طبيعته الإلهية


إننا نعلم أن معتقد المسيحيين والمسلمين أيضاً أن يسوع المسيح ولد من عذراء ليس حجة ولا برهاناً على طبيعته الإلهية، لكنها النتيجة الطبيعية المستلزمة لتلك الطبيعة. ولا يراد بذلك أنه كان بشراً ثم صار إلهاً. لأن هذا مستحيل والقول به كفر بل أن الذي اتخذ بولادته من عذراء طبيعة بشرية حقيقية كان منذ الأزل ذا طبيعة إلهية حقيقية على صورة لا تمس حقيقة وحدانية الله.
فالقول في لاهوت يسوع المسيح وفي أنه ابن الله قول كبير لا يجوز تصديقه إلا بتقديم الحجج الدامغة والبراهين القاطعة. وبناء على مقام يسوع المسيح السامي وصفاته الكاملة يكون قوله عن نفسه أقوى ما يمكن من البراهين. فهو يصرح أنه ليس فقط ابن الله بل ابن الله الوحيد أيضاً. ولما كان الله روحاً محضاً فبنوة المسيح له بنوة روحية صرفة لا يخامرها أقل إشارة للمعنى الجسدي. فالحذر كل الحذر من اتخاذ هذا اللقب بمعنى مادي يخل بروحانية الله ووحدانيته.
فالعبارة العربية «ابن الله الوحيد» هي في الأصل اليوناني الذي كتب الإنجيل به «ابن الله الوحيد المولود منه». ومنها يستدل على تفرد يسوع المسيح عن كل الذين يسمون أبناء الله. لأن بنوة هؤلاء تأتيهم بالتبني لا بالولادة وكلتاهما بنوة روحية.
وحسب نص الإنجيل يسوع المسيح هو ابن الله بالمعنى التام كما أنه ابن الإنسان بالمعنى التام أيضاً. فاهتمامه بأن يعرف حقاً كابن الإنسان دليل مهم على كونه ليس ابن الإنسان كغيره من الناس. وإلا لم يكن من حاجة إلى أن يكرر كثيراً تسميته نفسه ابن الله. وإن اعترض أحد بأن كلام الإنجيل ليس كلام المسيح ذاته بل كلام تلاميذه فهذا الاعتراض يزيد البرهان قوة. لأنه لا يعقل أن تلاميذه يهتمون ببيان كونه ابن الإنسان أكثر من كونه ابن الله. وسبب اهتمام يسوع بأن يعرفه الناس كابن الإنسان هو قصده أن يتقرب منهم ليستميل قلوبهم وينال ثقتهم لكي يطلبوه مخلّصاً لهم.
فيجب أن نعيد القول بأن يسوع المسيح ابن الله بمعنى روحي صرف لا تشوبه شائبة. ويشترط فيه المحافظة التامة على توحيد الله. ولا يخرج عن هذا الشرط في عقيدته إلا كل غبي. فالمسلم لا يفوق المسيحي المستقيم العاقل تمسكاً بالقول أنه:
«ٱللّهُ ٱلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» (سورة الإخلاص ١١٢: ٢ - ٤).
فالذي يستصعب التوفيق بين هذه الأقوال والقول المسيحي «الآب هو الله والابن هو الله والروح القدس هو الله». عليه أن ينتبه إلى ما هو معلوم من اجتماع التوحيد وضده في الشخص الواحد البشري. لأن الإنسان ذو طبيعتين الواحدة جسدية والأخرى روحية. واستقلال كل منهما بعض الاستقلال عن الأخرى أمر ظاهر للنظر الصحيح. فالقول الواحد في الإنسان الواحد قد يصح وقد لا يصح في الوقت الواحد. فيقال مثلاً عن زيد أنه زائل لأنه من التراب وإلى التراب يعود. ويقال عنه أيضاً أنه ذو نفس خالدة ويحيا إلى الأبد. والقولان صادقان. فهل ينفي هذا التناقض بينهما حسب الظاهر الوحدة الحقيقية في شخص زيد؟
قال داود النبي في المزامير: «باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» فهنا لنا ازدواج في قلب التوحيد إذ يظهر الشخص الواحد في الوقت الواحد كمتكلم ومخاطب وكآمر ومأمور. فبمقتضى اللغة والمنطق يظهران اثنين. ولكن بمقتضى الاختبار وحكم العقل السليم هما واحد فقط.
فهذا التشبيه لا نورده كبرهان على أن في الإله الواحد ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس. أو أن في المسيح الواحد طبيعة بشرية وطبيعة إلهية بل نورده من باب التذكير إننا نسلم في قضية طبيعة الإنسان المزدوجة بأن هذا الازدواج لا يعارض التوحيد في شخص المخلوق. فلم لا يجوز أن يقال مثله في طبيعة يسوع المزدوجة. وفي اجتماع التوحيد وضده في الخالق الذي خلق الإنسان على صورته تعالى كما ورد في التوراة؟
فالوهم الذي يتوهّمه بعض المسلمين أن المسيحيين يشركون بالله شخصاً آخر ناتج عن سوء فهم هذه القضية. فتوحيد الله هو الأصل في الدين والتثليث في الله نظير بنوة المسيح لله إنما يؤخذان فقط على صورة لا تخل في التوحيد، لأن الوصية الأولى والأهم بين وصايا الله العشر التي تربط اليهودي والنصراني معا هي:
«أَنَا ٱلرَّبُّ إِلهُكَ... لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي» (خروج ٢٠: ٢ - ٣).
فكما أن الله لكل البشر ولا يمكن تخصيصه بفئة أو ملة أو أمة دون غيرها يجب أن يصح ذلك أيضاً في من هو ابن الله الوحيد. فليس هو مسيح المسيحيين دون المسلمين. وتخصيص المسيحيين إياه بهم وحدهم خطأ عظيم ناتج عن إهمالهم درس الإنجيل وعدم اعتمادهم تعاليمه. فيسوع ابن مريم مسيح كل من يقبله من بني البشر أجمعين في كل زمان ومكان ودعوته عمومية لجميع الناس بقطع النظر عن المذهب والجنس. وكل ذلك مؤيد وموضح في الإنجيل.
كل الأنوار التي من صنعة البشر تكون محصورة في مكان واحد معلوم بخلاف النور الذي خلقه الله فهو عام ويضيء على كل العالم. وفرق كهذا ظاهر بين الدين الذي هو ابتداع بشري ليحصر زعيمه وكتابه في فئة واحدة من البشر وبين الذي يوحيه الله ويعلنه للناس فيكون عاماً ويشمل البشر جميعاً ولا يحتمل الانحصار أو الاحتكار. فيسوع المسيح مخلص لكل البشر والكتاب المقدس أي التوراة والإنجيل رسالة موجهة لكل البشر على السواء. ومهما كررنا هذه الحقيقة لا يمكن أن نفيها حقها من الأهمية والاعتبار.
في شرائع التمدن يعد المتهم بريئاً إلى أن تثبت جريمته. ولا سيما إذا لم يكن له سوابق سيئة بل كان من أهل الفضل والفضيلة. وعلى هذا المنوال يصح القول السابق أن الإنجيل يعد صحيحاً وأقواله صادقة إلى أن يثبت عكس ذلك بالبرهان ولأن فضل الإنجيل في العالم منذ كتب إلى الآن لا ينكر ولهذا الكتاب مقام سام عند أكثر سكان العالم.
فباعتباره صحيحاً وباعتبار يسوع المسيح صادقاً يقع كل من ينكر طبيعته الإلهية في مشكل عظيم. لانه بذلك يكون قد أخرج المسيح من رتبة الأنبياء بل من درجة متوسطي الصلاح ووضعه في مصف الكاذبين المجدفين المضلين كما فعل به معاصروه من اليهود. وعلى هذا الفرض يكون قد استحق الصلب حسب الشريعة المنزلة على ملته. وهذا قرار ينفر منه كل ذي ذوق سليم مهما تكن ملته. فكوكب طبيعة يسوع المسيح الإلهية هو الذي يضيء أيضاً بنوره الباهر على سائر الكواكب التي سبق ذكرها والتي تأخذ منه معظم نورها.
ومن هذا الكوكب يتدفق نور كماله.
مهما يرتق الإنسان ويتقدم في الصلاح فلا يُعزى إليه الكمال إذ ليس من كامل إلا الله وحده، أما نسبة الكمال الإلهي إلى يسوع المسيح فهي بالنظر إلى طبيعته الإلهية التي تجيز له الاتصاف بكمالاتها. ولا تعارض حصر الكمال في الله. وهو الذي قال فيه الرسول:
«عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ... كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (١ تيموثاوس ٣: ١٦).
فطبيعته الإلهية تتفق اتفاقاً عجيباً مع الكواكب الستة الأخرى. ونزوله من السماء والإعلانات السابقة بمجيئه وسلطانه الفائق وتكريمه بالسجود وحضوره الدائم وموته الكفّاري وقيامته تدل بأجمعها على إنسان لا مثيل له بل هو في مقام متفرد أسمى من كل مقام بشري. فكوكب الطبيعة الإلهية لا يمسكه بيمينه إلا يسوع المسيح وحده.
فما قد اتضح لنا من هذه الكواكب السبعة هو أن أصل يسوع المسيح أصل سماوي قبل خلق العالمين. وأن النبوات القديمة السابقة لمجيئه كثيرة وواضحة ومتواصلة. وأنه ذو سلطان سماوي قولاً وفعلاً. وأنه صار موضوع إكرام وسجود لا يجوز تقديمهما للإنسان المجرد. ولم يعترض على ذلك حال كونه أصلح الصالحين. وأنه صرح بحضوره الدائم مع شعبه وأنه أسلم نفسه للموت ليكفر بموته عن خطايا البشر. ثم قام ممجداً ليتمم غاية موته. وأنه بهذه الأدلة وغيرها أعلن طبيعته الإلهية التي تأنست في طبيعة بشرية بولادته من مريم العذراء.
إن نور القمر هو من نور الشمس المنعكس عليه. فمتى طلع القمر مساء يحسب مبشراً بقدوم شمس أمجد منه قد أعارته نورها قبل ظهورها وإنها ستظهر بعده. فالنور اليهودي الذي نشأ عن النور المسيحي المنعكس عليه سلفاً بقي إلى أن بزغ النور الأعظم الذي أنبأ به أولاً. أفلا ينتظر أن يدوم هذا النور المسيحي الأعظم ما دام نهار التاريخ البشري موجوداً وهو في العالم على ازدياد مستمر؟
فهذا الماسك بيمينه الكواكب السبعة قد عرفناه الآن الزعيم الحقيقي للدين المنزل في العهدين اليهودي والمسيحي فزعامته متصلة منذ البدء ومن زمن آدم إلى هذا اليوم.
لا بدّ للمفكر أن يسأل نفسه هذه الأسئلة:
  1. ما معنى كون يسوع المسيح هو الوحيد في كل تاريخ العالم إلى الآن الذي جمع في شخصه هذه الشروط السبعة الجوهرية؟
  2. ألا يستدل من ذلك أن هذا الشخص يبقى منفرداً فيها في مستقبل التاريخ البشري أيضاً؟
  3. أليس هو المقام من الله منذ الأزل مخلّصاً وحيداً لبني آدم الخطاة جميعاً وممثلاً وحيداً كاملاً أمام الناس للإله الروح الذي يرى ولا يرى وفقاً لنصوص الإنجيل؟
هذا ومعاذ الله أن نقصد في شيء من هذه المقالة وجهاً من الافتخار المذهبي. لكننا نشتهي من صميم القلب أن يتمتع المسلمون أيضاً بالبركات المتدفقة من شخص يسوع المسيح الذي قال بفم أحد أنبيائه العظام:
«أَيُّهَا ٱلْعِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى ٱلْمِيَاهِ» (إشعياء ٥٥: ١).
وقال هو بفمه له المجد:
«مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يوحنا ٤: ١٤).
«لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى ٱلٱبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ» (يوحنا ٦: ٤٠).
يتضح جلياً من الإنجيل أن يسوع المسيح لم يؤثر ضم جماعة عديدة إليه يؤلف منهم قوماً خاصاً يتبعه ويسمى باسمه. بل بالعكس كان يردع كثيرين من الذين طلبوا الانضمام إليه. لأن غايته العظمى كانت عامة وموافقة لجميع البشر. وهي نشر النور السماوي المعلن من الله.
ومثل هذا القول يقال عن المسيحيين الذي يتبعون خطوات سيّدهم ويسيرون على مثاله، غايتهم العظمى بث هذا النور السماوي كما أعلنه المسيح لا الإكثار من عدد النفوس التابعة لمذهبهم. ولا يُخفى أن من دأب هذه الغاية إثارة النفور والمقاومة حال كون الغاية الأولى يحبذها العقلاء في كل المذاهب متى كانوا مخلصين للحق.
يعتقد المسيحي أن من أهم معاني قول يسوع المسيح: «أنا هو نور العالم» أن تعاليمه الواردة في الإنجيل تصلح وتكفي لإنارة شعوب العالم أجمع على توالي الدهور. لأنها تبدد الأوهام وتجلو الحقائق في موضوع الدين.
ومن جملة هذه الحقائق:
  1. إن كل ما يسمى ديناً ويصور للناس أن مجرد التعبد دون النظر إلى إصلاح القلب وصلاح السيرة يكفل الخلاص والنعيم ليس ديناً صحيحاً بل هو خيال وهمي وضلال بعيد. لأنَّ تعبُّداً كهذا مبني على الوهم أن الصلاح الخارجي الذي يرضي الناس كاف بينما هو أشبه بحبل بال لا يمكن أن ينشل من الهلاك غريقاً. أو بوعاء فارغ لا يعي خيراً للإرواء أو الإشباع. ولأنه فارغ تعشش فيه الحشرات السامة المهلكة. فهو قبيح وعدمه خير من وجوده. فهذا النوع من التعبد المؤسس على الرياء هو أقبح الذنوب.
  2. إن كل ما يسمى ديناً ويصور للناس أن قيامهم بالفروض والرسوم الدينية على شروطها المذهبية امتثالاً لوصايا رؤسائهم ومجامعهم بقطع النظر عن الوصايا الإلهية مقبول عند الله هو دين واهن. لا بل يحقر الدين فلا يستحق هذا الاسم الشريف. لأن ليس للرؤساء ولا للمجامع حق الإحداث أو التشريع في الدين. ولا يرضي الله إلا من حفظ تلك الفروض والرسوم امتثالاً لأمره تعالى لا للناس. وخلاف ذلك لا يشرف باسم الدين لأنه من باب الغباوة والخداع.
  3. إن الدين الصحيح النافع هو الذي جعل صاحبه يمارس فروض الدين مخافة لله وحباً وإطاعة له لا للبشر. ويجعل تعبده نتيجة الشعور العميق الداخلي بمراحم الله وجوده. والتلذذ بالتأمل في صفاته عز وجل. والرغبة في تمجيده. والاتضاع في حضرته مع الاعتراف له تعالى. فيلتزم صلاح السيرة بجانب هذه الشعائر لا ليربح الثناء البشري أو النفوذ بين قومه أو النجاح في أشغاله. ولا خوفاً من الجحيم ولا طمعاً في النعيم. لان مقاصد كهذه هي من حب الذات الذميم الذي يقيم الذات معبوداً بدلاً من الله فلا يكون صاحبه من الأتقياء.
  4. إن قوام الدين الصحيح هو ما يهبه الله للإنسان وليس أعمال الإنسان. أي أن الأهم في الدين هو ما يقدمه الله للإنسان حباً له. وما يقدمه الإنسان إرضاء له تعالى هو الأمر الثانوي أو نتيجة الشعور الشريف بالأمر الأول.
وإيضاحاً لذلك نقول أن كرم الملك العظيم نحو بنيه أو نحو عبيده هو موضوع للاهتمام والافتخار والإشهار أكثر كثيراً من خدمة أولئك البنين لآبائهم أو العبيد لمواليهم. ويزيد في هذا الترجيح تفوق ذلك الكرم على تلك الخدمة أضعاف الأضعاف... فالأمين والشريف النفس من عبيد الله أو بنيه يجاهر قليلاً بخدماته لله أو للناس وكثيراً بإحسان ذلك المنعم الجواد الذي فوق إحسانه الروحي إحسانه الزمني بمقدار ما تفوق النفس الخالدة الجسد الفاني.
لذلك يكثر الإنجيل من ذكر هبات الله الروحية كما في الآية الشهيرة:
«لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ ٱللّهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا ٣: ١٦).
فالرحمة والمغفرة والنعمة والسلام والنشاط الروحي في مقاومة التجارب مع ما يتبع هذه العطايا من أمثالها هي أركان الدين الصحيحة. والتفكر ملياً بهذه الهبات الفائقة يولد المحبة البنوية لله التي تجعل الإنسان يفضل الآلام مع رضاه تعالى على ملء الرفاهية مع غيظه عز وجل.
وقد جعل الإيمان أساس الخلاص وشرطه. لأن الإيمان هو القبول الشخصي الحبي لهذه المنح الإلهية الفائقة مع الثقة التامة والتمسك بها. والأمر واضح أن إيماناً كهذا يكون كشجرة حية ومثمرة. وأن ثمره يرى في السيرة الصالحة الناشئة عنه. ولا يكون الإيمان حياً حقيقياً إن لم يأت بهذا الثمر الجوهري. ولا تكون الأعمال الصالحة حقاً ما لم تكن ثمر هذا الإيمان. وهذا هو تعليل الموضوع الرئيسي. هل الخلاص مؤسس على الإيمان أم على الأعمال؟ وحول هذا الموضوع تدور المشاحنات والأضاليل والإرشادات جيلاً بعد جيل.
والأعمال الصالحة إنما تكتسب صفة الصلاح من فائدتها لغير الذي يمارسها. ولا يعد نقياً من تغافل عن المطاليب الدينية التي يستفيد منها غيره نظير الصدق واللطف والحلم والصبر والتسامح والتعاون والسخاء إلى غير هذه من أمثالها. ولا يحصل هذا المتغافل على بغيته خلاص النفس ولو بالغ في ممارسته فرائض التعبد.
فلو اتفقت فرق أهل الكتاب على اعتبار هذه التعاليم الواردة في الإنجيل صحيحة وصالحة للجميع واتخذتها قواعد يعمل بها لزال الانقسام القديم والتعصب الذميم والكره اللئيم وساد الوفاق والوئام والمحبة والسلام.

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.