حتمية العودة إلى الكتاب المقدس
ونؤكد من البداية حتمية العودة إلى الكتاب المقدس، ذلك لأننا بعيداً عن
الكتاب المقدس لا نستطيع بحال من أن نعرف حقيقة المسيح، فالعقل وحده لا
يستطيع أن يدرك حقيقته إذ لا بد من إعلان سماوي يعين العقل على الوصول إلى
الحق الصراح، لأنه
«أَيْنَ ٱلْحَكِيمُ؟ أَيْنَ
ٱلْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ ٱللّٰهُ
حِكْمَةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ؟ لأَنَّهُ إِذْ كَانَ ٱلْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ
ٱللّٰهِ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ بِٱلْحِكْمَةِ، ٱسْتَحْسَنَ ٱللّٰهُ أَنْ
يُخَلِّصَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ ٱلْكِرَازَةِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ
يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً،
وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ
عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ:
يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ
ٱللّٰهِ» (١ كورنثوس ١: ٢٠ - ٢٤).
ولقد ظهر في ألمانيا فيما بين سنة (١٧٤٣ - ١٨١٩) فيلسوف اسمه «جاكوبي» وكانت كتاباته رداً على فلسفة «اسبينوزا» الذي نادى بأن العقل وحده هو باب المعرفة الوحيد، وقد قال «جاكوبي»: «إن العقل غير المعان بالوحي الإلهي لا بد أن يقود الإنسان إلى الإلحاد، وذلك لأنه بطبيعته الخاصة، لا يستطيع أن يعالج سوى الأشياء ذات الحدود، وأجزاء الأشياء، وهو يضع هذه الأجزاء معاً ليكشف ما بينها من روابط، ولكنه يعجز عن الحصول على مادة الحقيقة الخام، لا سيما الحقيقة التي تشمل الأشياء جميعاً مضموناً بعضها إلى بعض في وحدة كاملة متكاملة».
وعند «جاكوبي» أن الله الذي يمكن إثباته بالمنطق وحده لا يمكن أن يكون الله، لأن الحصول عليه بالمعرفة عن طريق العقل يتضمن معنى سيطرة العقل. والخالق الأعظم لا يمكن أن يسيطر عليه أو يحتويه عقل. إن حقيقة الله ليس سبيلها الفكرة المنطقية تتلوها أخرى، إن الله قد تنازل سبحانه وتعالى فأعلن عن ذاته بالوحي الذي سجله الكتاب المقدس.
ونقول بيقين أنه بدون الرجوع إلى الكتاب المقدس بأسفاره الستة والستين من سفر التكوين إلى سفر رؤيا يوحنا، يصبح الحديث عن المسيح مجرد لغو وهراء.
ولا عبرة بأن الكتاب المقدس الذي بين أيدينا قد أصابه التحريف.. إذ أننا نسأل أمام هذا الادعاء قائلين:
لمصلحة من حدث هذا التحريف؟ ومن الذي قام به وأحدثه في الكتاب الكريم؟ وفي أي تاريخ حرّفه المحرفون؟
فإذا قلنا إن اليهود هم الذين حرفوه... رد علينا العقل المتزن والمنطق السليم قائلاً: كيف يمكن لليهود أن يحرفوا الكتاب المقدس. ويبقوا فيه اللعنات الرهيبة التي تنصب على رؤوسهم كشعب متمرد ضال؟ أفما كان بالأولى جداً أن يحذف المحرفون من الكتاب المقدس هذه اللعنات، وأن يحولوها بتحريفهم إلى بركات؟! إن المرء يكفيه أن يقرأ ما جاء في الأصحاح السادس والعشرين من سفر اللاويين ليرى بنفسه فظاعة اللعنات التي يصبها الله على هذا الشعب حين يسلك معه بالخلاف.
تعال معي لنقرأ بعض ما جاء في هذا الأصحاح: «وَإِنْ كُنْتُمْ بِذٰلِكَ لاَ تَسْمَعُونَ لِي بَلْ سَلَكْتُمْ مَعِي بِٱلْخِلاَفِ فَأَنَا أَسْلُكُ مَعَكُمْ بِٱلْخِلاَفِ سَاخِطاً، وَأُؤَدِّبُكُمْ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ حَسَبَ خَطَايَاكُمْ، فَتَأْكُلُونَ لَحْمَ بَنِيكُمْ، وَلَحْمَ بَنَاتِكُمْ تَأْكُلُونَ. وَأُخْرِبُ مُرْتَفَعَاتِكُمْ وَأَقْطَعُ شَمْسَاتِكُمْ وَأُلْقِي جُثَثَكُمْ عَلَى جُثَثِ أَصْنَامِكُمْ، وَتَرْذُلُكُمْ نَفْسِي. وَأُصَيِّرُ مُدُنَكُمْ خَرِبَةً وَمَقَادِسَكُمْ مُوحِشَةً، وَلاَ أَشْتَمُّ رَائِحَةَ سُرُورِكُمْ» (لاويين ٢٦: ٢٧ - ٣١).
ويسأل العقل المتزن أيضاً: كيف يمكن لليهود أن يحرفوا الكتاب المقدس ولا ينزعوا من صفحاته كذب إبراهيم أبيهم، وزنى داود ملكهم وقتله لأحد قادتهم، وتدهور سليمان حكيمهم؟
إن وجود الحوادث التي تؤكد كذب إبراهيم، وزني داود، وإنحراف سليمان، أصدق دليل على أن الكتاب المقدس هو كتاب الله الذي لا يخشى وجه إنسان مهما عظم مركز ذلك الإنسان.
وإذا قلنا: إن المسيحيين حرّفوا الكتاب المقدس؟ سأل العقل المفكر: أي جزء من الكتاب حرفه المسيحيون؟
يقيناً إنه لم يكن في وسعهم أن يحرفوا العهد القديم، لوجود هذا الكتاب أصلاً بين أيدي اليهود، فهو كتابهم قبل أن يكون كتاب المسيحيين، وثابت من التاريخ أن العهد القديم قد تُرجم إلى اللغة اليونانية نحو سنة ٢٨٥ قبل الميلاد بواسطة سبعين عالماً من علماء اليهود بأمر من «بطليموس فيلادلفوس» وصارت هذه الترجمة معروفة باسم «الترجمة السبعينية». وقد انتشرت هذه الترجمة قبل ميلاد المسيح، فمن المستحيل إذا أن يحرف المسيحيون كتب العهد القديم. كذلك من المستحيل الاعتقاد بأن اليهود قد حرفوا العهد الجديد. ذلك لأن العهد الجديد يؤكد أنهم هم الذين صلبوا المسيح ويصب الويلات على الكتبة والفريسين منهم، فلو أن اليهود حرفوه لحذفوا منه كل هذه الأجزاء.
أما إذا ادعى مدعي بأن المسيحيين قد حرفوا العهد الجديد فإن هذا الادعاء ينهار أمام عدة حقائق.
الحقيقة الأولى: هي بقاء التوافق العجيب بين العهد القديم والعهد الجديد، وفي هذا أقوى الدليل على أن يداً بشرية لم تمتد بالتحريف لكتاب الله الكريم، فمن المعروف أن العهد الجديد مستتر في نبوات العهد القديم، وإلا فضح العهد القديم أي تحريف في العهد الجديد.
والحقيقة الثانية: هي أن المسيحيين قد لاقوا بسبب إيمانهم بحقائق العهد الجديد أفظع أنواع العذاب، فقد جرّ عليهم إيمانهم بالمسيح وفدائه، وسلطانه على القلب والفكر... الألم، والتشريد، والاضطهاد، والموت. ومن الممكن للإنسان البشري أن يكذب لمصلحة خاصة أو للنجاة من مأزق خطير، لكن ليس من الممكن أو القبول أن يستمر الإنسان في كذبه حتى يقوده الكذب إلى الموت، ولقد مات الملايين من المسيحيين بسبب إيمانهم بما جاء في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.. فهل يعقل أن يقوم المسيحيون الذين اشتهروا في القرون الأولى للمسيحية بأخلاقهم الفاضلة، وقداسة حياتهم، ورضاهم بالتضحية بحياتهم من أجل المسيح بسرور ورضى، بتحريف الكتاب المقدس وهو الكتاب الذي ينتهي آخر أسفاره بالكلمات «لأَنِّي أَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالَ نُبُّوَةِ هٰذَا ٱلْكِتَابِ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هٰذَا يَزِيدُ ٱللّٰهُ عَلَيْهِ ٱلضَّرَبَاتِ ٱلْمَكْتُوبَةَ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هٰذِهِ ٱلنُّبُّوَةِ يَحْذِفُ ٱللّٰهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ، وَمِنَ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ ٱلْمَكْتُوبِ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ» (رؤيا يوحنا ٢٢: ١٨ - ١٩).
والحقيقة الثالثة: إنه رغم الاختلافات العقائدية التي انتشرت في الكنائس المسيحية منذ عصر الرسل، إلا أنها اتفقت جميعاً في مجمع قرطاجنة الذي عُقد سنة ٣٩٧ على قانونية أسفار العهد الجديد كما هي بين أيدينا.
والحقيقة الرابعة: أنه لا يعقل أن يعطي الله الناس كتاباً من وحيه ثم لا يحفظ هذا الكتاب بقدرته من التحريف على طول الزمان..
نقرأ في سفر إشعياء الكلمات «صَوْتُ قَائِلٍ: نَادِ. فَقَالَ: بِمَاذَا أُنَادِي؟ كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ، وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ. يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلّزَهْرُ، لأَنَّ نَفْخَةَ ٱلرَّبِّ هَبَّتْ عَلَيْهِ. حَقّاً ٱلشَّعْبُ عُشْبٌ! يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلّزَهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (إشعياء ٤٠: ٦ - ٨). كذلك نقرأ في إنجيل متى الكلمات: «اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (متى ٢٤: ٣٥) ونقرأ في إنجيل يوحنا الكلمات: «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (يو ١٧: ١٧).
فالله إذاً قد ضمن بقاء كلمته بلا تحريف إلى مدى الأدهار، وأوصى شعبه القديم قائلاً: «كُلُّ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ ٱحْرِصُوا لِتَعْمَلُوهُ. لاَ تَزِدْ عَلَيْهِ وَلاَ تُنَقِّصْ مِنْهُ» (تث ١٢: ٣٢).
وهنا يجدر بنا أن نذكر أن نسخ الكتاب المقدس اليونانية الموجودة بين أيدينا حتى اليوم هي:
(١) النسخة الفاتيكانية: خطت في أوائل القرن الرابع وهي الآن في مكتبة الفاتيكان في رومية.
(٢) النسخة السينائية: خطت في أواخر القرن الرابع للمسيح على رقوق مرهفة في أربعة أعمدة على الصفحة، وقد وجدها العالِم الألماني «تشندروف» في دير سانت كاترين عند سفح جبل سيناء، وأُهديت هذه النسخة إلى القيصر نيقولا الثاني أمبراطور روسيا فأمر بطبعها ونشرها، وظلت النسخة الأصلية في ليننجراد إلى أن بيعت مؤخراً للمتحف البريطاني بمئة ألف جنيه استرليني.
(٣) النسخة الاسكندرية: خطت في القرن الخامس للميلاد وبقيت في حوزة بطاركة الاسكندرية حتى سنة ١٦٢٨ حين أُهديت إلى «شارلس الأول» ملك بريطانيا، وهي الآن محفوظة في المتحف البريطاني.
وفي مطلع عام ١٩٤٧ عثر العلماء في وادي القمران من شرق الأردن على مخطوطات من العهد القديم على جانب عظيم من الأهمية، فقد عثروا على سفر إشعياء بكامله باللغة العبرية، ويرجع هذا المخطوط في تقدير العلماء إلى القرن الأول أو الثاني قبل الميلاد وقد ظهر أن هذا السفر يتفق تماماً مع سفر إشعياء الذي بين أيدينا، ومنذ ذلك التاريخ والباحثون يعثرون على الكثير من أسفار الكتاب المقدس مما يعود إلى سنة ١١٠ و١٧٠ بعد الميلاد وكل اكتشافاتهم تؤكد صدق الكتاب الكريم وخلوه من التحريف.
فإذا تأكد وجود نسخ قديمة للكتاب المقدس كله تعود إلى ما قبل القرن الرابع للميلاد وما زالت بين أيدينا إلى اليوم، وعرفنا أن الإسلام ظهر في القرن السادس للميلاد، ورأينا بوضوح أن القرآن يؤكد سلامة الكتب المقدسة التي بين يدي اليهود والمسيحيين، أو بمعنى أدق سلامة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، كان في وسعنا أن نقول بيقين إنه حتى القرن السادس للميلاد لم يحرف الكتاب المقدس ولم يأته الشك من بين يديه ولا من خلفه إذ لا يقبل إنسان عاقل القول بأن نبي الإسلام يحض المسلمين على قبول كتاب امتدت إليه يد التحريف.
فتعال معي لنقرأ ما جاء في القرآن:
ففي سورة المائدة نقرأ:
«قُلْ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ» (سورة المائدة ٥: ٦٨).
«وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ» (سورة المائدة ٥: ٤٣).
«إِنَّا أَنْزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ» (سورة المائدة ٥: ٤٤).
«وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاءهُ ٱلإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» (سورة المائدة ٥: ٤٦).
«وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (سورة المائدة ٥: ٤٧).
وفي سورة الجاثية نقرأ: «وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُّوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ» (سورة الجاثية ٤٥: ١٦).
وفي سورة الأسراء نقرأ: «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً» (سورة الأسراء ١٧: ٥٥).
وفي سورة النساء نقرأ: «وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً» (سورة النساء ٤: ١٦٣).
هذا كله يؤكد لنا أن الكتاب المقدس بكلا عهديه لم يحرف حتى ظهور الإسلام وإلا ما حث الإسلام المسلمين أن يقيموا التوراة والإنجيل قائلاً لهم: « لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ» (سورة المائدة ٥: ٦٨).
متى إذاً حدث التحريف في الكتاب المقدس؟
بغير شك أن العقل والمنطق السليم يدعوان إلى نبذ دعوى التحريف، إذ لا يعقل أن يُحرف كتاب قد تداولته الأيدي، وانتشرت نسخه في أرجاء الأرض، وصار العهد القديم كتاباً مقدساً عند اليهود، والعهدان معاً كتاباً مقدساً لدى جميع المسيحيين، أقول لا يعقل أن يُحرف الكتاب المقدس بعد هذه القرون، لأنه لو حدث التحريف لظهرت النسخ المتضاربة بين أيدي اليهود والمسيحيين، لكن ما نراه هو أنه رغم اختلاف المسيحيين في اعتقاداتهم فإنهم جميعاً يدينون بكتاب واحد لا تختلف نسخه باختلاف طوائف المسيحيين.. كما أنه لو حدث التحريف في العهد القديم لدافع عنه المؤمنون به من المسيحيين وأوضحوا الفرق بين النسخة السليمة والنسخة المحرفة، وعلى هذا يمكننا أن نقول بيقين إن الكتاب المقدس لم تمتد إليه يد التحريف، وأنه في اللغات الأصلية التي كتب بها كلمة الله المعصومة تماماً من كل خطأ.
وهنا قد ينبري أحدهم قائلاً: وما قولك في الإنجيل المسمى «إنجيل برنابا»؟ ونترك الإجابة على هذا السؤال للأستاذ عباس محمود العقاد، وننقلها بأمانة علمية كما نشرها في صحيفة الأخبار بعددها الصادر في ٢٦ أكتوبر ١٩٥٩ وقال فيها بالحرف الواحد ما يلي:
«حقيقة واحدة يمكن الجزم بها وهي أن «إنجيل برنابا» لم يكن موافقاً كل الموافقة للأناجيل الأخرى في جوهره وأصوله، لأنه لم يعتمد مع تلك الأناجيل عند إفرارها. أما فيما عدا هذه الحقيقة فالواضح لدينا أن الإنجيل المترجم إلى اللغة الانجليزية قد أضيفت إليه زيادات غير قليلة، وقد لوحظ في كثير من عباراته أنها كُتبت بصيغة لم تكن معروفة قبل شيوع اللغة العربية في الأندلس وما جاورها، وأن وصف الجحيم فيه يستند إلى معلومات متأخرة لم تكن شائعة بين اليهود والمسيحيين في عصر الميلاد، ولسنا نعني بذلك ما قيل من أن وصف الجحيم في إنجيل برنابا منقول من قصة دانتي الشاعر الإيطالي عن الكوميديا الإلهية، فإن الوصفين لا يتفقان عند المقابلة بينهما، وأن اشعار دانتي نفسه قد نقل صورة الجحيم في قصته من مصادر معروفة له ولغيره، ومنها ما يرجع إلى أشعار هوميروس وقصائد شعراء الرومان وأساطير التلمود.
فليست المشابهة بين وصف برنابا ووصف دانتي هي على الشك في بعض عبارات الإنجيل المختلف عليه، وإنما نشك في كتابة برنابا لتلك العبارات لأنها من المعلومات التي تسربت إلى القارة الأوروبية نقلاً عن المصادر العربية، وليس من المألوف أن يكون السيد المسيح قد أعلن البشارة أمام الالوف باسم «محمد رسول الله» ولا يسجل هذا الإعلان في صفحات هذا الإنجيل .
كذلك تتكرر في الإنجيل بعض أخطاء لا يجهلها اليهودي المطلع على كتب قومه، ولا يرددها المسيحي المؤمن بالأناجيل المعتمدة في الكنيسة الغربية، ولا يتورط فيها المسلم الذي يفهم ما في إنجيل برنابا من المناقضة بينه وبين نصوص القرآن.
ولهذا يخطر لنا أن الزيادات قد أُضيفت بقلم كاتب لم يقصد ترويج هذا الإنجيل بين اليهود أو المسيحيين أو المسلمين، ولكنها زيدت لإلقاء الشبهة عليه ووقف سريانه بين طائفة فيها فيسهل قبولها والاستناد إليها.
ولا نقول إن هذا الظن هو الظن الوحيد الذي يخطر على البال، فإن الزيادة قد تكون بقلم يهودي أو مسيحي أسلم فأحب أن يعدل الكتاب بما يوافق معتقده، ولم يشمله كله بالتعديل لصعوبة تعديل كتاب كامل على نسق واحد، فبقيت فيه مواضع التناقض والاختلاف أ. هـ».
فإنجيل برنابا إذاً إنجيل دخيل لا يتفق مع سائر الأناجيل، ولم يقبله المسيحيون، كما أنه يناقض كما يقول الأستاذ العقاد قرآن المسلمين، ولذا فنحن نستبعده على أساس من العقل والمنطق والقانون.
أما إذا أصر مكابر على ادعائه بتحريف الكتاب المقدس، فإننا نرد عليه ببساطة قائلين: هات لنا نسخة الكتاب المقدس غير المحرفة، ونحن نلقى بالنسخة المحرفة بعيداً، فالبينة على من ادعى كما يقول رجال القانون.
لا بد إذاً من اعتمادنا الكلي على الكتاب المقدس، ويقيناً التام بأنه موحى به من الله، لنعرف في كلماته الوضاءة حقيقة المسيح.
ولقد ظهر في ألمانيا فيما بين سنة (١٧٤٣ - ١٨١٩) فيلسوف اسمه «جاكوبي» وكانت كتاباته رداً على فلسفة «اسبينوزا» الذي نادى بأن العقل وحده هو باب المعرفة الوحيد، وقد قال «جاكوبي»: «إن العقل غير المعان بالوحي الإلهي لا بد أن يقود الإنسان إلى الإلحاد، وذلك لأنه بطبيعته الخاصة، لا يستطيع أن يعالج سوى الأشياء ذات الحدود، وأجزاء الأشياء، وهو يضع هذه الأجزاء معاً ليكشف ما بينها من روابط، ولكنه يعجز عن الحصول على مادة الحقيقة الخام، لا سيما الحقيقة التي تشمل الأشياء جميعاً مضموناً بعضها إلى بعض في وحدة كاملة متكاملة».
وعند «جاكوبي» أن الله الذي يمكن إثباته بالمنطق وحده لا يمكن أن يكون الله، لأن الحصول عليه بالمعرفة عن طريق العقل يتضمن معنى سيطرة العقل. والخالق الأعظم لا يمكن أن يسيطر عليه أو يحتويه عقل. إن حقيقة الله ليس سبيلها الفكرة المنطقية تتلوها أخرى، إن الله قد تنازل سبحانه وتعالى فأعلن عن ذاته بالوحي الذي سجله الكتاب المقدس.
ونقول بيقين أنه بدون الرجوع إلى الكتاب المقدس بأسفاره الستة والستين من سفر التكوين إلى سفر رؤيا يوحنا، يصبح الحديث عن المسيح مجرد لغو وهراء.
ولا عبرة بأن الكتاب المقدس الذي بين أيدينا قد أصابه التحريف.. إذ أننا نسأل أمام هذا الادعاء قائلين:
لمصلحة من حدث هذا التحريف؟ ومن الذي قام به وأحدثه في الكتاب الكريم؟ وفي أي تاريخ حرّفه المحرفون؟
فإذا قلنا إن اليهود هم الذين حرفوه... رد علينا العقل المتزن والمنطق السليم قائلاً: كيف يمكن لليهود أن يحرفوا الكتاب المقدس. ويبقوا فيه اللعنات الرهيبة التي تنصب على رؤوسهم كشعب متمرد ضال؟ أفما كان بالأولى جداً أن يحذف المحرفون من الكتاب المقدس هذه اللعنات، وأن يحولوها بتحريفهم إلى بركات؟! إن المرء يكفيه أن يقرأ ما جاء في الأصحاح السادس والعشرين من سفر اللاويين ليرى بنفسه فظاعة اللعنات التي يصبها الله على هذا الشعب حين يسلك معه بالخلاف.
تعال معي لنقرأ بعض ما جاء في هذا الأصحاح: «وَإِنْ كُنْتُمْ بِذٰلِكَ لاَ تَسْمَعُونَ لِي بَلْ سَلَكْتُمْ مَعِي بِٱلْخِلاَفِ فَأَنَا أَسْلُكُ مَعَكُمْ بِٱلْخِلاَفِ سَاخِطاً، وَأُؤَدِّبُكُمْ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ حَسَبَ خَطَايَاكُمْ، فَتَأْكُلُونَ لَحْمَ بَنِيكُمْ، وَلَحْمَ بَنَاتِكُمْ تَأْكُلُونَ. وَأُخْرِبُ مُرْتَفَعَاتِكُمْ وَأَقْطَعُ شَمْسَاتِكُمْ وَأُلْقِي جُثَثَكُمْ عَلَى جُثَثِ أَصْنَامِكُمْ، وَتَرْذُلُكُمْ نَفْسِي. وَأُصَيِّرُ مُدُنَكُمْ خَرِبَةً وَمَقَادِسَكُمْ مُوحِشَةً، وَلاَ أَشْتَمُّ رَائِحَةَ سُرُورِكُمْ» (لاويين ٢٦: ٢٧ - ٣١).
ويسأل العقل المتزن أيضاً: كيف يمكن لليهود أن يحرفوا الكتاب المقدس ولا ينزعوا من صفحاته كذب إبراهيم أبيهم، وزنى داود ملكهم وقتله لأحد قادتهم، وتدهور سليمان حكيمهم؟
إن وجود الحوادث التي تؤكد كذب إبراهيم، وزني داود، وإنحراف سليمان، أصدق دليل على أن الكتاب المقدس هو كتاب الله الذي لا يخشى وجه إنسان مهما عظم مركز ذلك الإنسان.
وإذا قلنا: إن المسيحيين حرّفوا الكتاب المقدس؟ سأل العقل المفكر: أي جزء من الكتاب حرفه المسيحيون؟
يقيناً إنه لم يكن في وسعهم أن يحرفوا العهد القديم، لوجود هذا الكتاب أصلاً بين أيدي اليهود، فهو كتابهم قبل أن يكون كتاب المسيحيين، وثابت من التاريخ أن العهد القديم قد تُرجم إلى اللغة اليونانية نحو سنة ٢٨٥ قبل الميلاد بواسطة سبعين عالماً من علماء اليهود بأمر من «بطليموس فيلادلفوس» وصارت هذه الترجمة معروفة باسم «الترجمة السبعينية». وقد انتشرت هذه الترجمة قبل ميلاد المسيح، فمن المستحيل إذا أن يحرف المسيحيون كتب العهد القديم. كذلك من المستحيل الاعتقاد بأن اليهود قد حرفوا العهد الجديد. ذلك لأن العهد الجديد يؤكد أنهم هم الذين صلبوا المسيح ويصب الويلات على الكتبة والفريسين منهم، فلو أن اليهود حرفوه لحذفوا منه كل هذه الأجزاء.
أما إذا ادعى مدعي بأن المسيحيين قد حرفوا العهد الجديد فإن هذا الادعاء ينهار أمام عدة حقائق.
الحقيقة الأولى: هي بقاء التوافق العجيب بين العهد القديم والعهد الجديد، وفي هذا أقوى الدليل على أن يداً بشرية لم تمتد بالتحريف لكتاب الله الكريم، فمن المعروف أن العهد الجديد مستتر في نبوات العهد القديم، وإلا فضح العهد القديم أي تحريف في العهد الجديد.
والحقيقة الثانية: هي أن المسيحيين قد لاقوا بسبب إيمانهم بحقائق العهد الجديد أفظع أنواع العذاب، فقد جرّ عليهم إيمانهم بالمسيح وفدائه، وسلطانه على القلب والفكر... الألم، والتشريد، والاضطهاد، والموت. ومن الممكن للإنسان البشري أن يكذب لمصلحة خاصة أو للنجاة من مأزق خطير، لكن ليس من الممكن أو القبول أن يستمر الإنسان في كذبه حتى يقوده الكذب إلى الموت، ولقد مات الملايين من المسيحيين بسبب إيمانهم بما جاء في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.. فهل يعقل أن يقوم المسيحيون الذين اشتهروا في القرون الأولى للمسيحية بأخلاقهم الفاضلة، وقداسة حياتهم، ورضاهم بالتضحية بحياتهم من أجل المسيح بسرور ورضى، بتحريف الكتاب المقدس وهو الكتاب الذي ينتهي آخر أسفاره بالكلمات «لأَنِّي أَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالَ نُبُّوَةِ هٰذَا ٱلْكِتَابِ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هٰذَا يَزِيدُ ٱللّٰهُ عَلَيْهِ ٱلضَّرَبَاتِ ٱلْمَكْتُوبَةَ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هٰذِهِ ٱلنُّبُّوَةِ يَحْذِفُ ٱللّٰهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ، وَمِنَ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ ٱلْمَكْتُوبِ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ» (رؤيا يوحنا ٢٢: ١٨ - ١٩).
والحقيقة الثالثة: إنه رغم الاختلافات العقائدية التي انتشرت في الكنائس المسيحية منذ عصر الرسل، إلا أنها اتفقت جميعاً في مجمع قرطاجنة الذي عُقد سنة ٣٩٧ على قانونية أسفار العهد الجديد كما هي بين أيدينا.
والحقيقة الرابعة: أنه لا يعقل أن يعطي الله الناس كتاباً من وحيه ثم لا يحفظ هذا الكتاب بقدرته من التحريف على طول الزمان..
نقرأ في سفر إشعياء الكلمات «صَوْتُ قَائِلٍ: نَادِ. فَقَالَ: بِمَاذَا أُنَادِي؟ كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ، وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ. يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلّزَهْرُ، لأَنَّ نَفْخَةَ ٱلرَّبِّ هَبَّتْ عَلَيْهِ. حَقّاً ٱلشَّعْبُ عُشْبٌ! يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلّزَهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (إشعياء ٤٠: ٦ - ٨). كذلك نقرأ في إنجيل متى الكلمات: «اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (متى ٢٤: ٣٥) ونقرأ في إنجيل يوحنا الكلمات: «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (يو ١٧: ١٧).
فالله إذاً قد ضمن بقاء كلمته بلا تحريف إلى مدى الأدهار، وأوصى شعبه القديم قائلاً: «كُلُّ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ ٱحْرِصُوا لِتَعْمَلُوهُ. لاَ تَزِدْ عَلَيْهِ وَلاَ تُنَقِّصْ مِنْهُ» (تث ١٢: ٣٢).
وهنا يجدر بنا أن نذكر أن نسخ الكتاب المقدس اليونانية الموجودة بين أيدينا حتى اليوم هي:
(١) النسخة الفاتيكانية: خطت في أوائل القرن الرابع وهي الآن في مكتبة الفاتيكان في رومية.
(٢) النسخة السينائية: خطت في أواخر القرن الرابع للمسيح على رقوق مرهفة في أربعة أعمدة على الصفحة، وقد وجدها العالِم الألماني «تشندروف» في دير سانت كاترين عند سفح جبل سيناء، وأُهديت هذه النسخة إلى القيصر نيقولا الثاني أمبراطور روسيا فأمر بطبعها ونشرها، وظلت النسخة الأصلية في ليننجراد إلى أن بيعت مؤخراً للمتحف البريطاني بمئة ألف جنيه استرليني.
(٣) النسخة الاسكندرية: خطت في القرن الخامس للميلاد وبقيت في حوزة بطاركة الاسكندرية حتى سنة ١٦٢٨ حين أُهديت إلى «شارلس الأول» ملك بريطانيا، وهي الآن محفوظة في المتحف البريطاني.
وفي مطلع عام ١٩٤٧ عثر العلماء في وادي القمران من شرق الأردن على مخطوطات من العهد القديم على جانب عظيم من الأهمية، فقد عثروا على سفر إشعياء بكامله باللغة العبرية، ويرجع هذا المخطوط في تقدير العلماء إلى القرن الأول أو الثاني قبل الميلاد وقد ظهر أن هذا السفر يتفق تماماً مع سفر إشعياء الذي بين أيدينا، ومنذ ذلك التاريخ والباحثون يعثرون على الكثير من أسفار الكتاب المقدس مما يعود إلى سنة ١١٠ و١٧٠ بعد الميلاد وكل اكتشافاتهم تؤكد صدق الكتاب الكريم وخلوه من التحريف.
فإذا تأكد وجود نسخ قديمة للكتاب المقدس كله تعود إلى ما قبل القرن الرابع للميلاد وما زالت بين أيدينا إلى اليوم، وعرفنا أن الإسلام ظهر في القرن السادس للميلاد، ورأينا بوضوح أن القرآن يؤكد سلامة الكتب المقدسة التي بين يدي اليهود والمسيحيين، أو بمعنى أدق سلامة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، كان في وسعنا أن نقول بيقين إنه حتى القرن السادس للميلاد لم يحرف الكتاب المقدس ولم يأته الشك من بين يديه ولا من خلفه إذ لا يقبل إنسان عاقل القول بأن نبي الإسلام يحض المسلمين على قبول كتاب امتدت إليه يد التحريف.
فتعال معي لنقرأ ما جاء في القرآن:
ففي سورة المائدة نقرأ:
«قُلْ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ» (سورة المائدة ٥: ٦٨).
«وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ» (سورة المائدة ٥: ٤٣).
«إِنَّا أَنْزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ» (سورة المائدة ٥: ٤٤).
«وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاءهُ ٱلإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» (سورة المائدة ٥: ٤٦).
«وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (سورة المائدة ٥: ٤٧).
وفي سورة الجاثية نقرأ: «وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُّوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ» (سورة الجاثية ٤٥: ١٦).
وفي سورة الأسراء نقرأ: «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً» (سورة الأسراء ١٧: ٥٥).
وفي سورة النساء نقرأ: «وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً» (سورة النساء ٤: ١٦٣).
هذا كله يؤكد لنا أن الكتاب المقدس بكلا عهديه لم يحرف حتى ظهور الإسلام وإلا ما حث الإسلام المسلمين أن يقيموا التوراة والإنجيل قائلاً لهم: « لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ» (سورة المائدة ٥: ٦٨).
متى إذاً حدث التحريف في الكتاب المقدس؟
بغير شك أن العقل والمنطق السليم يدعوان إلى نبذ دعوى التحريف، إذ لا يعقل أن يُحرف كتاب قد تداولته الأيدي، وانتشرت نسخه في أرجاء الأرض، وصار العهد القديم كتاباً مقدساً عند اليهود، والعهدان معاً كتاباً مقدساً لدى جميع المسيحيين، أقول لا يعقل أن يُحرف الكتاب المقدس بعد هذه القرون، لأنه لو حدث التحريف لظهرت النسخ المتضاربة بين أيدي اليهود والمسيحيين، لكن ما نراه هو أنه رغم اختلاف المسيحيين في اعتقاداتهم فإنهم جميعاً يدينون بكتاب واحد لا تختلف نسخه باختلاف طوائف المسيحيين.. كما أنه لو حدث التحريف في العهد القديم لدافع عنه المؤمنون به من المسيحيين وأوضحوا الفرق بين النسخة السليمة والنسخة المحرفة، وعلى هذا يمكننا أن نقول بيقين إن الكتاب المقدس لم تمتد إليه يد التحريف، وأنه في اللغات الأصلية التي كتب بها كلمة الله المعصومة تماماً من كل خطأ.
وهنا قد ينبري أحدهم قائلاً: وما قولك في الإنجيل المسمى «إنجيل برنابا»؟ ونترك الإجابة على هذا السؤال للأستاذ عباس محمود العقاد، وننقلها بأمانة علمية كما نشرها في صحيفة الأخبار بعددها الصادر في ٢٦ أكتوبر ١٩٥٩ وقال فيها بالحرف الواحد ما يلي:
«حقيقة واحدة يمكن الجزم بها وهي أن «إنجيل برنابا» لم يكن موافقاً كل الموافقة للأناجيل الأخرى في جوهره وأصوله، لأنه لم يعتمد مع تلك الأناجيل عند إفرارها. أما فيما عدا هذه الحقيقة فالواضح لدينا أن الإنجيل المترجم إلى اللغة الانجليزية قد أضيفت إليه زيادات غير قليلة، وقد لوحظ في كثير من عباراته أنها كُتبت بصيغة لم تكن معروفة قبل شيوع اللغة العربية في الأندلس وما جاورها، وأن وصف الجحيم فيه يستند إلى معلومات متأخرة لم تكن شائعة بين اليهود والمسيحيين في عصر الميلاد، ولسنا نعني بذلك ما قيل من أن وصف الجحيم في إنجيل برنابا منقول من قصة دانتي الشاعر الإيطالي عن الكوميديا الإلهية، فإن الوصفين لا يتفقان عند المقابلة بينهما، وأن اشعار دانتي نفسه قد نقل صورة الجحيم في قصته من مصادر معروفة له ولغيره، ومنها ما يرجع إلى أشعار هوميروس وقصائد شعراء الرومان وأساطير التلمود.
فليست المشابهة بين وصف برنابا ووصف دانتي هي على الشك في بعض عبارات الإنجيل المختلف عليه، وإنما نشك في كتابة برنابا لتلك العبارات لأنها من المعلومات التي تسربت إلى القارة الأوروبية نقلاً عن المصادر العربية، وليس من المألوف أن يكون السيد المسيح قد أعلن البشارة أمام الالوف باسم «محمد رسول الله» ولا يسجل هذا الإعلان في صفحات هذا الإنجيل .
كذلك تتكرر في الإنجيل بعض أخطاء لا يجهلها اليهودي المطلع على كتب قومه، ولا يرددها المسيحي المؤمن بالأناجيل المعتمدة في الكنيسة الغربية، ولا يتورط فيها المسلم الذي يفهم ما في إنجيل برنابا من المناقضة بينه وبين نصوص القرآن.
ولهذا يخطر لنا أن الزيادات قد أُضيفت بقلم كاتب لم يقصد ترويج هذا الإنجيل بين اليهود أو المسيحيين أو المسلمين، ولكنها زيدت لإلقاء الشبهة عليه ووقف سريانه بين طائفة فيها فيسهل قبولها والاستناد إليها.
ولا نقول إن هذا الظن هو الظن الوحيد الذي يخطر على البال، فإن الزيادة قد تكون بقلم يهودي أو مسيحي أسلم فأحب أن يعدل الكتاب بما يوافق معتقده، ولم يشمله كله بالتعديل لصعوبة تعديل كتاب كامل على نسق واحد، فبقيت فيه مواضع التناقض والاختلاف أ. هـ».
فإنجيل برنابا إذاً إنجيل دخيل لا يتفق مع سائر الأناجيل، ولم يقبله المسيحيون، كما أنه يناقض كما يقول الأستاذ العقاد قرآن المسلمين، ولذا فنحن نستبعده على أساس من العقل والمنطق والقانون.
أما إذا أصر مكابر على ادعائه بتحريف الكتاب المقدس، فإننا نرد عليه ببساطة قائلين: هات لنا نسخة الكتاب المقدس غير المحرفة، ونحن نلقى بالنسخة المحرفة بعيداً، فالبينة على من ادعى كما يقول رجال القانون.
لا بد إذاً من اعتمادنا الكلي على الكتاب المقدس، ويقيناً التام بأنه موحى به من الله، لنعرف في كلماته الوضاءة حقيقة المسيح.
ليست هناك تعليقات: