدقاءه المرسلين بأن قدم لهم ما ورد إليه من المرضى الذي دفعوا بعض الهدايا والتقدمات.
وفي وقت مناسب في ربيع عام ١٩٢٩ قام منصور برحلة عظيمة قطع فيها آلاف الأميال زار أثناءها عدة مدن، بعد أن زوَّده أصدقاؤه المرسلون في مشهد برسائل توصية. وكان أصدقاؤه القدامى يغتبطون أشد اغتباط عندما يلتقون به في أي مكان، وأضاف إليهم عدداً كبيراً من الأصدقاء الجدد. وقد بعثت رحلته إلهاماً لعدد كبير من الناس.
وظل يوالي السفر بانتظام من مايو (أيار) إلى سبتمبر (أيلول) وتوقَّف في طهران وزنجان وتبريز ويروميا (رصيا) وحمدان وكرمنشاه، وكل مراكز الإرساليات المشيخية ما عدا رشت. وقد وردت رسائل إلى مشهد من كل مدينة زارها تثني على مخاطراته البالغة الأهمية، وعلى دأبه المستمر على نشر «بذار» الكلمة المطبوعة والمسموعة، وعلى الصعوبات التي لاقاها مع الشرطة، كما تصف الترحيب البالغ به، سواء كان من المرسلين أو الإيرانيين المسيحيين. وفي الخريف توجه إلى الجنوب حيث رحّب به مرسَلو كنيسة انكلترا في أصفهان وشيراز بحرارة وحماس. ومكث في شيراز من ديسمبر (ك١) إلى أبريل (نيسان) سنة ١٩٣٠ حيث كتب عنه القس ج. ر. رتشاردز من جمعية الكنيسة المرسلية الأسقفية يقول «جاء منصور إلى هنا كنسيمٍ منعش». وقد وجد منصور في القس رتشاردز إنساناً حسب قلبه.
بعد وفاة منصور بثلاثين عاماً، وكان رتشاردز قد صار أسقفاً لأبرشية سانت دافيدز في ويلز، وسجل بعض اختباراته عن منصور في خلال تلك الفترة وفي زياراته اللاحقة، قال: «زرنا في عصر أحد الأيام قبر حافظ الشاعر العظيم، وكنا نحمل معنا بعض الكتب المقدسة للبيع. وهذا القبر قائم في حديقة للدراويش، وكان بعضهم هناك عندما وصلنا. وتقدم منهم منصور وسأل إذا كان أحدهم يريد أن يشتري نسخة من الكتاب المقدس، فأجاب أحدهم: عندنا كتاب مقدس، بل عندنا نسخ من كتابنا أفضل من الكتاب الذي تبيعه أنت». فأجاب منصور: «أنا مسرور بذلك، ويسرني أن أسمع أن عندكم كتباً أفضل من الكتاب الذي أبيعه أنا. ترى هي مجلدة تجليداً أحسن؟». فأجاب الرجل: «نعم».
قال منصور: «ولعلها مذهبة تلمع».
أجاب الرجل: «نعم».
قال منصور: «هل تسمح لي أن أسألك سؤالاً آخر؟».
أجاب الرجل: «بكل تأكيد، تفضَّل».
قال منصور: «أنا لا أعلم إن كان عندك بنت أم لا. ولكن إن كان عندك ابنة، وإن كانت لا سمح الله غير جميلة الشكل، ألا تريد أن تراها تجمِّل وجهها قليلاً بشيء من الأصباغ حتى تفوز بزوج؟».
ضحك الرجل وقال: «ما غرضك من هذا السؤال؟».
قال منصور: «لما تصف القرآن بأنه مجلد تجليداً حسناً بجلد لمَّاع، أنت تصفه كابنة تجمِّل وجهها بالأصباغ. أما الكتاب الذي أقدمه فلا يحتاج إلى تجميل، لأنه جميل في ذاته. إنه كلمة الله الجميلة».
تم كل هذا بغاية اللطف واللباقة فلم يعثر أحد. وكان وداع الجماعة لمنصور ودياً حميداً.
مرة قُبض على منصور بحجة أنه يبيع الكتب المسيحية بالمناداة علناً في مكان عام، وأُخذ إلى مركز الشرطة في شيراز. وكان رئيس الشرطة بهائياً، فلما رأى أنه يبيع نسخ الإنجيل وأجزاء من الكتاب المقدس بثمن زهيد جداً رماها جانباً باستهزاء وقال: «هل تسمّي هذه النفاية البخسة الثمن كلمة الله؟ كم تدفع ثمن القرآن الشريف أو الكتاب الأقدس، كتاب بهاء الله؟ لا يمكن أن تقارن هذه النفاية التافهة بتلك الكتب!».
فأشار منصور إلى النور الكهربائي الذي كان يضيء تلك الغرفة وسأل: «كم تدفع لهذا النور؟» وقبل أن يتلقى الجواب مشى نحو النافذة ورفع الستارة فامتلأت الغرفة بنور الشمس المشرق الوضاح، والتفت إلى رئيس الشرطة وقال: «إنك لا تدفع ثمناً لهذا، لأنه هبة مجانية من الله! هكذا كتبي. إنها هبة مجانية. وهذا الثمن الزهيد هو ما يلزم لطعامي. أما ما يصنعه الإنسان فهو الذي يُباع بالثمن الذي ذكرتَه!». فأطلق رئيس الشرطة سراحه.
عندما كان منصور يقيم في شيراز زار قرية «قالات» على بعد ثلاثين ميلاً، حيث وجد عدداً من الناس يرغبون أن يسمعوا الإنجيل وأن يقبلوه. وطلب ناظر المدرسة وأحد مُلاّك الأراضي وابنته أن يعتمدوا. فجاء القس ريتشاردز يصحبه منصور وعدد من المسيحيين الآخرين إلى «قالات» وقضوا بضعة أيام هناك. وكتب القس ريتشاردز عن هذه الزيارة يقول: «انشغل منصور في صباح اليوم التالي في خلع الأسنان وحقن عدد لا يُحصى من الأطفال. ومن يراه وهو يشتغل لا يمكن أن ينسى المنظر! وكان يؤدي عمله على سطح المنزل (وسطوح منازل القرى مسطحة). ولا أزال أراه الآن على حافة السطح، ويمسك بالمريض رجلان آخران، بينما يقوم منصور بسحب وخلع السن، ولما يخلعه يلوح به بانتصار ويضعه تحت أنف المريض ليؤكد له أنه قد خُلع وانتهى. ثم يأخذ مادة برمنجنات البوتاسيوم من غلاية (إبريق) الشاي ويغسل وجه المريض ليفوّقه وينعشه». ويظهر أنه لم يعترض أحد على ممارسة منصور علاج الأسنان، لكن قام بعض الناس بمظاهرة صاخبة بسبب كرازته بالإنجيل بجرأة وبدون خوف. لكن هذا إنما زاد اهتمام الناس بالناحية الدينية. وقبل أن يرحل المرسَلون من «قالات» تعمَّد المؤمنون الثلاثة. وبعد سنوات قليلة بُنيت كنيسة صغيرة جميلة في هذه القرية الجبلية.
وكتب القس ريتشاردز عن المعاملة التي لقيها منصور في بعض الأحيان، يقول: «توضح القصة الآتية روح الرجل. ذهب منذ فترة قصيرة إلى قرية من قرى الجبل بجوار شيراز. وكان قد زار ذلك المكان من قبل ويعرف أخلاق سكانه، وهم أيضاً كانوا يعرفونه، وكان أشد المتعصبين منهم يخافونه. كان هناك قبل ذلك بأيام قليلة ودخل عدد من الرعاع البيت الذي كان نازلاً به وجرّوه إلى خارج وأرادوا أن يطردوه من القرية. ضربه بعضهم باللكمات والعصي، وبصقت النساء عليه، وهزأ غيرهم به بطرق نخجل من ذكرها هنا، لكنه لم يرُدّ على إهاناتهم وتعييراتهم ولا بكلمة واحدة. وكان بين الجمهور أعمى يلوّح في الهواء بعصاه بشكل فظيع محاولاً أن يضرب منصور. وبغتة التفت منصور إلى معذِّبيه ووبخهم قائلاً: «كم أنتم أنانيون! كلكم تريدون أن تفرجوا عن مشاعركم بضربي، فلماذا تحرمون رجلاً أعمى من أن يخفف مشاعره فيضربني كما تفعلون أنتم؟». ثم شقَّ طريقه وسط الزحام واقترب من الرجل الأعمى، وأحنى رأسه أمامه وقال: «اضرب يا أخي، اضرب!». وبعد أن ضربه الأعمى عدة مرات قال له منصور: «اضرب بشكل أقسى يا أخي، إن كان هذا يطفىء النار المتأججة في قلبك!». وقد زرت تلك القرية بعد هذه الحادثة ببضعة أيام فروى لي هذه القصة أحد الذين شاهدوها» .
ثم مضى القس ريتشاردز يقول:
على مقربة من «قالات» على بُعد بضعة أميال في السهل قرية محصنة تدعى «غيوم» لم يُسمح لنا بدخولها قط. وقد حاول منصور مراراً أن يذهب إليها، ولكن لم يُسمح له. ومرة ونحن نسير معاً قال لي منصور فجأة «إن أهل غيوم متحضرون أكثر من أهل قالات». فقلت له إني لا أقدر أن أتفق معه في هذا الوصف، لأنه لم يبد منهم أي شيء سوى العداوة والبغضة. وإنهم قد عاملوه هو بكل جفاء وفظاظة في مناسبات كثيرة. فسلم معي ذلك لكنه أضاف قائلاً «إن السيدات العجائز هناك لا يبصقن عليه».
في أبريل (نيسان) عام ١٩٣٠ قام منصور برحلة أخرى وزار مراكز الإرسالية الأسقفية في يزد وكرمان. ومن هناك قام مع القس هـ. ي. بغس برحلة في سيارة بضائع إلى إقليم بلوخستان الإيراني إلى بلدة لم يسبق لواعظ أو كارز أن دخلها. فصادرت الشرطة صناديق الكتب التي كانت معهما. لكن منصور ذهب في الحال إلى الشوارع ووزع الكثير من النبذ أو «البذار» التي كان قد أخفاها بمهارة. وأراد الناس أن يأتوا إلى غرفتهما للزيارة لكن الشرطة منعتهم، لذلك وقف منصور أمام الشباك المفتوح وابتدأ يرنم الترانيم والألحان المسيحية بصوت جهوري مسموع. في تلك الليلة استطاع عامل بطريقة ما أن يصل إليهما وتحدثا معه حديثاً طويلاً على ضوء مصباح. وقرأ له منصور من الكتاب المقدس. وقال الرجل إنه يريد أن يصير مسيحياً. وفي اليوم التالي أُرغما على الرجوع إلى كرمان.
أخيراً بعد غياب منصور أكثر من عام عاد إلى مشهد وكانت هذه رحلة كرازية مرسلية خالدة الذكرى، زار فيها معظم بلاد شمال ووسط إيران، ولا يعلم سوى الله كم من «البذار» غُرست ولا كم من النفوس عرفت المسيح. ولقد لقي هذا الزارع الجريء المحبوب ترحيباً وإكراماً من كثيرين من إخوته. وليس غريباً ما اعترف به لصديق له في شيراز، أنه لم يلتذ بالذهاب إلى خرزان لأنه كما قال «ليس لنبي كرامة في وطنه».
كان منصور عظيماً في كتابة الرسائل. ولم يمنعه عجزه عن الكتابة من إرسال رسائل لأصدقائه أينما كان وحيثما وجد من يكتب له، وكان يملي على هذا الكاتب رسائل طويلة. وكان يختار كتَّابه عادة لا بالنسبة لكفاءتهم الممتازة بل بالنسبة للأجر البسيط الذي يقبلونه. ولذلك كانوا عادةً يكتبون كتابة غير واضحة ومليئة بالأخطاء مما كان يربك المتعلمين الفارسيين المتضلعين الذين كانوا يحاولون قراءة تلك الرسائل. لكن عندما كان يوجد شخص يستطيع أن يحل رموز الرسائل ويقرأها كان يجدها طريفة للغاية، لأن منصور كان يروي فيها دائماً بإسهاب مطول ما قاله وما فعله وما حدث له في رحلاته. وكان من السهل معرفة رسائله أياً كان الكاتب الذي كتبها، لأنه كان دائماً يحرص أن يرسم عليها علامة الصليب في أعلى الصفحة الأولى. وكان يختمها بخاتمه بالصليب والإمضاء «منصور عبد المسيح».
بمرور السنين على هذا الجندي الباسل للمسيح نمت اختباراته ونضجت حتى أصبح أشبه ببولس الرسول في اختباراته ومخاطراته وأسفاره ومضايقاته التي ذكرها في رسالته الثانية إلى كنيسة كورنثوس: «بأسفار مراراً كثيرة. بأخطار سيول. بأخطار لصوص. بأخطار من جنسي ... بأخطار في المدينة. بأخطار في البرية. في تعبٍ وكدٍّ. في أسهار مراراً كثيرة. في جوع وعطش. في أصوام مراراً كثيرة. في برد وعري». وقد روى القس وليم ويشام هذه المخاطرات في ما تذكره من حديث معه فقال: «أخبرني منصور يوماً أن عصابة من الأولاد أمسكت به مرة خارج المدينة وأمطرته بالحجارة» فقلتُ له: «كان عندك سندٌ من الكتاب يدعوك أن تذهب إلى مدينة أخرى». فقطب وجهه وقال: «كلا، بل عمدت إلى تلك المدينة نفسها، وفي قلب السوق حيث كانت الحجارة شحيحة والشوارع متعرجة وملتوية جداً بطريقة لا تساعد الأولاد على المناورة والهروب، ووقفت أمام جمهور كبير أبشرهم بالإنجيل».
كان معروفاً منذ سنين طويلة أن منصور يعاني من مرض في قلبه، لكنه ظل دائب السفر في أنحاء البلاد، وظل نشيطاً إلى آخر حياته تقريباً. وكانت آخر رحلة قام بها من مشهد إلى طهران في الشتاء، وتعرَّض أثناء السفر للبرد الشديد، فبدأت صحته تنهار، ونُقل إلى مستشفى الإرسالية في طهران. وأعلن الطبيب أن حالته سيئة من كل وجه. وكان أشبه بحصان السباق وقد انهار كلياً. أصبح سقيم العقل، سقيم البدن، يعاني من القنوط وشدة الضيق. وقد شكا مرةً لأحد أصدقائه كيف تضايقه أفكاره وتقضّ مضجعه، فلا يجد منها راحة نهاراً ولا ليلاً قائلاً: «ليتني أستطيع أن أكفّ عن التفكير». وبعد وقت هدأت نفسه، وانقشعت السحابة التي كانت تغيّم على حياته.
في ١٣ مارس (أذار) سنة ١٩٣٠ ذهب صديقه القديم الدكتور شولر لزيارته في المستشفى، وكان منصور جالساً على سريره تبدو عليه إمارات التعب والإعياء. ولما سأله عما يشعر به أجاب بصوت ضعيف أنه متعب وغير مستريح. ولما سأله عن حالته الروحية نصب نفسه وأجاب أنه بخير، ثم قال: «إنما يخاف من الموت من لا إيمان له». واستأذن الدكتور شولر وتركه ووعد أن يعود إليه بعد الاجتماع التبشيري. ولما عاد بعد ساعة كان منصور قد مات. وكان قد أخبر خادماً بالمستشفى قبل ذلك بساعات قليلة أنه سيموت تلك الليلة، وهذا ما حدث. وبموت منصور انتهت رحلاته وأتعابه.
وقد أُقيمت خدمة الجناز في اليوم التالي بالكنيسة الإنجيلية المشيخية في طهران، التي كثيراً ما كان منصور يذهب إليها للعبادة في السنوات الماضية. وقام بخدمة الجناز الدكتور سعيد، أشهر مسلم متنصِّر في إيران، وذلك حسب رغبة منصور، ودُفن في المدافن البروتستانتية في أخبارباد بقرب طهران. وقد وُضع عند قبره حجر يعلوه صليب أشبه بالصليب الموجود على ختم منصور، ونُقشت على القبر باللغة الفارسية هذه الكلمات: «منصور سنغ عبد ليسوع المسيح ١٨٦٩ - ١٩٣٠».
كان منصور سنغ فذاً فريداً! كان يختلف عن سائر رفاقه بأن طبع أثراً لا يُمحى على كل من عرفوه. كانت له غلطاته وضعفاته التي لم نسجلها في هذه القصة، لكنها كانت غالباً نتيجة بيئته وخلفيته الشخصية التي نشأ فيها، فإن حياته الأولى باعتباره «حسن» أثّرت على حياته باعتباره «منصور سنغ». كان أحياناً شديد الانفعال، وهذا يُعزى بلا شك إلى الصدمات التي لاقاها في حياته المبكرة. مع ذلك كان عادةً مرِحاً وسعيداً أشبه بالأطفال، لكنه كان متعصباً شديد التمسك بإيمانه، وتاريخ الإسلام الإيراني حافل بهذا التعصب. إن الدرويش، الناسك المتعبد الدائم التجوال يعتبر نموذجاً في الحياة الإيرانية. ولا عجب أن يغلب على منصور إطلاق لقب «الدرويش المسيحي». وكثيراً ما ظن بعض الذين رافقوه في تجواله أنه حدث له «مس» - كما نقول «مس من الجنون» لكن «مسه» أو «جنونه» إنما كان رغبة ملتهبة في ربح الآخرين للمسيح. والذين عرفوه جيد المعرفة لا يزالون يشعرون بصدى صوته يتردد في نفوسهم منادياً باللغة الفارسية «يسوع المسيح الرب». ولا شك أن الله قد أمسك بهذه الشخصية العجيبة واستخدمها للكرازة بالإنجيل في إيران.
وأجمل ما ينطبق على منصور سنغ «الصخر الظافر» هو قول بولس الرسول «يعظم انتصارنا» فقد عظُم انتصاره بالذي أحبه وخلصه.
ليست هناك تعليقات: